لكن هل كانت حقًا غايات هؤلاء المفكرين هدم المقدسات، أم أنها محاولات لتفكيك البنى الموروثة بغية إعادة بناء فضاء معرفي أرحب وأكثر انفتاحًا؟ هذه التساؤلات تقودنا إلى التفكير في مفهوم النقد، إذ يظهر في سياق تناول المسألة النقدية التباسٌ في كيفية فهم مصطلح "النقد". فالقارئ العربي كثيرًا ما يختزل المصطلح إلى معناه المعجمي الضيق، فيراه شجبًا أو نفيًا، متجاهلاً التطورات الدلالية التي مرّ بها المصطلح في السياق الفلسفي والفكري المعاصرين.
في ضوء التباس دلالة النقد، نحن بحاجة إلى الحفر في مفهوميَّة النقد. من هنا سنركز على تحليل المصطلح وتبيان التطورات الدلالية التي مرّ بها في السياقين العربي والغربي، ثم نتطرق إلى فاعلية المشاريع الفكرية النقدية المعاصرة في توسيع دلالة النقد، إذ تمثّل هذه المشاريع محاولات جادة في إضافة أبعاد معرفية وفلسفية على المصطلح. فلا تقتصر قيمة هذه المشاريع على تشخيص الأزمات الحضارية والفكرية، بل تسهم أيضاً في تعميق مفهوم النقد.
إن إشكالية مصطلح "النقد" في الفكر العربي تتجلى بأحد أوجهها عند المقارنة المعجمية بين العربية والإنجليزية والألمانية. في اللغة العربية، ظلت كلمة "نقد" مرتبطة بدلالتها الأولى (نقد الدراهم: أي تمييز الصحيح منها من الزائف)، وهي دلالة معبرة عن الحكم التصويبي المعياري. هذا التحديد الدلالي يمكن ملاحظته في نقد الشعر والنقد الفلسفي عربيًا؛ فناقد الشعر قديماً، حسب توصيف ابن سلام الجمحي، هو كالعالم بالدنانير، يميز الزائف من الجيد في الشعر. وفي الفلسفة الإسلامية في العصر الوسيط، تشكل مفهوم النقد ليصبح أداة للتقييم التصويبي، سواء بالاستحسان أو الرفض. وهذا ما نجده في أعمال مثل تهافت الفلاسفة لأبي حامد الغزالي وتهافت التهافت لابن رشد. كلا العملين يعكسان فهماً فلسفياً للنقد كأداة لإظهار التناقضات والقصور، مما يرتبط بمفهوم "النقض"، أي دحض الحجة أو كشف زيفها.
هذه الدلالات المبكرة لم تتجاوز المفهوم المعياري والتقويمي، ولم تشهد تطورًا فلسفيًا يتعمق في عملية الفهم والتشخيص البنيوي. في المقابل، شهدت اللغات الأوروبية تطورات دلالية غنية في مفهوم النقد (Critique, Criticism)، وذلك بفضل الحاضنة الفلسفية التي رافقت هذه المجتمعات. في الفلسفة الألمانية مثلاً، مع كانط وهيغل، اكتسب النقد أبعاداً معرفية وتشخيصية تتجاوز الحكم القيمي المعياري. كانط، في كتابه نقد العقل المحض، أسس النقد كأداة لتحليل حدود العقل وإمكاناته. بينما نقل هيغل وماركس النقد إلى مستوى آخر يتعلق بتحليل البنى الاجتماعية والاقتصادية والوعي التاريخي، وبذلك تجاوز النقد فكرة التفنيد ليصبح عملية تحليل لتطور الثقافات والمعارف وفهمها في سياقها التاريخي.
وبينما شهد مفهوم النقد في السياق الغربي نقلات فلسفية نوعيَّة، افتقر في السياق العربي إلى الحاضن الفلسفي، وتضاءلت دلالته المعجمية تدريجيًا. فالنقد، الذي كان يعني في اللسان العربي "تمييز الجيّد من الرديء"، تحول ليصبح مرادفًا للتخطئة والتقبيح. وقد لاحظ ذلك مع مطلع عصر النهضة نجيب الحداد حين قال: "لم يعهد الشرق النقد إلا ممزوجًا بالطعن والقدح".
يبدو أن هذا التحوّل دفع روّاد النهضة إلى إعادة النظر في مدلول النقد وفاعليته. وخير معبر عن ذلك افتتاحية مجلة المقتطف عام 1887 في مقال عنوانه "الانتقاد"، حيث حمل المقال تصوراً حضارياً مفاده: إن تطور الأمم يكمن في تطور النقد فيها، فالنقد والمنتقدون هم مرآة حضارية لواقعهم. على هذا النحو، يربط الكاتب بين تقدُّم الغرب ونمو علم الانتقاد فيه، وتخلُّف النقد بتخلف السياق الحضاري العربي.
