تحدَّثَ فخري صالح، الناقد والمترجم الفلسطيني/ الأردني، خلال لقائه الإعلامي ياسين عدنان، عبر برنامج "في الاستشراق"، عن كتابه "دفاعًا عن إدوارد سعيد" الصادر عام 2000؛ إذ إننا أحوج إلى إدوارد سعيد منه إلينا، اليوم، ليدافع عنا، نحتاج فكره وحجته لندافع بهما عن قضايانا الثقافية والسياسية؛ خصوصاً في ظل تغوُّل الاستشراق الجديد، وتكالب الإعلام الغربي علينا، وأيضاً كتابه "كراهية الإسلام.. كيف يصور الاستشراق الجديد العرب والمسلمين؟" الصادر في ٢٠١٦؛ وكيف يمكن للمفكرين العرب اليوم استئناف الأدوار التي لعبها إدوارد سعيد لمواجهة هذا الاستشراق الجديد المتجدد؟
سر العودة القوية لإدوارد سعيد بعد "طوفان الأقصى"
وأجاب فخري صالح، الناقد والمترجم الفلسطيني/ الأردني، عن سؤال "جيل تيك توك يعيد اكتشاف إدوارد سعيد، كيف تقرأ إدوارد سعيد في غزة؟ يعني ما سر هذه العودة القوية لإدوارد سعيد بعد طوفان الأقصى؟"، قائلاً: "الواقع أن إدوارد سعيد ليس مجرد ناقد أدبي أو باحث أو منظِّر؛ سواء في موضوع الاستشراق أو الثقافة والإمبريالية، وإنما أيضاً هو ملهم؛ ملهم لتلامذته، لقرائه، للباحثين الذين تتلمذوا على يديه؛ سواء من خلال كونهم طلبة في جامعة كولومبيا أو حتى كقراء وباحثين كحالتي.
أنا أعتبر إدوارد سعيد ملهماً لي، ولهذا السبب أواصل الكتابة عنه، وسوف أواصل هذه الكتابة ما حييت إن شاء الله؛ فالواقع أن إدوارد سعيد بسبب طبيعة الإلهام الذي يقدمه لطلبته وقرائه نستعيده اليوم في هذه اللحظات الفارقة من تاريخ القضية الفلسطينية، وكذلك من تاريخ العالم؛ يعني ما يحصل الآن وما حصل قبل عدة أسابيع في الجامعات الأمريكية والجامعات الأوروبية، وحتى في أستراليا، هو دلالة على تجذُّر حضور إدوارد سعيد في ذاكرة الطلبة والأساتذة الذين تتلمذوا على يده، وهم من الذين يشتغلون في جامعة كولومبيا أو في جامعة هارفارد وفي الجامعات الأخرى".
إدوارد سعيد ودراسات ما بعد الاستعمار
وأضاف فخري صالح: "إدوارد سعيد كان أحد مؤسسي ما يُسمى دراسات ما بعد الاستعمار أو ما بعد الكولونيالية، رغم أنه لم يستخدم هذا التعبير في كتابه الاستشراق؛ لكن كتاب الاستشراق هو معلم أساسي في هذه النظرية وفي هذا التيار من تيارات النقد، الموضوعات المركزية التي بحثها إدوارد سعيد في كتاباته المختلفة؛ بدءاً من الاستشراق وانتهاء بآخر كتاب نُشر له، تتكوكب حول جملة من المعاني الأساسية التي تتصل بعملية التخلص من الاستعمار وآثار الاستعمار، وكذلك احتلال الأوطان والتنازع على الأمكنة وعلى الميراث.. إلى آخره، وإدوارد سعيد من هنا يستعاد الآن؛ لأنه أسس نظرياً وكذلك من خلال الخطاب الإعلامي الذي قدمه ومن خلال ظهوره الإعلامي على محطات التليفزيون في أمريكا وفي الغرب والبرامج التي أيضاً قام بصناعتها وكتابة مادتها لـ(بي بي سي) عن القضية الفلسطينية.
إدوارد سعيد يبدو الآن شخصاً راهناً وكتاباته راهنة؛ تستطيع أن تؤثر في هؤلاء الأشخاص الذين أخذوا مثاله واستلهموا أعماله واستلهموا أيضاً شخصيته المدافعة عن المعذبين في الأرض؛ ومن ضمنهم الفلسطينيون".
