تحدَّثَ الدكتور محسن جاسم الموسوي، الأكاديمي العراقي، أستاذ الدراسات العربية والمقارنة في جامعة كولومبيا بنيويورك، صاحب العديد من الدراسات والأبحاث، خلال لقائه الإعلامي ياسين عدنان، عبر برنامج "في الاستشراق"، عن إسهام الاستشراق في تكوين وعينا العربي والفكر العربي المعاصر المشدود إلى المادة الاستشراقية، وعن الوسيط الغربي الاستشراقي الذي على الدوام هو سبيل المفكر العربي إلى معرفة ذاته، ودراسة الفكر الاستشراقي من طرف المثقفين العرب واليقظة الفكرية ووعي الذات، وطبيعة تفاعل المثقفين والمفكرين العرب مع الاستشراق، وعن كتابه "الاستشراق في الفكر العربي" الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر..
هل الفكر العربي تأثَّر فعليّاً بحركة الاستشراق؟
وأجاب الدكتور محسن جاسم الموسوي، الأكاديمي العراقي، أستاذ الدراسات العربية والمقارنة في جامعة كولومبيا بنيويورك، عن سؤال "هل كان الفكر العربي قد تأثَّر فعليّاً بحركة الاستشراق؟"، قائلاً: "كما ذكرت في مرة سابقة، عندما قُمت بتأليف كتاب (الاستشراق في الفكر العربي)، أنهيت الكتاب عام ١٩٩١ ثم طُبع ونشر عام ١٩٩٣، منذ ذلك الحين وأنا أيضا أراقب طبيعة الدراسات التي ظهرت بعد.. إذ يعني كان الكتاب من المؤكد أنه قد تأثر أو أنه كان يستجيب فعلياً لتساؤلات معينة أُثيرت في حينه من قِبل الأستاذ الراحل إدوارد سعيد، وكانت تساؤلات مهمة مع إضافات جديدة في معنى الاستشراق.. صحيح أن إدوارد سعيد أضاف وعدَّل من مفاهيم جاء بها أنور عبد الملك في حينه، في عام ١٩٦٣ عندما نشر مقالته الاستشراق في أزمة أو أزمة الاستشراق، حينذاك.. كانت الأسئلة مهمة؛ لأنهم نقلوا الجدل من جدل ديني تصادمي إلى جدل معرفي يخص فقه اللغة، وهذا الموضوع الأثير الذي جاء به أنور عبد الملك، وتوسع فيه إدوارد سعيد توسعاً عظيماً حقيقةً؛ لأنه أشار إلى مدرستَين، وسآتي إلى الأسئلة التي أُثيرت؛ لأنه أشار إلى مسألة ما يُسمى، آنذاك، بالعوائل الفيلولوجية، أي أن العالم لا ينقسم إلى يمين يسار، إلى كذا كذا..".
الانقسامات اللغوية جاء بها الألمان
وأضاف د.محسن جاسم الموسوي: "هذه مفاهيم مستجدة، كما نعلم أن العالم ينقسم بالنسبة إلى هذا النمط من التفكير الفيلولوجي إلى عالمَين؛ آري وسامي، من جاء بهذه الفكرة؟ المدرسة الفرنسية أولاً، صحيح يعني طبعاً خلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر ديجول راح يتوسع في ذلك؛ لكنه بدأ مع إرنست رينو، والذي كان هو الأشد وطأة وحضوراً في المشهد الثقافي، وسآتي إلى ذلك. لكن العوائل الفيلولوجية؛ أي الانقسامات اللغوية جاء بها الألمان، جاء بها المفكرون الألمان، والأخوان شليجل كانا أساسيَّين في هذه القضية؛ كان الورع الأساسي رغم أن إدراك أحدهما للغة العربية كان إدراكاً واسعاً إلى آخره. ولكن كان إلمام الآخر بـ(السنسكريتية) دفعه إلى وضع الهند واللغة السنسكريتية في الجناح الآري آنذاك، بينما بدت اللغات الأخرى التي تُسمى السامية العربية والعبرية، لا ننسى أنها أصول اللغات السامية، هو المؤلف الذي جاء به، وهو المؤلف الخطير، وترجم إلى العربية عدة ترجمات هذا الكتاب، وقد أخذ به علماء اللغة العرب؛ فيه عدد كبير منهم قرؤوا هذا الكتاب مترجماً..".
الانحياز لفكرة الآرية.. وحاجة اللغة الألمانية إلى الامتزاج
وتابع الأكاديمي العراقي، أستاذ الدراسات العربية والمقارنة في جامعة كولومبيا بنيويورك: "نأتي إلى الإشكالية التي انطوى عليها هذا التوزيع الفيلولوجي ومخاطر ذلك. نحن نعلم أنه كانت ألمانيا تحتاج إلى استناد، إلى لغة موحدة. وألمانيا منقسمة، آنذاك، وتحتاج، ولهذا وُضِع جهد كبير في هذا الاتجاه. وبدأت تنامي الفلسفة الألمانية بهذا الاتجاه، مع الانحياز لفكرة الآرية آنذاك، حصل هذا الامتزاج بين حاجة اللغة الألمانية من جانب وحاجة التأسيس الآخر في داخل الحاضنة العالمية آنذاك.. لا بد من انتماء ألمانيا إلى حاضن أوسع الذي هو في الأوروبي؛ ولكن أيضاً السنسكريتي، لأن علماء اللغة كانوا يستعينون بذلك؛ هذه مشكلة".
تحول آخر على هامش توزيع العالم في عائلتَين
واستكمل د.محسن جاسم الموسوي: "والتحول الآخر الذي جرى على هامش توزيع العالم في عائلتَين؛ لغات آرية، لغات سامية، إلى آخر هذا الكلام.. سيجابه بمشكلات أخرى لم تكن قد أخذت بنظر الاعتبار أو أهملت من قِبل الألمان على الأقل.. إنه في بداية القرن التاسع عشر وحتى فترة لاحقة، بدأ ما نسميه بتاريخ نية التحديث؛ بمعنى أنه أنا أنظر إلى القديم بمعنى الاستعانة بما هو إيجابي ومضيء ليضيء لي الحاضر الحالي. فجاء الحاضر الحالي لانتشال مجموعات أقلية ناشطة لا بد من احتضانها.
لا ننسى أن التحولات الصناعية الكبرى جاءت بطبقات وكذا، فالهيكلية الاجتماعية القديمة للتأسيس الاستقراطي آخذة في الانهيار، وعلى تراكم هذا الانهيار جاءت قوى أخرى هامشية كانت ومغلوبة؛ ولكن بدأت تتطلع هي الأخرى للصعود كما تتطلع البرجوازية وصعودها المتنامي؛ يعني من طبقة وسط اعتيادية إلى طبقة برجوازية نشطة جداً. هذه الظاهرة أدت إلى ظهور مجموعات صغيرة لم تكن مأخوذة بنظر الاعتبار؛ ولكنَّ لديها مفكرين، لديها ساسة، لديها كذا.. دزرائيلي كان من ضمن هؤلاء، رئيس وزارء مرتَين في بريطانيا، في مطلع القرن التاسع، هو يهودي الأصل مثلاً، ولكن لم تظهر صهيونيته؛ لأنه كان آنذاك ليس صهيونياً، ولكن كان بريطانيّاً يشعر أنه قد جاء من فئة صغيرة، ولهذا عندما كتب سيبل، أن الكتلتين أو الأمتين كذا كذا، كان يتحدث عن شيء آخر، هو صراع الأغنياء مع الفقراء، كان يتحدث عن الهامش وعما سيجري لاحقاً إذا لم تتصالح الفئتان، شوف هو لم يذهب إلى ما سيجيء لاحقاً ويتطور في النظرية الماركسية مثلاً، لا هو انشغل بكيفية الكتل، تعامل الكتل هذه، وسيكون هذا، لا تنسَ، هو مؤسس أو على الأقل كان فاعلاً أساسياً في تأسيس حزب المحافظين يعني، وحزب المحافظين كانت له مصالح عظيمة في المشرق؛ لا سيما الشرق الأوسط، الذي نسميه الشرق الأوسط..".