أحد الأمثلة الواضحة على قصور التصور التداولي الشائع عن النقد هو التعديل الذي قام به محمد أركون لعنوان كتابه بالفرنسية في نقد العقل الإسلامي (Pour une critique de la raison islamique) إلى تاريخية العقل الإسلامي (1986) في العربية، وذلك في محاولة منه ومن مترجمه هاشم صالح لتجنُّب سوء الفهم المُلتبس لمصطلح النقد في التداول الشائع عربيًا. إذ فُهِم النقد بمعنى النقض، في حين أنه "مشروعٌ علميٌ شموليٌّ، جماعيٌّ"، و"برنامج نقدي بمعنى دراسة شروط صلاحية كل المعارف التي أنتجها العقل الإسلامي". هذا التعريف أقرب إلى التحديد الكانطي الذي يرى النقد عملية تحليل لملكة المعرفة، مع فارق أساسي يتمثل في أن العقل عند أركون تاريخي.
إن أركون، بتأكيده على تاريخية العقل، يستلهم التحولات المعاصرة في الإبستمولوجيا، ويهدف إلى تطبيقها على المعارف الإسلامية. والقصد من هذا التجديد المنهجي هو إحياء الاجتهاد الإسلامي مجدداً على أرضية الثورة المعرفية في العلوم الإنسانية. فإذا كان الشافعي قد ألّف رسالته المشهودة ليقترح وسائل جديدة للاجتهاد استجابة لما طرأ في العصر العباسي الأول من ظروف اجتماعية وسياسية وثقافية، فكذلك يضطرُّ الفكر الإسلامي المعاصر إلى إعادة التفكير والكتابة في مسائل نقد المعرفة وأصولها. إن النقد، هنا، ضرورة حضارية، والتجديد المنهجي العلمي هو أداته.
هكذا، بينما كان أركون يسعى إلى استكشاف تاريخية المعارف الإسلامية، وتحليل نشأتها وتطورها ضمن سياقاتها الاجتماعية والتاريخية، ظل مشروعه يُستقبَل على نحو مغلوط بوصفه تجريحًا بالفكر الديني وطعنًا به. يكشف هذا التغيير في العنوان عن أزمة أعمق في فهم النقد ضمن الثقافة العربية. ففي حين يشير النقد في الفكر الغربي إلى عملية معرفية تهدف إلى الفهم والتشخيص، يُفهم في العالم العربي بشكل محدود. هذه الأزمة تتفاقم إلى حدٍّ قد تصل معه ممارسة النقد إلى قضية جنائية.
في هذا السياق، نجد كثيراً من المفكرين يتعرضون لردود فعل عنيفة حين يطرحون تساؤلات حول الموروث الديني. نذكر هنا مثال نصر حامد أبو زيد، الذي واجه محاكمات قضائية وتكفيرًا عندما طرح أفكاره حول الخطاب الديني. رغم أن أبا زيد كان يسعى إلى تقديم قراءة نقدية تاريخية للنصوص الدينية في سياقها التاريخي، ومحاولة مساءلة الموروث التفسيري للقرآن؛ أي الوسيط البشري في فهم المقدس الديني، إلا أن فكره اُختزِل على نحو مشوّه باعتباره (مساسًا بالمقدسات). هذه الردود العنيفة تعكس إشكالية الفهم الضيق للنقد، حيث يُنظر إليه على أنه وسيلة للهجوم بدلاً من كونه أداة لفهم وتحليل المعارف.
ومثال آخر لا يقل دلالة، وهو ما ينقلنا إلى حوار المثقفين على أرضية مساءلة التراث: عندما أصدر جورج طرابيشي كتابه نقد نقد العقل العربي، كان الهدف منه الحوار مع مشروع محمد عابد الجابري، وذلك بافتراض طرابيشي أن النقد ليس مجرد تفنيد وهدم، بل هو مشروع في: "إعادة قراءة، وإعادة حفر، وإعادة تأسيس". ومع ذلك، فإن بعضهم قد فهم المشروع على أنه محاولة للهجوم الشخصي على الجابري، أو تصفية حساب عقائدي بين مورثين (مسيحي-إسلامي)، ما حوّل النقاش من نقد معرفي إلى نقد شخصي.
وأحياناً أخرى نُظر إليه على أنه نقد عقائدي، فخسرت الثقافة والفكر العربيان حواراً نوعياً كان يمكن أن ينشط الحالة الثقافية ويصلح مكامن العطب المعرفي فيها.
في الختام، يظهر أنَّ إشكالية النقد في السياق العربي لا تقتصر على كونها مجرد مشكلة لغوية أو سوء ترجمة لمصطلحات غربية، بل تمثل تحديًا ثقافيًا يعكس استعداد الثقافة العربية لتقبل النقد بوصفه عملية معرفية تتجاوز حدود التخطئة صوب البناء المعرفي. من هنا تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في مفهوميَّة النقد بما يتجاوز الفهم الضيق المتداول، فننتقل من النقض بوصفه شجبًا أو إلغاءً إلى النقد بوصفه موقفًا معرفيًا بنائيًا حواريًا.