قضية فلسطين وطوفان الأقصى وعودة إدوارد سعيد
وأجاب الناقد والمترجم الفلسطيني/ الأردني، عن سؤال "هل نحتاج إلى السعي صراحةً للدفاع عن رجل (إدوارد سعيد) نشرت الجارديان البريطانية مؤخراً تقريراً تقول فيه إنه بعد عشرين سنة على وفاته يبدو الآن أشبه ما يكون بنبي، لهذا أنا قلت يعني إن قضية فلسطين تعود إلى الواجهة بعد طوفان الأقصى، فيعود معها إدوارد سعيد؟"، قائلاً: "هو في الواقع أنه يعني إدوارد سعيد ومحمود درويش؛ هما الشخصان والباحثان والكاتبان اللذان يُستعادان في هذه اللحظة التاريخية المفصلية من القضية الفلسطينية، أنا أعرف ما أنت تشير إليه، مقالة كتبها مصطفى بيومي، وهو أحد تلامذة إدوارد سعيد، وهو الشخص الذي أيضاً مع زميل آخر له قاما بتجميع أنطولوجيا ضخمة من عمل إدوارد سعيد؛ نحو سبعمئة صفحة نشرت الطبعة الجديدة منها قبل أعوام قليلة، يعني الواقع أن إدوارد سعيد فعلاً يُستعاد يعني في هذه اللحظة، وكما قُلت قبل قليل تستلهم أفكاره؛ لأن إدوارد سعيد مثَّلَ جانبَين للقضية، أولاً شخصية المنظر المفكر الذي يسعى إلى التعرف على أسس الخطاب الغربي القريب بصورة من الصور من الخطاب الصهيوني، والذي طلع منه أيضاً الخطاب الصهيوني الاستعماري، وكتب الاستشراق؛ لأنه يريد أن يفهم كيف يفكر الغرب بفلسطين، يعني كثير من الناس يعتقد أن إدوارد سعيد اشتغل على الجانب النظري للاستشراق؛ لكن في خلفية هذا الكتاب هناك محنة إدوارد سعيد كفلسطيني منفي، وهذا طبعاً له علاقة بكتابي الذي ذكرته قبل قليل؛ دفاعاً عن إدوارد سعيد، لأنه حملة شرسة شنت على هذا الرجل من أجل هدم السردية الفلسطينية، إنه إذا كان إدوارد سعيد يكذب في ما يتعلق بسيرته الذاتية، وهذا طبعاً غير صحيح، مجرد افتراءات على إدوارد سعيد، وكذب من جانب فاينر، الذي كتب هذه المقالة الشريرة عن إدوارد سعيد، وإذا كان يعني إدوارد سعيد يكذب في سيرته الذاتية، إذن ماذا عن جموع الفلاحين الفلسطينيين الذين يقولون فلسطين هي أرضهم؟ هذه مسألة، المسألة الأخرى هي أن إدوارد سعيد لم يكتفِ بدوره كأستاذ جامعي، كأستاذ للأدب الإنجليزي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا، وإنما عمل خصوصاً بعد هزيمة 1967، على اكتشاف ذاته كفلسطيني وعربي؛ بسبب ما واجهه في المؤسسة الأكاديمية الغربية وفرح الصهاينة ومؤيدي إسرائيل بسبب هزيمة العرب على يد إسرائيل، وبدأ يرى أنه عليه أن يكون موجوداً في الإعلام الغربي يدافع عن القضية الفلسطينية، وأيضاً يكشف عن جذور الخطاب الصهيوني، ويكشف عن الجريمة التي ارتكبت بحق هذا الشعب..".
ثلاثية إدوارد سعيد.. والأسباب الحقيقية لعودته مجدداً
وأضاف فخري صالح: "لهذا السبب إدوارد سعيد كتب كتابَين بعد الاستشراق، يعني هما على التوالي كتابه عن القضية الفلسطينية، وللأسف هذا الكتاب غير مترجم إلى اللغة العربية حتى هذه اللحظة، صدر عام 1970 أو 1980، ثم أصدر كتاباً آخر بعنوان تغطية الإسلام، كيف غطَّى الإعلام الأمريكي والغربي عموماً الثورة الإيرانية؟ فإدوارد سعيد يعني أنا أسميها هذه ثلاثية إدوارد سعيد يعني هذه ثلاثة كتب تقريباً طالعة من ثنايا تفكير إدوارد سعيد بالقضية الفلسطينية، بالفلسطيني بنظرة الغرب، إلى العربي المسلم الآخر الذي يعده الغرب نقيضاً له ودوناً منه أيضاً.. إلى آخره، فإدوارد سعيد حتى وفاته عام 2003 قام بالظهور في وسائل الإعلام الغربية الكبرى، ورغم أن هناك محاولات كثيرة جداً جرت لإسكاته؛ لدرجة أن بعض مؤيدي إسرائيل ألقوا قنبلة على مكتبه في جامعة كولومبيا في يوم من الأيام، ومجلة (كومنتري) التي نشرت المقالة التي أنا ترجمتها وقُمت بالرد عليها في كتاب دفاعاً عن إدوارد سعيد، نشرت أيضاً، هذه المجلة نشرت مقالة سابقة سمته (فيلسوف الإرهاب)، وشنت هجوماً شديداً عليه؛ لأنها تدرك إدراكاً كبيراً أن إدوارد سعيد هو عبارة عن فيلق كبير ضخم يستطيع أن يهز السردية الإسرائيلية والصهيونية في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
من هذا الباب نستطيع أن نتعرف على الأسباب الحقيقية التي تجعل إدوارد سعيد يعود مجدداً كلما حصلت لحظات مفصلية في خصوص القضية الفلسطينية".