وأضاف الأكاديمي العراقي، أستاذ الدراسات العربية والمقارنة: "يعني مصالحهم العظيمة كانت تتأسس هناك؛ فالهند والشرق الأوسط كانت أساسية بالنسبة إلى بريطانيا آنذاك. ولهذا كان ولع حزب المحافظين آنذاك وولع دزرائيل، ومن جاء يعني في تلك الأثناء، موجود، وهكذا هذه المجموعة كلها كانت تتجه إلى كيفية تبرير الاستعمار، كيفية تبرير التوسع وما إلى ذلك، وكان التوسع على حساب المنطقة العربية أولاً كما نعلم؛ لأنها منطقة في تقديرهم مهمة استراتيجياً، هي الطريق إلى الهند أيضاً، ومنطقة ثرية".
فكرة نابليون.. هل الفكر العربي تخلَّق في رحم الاستشراق؟
وقال د.محسن جاسم الموسوي، رداً على "ما أريد وما يهمني في كتابك (الاستشراق في الفكر العربي)، هو أن هذا التداخل ما بين المناهج والمقاصد الذي أعطانا الاستشراق، كيف أن فكرنا العربي المعاصر سيجد نفسه في حوار معه؟ حتى إن هناك مَن يقول إن هذا الفكر تخلَّق في رحم الاستشراق، إلى أي حد هذا صحيح؟": "لازم ننظر إلى عدة عوامل؛ أولاً دخول نابليون في مصر كان نقطة مهمة. يعني لا يمكن أن يغمض دور ذلك الدخول اللي هوّ اقتحام، اللي هوّ استعمار، يعني استعمار مسلح علمي أيضاً؛ لأنه جاء بعلماء الفيلولوجيا وعلماء الأحياء.. وما إلى ذلك. جاء بهم في نخبة كبيرة، يعني فريق عظيم جاء به؛ لماذا؟ لأنه كان يقرأ بالنسبة إلى عدد كبير من الآخرين. كان يقرأ مصر على أساس أنها جزء لا يتجزأ من فرنسا، ومن حوض المتوسط، ومن فرنسا العظمى. هذه كانت الفكرة. فكرة نابليون، هي كيف يمكن أن تكون فرنسا عظمى، عظمى بحيث إنها يمكن أن تزاحم بريطانيا آنذاك، ولهذا جاء بفكرة أنه يمكن مصر أن تلحق بفرنسا، إذ ألحقت الجزائر بعد ذلك، لا تنسَ.. إلى آخره، فكان يفكر بهذا الإطار، كيف يمكن أن تكون هذه ملحقات فعلية للإمبراطورية الفرنسية، إذن.. فجاءت بعد ذلك مع حركة محمد علي وحركة الترجمة وحركة الطهطاوي.. وما إلى ذلك، بعدد كبير من المترجمين الذين بعثوا إلى فرنسا وتخلقوا بأخلاقيات فرنسية؛ سواء قُلنا إن الطهطاوي انتقد كذا وانتقد كذا وقابل الشريعة بكذا، مجرد المقابلات والدخول في معادلات من هذا النوع، يعني أنك في حالة من الأخذ وليس العطاء؛ لأنك لا تعطي الفرنسي، أنت تأخذ الآن فقط.
إذن كانت هذه المحاولة هي ما الذي نأخذه من فرنسا، وكيف لنا أن نأتي بمذهب توفيقي للتعامل مع فرنسا، ويحصل نفس الشيء بالنسبة إلى إنجلترا طبعاً. بالإضافة إلى ذلك الهجرات الكبرى التي جاءت من الهلال الخصيب إلى مصر في تلك الأثناء، هذه أيضاً مهمة؛ لأنه أيضاً هم جاؤوا بحصيلة فرنسية كبيرة آنذاك، وهذه الحصيلة الفرنسية أيضاً جعلت المهادات موجودة لعلاقة بالمستشرق، المستشرق لم يكن كثيفا ًبالمعنى الذي نفهمه الآن.. يعني يوجد مترجم في القرن السابع عشر، عدد من المترجمين، يعني الجادين، آنذاك، من العلوم العربية والمفاهيم إلى آخره".
استمرار حركة الترجمة العلمية
وأضاف الأكاديمي العراقي، أستاذ الدراسات العربية والمقارنة: "واستمرت حركة الترجمة العلمية وكانت مهمة أيضاً؛ لكن النقلات الفعلية جاءت بعد حين، وبدأ عدد من المترجمين يعني سير وليم جونز، في المنتصف الثاني من القرن الثامن عشر، أخذ بترجمة بعض النصوص، يعني الجاهلية، وما إلى ذلك.. إلى آخره، وكتب كثيراً في هذا الاتجاه؛ ولكن لاحظ عندما قارب الموت قال إن رفاً من رفوف الثقافة اليونانية أهم لديَّ من كل ما قيل، إذن كانت المعرفة معرفة مسطحة وليست معرفة حقيقية تبتغي الولاء للثقافة الأخرى التي تدرس".
دينامية الفكر العربي النهضوي وإشكالية التخلُّق
وأجاب د.محسن جاسم الموسوي عن سؤال "كيف تخلَّقت دينامية الفكر العربي النهضوي؟"، قائلاً: "نحن لا يمكن أن ننكر أنه توجد حالة من الانبهار؛ يعني الشعور بالراحة النفسية؛ بأنه المستشرق الفلاني ترجم المعلقات مثلاً، ولم يتعمقوا كثيراً بأنه ما يخالف ترجمة هذه المعلقات، هل الهوامش كانت مفيدة فعلاً؟ هل القراءة الفيلولوجية البحتة قدمت شيئاً للعرب مضافاً أو لا؟ كان الانبهار موجوداً؛ يعني سير ليل عندما ترجم أثَّرَ على الشاعر تنيسون، اعتمد طريقة الشطرَين يعني في طريق القصيدة الجاهلية المعروفة، متأثراً بسير ليل آنذاك، ولكن لاحظ أخوه اللي هو كان مهماً جداً في السياسة، وعلى مقربة ومؤثر تأثيراً عظيماً على كرومر، قال بنظرية التضرر، وأكدها، أي وهو يبني أيضاً على ما قاله إرنست رينان، أن العرب والفكر السامي عموماً هو فكر لا قدرة له على التركيب، وبدؤوا يعرضون لذلك على أساس ما يُسمى بالنظرية الظرفية. بمعنى أن الصحراء هي عبارة عن ذرات من الغبار والرمل وما إلى ذلك، وكذلك الذهن السامي. الذهن السامي لا يتوقع منه أكثر من هذا، أن يكتب لك شهراً، أن ينفعل وينتهي. هذا قد نستغرب أنه سيلقى استجابة لدى النهضويين بشكل أو بآخر، بشكل يعني، فرح أنطون أحدهم".
محمد عبده والأفغاني اقتحما الساحة بمناقشة مهمة وحوار مع الاستعمار
وأضاف الأكاديمي العراقي، أستاذ الدراسات العربية والمقارنة: "بس خلينا نتمعن في هذه القضية؛ لأن القضية ليس بالبساطة.. يعني أن نقول مثلاً وأخذوا كثيراً، أخذوا من المؤكد؛ ولكن هل بمقدار يتيح لهم المعارضة والتعارض والابتكار؟ نعم، بدأ عدد منهم بمناقشة هذه المفاهيم؛ ولكن اتجاهات المناقشة لم تكن ضرورةً منسجمةً مع بعضها، يعني نحن نعرف مصطفى السباعي، على أساس ديني مثلاً؛ ولكنَّ الشيخَين محمد عبده والأفغاني كانت مداخلاتهما مهمة، لأنهما اقتحما الساحة، يعني مناقشة مهمة مع هانوتو مثلاً، فدخلا في حوار مع حركة الاستعمار التي تبني كثيراً على ما كتبه المستشرق.