محمود درويش و"طباق" إدوارد سعيد
وتحدَّثَ فخري صالح عن طباق إدوارد سعيد، قائلاً: "الصديق الراحل محمود درويش استطاع أن يقولَ بكلمات قليلة، جوهر مشروع إدوارد سعيد في ما يتعلق ببحث قضايا الثقافة وعلاقة الغرب بالآخر وقضايا عديدة تحيط بهذه المشكلات الأساسية التي صنعها الاستعمار والإمبريالية والعقابيل التي أدت إليها عمليات الاستعمار وأخذ أراضي الآخرين والاستيلاء على مقدرات الشعوب الأخرى.. إلى آخره، فـمحمود درويش ذهب إلى الجوهر كما قُلت، إلى ما اخترعه إدوارد سعيد أو صكه من مصطلح حول الطباق الذي أخذه من الموسيقى، إنه لديك أنت صوتان؛ ولكن تستطيع أن تسمع كل صوت على حدة، وفي الوقت نفسه تستطيع أن تسمعهما كصوت واحد؛ لأنه طبعاً هذا مَن يفهمون بالموسيقى يعرفون ما أقصده من هذا الكلام؛ فهو يريد أن يدرس الآخر، وهو في هذه الحالة الغرب، ويدرس الذات أيضاً؛ يعني لا يكتفي بدراسة الآخر وإنما يريد أن يدرس أيضاً الآخر، والآخر الذي هو المستعمر، يدرس الغرب الذي هو آخر أيضاً بالنسبة إليه، ومن هذه الصورة المركبة التي تنتج لدينا من خلال هذه القراءة نستطيع أن نكوِّنَ فكرةً عن مسارات التاريخ ومسارات الثقافة في العالم كله، وليس فقط في الغرب؛ لأن الغرب أراد أن يصنع العالمَ الآخر على شاكلته، أن يقول إنه لديه مسألة تحضير الآخر؛ وهو ما يبرر، كما تعلم، عمليات الاستعمار والحروب التي شنها هذا الغرب الصناعي على إفريقيا وآسيا وبقية بلدان العالم، قبل ذلك، حتى أمريكا، يعني بريطانيا، يعني الأمريكيين شنوا حرب تحرر من الاستعمار من أجل أن يتخلصوا من الاستعمار البريطاني، فإدوارد سعيد يعني تجد أنه يقرأ مثلاً في الثقافة والإمبريالية إلى جانب (الغريب) لألبير كامو، يقرأ روايات من إفريقيا ومن العالم، ويقرأ في مقابل ذلك (أشياء تتداعى) لغينوا أتشيبي، أو رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح، فأنت تجد أن هذا ليس مجرد مصطلح وإنما هو ممارسة نقدية ثقافية يقوم بها إدوارد سعيد في أعماله".
دراسات ما بعد الاستعمار والتحرر من الاستعمار قبل إدوارد سعيد
وأضاف الناقد والمترجم الفلسطيني/ الأردني، رداً على "صحيح، وهذه القراءات الراقية لإدوارد سعيد في الواقع، ومعها أيضاً مفهوم النقد المزدوج، هناك مَن يعتبرها من أهم ما أنتجه نقدنا العربي في إطار دراسات ما بعد الكولونيالية، كيف هذان المفهومان؛ قراءة باقي النقد المزدوج ربما في تحرير فكرنا النقدي العربي من آثار تلك النزعة الاستعمارية؟": "يعني قبل أن أجيبك عن هذا السؤال، أريد أن أضع حاشية قبل ذلك، أنه في ما يتعلق بدراسات ما بعد الاستعمار وما يُسمى التحرر من الاستعمار، هذه المفاهيم موجودة بصورة أو أخرى في أعمال كتاب سابقين على إدوارد سعيد، وكل هذا التيار الذي ألهمه إدوارد سعيد، أو ظهر بموازاة إدوارد سعيد كـ(هومي بابا)، الواقع أن هذه الجذور نجدها في أعمال فرانك فانون على سبيل المثال، كل هذه المفاهيم كانت موجودة سابقاً؛ لكن هؤلاء قاموا بتطوير هذه المفاهيم حتى غدت تياراً في النقد وفي النظرية بالفعل، أن هذه الأعمال التي قام بها إدوارد سعيد أو عبد الكبير الخطيبي في ما يُسمى كتابه (النقد المزدوج) أنه نحن نعيد النظر في تجربتنا مع الاستعمار وفي نفس الوقت نرى كيف تصرفنا نحن خلال هذه الفترة الاستعمارية، هذا كما هو تعبير عبد الكبير الخطيبي، هو فعلاً نقد مزدوج، نقد للذات والآخر، وهذا ما يقوم به إدوارد سعيد أيضاً؛ أنه لا ينتقد فقط الغرب والاستعمار وإنما ينتقد الذات المستعمرة، ويحاول أن يصور لماذا استطاعت على سبيل المثال إسرائيل والحركة الصهيونية أن تنتصر على الشعب الفلسطيني؟ لأنه في كتابه القضية الفلسطينية أو المسألة الفلسطينية، قام بهذا النقد؛ أنه اشتغل على الحركة الصهيونية والأفكار كيف تأسست وكيف أسست لمشروعها؟ وقال إن الفلسطينيين عليهم أن يدرسوا كيف حتى يستطيعوا أن يتحرروا من الاستعمار الصهيوني، لأن هذه حركة استعمارية مختلفة حتى عن الاستعمار الفرنسي أو البريطاني للبلدان المختلفة في آسيا وإفريقيا؛ لكن هي تشبه إلى حد كبير جنوب إفريقيا، أنه أنت تطرد السكان وتستوطن، بأن هذه بلادي وليست بلاد الشعب الذي قُمت بطرده، ثم أخذت أرضه".