المستشرق كما قُلنا كان الأساس؛ يعني أقواهم هو دي ساسي؛ المدرسة الفرنسية، وكان مترجماً بارعاً جداً، وأضاف كثيراً، حتى الرجل يُعطى حقه المعرفي، ولكن عندما نتمعن بالهوامش، هذه الهوامش لا تخلو من خطأ في التركيب، يعني يقدم المادة، يعني هو مثلاً عندما يؤكد أن القصيدة والانفعال والعاطفة.. والكذا قد لا يعني شيئاً ضاراً؛ ولكن بالنسبة إليه هذه قراءة الشعر، هذا الشكل تفصح له قراءة الشعر، بهذا المعنى هو لم يذهب، تركيب القصيدة الجاهلية، بمعنى لا. القصيدة الجاهلية هي عبارة عما يسمى بطقس العبور، أنه تبتدئ بالتشرذم والانحلال أو الفقدان والخسارة؛ سواء امرئ القيس، خسارة الحبيب.. إلى آخره، وبعد ذلك الرحلة الشاقة التي تثبت للشاعر قوته وحضوره وقدرته على الاستعادة لنفسه والانسجام ثانيةً، وقبول القبيلة ثانيةً".
القصيدة الجاهلية والكتابات عنها
وتابع د.محسن جاسم الموسوي: "هذه الأفكار لم تطرأ على دي ساسي؛ لم يأخذها بنظر الاعتبار، هو انشغل بالعاطفة الجياشة التي انطلق منها الشعر. هذه مشكلة، هو لم يقصدها لربما كما قُلت؛ ولكن هذا الذي جرى، الجيل التالي من المستشرقين سيأخذون من ذلك، ولكن يأخذونها باعتبارات أخرى هي الاعتبارات الإمبراطورية تحديداً، وهي اعتبارات مهمة. هل العربي آنذاك قد أخذ من ذلك.
بطرس البستاني في منتصف القرن التاسع عشر، حاول أن يبتعد عن ذلك، واتجه اتجاهات اجتماعية أكثر على سبيل المثال، واهتم بقضايا أساسية تتعلق بالمرأة، تتعلق بالإنسان.. إلى آخره؛ لكنه عندما جاء النهضويون، بالمعنى المألوف، يعني الأسماء المعروفة. طه حسين وفلان وفلان وفلان؛ ما زالوا تحت هذا الانبهار، لا تنسَ أن طه حسين أخذ عن دور المدرسة الاجتماعية والاتجاه في القراءة في المجتمعات، وأخذ أيضاً من عدد كبير من الدارسين والمستشرقين، آنذاك، ومن ضمنها طبعاً الكتابات التي ظهرت عن القصيدة الجاهلية".
الأنماط الاختزالية للفكر العربي عبر الاستشراق والمستشرقين
واستطرد الأكاديمي العراقي، أستاذ الدراسات العربية والمقارنة: "كما قلت الجانب الآخر هو جانب الدارس، العرب أو المستشرق أو المستعرب. أنواع وأصناف كثيرة طبعاً؛ ولكن كان أيضاً المثقف العربي يستميل مَن يمدحه، فكان يشعر بالراحة النفسية، ليه؟ بسبب القهر، بسبب الاستعمار؛ لأسباب كثيرة تجعل منه مستسيغاً هذا المديح والإطراء، لإعلاء شأن النفس لا أكثر ولا أقل، وهذا له بقدر ما يبدو ضعفاً ولكنه واقع حال بالنسبة إلى عدد كبير من المثقفين، آنذاك.. أنت مَن تقرأ توفيق الحكيم، يقرأ لك عنه في واحدة من الروايات أنه ما الذي جرى لأحد المصريين الذي تصور أنه قد خدم الاستعمار وكذا وكذا، وعندما حضر في مصر لاحظ أن المستعمر الإنجليزي في داخل مصر يتعامل معه كمواطن ثانٍ، ويرى نفسه، اللي هو المحتل، أنه هو المواطن الأول. وهكذا فبدأ المثقف نفسه يعاني أزمة انفصام أنه هو لا تعني المعرفة التي حزت عليها من الغرب ارتقاء بوضعك الاجتماعي أو السياسي في ظل الصراع مع المستعمر".
المثقف وإشكالية الصراع مع المستعمر
وأضاف د.محسن جاسم الموسوي: "الصراع مع المستعمر لم يكن بادياً عند طه حسين مثلاً، لم يكن، وحقيقة أهمل هذا الموضوع حتى في سيرته الذاتية، باستثناء إشارة بسيطة.وحتى جُرجي زيدان، عندما كتب سيرته الذاتية، ولم تُنشر إلا لاحقاً. تشوفه لم يشر إلى مثلاً المستعمر البريطاني أو ما شابه. وكذلك حتى سلامة موسى المثقف الذي يعتبر اشتراكياً على اليسار حسب، وأفاد منه عدد كبير من المثقفين العرب آنذاك، كان يتهرب من نقد الفرنسيين؛ لأنه أخذ بالثقافة الفرنسية وتأثر بها كثيراً".
المثقف العربي ومسألة التناطح مع المستعمر
وقال الأكاديمي العراقي، أستاذ الدراسات العربية والمقارنة، رداً على "وهناك مَن يقول إنه طه حسين وجُرجي زيدان وسلامة موسى كانوا كلهم في موقف التتلمذ على يد المستشرقين؛ وبالتالي أخذوا في ما أخذوه عن المستشرق، تلك النظرة التي كان الاستشراق سياسياً يعتبر يعني بموجبها أن الفكرة القومية أصلاً يعني ينكرون هذه النزعة علينا": "نحن نرجع إلى مسألة التضرر.. مسألة التضرر بمعنى أنت العرب تحديداً، لأن هم لم يذهبوا إلى الآخر. أن العربي تحديداً فرداني، لا يمكن له أن يجتمع على حال أو يؤمن بقومية عربية واحدة، هذا استمر طبعاً؛ لأنه التأثير فعلاً في الفكر الاستشراقي تأثير حقيقي ومغرٍ.. كان آنذاك؛ يعني خصوصاً مسألة الفردانية، مسألة التضرر، المثقف العربي في تلك المرحلة لم يدرس بشدة مسألة التناطح مع المستعمر؛ بمعنى أن المستعمر هو الذي أذلَّك، والمستعمر الذي هو لم يتح لك الفرصة أن تنمو، بدليل أننا نعرف موقف كرومر من تدريس البنات في مصر، على سبيل المثال لفترة طويلة كان ضد هذا الاتجاه إلى آخره. إذن لم يأخذوا هذه القضية بشدة، في حين أن مثقفةً بسيطةً هي نبوية موسى في ذلك الجيل، جيل طه حسين.. كتبت بشدة ضد المستعمر البريطاني؛ لأنه لاحظت ما عانت هي كمدرسة".
غربة الفكرة القومية عن العرب
وأضاف د.محسن جاسم الموسوي: "يعني السير هاميلتون عندما استلم مسؤوليات كبيرة في الجامعات لاحقاً ونقلت دراساته وحولها إلى دراسات حقلية أو ميدانية؛ يعني حول الميدان، من دراسات سابقة بها شيء من العمومية إلى دراسة ميدانية. هذا الانتقال يعني التحول في الذهنية البريطانية. احنا مسألة الذهنية البريطانية لازم نفهمها، أنه ليست مسألة سهلة أو مسألة مسطحة، لا كانت معقدة.. لازم ندرس علاقة (كيرسن) كسياسي بريطاني معني بالشرق الأوسط تحديداً، وبعد ذلك علاقته بآخر، ونقرأ أنه كيف نظرا إلى المنطقة، هما كما نلاحظ تأثرا كثيراً بالمستشرق. يعني السياسي ليس منقطعاً عن المستشرق بالمعنى الذي يأخذوه من المستشرق، يعني ماكس مولر كان عندما تقرأ له، وهو مثقف ألماني هاجر إلى بريطانيا، من أصل يهودي، وماكس مولر كان مؤثراً مثلاً على هؤلاء الساسة، يستشيرونه في كثير من الأشياء؛ لكنه ومجموعة كبيرة من مثقفي اليهود، آنذاك، لا يؤمنون بمسألة التناطح بين الآرية والسامية أو موجودة عوائل فيولوجية بهذا التوزيع، فنقلوا الحوار إلى مستويات أخرى. إذن المستوى الذي جاء به إرنست رينو، ورغم تأثيره الكبير كما قُلت في داخل الثقافة العربية، وبين المثقفين العرب؛ فإن أشياء أخرى فرض عليها الواقع السياسي ودخول المثقف لا سيما المثقف الألماني في الثقافة الأنجلوسكسونية، هذا التحول، الثقافة الأنجلوسكسونية لم تعد تتحدث عن آري وسامي، انحرفت إلى شيء آخر وهو سياسي".