سياسة اللوم أو بلاغة اللوم.. النقد المزدوج
وتابع فخري صالح: "الواقع أن إدوارد سعيد يعني استعمل هذا التعبير، سياسة اللوم ممكن أو بلاغة اللوم؛ فعلاً هو حتى في كتاب حرره هو والكاتب البريطاني الراحل كريستوفر هيتشنز؛ لكن إحدى المقالات الأساسية موجودة في هذا الكتاب، هذا بلاغة اللوم، هو يقصد أنه ربما تكون هناك مصالحة يعني لا نكتفي بأنه نلوم الغرب على ما فعله بنا؛ ولكن يجب فيه نقطة على هذا المسار من العلاقة، أن نجلس ونتحدث مع بعضنا، أن الغرب يعترف بأخطائه وبالجريمة التي ارتكبها بحق الشعوب المستعمرة، والمستعمرون يجدون طريقاً لحل ما، وأنت تجد أن هذا الكلام موجود الآن.. يعني الجزائر حتى هذه اللحظة تطالب الفرنسيين بأن يعترفوا بهذه الجريمة التي ارتكبها الاستعمار بحقهم، وشعوب أخرى تفعل ذلك.. أيضاً في جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا أيضاً طالب بأن يصل الشعب الجنوب إفريقي إلى هذه النقطة؛ أن الشعب الجنوب إفريقي الأبيض يعترف بجريمته، ونحن نحاول أن نتصالح معه، هذا يعني أنا بالنسبة إليَّ هو كأنه يقول إنه في يوم ما ربما يجلس الفلسطينيون واليهود في فلسطين، وتكون لكم دولة مشتركة، وأريد أن أؤكد هنا أن إدوارد سعيد قال أكثر من مرة يعني أنا في أحد الكتب التي اشتغلت عليها عنوانه (النقد والمجتمع)، هو عبارة عن حوارات مع أهم نقاد القرن العشرين ومناظري القرن العشرين؛ ترجمت حوارات معهم وعلقت عليها، ترجمت حواراً مهماً مع إدوارد سعيد عام 1986، يقول في هذا الحوار المميز المهم الذي يستعرض تجربته كلها حتى تلك اللحظة؛ إنه لا يؤمن بعملية تجزيء الأراضي إلى جزء أصغر فأصغر، وكل شعب يقيم على الجزء الخاص به، دولة، بمعنى أنه لا يؤمن بحل الدولتَين؛ فقال إذا كان الفلسطينيون والإسرائيليون يريدون أن يفعلوا ذلك، فليفعلوا ذلك إذا كان هذا ممكناً".
غزة مذبحة مستمرة.. تعايش الشعوب
واستكمل الناقد والمترجم الفلسطيني/ الأردني: "لكن أنا بالنسبة إليَّ، أنا جزء من هذا المشروع. أنا أؤمن بتعايش الشعوب، وبغض النظر عن الأديان والأصول الاسمية وطريقة التفكير والأيديولوجيات.. إلى آخره؛ لأن الشعوب عليها أن تتعلم كيف تتعايش مع بعضها البعض، وألا تترك هذه الفواصل الحادة التي تضعها بين بعضها البعض لتكون عائقاً بين إنشاء تجارب مشتركة، من أحد كتبه التي صدرت بعد وفاته أظن ٢٠٠٦، ليس مترجماً إلى اللغة العربية، هذا هو النزعة الإنسانية والنقد الديمقراطي، يؤسس لنقد مختلف؛ يعني حتى النزعة الإنسانية بالنسبة إليه، هذه نزعة غير مركزية، غير أوروبية؛ يعني بمعنى أنه يحاول أن يعيد إحياء النزعة الإنسانية التي تعرضت ضد ،كما تعلم، لنقد شديد، حتى من قِبل مثقفين وفلاسفة أوروبيين، مثل ميشال فوكو، الذي ألهم إدوارد سعيد أيضاً في بعض كتبه.. هذه النزعة الإنسانية والتنويرية تعرضت إلى نقد شديد؛ لكن إدوارد سعيد يقوم بعمل مختلف، إنه يريد أن يحيي هذه النزعة الإنسانية؛ لكن من منظار آخر، بحيث تتسع للغرب والآخر لمَن كان مُستعمِراً في يوم من الأيام ومَن كان مُستعمَراً في يوم من الأيام.. وهكذا، بحيث إن هذه النزعة الإنسانية بالمعنى العام تكون جزءاً من ثقافتنا في كل مكان، الواقع أنه هو يعني ربما تكون هذه رؤية طوباوية يعني عندما أتكلم عنها أحياناً في بعض المؤتمرات التي أحضرها في بلدان غير عربية، وأتكلم عن رؤية إدوارد سعيد للقضية الفلسطينية، وحتى رؤيتي الشخصية لذلك، يقولون لي ها أنت طوباوي، يعني هذا من الصعب حدوثه، وأنا أعتقد أن البشرية إذا لم تستطع أن تصل إلى هذا من التصالح ونبذ ما سميناه قبل قليل ببلاغة اللوم، لن تستطيع أن تعيش معاً؛ أن يعيش البشر مع بعضهم، لن يستطيعوا أن يقيموا حضارات مشتركة، وفي الوقت نفسه، كما تعلم، ستظل الحروب سائرة؛ أنت ترى حروباً طاحنة في الشرق وفي الغرب، يعني حتى في قلب الغرب هناك حرب مستعرة الآن تهدد ربما بحرب عالمية ثالثة لا تبقي، ولا يغيب ما يحصل في غزة في هذه اللحظة التي نتكلم فيها، شيء فظيع؛ يعني لا يمكن أن يتصوره عقل في القرن الحادي والعشرين ونجد هذه المذبحة مستمرة كل يوم، مئات الأشخاص يموتون ويجوعون ويهجرون، أكثر من 80 في المئة من غزة دُمِّر تماماً، القطاع الصحي مدمر، البيوت مدمرة، الناس تنتقل من مكان إلى مكان، وعملية النفي والتشرد مستمرة، والنكبة الفلسطينية مستمرة، هذا شيء غير محتمل".