هل المثقف تعاملَ مع المستشرق؟
وتابع الأكاديمي العراقي، أستاذ الدراسات العربية والمقارنة، رداً على "أنا أريد أن نقف عند هذه النقطة؛ يعني هناك استشراق لا ساذج ولا مقيم في بديهياته أو منطلقاته، ولكنه متحول باستمرار وَفق تحولات سياسية، لأنه حتى مثلما تفضلت الآن الفكرة العنصرية لإرنست رينو، التي تقسم العالم إلى جنسَين؛ آري وسامي، مع تزايد النفوذ الصهيوني، سيتم التراجع عنها، لهذا صرف الثقافة والسياسة الأوروبيين بشكل عام، صار سامياً، استبدلت بالعربي والآري، استبدلت بالأوروبي، وكله بسبب النفوذ الصهيوني المتزايد في تلك المرحلة"، قائلاً: "هذا لا يعني أنه ماتت الفكرة، كما نعلم أنه الآن تُستعاد هذه الأفكار بطريقة أو بأخرى، بمسميات مختلفة.. الذهنية التي يسمونها التنميط حقيقية، موجودة في الثقافات؛ لأنه تبقى قابعةً في الوعيد الداخلي للإنسان، يجري تناقلها داخل ثقافات، وهذه لا يمكن أن تموت.
تخمد لفترة، ولكن تنتعش لفترة أخرى؛ ولهذا كلما أججت المشكلات بالمنطقة العربية يلجؤون إلى هذه الاعتبارات بطريقة أو بأخرى في التفسير، وهو صحفي قد لا يكون قد قرأ لإرنست رينو، أو قرأ شيئاً من هذا النوع. إذن هذا الواقع، هل المثقف تعامل مع المستشرق؟ ثم السؤال أنه أي مستشرق نتحدث عنه، أنه هناك كما ذكرت في الكتاب في فصل بعنوان (الاستشراق السياسي).. هناك استشراق معرفي؛ يعني أنا كمستشرق أقدم لك المعرفة. وهذه المعرفة بقدر ترجمة النصوص؛ الهوامش وما إلى ذلك. قد تكون مفيدة إليّ يعني، وأنت كسياسي قد تستشيرني في ذلك، وهذا كما ذكرت أنه ماكس مولر كان يستشار لهذه القضايا، وبعد ذلك أنه كما نعلم عندما قامت الحرب على العراق عام ١٩٩١، وزير خارجية أمريكا قال أنا سألت الناس العارفين جداً بقضايا المنطقة، وذكر برنارد لويس، قال إنه لا يوجد عراق في التاريخ.. لاحظ؛ أنكر وجود يعني.. فإنكار الوجود العربي أو الدولة العربية هذا جزء من التفكير نفسه، من الرواسب، نحن نتحدث عن رواسب، طبعاً هو لم يقرأ جيداً برنارد لويس، لا علاقة له بقراءة أنه ما الآثار السومرية والبابلية، وكيف ذكر العراق في تلك النصوص، وما إلى ذلك. ولم يمكن سمع أنه هيرودوت قال (بلاد ما بين النهرين). وخلاص يمكن ما عنده بعد معرفة أخرى إضافية، أو لا يريد أن يعرف، ليه؟ لأنه هو الآخر تحول. إذن علينا أن ننظر إلى أن المستشرق نفسه قد مر بتحولات من موالٍ إلى العرب، لثقافتهم؛ ولكن مع تأكيد خاص على الفرق الإسلامية، إلى خصومة فعلية مع الثقافة بأن أصبح مستشاراً رسمياً".
المثقف العربي والاستشراق المعرفي والاستشراق السياسي
وأضاف د.محسن جاسم الموسوي: "لمّا نقرأ شخصاً يعني مثلاً (جالان) عندما قام بترجمات (ألف ليلة وليلة)، وبعد ذلك طبعاً أسهم في الإنسكلوبيديا، وأكمل ما قدمه، يعني هو استكمل الأجزاء الأخرى المتبقية.. إلى آخره. وصفه طبعاً إدوارد سعيد بأنه مستعرب.. ما قال عليه مستشرق مستغرب. ليه؟ لأنه صحيح أنا مع إدوارد في هذه القضية أنه هو مستعرب، لأنه هو لم يقصد شراً من وراء تفاسيره، يعني عندما قدم لألف ليلة وليلة ما تحدث أكثر. قال إنه تعرض لك ألف ليلة وليلة طباعَ وعادات هذه الشعوب، وكأنك وقد زرتها وأنت تقرأ، هذا هو تداخل في ذهن الغرائب، يعني الغريب الذي يراه في مجتمع ليس مجتمعاً إنجليزياً بارداً مثلاً وشيئاً آخر.. فبدأ يسقط منظوره الخاص الفرنسي أو البريطاني أو ما إلى ذلك على المجتمعات الأخرى التي تبدو غريبة ومشحونة أو غرائزية.. وما إلى ذلك، يعني من الأشياء، ويرون أنه هذا استمرار، هم لم يروا العصر العباسي ولم يطلعوا على الفكر المملوكي مثلاً أو ما شابه تلك الفترة الوسيطة، لم يطلعوا على ذلك؛ ولكن هم يتناقلون معرفةً لا أكثر ولا أقل وإلا لو اطلعوا فعلياً على طبيعة المجتمعات العربية لاحقاً لما كونوا هذه النظرات التبسيطية يعني، والاختزالية، هو المستشرق شأنه شأن المثقف العربي في بداية النهضة، يحتاج إلى الاختزال، اختزال مصطلحات جاهزة، ليه؟ لأنه كان مأخوذاً أيضاً بأفكار جديدة لم يتمتع بها طيلة السيطرات الفرنسية أو البريطانية أو العثمانية، لم يكن يتمتع بها. ولهذا انشغل بكلمات الاستبداد والعدل والمساواة، وما إلى ذلك.. إلى آخر هذا الكلام. وتكلموا وتحدثوا عنها، مَن قال هذه الكلمات الثماني المهمة المتكررة، هي كيت وكيت يقصد ذلك. إذن هذا المثقف العربي، المثقف العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر بدأ يراهن على إمكانية معرفة تؤخذ من الغرب".
الإصلاحيون الإسلاميون في طليعة مساجلي الاستشراق
وأجاب الأكاديمي العراقي، أستاذ الدراسات العربية والمقارنة، عن سؤال "لماذا كان الإصلاحيون الإسلاميون في طليعة مساجلي الاستشراق، لا التنويريون الليبراليون مثلاً؟"، قائلاً: "المشكلة هنا أن الإصلاحي كان معنياً بالدفاع عن الدين، فالدين بالنسبة إليهم يعني لتصويب ما جرى من قول، يعني أنه يقرن الإسلام بالاستبداد.. إلى آخره، بأن هذا خلط بين الأنظمة التي جاءت بعد الخلفاء الراشدين مثلاً وبين الجوهر؛ يعني من الشيخ محمد عبده والأفغاني، كانا يصران على هذه القضية؛ لأنه الآن التصادم في هذا الموقع طبعاً احنا نعرف أنه يعني الشيخ الأفغاني ومحمد عبده كانا يريدان ويسعيان إلى إصلاح المجتمعات العربية الإسلامية، وكانت هذه مهمتهما، مهمة كبيرة جداً، ولكن ضمناً رأيا أن المشكلة التي تواجههما هي مشكلة المستعمر؛ لأن المستعمر ووزراء المستعمرات تحديداً بدؤوا يخلطون بين الأشياء لتبرير طبيعة المستعمر، طبعاً سيعاد النظر بعد ثلاث سنوات من التوقف من المجادلة مع الشيخ محمد عبده، صحح بعض أفكاره؛ ولكن أنت لا تقتنع بهذا التصويب، لأنه التصويب يأتي لاحقاً لتبرير خطأ معرفي صححه له أحد المستشرقين، أيضاً يمكن إلى آخره. أما نأتي إلى الجزء الآخر، إذن أقصد انشغال الإصلاحي، انشغال معروف، هو أنه لا بد له أن يقيم علاقة واضحة مع طبيعة المستشرق والمستعمر، ليس لأنهما صنوان ولأنهما يتحدان في الأفكار؛ ولكن لأنه يدرك أيضاً أن هذا الوزير مثلاً استعان بالمعرفة الاستشراقية لبناء استنتاجات معينة، هي استنتاجات اختزالية، ولهذا قرن الاستبداد بالكذا، قرن إلى آخره. وكان على الشيخ الأفغاني أن يرد على ذلك، يعني هذه مسألة مهمة؛ هل انعكس الأمر نفسه بالنسبة إلى التنويري، التنويري كما قُلت ليس مشغولاً بهذه القضية، هناك مَن يقول كان مستغرقاً في دور التلميذ وأنا لا أرى ذلك مثلاً.
خُذ جرجي زيدان، جرجي زيدان حاول الكتابة عن تاريخ الأدب، عن تاريخ الإسلام، عن تاريخ الكذا، والرجل تأهيله العلمي كما نعلم أنه محدود جداً؛ ولكن قرأ بشغف وتمعن بشغف واطَّلع أيضاً بشغف، وتعلم يبدو لي لغات أخرى بشغف أيضاً، هنا عندنا اتجاهان لازم نفهمهما؛ الاتجاه الأول أن التنويري تأثر بمدرسة التنوير، وتنويريي القرن الثامن عشر.. ولا علاقة لها بالمسألة التي نتناقش حولها الآن مثلاً؛ ولكن كانت منبهرة كثيراً بالفكر التنويري وبجماعة الإنسكلوبيديا؛ يعني مجموعة فولتير مونتيسك، فلان، فلان..".
القاهرة كانت تنتج وبغداد أنتجت إخوان الصفا وكتاب الأغاني
وأضاف د.محسن جاسم الموسوي: "المجموعة التي جاءت بهذه الإنسكلوبيديا، والتي اعتبرت في تلك الأثناء إنجازاً معرفياً خطيراً يجعل من باريس أم الدنيا، نسيت أن القاهرة كانت تنتج بين القرنَين الثالث عشر والرابع عشر كذا، وأن بغداد القرن العاشر أنتجت إخوان الصفا وكذا وكذا، وأنتجت كتاب الأغاني، وأنتجت كذا، يعني الإنسكلوبيدات موجودة، عدا ما نعرفه أن الذي ظهر في العصر الوسيط من إنسكلوبيدات مختلفة.. إذن عندما نأتي إلى طبيعة التنويري، التنويري كان همومه كما قُلت مختلفة وتتصل بالمدرسة التنويرية الأوروبية، ولهذا مثلاً جُرجي زيدان على شغفه بتاريخ الأدب وتاريخ العرب وتاريخ الإسلام.. إلى آخره، ولكن أيضاً هو أخذ بالمنهج التنويري وأنشد إلى ذلك، ولهذا مسح على ستة قرون من الحياة، من القرن الثاني عشر بعد سقوط بغداد إلى مجيء نابليون، سماها العصور المظلمة، واستمر هذا الكلام، إنه ليه؟ لأنه أوروبا تعاملت مع العصر الوسيط على أنه عصور مظلمة، فقاسوا عليها".
العصور الوسطى في العالم العربي
وتابع الأكاديمي العراقي، أستاذ الدراسات العربية والمقارنة: "في كتابي الذي تحدثت فيه عن العصور الوسطى في العالم العربي، هذا الكتاب نُشر عام ٢٠١٦ من دار نشر جامعة نوتردام الأمريكية، والكتاب هذا عنوانه جمهورية الآداب في العصر الإسلامي الوسيط، البنية العربية للمعرفة.. هذا الكتاب لم يذهب إلى التشدق والكلام الفاضي والكذا، ذهبت إلى كل المراكز وكيف تنتقل المعرفة من القاهرة إلى سمرقند إلى بغداد إلى حلب، كيف تتجول؟ كيف الكتاب الواحد ما عندهم لا إنترنت ولا بطيخ مثل ما يقول العراقيون، ولا شيء من هذا النوع، كانت العلاقات هي هذه، أنه يظهر الكتاب هذا وتجري مناقشته في جميع الحواضر الإسلامية المختلفة، يعني داخل الوسط العربي أو خارج الوسط العربي، أبداً، تستغرب أنت يناقش في بغداد، يناقش في حلب، يناقش في سمرقند وما شابه، والهوامش الكثيرة والمترتبة، واحد يستكمل الآخر أو يعترض عليه، وتظهر الكتب والمؤلفات وما إلى ذلك".
وقال د.محسن جاسم الموسوي، رداً على "ليس عبثاً طرحت عنوان كتابك في جمهورية الآداب، أنا طرحت جمهورية الآداب لأن أنا أعتبرك امتداداً لهذا التيار التنويري الليبرالي؛ ولكن حينما كنت أتحدث عن موقف التلمذة الذي تورَّط فيه التنويريون الأوائل، مثل طه حسين": "شكبوا على ستة قرون من الثقافة المكتنزة جداً التي أشرت إليها في هذا الكتاب. ولهذا الكتاب لهذا السبب هو نقطة تحول في قراءة أقسام العربية والأدب المقارن وما إلى ذلك، والإسلاميات؛ لطبيعة الفترة، لأنه حتى مثقفة عظيمة مثل سلمى الخضر، رحمها الله، أنه هل تحدثت عن عصور مظلمة، وطه حسين طبعاً تحدث عن عصور مظلمة، وما إلى ذلك. هذا الخطأ خطأ، هو خطأ الإسقاط الذي تحدثنا عنه.. أنه جرجي أخطأ في ذلك. ليش تلك المسألة؟ أنه في يوم من الأيام في عام ١٩٦٧ ألقى روسلاف في مقتبل حياته في جامعة أكسفورد، سانتاج توني كاليج، في تلك الأثناء، ألقى محاضرة بدأها (نحن المستشرقين) لا كذا كذا, أنه نشهد شيئاً؛ واحد هو أنه حب العربية أنه نحن ندرسها من الخارج، اثنان إنما عندما نفاجأ بالكم الهائل من المعرفة، نُصاب بالذعر ونتهرب بطريقة أو من الإجابة.. هذا الذي حصل، فلهذا مسحوا على معرفة كاملة بسبب هذا الإسقاط، إذن هذا مهاد خطير، يعني ليش قُلت لك التنويري انهمك في قراءة الخطاب التنويري أكثر من قضية الاستشراق كمواجهة كما تعرض لها الإصلاحي؟ الإصلاحي كان مشغولاً بهذه كهم أساسي؛ لأنه هو بحاجة إلى الدفاع مع الإثبات بأنه أنتم من أي منطلق تنطلقون إذا كنتم تدعون المسيحية، فالمسيحية ولدت عندنا هنا، والمسيحية هنا موجودة، والمسيح هنا يعني.. إلى آخره. يعني الردود كانت بهذا المعنى؛ ولكن نعلم أن الإمبراطوريات والاستعمار تحديداً يحتاجان إلى التشدق بالأشياء، إلى ظواهر الأشياء، والكلمات؛ ليش؟ لأن مواطنه العادي يمكن أن يقبل هذا الكلام، يعني اللي هو مجرد كلام، يعني لا معنى له ولا رصيد ولا كذا، ويحاول أن يؤثر على الرأي العام بهذه الطريقة؛ ولكن في داخله قد يكون فاهماً وعارفاً أن هذه البلدان تمتلك ثقافات كبيرة، يعني أنتجوا، يعني حتى الاستعمار الحديث يعني مثلاً الاحتلال الأمريكي للعراق، لاحظ أن الكلام، الخطاب الذي وجهه جورج بوش مثلاً إلى العراقيين، خطاب سخيف، هو يستعيد ما قاله الجنرال مود عندما احتل العراق سنة ١٩١٧، نفس الكلام يستعيده؛ لأنه الخطاب الإمبريالي والاستعماري، هو خطاب متوالد، يعني يأخذ بعضه عن بعضه، إذا كنا نتحدث مثل هذا الاتجاه، نتحدث أيضاً في داخل تيارات الفكر العربي".