"العرب في التاريخ" وجذور كراهية الإسلام
وقال فخري صالح رداً على "صحيح حينما صار بأن هذا الترحيل مثلاً الجماعي، وهذه الإبادة الجماعية، وهذا القتل، لا يتصورها العقل؛ تكتشف أن هناك ثقافة ما تبرر كل ذلك، وهي ثقافة الكراهية، وهناك خطاب ما يبرر ذلك؛ وهو خطاب الكراهية، وأنت تحدثت في كتاب (كراهية الإسلام.. كيف يصور الاستشراق الجديد العرب والمسلمين؟) عن كل هذا، وأعطيتني إحساساً شخصياً كقارئ، بأنك تستأنف ما قام به إدوارد سعيد، استأنفته تحديداً مع الاستشراق الجديد، مع ثلاثة من أهم رموزه؛ وهم: برنارد لويس وصامويل هنتنجتون ونايبول، وكيف أسهم هؤلاء الثلاثة، كل من موقعه وبخطابه، في بناء هذا العدو الجديد للغرب، اللي هو الإسلام؟": "في ما يتعلق ببرنارد لويس، هو مؤخر كبير للعالم الإسلامي، ولديه عشرات الكتب والمجلدات حول العالم الإسلامي، ولا نستطيع أن نقول إنه مجرد مستشرق العرب، فهو أصدر (العرب في التاريخ)، وهو كتاب بالغ الأهمية ومن الكتب الأولى، لكن هذه الجذور بكراهية الإسلام بدأت من هناك، من هذا الكتاب الأول الذي ألَّفه برنارد لويس، الذي كان في ذلك الوقت في عمر الرابعة، والثلاثي هذا؛ الكتاب صدر عام خمسين، وصامويل هنتنجتون لا يعرف العربية، يعني هو ليس مستشرقاً، يعني لا يمكن أن تقول إنه مستشرق، وسأوضح لك يعني ما نعنيه بذلك، أما (ف. س نايبول) فهو كاتب روائي أتى من بلاد الكاريبي، وأصوله السابقة هندية، ثم أتى إلى بريطانيا ليدرس في جامعة أكسفورد، وأصبح (سير) يعني هو لديه لقب سير، يعني عندما توفي كان لديه لقب سير، يعني هو شخص مهم، هو روائي وأيضاً كاتب رحلات، طبعاً أنا أخذت نايبول من جانب كونه قام بعدة رحلات للعالم الإسلامي وألَّف كتابَين، وقال إن هناك حدوداً دموية بين الحضارات. يعني بمعنى أنه يجب أن تقوم هناك حروب لنحسم الأمور، وهذه المشكلة أنا أظن أن هؤلاء الثلاثة وربما يكون خصوصاً برنارد لويس وصامويل هنتنجتون من بين هؤلاء الثلاثة، هم الذين قدموا نوعاً من الخطاطة لصانع السياسة؛ خصوصاً في أمريكا، لخوض الحروب المستقبلية التي خاضتها الإمبريالية الأمريكية خلال نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، كيف؟ أولاً صامويل هنتنجتون صنع نظرية اعتبرها إدوارد سعيد، وأنا أعتبرها أيضاً نظرية متهافتة؛ يعني لا تصمد للنقد والفحص بأنه هو يتوقع أن الحروب الآتية عندما ألَّف الكتاب عام ستة وتسعين، وطبعاً المقالة التي طوَّرها بنفس العنوان عامَ ثلاثة وتسعين، في كتاب عام ستة وتسعين نشرها في مجلة للسياسات الأمريكية، بصراحة ثم قبل ذلك كان برنارد لويس نشر مقالة شبيهة، وحتى مفهوم صدام الحضارات موجود في مقالة برنارد لويس، فإذا هو يعني كأنه يستلهم أستاذه برنارد لويس، رغم تباين ما بين هؤلاء..
صامويل هنتنجتون بهذه النظرية المتهافتة التي اصطنعها في صدام الحضارات، وقال إن الحروب ستكون حروباً ثقافية في المستقبل بين عدة حضارات، وقال إنه فيه ست حضارات، ولهذا السبب الحضارات التي ستتصارع معها الحضارة الغربية ستكون هي الحضارة السلافية الروسية، وكذلك الحضارة الإسلامية؛ لكن إذا نظرت أنت إلى ما يحصل، أن الحروب التي تحصل في داخل هذه الثقافات كانت أعنف وأكثر شراسة. إذن هذه النظرية ساقطة".
كتب ترويجية لنظرية صراع الحضارات
وأضاف فخري صالح: "المسألة الثانية أن برنارد لويس بعد أن كتب كتباً عديدة حول العالم الإسلامي وتاريخ العالم الإسلامي، قام بإنجاز عدد من المقالات التي نُشرت في كتابَين، هما (الخطأ الذي حصل) والآخر (أزمة الإسلام)، صدرا بعد عام 2000 بعد 2001، يعني بعد أحداث سبتمبر. وأصبح من الكتب الرائجة؛ فرغم أنه استعاد مقالات سابقة، يعني هو كتب أشياء كتبت قبل ذلك يعني.. الواقع أن هذه الكتب أنا أسميها كتباً ترويجية لنظرية صراع الحضارات؛ خصوصاً أن علاقة يعني صامويل هنتنجتون اشتغل في وزارة الخارجية، رغم أنه عالم سياسة، أيضاً مهم؛ يعني لديه كتب مهمة حول علم السياسة، أما برنارد لويس، فقد كانت له علاقة ببوش الابن، وكذلك بنائبه، وأيضاً مجموعة المحافظين الجدد، كما كانت له أيضاً علاقات وثيقة جداً بالساسة الإسرائيليين؛ بدءاً من إبا إيبان، الذي كان يوماً من الأيام وزيرَ خارجية إسرائيل، وأظن أنه كان زميله في لندن عندما كانا يدرسان معاً في الجامعة، وكذلك مع موشي ديان، وجولدا مائير.. هذا كلام مثبت في كتابه، كتاب ضخم أصدره حول مئة عام في عمله التاريخي من كتاب أيضاً مترجم إلى العربية صدر عام ٢٠١٦، هذا الكتاب يتحدث عن علاقته ورحلاته المكوكية إلى إسرائيل بصورة مستمرة، ويجلس هناك ويعمل أبحاثاً.. وإلى آخره".