تيارات الفكر العربي تأخذ عن بعضها
وتابع الأكاديمي العراقي: "تيارات الفكر العربي هي الأخرى تأخذ عن بعضها؛ يعني عندما تحدثنا عن نظرية نابليون ومجموعته من الفقهاء، في أنه يمكن أن تكون الجزائر ومصر شرق أوسطية، بمعنى أنها تابعة لفرنسا، هذا المنطق مقصود ومرتب ويراد إثباته للمجتمع بطريقة أخذها طه حسين؛ تأثر بها طه حسين".
واستكمل د.محسن جاسم الموسوي: "طه حسين تأثر من كارو نلينو.. وكذا، تحدث عن ازدواجية معينة داخل التكوين، داخل الشخصية الثقافية، داخل المتنور نفسه الذي رأى نفسه ينقطع بين الأزهر وباريس مثلاً ..إلى آخره".
طه حسين والاستفادة من خلفيته المعرفية الاستشراقية
وأجاب د.محسن جاسم الموسوي عن سؤال "طه حسين انحاز إلى باريس على حساب الأزهر، فكيف استفاد من خلفيته المعرفية الاستشراقية لكي يبني أو يؤسس ويشيد أفقه الفكري الذي سيصنع منه طه حسين الذي نعرفه اليوم؟"، قائلاً: "طه حسين ليس واحداً، طه حسين بدأ مختلفاً كما ذكرنا، كان يتأثر بمناهج التنويريين كثيراً، وأخذهم في بعض الأحيان على علاتهم، استخدم منهج الشك من ديكارت، وتبناه لفترة طويلة، وكان مهماً بالنسبة إليه وبالنسبة إلى الفكر العربي عموماً.. هو انطلق من فكرة ابن سلام، أن فكرة الانتحال.. إلى آخره أخذها من ابن سلام. بس ابن سلام كانت حدود معينة للحديث عن تداخل الشرعية، هذا كتاب الآن يخرج لي من جامعة كامبريدج. يعني من دار نشر جامعة كامبريدج، أتحدث به عن مشكلات من هذا النوع. طه حسين وجد في مرحلة لاحقة عندما بدأ المثقفون أو المستعرب الفرنسي يقرأ القرآن بصورة مختلفة، وبدأ يكتب عن ذلك ويترجم عن شخصية الرسول.. إلى آخره، عندما بدأ المستشرق والدارس الفرنسي يكتب بهذا الاتجاه قرأ طه حسين هذه الكتابات.
فنهاية الثلاثينيات تشوفه أنه لم يعد نفسه؛ بدأ أولاً يتعامل مع شخصية الشعراء العرب تعاملاً جديداً، مع شخصية الخلفاء تعاملاً آخر.. وما إلى ذلك، حتى إذا ما جاءت الأربعينيات ونهاية الأربعينيات، حديث الأربعاء.. إلى آخره. طه حسين انتبه إلى أن المجتمع المصري يحتاج أكثر مما تحتاجه الأشياء، ثم جاء الفكر القومي مع صعود الناصرية، وما إلى ذلك".
طه حسين وإشكالية النزعة القومية للعرب
واستطرد الأكاديمي العراقي: "طه حسين طبعاً كما قُلت عندما شاف أن وهجاً آخر دخل في الثقافة، رأى أنه لا مصر عربية، ولكن لا تدخل في اتحاد؛ بل تدخل داخل الأمة العربية.. بدأ يغير في الخمسينيات، طه حسين لم يعد طه حسين العشرينيات، تغير وتبدل ووضع مناهج للتعليم مهمة جداً شارك بها. يعني هذا لا يمكن أن ينكر هذا الفضل لطه حسين ومسعاه لتعليم الفقراء بشكل خاص في مصر.. وما إلى ذلك طبعاً، هذا كان مشروعاً وطنياً وليس قومياً، هو لم يدخل في القضية القومية إلا باستثناءات في احتفالات الشعر.. طه حسين يقال إنه قال أنت شاعر العرب الأكبر، يعني الحديث عن شاعر أكبر للعروبة، ما قاله ولا قاله عن حافظ ابراهيم.. ولا، وما قاله عن السابقين (وفي تلك الفترة بدأ يغير أقواله؛ قال أنا لست ضد الحلف الذي لا يضيع أمة في أمة.. هو يعني يخضع شعباً لشعب)، هو ولاء لمسألة الحرية الشخصية والعامة، ولاء حقيقي.. طه، لا تنسَ، تربى في ذلك الحضن الفرنسي، وتأثر كثيراً بكثير من هذه الأفكار، ونقل هذه الأفكار. على أية حال المشكلة ليست طه حسين وحده، احنا لازم ناخد الجانب الآخر، وهو التحولات، أنا ذكرت بالكتاب أن المراحل التي مر بها الاستشراق المعرفي، وأيضاً المراحل التي مر بها الاستشراق السياسي، والانتقالات التي جاءت مع صعود الولايات المتحدة الأمريكية على حساب اندثار تدريجي للإمبراطوريات البريطانية والفرنسية على سبيل المثال، خليني أذكرك بمقالة كتبها جورج كينان، المستشار في وزارة الخارجية الأمريكية ١٩٤٧، كتب مقالة مجهولة الاسم بعنوان (سلوك الاتحاد السوفييتي)، ما الذي قاله؟ قال هذا الاتحاد السوفييتي لا نستغرب عنه أنه يكون متهوراً أو قطعياً أو استبدادياً أو ما إلى ذلك؛ لأنه هو شرق تعامل مع روسيا، هي شرق. وتعامل معها بمنطق المستشرقين؛ يعني القديم ماكو، المستشرق العتيق التقليدي الذي أثر في طبيعة السياسات، هذا المستشرق مو المتنور، المثقف الكذا.. إلى آخره، حصيلة ما قال إرنست رينان، بطريقة أخرى نقله جورج كينان في ١٩٤٧، في مقالة نُشرت في مجلة الشؤون الدولية، آنذاك".
تغير الفهم الجغرافي بنهاية القرن الـ18 في أوروبا
وقال د.محسن جاسم الموسوي: "الفهم الجغرافي كان محدوداً، وتأثر وتغير يعني نهاية القرن الثامن عشر بأوروبا؛ عندما يتحدثون عن الأورينت كانوا يتحدثون عن اليابان والصين وما ذاك المنطقة يعني؛ ولكن جرى استخدام الأورينت بشكل مستمر، يعني الأورينتل موجود في فرنسا، وموجود في إنجلترا مثلاً، وموجود في شيكاغو، كله يسمونه أورينتل، هذه النقلة الأخيرة... أنه النظر إلى المنطقة، وقراءة المنطقة بطريقة أخرى حتى تخلص من العوائل الفيولوجية، هذه النقلة تزامنت مع الصعود الأمريكي في السياسة الدولية، وفي التوسع، وكان لا بد أن يستجيب لها فلان وفلان من الدارسين أو أن يستعينوا بهذه الخبرات. لربما لم يقدم لهم معرفة مباشرة؛ ولكن استندوا إلى المعرفة هذه ليبنوا بناء آخر لأغراض كما قُلنا...
السياسي يصطاد المفردات، وقد لا تكون هذه مقصودة من قِبل الدارس، مستعرباً أو مستشرقاً؛ ولكن تستخدم بطريقة أو بأخرى، لأنه هو صاحب المعرفة، لم يكونوا يستعينون بالدارس العربي. كان يستعان بهؤلاء، أنهم يسألون ويسألون، وهذا في كثير من الأحيان بقصد التصالح، يساير الرغبة، رغبة القائد السياسي، فيسايره بطريقة أو بأخرى لإرضاء الرغبات وللبقاء؛ لأنهم مسألة مصالح بالنسبة إليه.. لا تنسَ أنه احنا اللي نسميها ما بعد الحداثة، القضية الوضعية، أن هذه الفئة الجديدة التي ظهرت مع الدراسات الحقلية هذه أو الميدانية، هي فئة مثل ما تقول الطاقم التكنوقراطي اللي هو ناس، لا؛ ليسوا معنيين بالجواب عن السؤال السياسي أو الأيديولوجي، بل معنيون بتقديم الخدمات".
ضحالة الاستشراق الجديد ورموزه
وقال د.محسن جاسم الموسوي، رداً على "كان محمد أركون من الفيلولوجيا كمنهج، ومن المنهج التاريخي، ومن كل تلك الصناعات المعرفية والمنهجية الثقيلة للمستشرقين، ويطالب بالتجديد وانفتاح العلوم الإنسانية وما إليه؛ ولكن في لحظة ما اندهش أمام ضحالة الاستشراق الجديد ورموزه يعني، وكيف فعلاً مثلما تفضلتم الناس يبيعون خدماتهم على أعتاب السياسة وأعتاب الميديا وأعتاب وزراء الخارجية والدفاع، وما إليه؟": "وما زالوا لحد اللحظة... لحد هذه اللحظة هو لا يستعين بالمثقف الجاد، يعني عندما تمر على القنوات المشهورة بالعالم اللي سائدة يعني؛ لارتباطها برأس المال العالمي، يعني ترى أن الذي يسمونهم مستشاري كذا، في أغلب الأحيان قليلو المعرفة، لا علاقة لهم، يعني يستعيدون كلاماً عادياً سخيفاً؛ بحيث أن المشاهد نفسه تطور بحكم ما يراه من الفيديو والأخبار والمعلومات وما إلى ذلك، وطرق التواصل الاجتماعي المختلفة.. تطور أكثر منهم.. تطور في بعض الأحيان، أنت تشعر أن هذا سياسي كبير جاهل مقارنةً بهذا المواطن الاعتيادي، لأن المواطن اطَّلع أكثر.. واطلع بدراية الراغب، بينما ذاك بعلاقة الإجبار هو مضطر على تكوين خطاب معين".
التأسيس لفكر عربي معاصر
وأجاب الأكاديمي العراقي عن سؤال "أبدأ مع أنور عبد الملك، وإدوارد سعيد، ومحمد أركون، وعبد الله العروي.. وغيرهم، كيف تمكن هذا الجيل فعلاً من أن يؤسس لفكر عربي معاصر؟"، قائلاً: "هذه أنا سميتها في مقالة معينة في تقديم كتاب كان مجموعة أبحاث لآخرين؛ يعني سميتها الانعطافة البلاغية في المعرفة، بكلمة أخرى أنه لم يعد يرتكز المثقف على اختصاصه المحدود؛ بدأ يتوسع في ذلك، يعني إدوارد سعيد مثلاً بدأ ناقداً أدبياً.. لكن لاحظ أن الحركات التحررية عموماً، هذه الحركات التحررية فرضت نفسها على الناس، حتى إيهاب حسن مثلاً، جيل إدوارد، ناقد أدبي أيضاً، عندما شاف أن حركات شعبية ظهرت في ٢٠١١ في الوطن العربي؛ يلا، اعترف بمصريته.. لم يعترف بمصريته سابقاً.. إطلاقاً. لاحظ؛ المشكلة إذن احنا نتحدث عن مشكلة هوية وافتراق في داخل المثقف العربي، وهو يحتاج إلى ركيزة معينة تعزز له الوعي بالذات والقول بأنه لديه ولدى الشعب الذي ينتمي إليه قدرة معينة وحقيقية وإيجابية. هذا الانتماء، الانتماء إذن هذا هو الذي دفع المثقفين العرب إلى التعاطي بجدية أكثر مع الفكر العربي وقراءته بشكل آخر ومغاير، يعني عبد الرحمن بدوي فرضاً أنه قرأ ولربما تراجع عن أفكار أيضاً كثيرة في نهاية حياته؛ ولكن تأثر كثيراً بالمدرستَين، التنويرية وكذلك بحركة معينة في الاستشراق اللي هي حركة الاهتمام بالتصوف على سبيل المثال؛ يعني ماسينيون تحديداً.. إلى آخره. لاحظ، فبدأ كل تفسيراته تصب في هذا الاتجاه. يعني حتى فهمه للوجودية يصب في هذا الاتجاه كان إلى آخره. إذن الجيل الجديد لا هو جيل لا يستنكر من الانتماء إلى أمة أو إلى ثقافة، ويرى أنه لا بد له من أن يتفحص هذه الثقافة بجدية كاملة؛ يعني همّ لم يكونوا متواضعين، لا الجابري ولا عزيز سيد جاسم ولا إدوارد سعيد ولا أنور عبد الملك ولا الخطيبي.. إلى آخره، هذا جيل لم يكن متواطئاً مع معرفة، لا؛ كان يبحث بجدية من أجل تأويل المشكلات الفعلية في داخل الثقافة.. العرب بالثقافات الأخرى، ورأى أن هذا الاشتباك لا بد منه الآن؛ لأن المرحلة تحتم ذلك، المرحلة الآن هي مرحلة وعي عربي كامل، وهذه المرحلة تحتم أن يظهر فيها المثقف.
صحيح أن المثقف كما قال أحدهم إنه يشكو من الاستقالة؛ لأنه لا دور له، كالدور الذي كان يمارسه في أوروبا على سبيل المثال، ولكن كان له دور، وكان مؤثراً جداً، بالدليل أنه كان يُنفى وكان يُبعد وكان يُسجن.. وما إلى ذلك، واستمرت الحالة بطرائق مختلفة.. إذن المثقف كلما كان فاعلاً وفرض ذاته وحضوره داخل الثقافات العربية، يمكن أن يؤسس لمعرفة واسعة، ويمكن أن يكون البديل الفعلي؛ يعني هو والمستعرب في آن واحد.. يقدمان خطوات عظيمة يعني ومنجزات عظيمة، يعني المستعرب اللي أقصده هو الذي ينتمي إلى الحقول الأخرى وليس إلى الأدب العربي واللغة العربية. يدرك اللغة ولديه إلمام جيد باللغة العربية، قراءة وكتابة وما إلى ذلك؛ ولكنه يختص بالسوسيولوجيا فرضاً، أو بعلم النفس أو ما إلى ذاك أو بالتاريخ، ويكتب في هذا الاتجاه".
مجهودات المستعربين وخطأ التسمية
واستكمل د.محسن جاسم الموسوي: "تآزرت هذه المجهودات؛ مجهودات المستعربين، وهو الجيل الذي خطأً ما زال بعض الأوروبيين يسمونه المستشرقين، هذا جيل مهم جداً في صنع المعرفة أيضا، وجاء الجيل العربي وأخذ هؤلاء الذين تحدثت عنهم من الأوروبيين والأمريكان يأخذون من هذا المثقف العربي، يأخذون ويتعاملون معهم بجدية الآن؛ يعني هم ليس بالمنظور الفوقي السابق لا يتعاملون بجدية.. حتى اللغة أسهمت كثيراً طبعاً في إغناء هذه القضية، والدخول واقتحام المساحات التي كانت مظلمة بالنسبة إلى المثقف العربي".