الأجندة الإمبريالية الصهيونية
وأجاب الناقد والمترجم الفلسطيني/ الأردني، عن سؤال "ألا ترى في هذا النموذج، ذلك المستشرق الذي فعلاً رهن عمله الأكاديمي بأجندة إمبريالية صهيونية أكثر مما حصل مع أي مستشرق آخر؟"، قائلاً: "طبعاً هو يقول في مذكراته إن عمله مع المخابرات كان هو يعني طالباً في جامعة لندن، وطبعاً عليه أن يخدم، وبالتالي كان يترجم هو ما يلتقط من إشارات من الأعداء اللي همّ كانوا دول المحور، هو يعرف طبعاً كمتخصص أو تخصص في ما بعد بتركيا، يعني هو اطَّلع على الأرشيف العثماني وكانت علاقته بتركيا قوية جداً على فكرة، لا نريد أن نتجادل حول الموضوع، وأنه كذا. لكن أيضاً علينا أن نأخذ في الحسبان أن كثيراً من المستشرقين، حتى السابقين يعني في القرون الماضية، بدءاً من نهايات القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، كانت لهم علاقات بالمؤسسة الاستعمارية، كانوا يكتبون تقارير لهذه المؤسسة الاستعمارية، عملوا في وزارات الخارجية..".
طوفان الأقصى.. وكتابات تدعو إلى إبادة الفلسطينيين
وأضاف فخري صالح: "المشكلة بالنسبة إلى برنارد لويس، أنه فعلاً مؤرخ كبير، يعني إعداده الأكاديمي والبحثي والمنهجي متين، وهو يختلف عما سمَّيته أنا المستشرقين الجدد الذين ظهروا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.. المستشرقون الكبار السابقون مثل إجناتس جولد تسيهر وكل المستشرقين الآخرين الكبار كانت لديهم معرفة بالثقافة العربية واللغة العربية وثقافات الشرق عامة، يعني فيه معرفة حقيقة منهجية.. إلى آخره، بينما هؤلاء المستشرقون الجدد هم سميتهم يلتقطون مادتهم من مصادر ثانوية؛ أنه كما يفعل نبيول، وهو ليس مستشرقاً؛ لكن عنده استشراق معكوس، هو طبعاً شرقي، لكن يعكس هذا الاستشراق على نفسه، يعني يلتقط من رجل الشارع، من الشخص.. يعني يتعلم الإسلام من رجل الشارع، وأنا طبعاً يعني هذا شيء غير ممكن، هؤلاء يلتقطون مادتهم مِن مَن؟ من الصحفيين الذين يكتبون تقارير في (نيويورك تايمز) و(واشنطن بوست) وغيرهما، ولا يعرفون العربية ولا يعرفون لغة الشرق، ولا حتى شيئاً من ثقافة وفكر الشرق، ومنتهى معرفتهم مع رسائل ماجستير حول الحركات الإسلامية في هذا البلد العربي، ولذلك واحد مثل دانيال بايبس، وهو صهيوني مدلس، وظهر على فكرة في كتابات كهذه بعد طوفان الأقصى، وبدأ يتكلم كلاماً سيئاً جداً. يعني يدعو إلى إبادة الفلسطينيين والتخلص منهم، يعني هذه هي النماذج الاستشراقية التي خدمت الإمبراطورية الأمريكية، وتطلعات هذه الإمبراطورية".
مستشرقون جدد بلوروا مفهوم الإسلاموفوبيا
وتابع الناقد والمترجم الفلسطيني/ الأردني، رداً على "على فكرة دانيال بايبي؛ لا ننسى أنه من المستشرقين الجدد الذين بلوروا مفهوم الإسلاموفوبيا": "وهاجم أيضاً، كما تعلم، الباحثين الذين يدافعون عن الإسلام في أمريكا، وقال إن هؤلاء واقعون تحت تأثير سحر الإسلام، وقال إنه تحدث عن فشل الدراسات الأمريكية في التقاط جوهر الإسلام، طبعاً هو جوهر الإسلام بالنسبة إليه هو الإرهاب، فهو من الأشخاص الذين واصلوا عملية شيطنة الإسلام وشيطنة المسلمين.. أنت سألتني قبل قليل عن لماذا أصبح الإسلام ربما يعني هو العدو الآن؟ الكل يعلم أنه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي الغرب بدأ يبحث عن عدو آخر".
الغرب لا يزال يعتقد أن الإسلام هو العدو الحقيقي.. الأسباب
وأجاب فخري صالح عن سؤال "لماذا الإسلام وليس البوذية مثلاً؟"، قائلاً: "ليس لديَّ جواب أستطيع أن أؤكده، وأن أشدد عليه؛ لكن يمكن أن أقول لك إنه ربما ذلك لأن العلاقة بين الإسلام والغرب والمعارك التي خيضت بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية طويلة الأمد، تعود ربما إلى ما قبل العصور الوسطى، لهذا السبب، هذه العلاقة أيضاً الخوف من الإسلام، فالمسلمون دقوا أبواب فرنسا، وصلوا إلى جبال البرانس يعني في لحظة من اللحظات، وأيضاً الأتراك العثمانيون دقوا أبواب فيينا، لولا أنهم عادوا من ذلك كانت أوروبا الآن مختلفة، صورتها كسكان وكحضارة وإلى آخره، كانت مختلفة، ربما من هذا السبب أن هذا في الوعي السيكولوجي للغرب، ما زال الغرب يعتقد أن الإسلام هو العدو الحقيقي، إضافة إلى شيء آخر أنت تعلمه، يعني أنه بسبب جموع المهاجرين الموجودون الآن الذين هاجروا إلى فرنسا، إلى بلجيكا، إلى بريطانيا، إلى أمريكا، إلى كل هذه الدول؛ خصوصاً في أوروبا، أن هذا المكون الإسلامي مكون أساسي، فالمسلمون يشكلون في التعداد السكاني بعد المسيحيين مباشرة".
المكون الصهيوني والإسرائيلي والخطاب الإعلامي
وأضاف فخري صالح رداً على "الاستشراق الجديد صار فيه عنصر أساسي محوري وهو الصهيونية": "هذا صحيح تماماً؛ يعني المكون الصهيوني- الإسرائيلي في فكر الاستشراق الجديد أو في خطاب الاستشراق الجديد، لأنه فكرياً ضعيف، الواقع أن المكون الصهيوني والإسرائيلي مكون شديد الأهمية في تحريك هؤلاء الأشخاص وفي صياغة الخطاب الموجود؛ سواء في الإعلام أو في الكتابات المختلفة حول الإسلام في الغرب، حتى إن برنارد لويس عام 1991 كتب مقالة مهمة بعد حرب الخليج الأولى التي أتت بهزيمة العراق وخروجه من الكويت، كتب مقالة يتوقع فيها ما قلته بانتهاء فكرة القومية العربية، وقال إن هناك مجموعة من الدول التي ستصبح غير موجودة، وحتى توقع بالنسبة إلى مصر يعني مصيراً من هذا النوع. وقال إن هناك سيكون فقط ثلاث دول أساسية في المنطقة؛ هي إسرائيل وتركيا وإيران، والشيء الغريب أنه في تلك المقالة بعد ربما عام 1992 هي نشرت، قال ما يلي إنه (روسيا عائدة وبقوة في مرحلة مستقبلية)، الغريب أنه كلما رأيت روسيا وما تفعله الآن والحرب التي تشنها في أوكرانيا أتذكر مقالة برنارد لويس، أنه تنبأ بعودة روسيا، لأن هذه دولة من الصعب أن ترتضي لنفسها الوضع الذي آلت إليه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
نعود إلى الصهيونية، يعني هؤلاء الأشخاص مؤسسون على الفكر الصهيوني، يعني طبعاً ليس لأنه يهودي فقط، برنارد لويس هو يهودي، وبدأ حياته بترجمة بعض الأشعار، وأصدر مجموعة من الأشعار، ترجمها من العبرية إلى الإنجليزية، فهو شخص يعني مهتم ويقول إنه أنا يهودي يعني، وأنا متعاطف مع إسرائيل، ولا يخفي ذلك؛ لكن المشكلة معه أنه يدلس، أنه يقول أشياء غير حقيقية، يخون موقفه كمؤرخ، وتكلَّم في مذكراته عن أن المؤرخ يجب أن يكون محايداً ولا يجعل أهواءه وعواطفه تغلبه عندما يقوم بالكتابة التاريخية؛ لكنه في الحقيقة في معظم الكتب الأخيرة التي نشرها، أهواؤه وانحيازاته الأيديولوجية والثقافية تغلبه تماماً".
هل أطلقت "داعش" رصاصة واحدة على إسرائيل؟!
وتحدث فخري صالح عن "داعش"، والكيان الصهيوني، وبرنارد لويس، ومطالبته بدعم الحركات الإسلامية لتفتيت أو إشعال النعرات الطائفية والعرقية في الفضاء العربي، ووقائع التاريخ والأحداث التي حصلت في المنطقة مع "داعش" وغيره، قائلاً: "أريد أن أقول لك كلمة، يعني هو نوع من الاعتراف؛ ولكنه في الوقت نفسه نوع من محاولة الفهم، بمعنى أنا لا أؤمن بنظرية المؤامرة، لا أعتقد، يعني أنت تعرف أن نظرية المؤامرة تعشش في رؤوسنا؛ خصوصاً في العالم العربي والإسلامي، ونحن دائماً نرى أن هناك مؤامرة مقيمة خلف الأبواب، وأنا لا أؤمن بنظرية المؤامرة، ولا أرى أنها محرك للتاريخ، طبعاً أنت تعرف أن بعض الناس يعتقد أن المؤامرة هي ما يحرك التاريخ وما يحل الأحداث في العالم؛ لكن المؤامرة موجودة يعني هذا ما تحدثت عنه في ما يتعلق بداعش وبآبائها السابقين من هذه الحركات التي تفسر الإسلام تفسيراً خاصاً بها، يعني هي عقلية ما يُسمى الفرقة الناجية، كما تعلمون أنه هم الذين يفسرون الإسلام، يأخذون من النصوص القرآنية ومن الأحاديث ما يلائم نظرتهم للعالم والإسلام، هؤلاء استطاع كثير من صانعي السياسة في العالم وأجهزة المخابرات أن تستخدمه، وأنت كما قُلت يعني: أين داعش الآن؟ هل أطلقت داعش يوماً من الأيام رصاصة واحدة على إسرائيل؟! لقد قتلت المسلمين قبل أن تقتل غير المسلمين، وقتلت من المسلمين عشرات أضعاف ما قتلته من الأجانب، فإذن معنى ذلك أنه هذه أنت تصنع أدوات تستخدمها في اللحظة المناسبة، تربيها ثم تطلقها في ما بعد، المأساة أن هذه الاستراتيجية قاتلة؛ ممكن أن تدمر العالم، وأنت ترى الآن أمريكا جعلت إسرائيل هي ذراعها في المنطقة..".