هل تصلح "ألف ليلة وليلة" ليؤرخ بها للاستشراق؟
وأجاب الأكاديمي العراقي عن سؤال "النص الأساسي (ألف ليلة وليلة) الذي اشتغلت عليه أولاً في أطروحة الدكتوراه، ثم ألَّفت عنه أربعة كتب، ما رأيك في مَن يرى أن (ألف ليلة وليلة) تصلح ليؤرخ بها للاستشراق؟"، قائلاً: "هو طبعاً (ألف ليلة وليلة) كيف قرأت المشكلة؟ (ألف ليلة وليلة) لا علاقة لها بطبيعة تكوين المجتمعات وما إلى ذلك، هي ألف ليلة وليلة، هي عبارة عن سرد معين، والمقصود هو يعني التفقه؛ ولكن أنه يمكن للقاص أو الحكواتي آنذاك أن يأتي بمعرفة معينة، هي معرفة الحكاوات نفسها، يعني بالمجتمعات والعادات والتقاليد، وتظهر هذه في طبيعة الحكاية وتكوين الحكاية إلى آخره، كانت مهمة جداً ومشوقة؛ لأنها أربكت الأوضاع في أوروبا، أربكت الوضع في فرنسا.. فرنسا لم تألف هذه الكتابات الحرة، الكذا والكذا، هذا النوع من السرد القصصي، ولم يألفها البريطاني، ما زال يتحدث في تكوينات معينة من الكتابة، وحتى الرواية؛ ولكن لا حيوية فيها.. هذا في أول كتاب كتبته عن (ألف ليلة وليلة)، أشرت إلى المشكلات في هذا النوع، هل كيف أخذت، كيف قرأت؟ هناك عدد كبير من الذين كتبوا عنها على أنها تمثل للواقع والمجتمع، كما قُلت هو إسقاط لا أكثر. هو إسقاط القارئ على ما يعتبره شيئاً غامضاً وغريباً ومريباً وغرائزياً.
هو ينسى أنه يقص حكاية، هو ليس مهتماً، ولكن سواء أكان هذا مقصوداً أم غير مقصود فهذا هو الواقع. إذن بهذا الاتجاه كانت (ألف ليلة) مؤثرة فعلياً، هل تنامى هذا التأثير؟ طبعاً إدوارد سعيد كتب هوامش من خلال حياته في القاهرة لعدة سنوات، وجرت الاستفادة منها؛ ولكن لم يستفد منها تماماً، لأن الرجل حاول أن يثبت بعض الملاحظات التي قد تفيد في معرفة المجتمعات أكثر.. إلى آخره. في منتصف القرن التاسع عشر ظهرت مقالة، المقالة دون مؤلف، في مجلة (ناشيونال ريفيو) ١٨٥٧، بعد ذلك أنا تبيَّن لي أن المؤلف هو ولتر باجوت، صاحب المجلة، وكتبت إلى هوتن، آنذاك، وما زال حياً، في تلك الأثناء قُلت له عندي شك، هو كان يفهرس المجلات والكتابات، قُلت عندي شك أن هذا ولتر باجوت، قال تمام، أنا وصلت إلى نفس القناعة، أن هذا هو، إذن لأن أنا قرأت كتاباته الأخرى، المفردات والكذا، دلتنا عليه، ولتر باجوت لا علاقة له بالمستشرق، هو اللي نسميه نيوكلاسيك، أنه ينتمي إلى الأصل الأوروبي للثقافة؛ أي اليونان كذا كذا، هذا ينتبه إلى هذه المركزية الأوروبية التي تستعين بغيرها لتأسيس نفسها خارج الإرث الذي تعلم جيداً المسيحية وغيرها أنها مدانة إلى العرب وإلى المسلمين به؛ أنه المسيح عندنا مو عندكم، يعني الكنيسة تكونت هنا، الكذا تكون هنا.. إلى آخره، فهو ليس معنياً بهذا الجدل، هو معني أنه أن يستعين بالهاي المركزية ليحلل الحكاية، ويصل إلى نفس القناعات التي يقولها إرنست رينان، أن هذا يدل على أنه لا يعقل تركيبي، على أنه لا يوجد العقل بالمعنى هذا، أنه توجد عاطفة، أنه تخلو من التركيبة الدرامية أو المسرحية، أنه... إلى آخره، نفس الاستنتاجات".
وأضاف د.محسن جاسم الموسوي: "كتابي (ألف ليلة وليلة) في الثقافات العالمية المعاصرة.. يوجد فصل خاص بكيفية أن تحرر، بمعنى أنه تستخرج من داخل هذا المتن الذي تشكل حولها لفترة طويلة من الزمن طيلة ثلاثة قرون كيف يمكن أن نحرر هذا ثانيةً ونجعله طليقاً كمعرفة أخرى بديلة. الكتاب يستكمل ما نحن بصدده ومع إشارات طبعاً كثيفة جداً قُمت بها، لو سألتني مثلاً أنه الآن ما الذي لهذا الكتاب الاستشراق بالفكر العربي، سأضيف بعض هذه الملاحظات، يعني زائد الملاحظات التي وردت في حواراتك المختلفة.. إلى آخره، وكذلك إلى كتاب خليل الشيخ عن باريس عند المثقفين العرب، الذي عالج فيه مجموعة في النصف الأول من القرن العشرين، من الذين تأثروا وأخذوا عن الثقافة الباريسية، ليسوا بالحضور نفسه كالحضور الذي نتحدث عنه؛ كطه حسين وفلان وفلان، ولكن مع هذا هم عبارة عن كوكبة من المثقفين الذين تأثروا كثيراً بذلك.. سأستكمل هذه القراءات، إن شاء الله".
إدوارد سعيد أضاف وعدل الكثير من المفاهيم
وتابع الأكاديمي العراقي رداً على "عندي اليقين بأن إدوارد سعيد لو كان حياً بيننا لأعاد نشر كتابه الاستشراق بطبعة جديدة": "هو طبعاً أضاف وعدل الكثير من المفاهيم؛ لأن إدوارد تعرض من قبل المثقفين العرب ومن قبل حتى الدارسين المساندين إلى نقد معين في تلك الأثناء؛ يعني حسب مدارسهم حسب اتجاهاتهم، لا يوجد خطأ أو صح، هل إدوارد كان على صح أو على خطأ؟ لا؛ هم كل واحد عنده اتجاه، وكل اتجاه يرى ويقرأ كما يشاء".
ليس الطب ولا الفيزياء وحدها التي جعلت من كولومبيا مشهورة
واختتم د.محسن جاسم الموسوي: "كولومبيا كجامعة نشيطة، يعني عرفت بطاقاتها في ميدان الإنسانيات، وكسبت شهرة عظيمة في هذا، يعني ليس الفيزياء وحدها والطب التي جعلت من كولومبيا مشهورة، لا.. الإنسانيات هي دائماً أسماء مبرزة فيها، طيلة حياة الجامعة فيها أسماء مبرزة كثيرة، الجانب العربي لم يحظَ بعناية كبيرة دائماً؛ ولكن من المؤكد أن بروز إدوارد على الصعيد الأمريكي، لا تنسَ، إدوارد جاء بعد فورة وثورة ١٩٦٨ وحركة طلابية وكذا كذا.. آنذاك، فجاء كتاب الاستشراق فاتحة عظيمة لهذا الجيل الذي يود أن يعيد تفكيك المعرفة الغربية ويخرج من هذه الأُطر السخيفة، ويخرج من مدرسة النقد الجديد ومشكلاتها وكذا وكذا.. التي لا تتعامل إلا مع نصوص محدودة، وانتهى الموضوع.. إلى آخره. لهذا إدوارد استند إلى هذا الرصيد، وطوَّر فيه وفتح أفقاً جديداً للجامعات أيضاً في إطار المعرفة. هذه المعرفة اللي يشوفوا الاهتمام بالشرقيات أو بالقراءة العربية ازدهرت أكثر بحكم تأثير إدوارد، المشكلة التي نواجهها أن عدداً كبيراً من المعارف والأصدقاء والكذا في كل أمريكا طبعاً وأوروبا، يسعون إلى تقليد إدوارد، هم لا يعرفون أن إدوارد لا يقلد؛ لأنه كان نتاج قضية في مرحلة معينة وفي قدرة معينة وفي قابليته الخاصة أيضاً، ويمكن أن ينتج كل واحد، أن يكون منتجاً لمعرفة أخرى بمسالك أخرى".