إدارة بايدن أصبحت عاجزة تماماً في التعامل مع نتنياهو
وتابع الناقد والمترجم الفلسطيني/ الأردني: "ويوماً من الأيام مناحم بيجن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، والإرهابي السابق الذي قتل الإنجليز، قتل بعض أفراد الجيش الإنجليزي في يوم من الأيام، مناحم بيجن كان يقول إن إسرائيل هي أكبر سفينة ضخمة بالنسبة إلى أمريكا في المنطقة، هي عبارة عن حاملة طائرات كبرى موجودة في المنطقة، هذه الدولة الصغيرة التي تريد أمريكا أن تستعملها في سياساتها وفي السيطرة على المنطقة وعلى منابع النفط وعلى الطرق والممرات الأساسية التي تصل الشرق بالغرب والشمال بالجنوب، أصبحت تتمرد على أمريكا، أصبحت مشكلة بالنسبة إلى أمريكا، أنت ترى أن إدارة بايدن عاجزة تماماً في التعامل مع نتنياهو، تغطي عليه؛ يعني يقول بايدن اليوم كلاماً ثم ينقضه في اليوم التالي، وهكذا يقول إن هناك خطوطاً حمراء، ثم تذهب هذه الخطوط الحمراء، تصبح خطوطاً خضراء.. وهكذا؛ أنت إذن معنى ذلك تصنع عالماً ربما ينفجر في وجهك وفي وجه غيرك، هذه هي المشكلة التي لم يستطع الاستعمار والقوى، وأنا ما أسميه الرأسمالية المتوحشة التي تحكمنا منذ نحو ثلاثة أو أربعة عقود، في العالم، تريد الربح فقط مهما كانت الحرائق التي ستشعلها في أي مكان في العالم".
لماذا يكرهوننا؟
وأجاب فخري صالح عن سؤال "ألا ترى أن كل هذه الأشياء التي تبدو ظاهرياً كما لو أنها فيها دينامية سياسية واقعية براجماتية لم تغادر العمق الجوهراني القديم للاستشراق الكلاسيكي؟"، قائلاً: "أولاً برنارد لويس كما قُلت يسأل نفس السؤال الذي سأله جورج بوش الابن: لماذا يكرهوننا؟ وجهة نظر برنارد لويس منذ سنوات، يعني التسعينيات، عندما كتب مقالته التي ورد فيها مصطلح صدام الحضارات، يقول إن السبب أننا أكثر تقدماً منهم، يكرهون حداثتنا، يكرهون تقدمنا، وإن المسلمين ينظرون إلى أنفسهم وقد كانوا يحكمون العالم؛ ولكنهم الآن محكومون من قِبل الآخرين، إذن هم يبغضون هذه الحضارة ويحسدونها، ليس هذا تفسيراً سيكولوجياً، أسميه رخيصاً".
الغرب والشرق والسخط السيكولوجي
وأضاف فخري صالح رداً على "هو يتحدث عن السخط السيكولوجي؟": "هذا تفسيري، هذا ليس تفسيراً تاريخياً لعمق العلاقات والصدام الذي نشأ بين الشرق والغرب وبين الإسلام والغرب، وأنتج كل هذه الحروب من الحروب الصليبية وما قبلها ثم ما بعدها، في ما يتعلق بالجوهرانية هو كل هذا النوع من الفكر هو فكر جوهراني؛ لأنه يعتقد أن الأشياء فيها تتضمن معناها؛ بمعنى أنها ولدت هكذا ولن تتغير، هذه هي المشكلة، أن الشرق والإسلام لن يستطيع أن يتغير، لأنه كما يصفه هو طبيعته تتسم بكذا وكذا.. إذن هو غير قادر على التغير، هذه هي الجوهرانية، هذا معنى الجوهرانية كما قال الشاعر البريطاني (الشرق شرقاً والغرب غرباً، ولن يلتقيا)، يعني هو حكم عليهم حكماً على هذين الجزأين من العالم، بأنهما لن يلتقيا، وطبعاً هو كان يتكلم عن شرق في ذهنه وغرب في ذهنه، الغرب اللي هو أوروبا؛ لكنه الغرب مش من أوروبا، يعني ربما تضيف اليابان إلى هذا الغرب، يعني بشكل أو بآخر في فترة لاحقة بعد هزيمة اليابان، فعلاً أنه في الاستشراق هناك نوع من الرؤية الجوهرانية للآخر، لكن أظن أنه من الصعب أن نعكس هذه الرؤية على كل المستشرقين، يعني ربما هذا لا ينطبق على جولد تسيهر، لكن ينطبق على واحد مثل برنارد لويس".
الخطاب التبريري للاستعمار والإمبريالية
واستكمل الناقد والمترجم الفلسطيني/ الأردني، رداً على "نحن في برنارد لويس؛ لأن الفكرة هو كيف أن هذا الرجل من جهة يعود إلى الجوهرانية الكلاسيكية، ولكن من جهة ثانية ينسى أنه مؤرخ، لأنه تفضلت الآن بطرح سؤال جورج بوش: لماذا يكرهوننا؟ يعني أنت كمؤرخ ممكن تقول له لأنكم تساندون إسرائيل، لأنكم ضد القضايا العادلة للشعوب العربية والإسلامية في أكثر من ملف، يعني عوض كل هذه الملفات؟": "هذا تبرير في الواقع يشبه تبرير بعض المفكرين الغربيين للحملات الاستعمارية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن على إفريقيا وآسيا، أنه لماذا نحن في هذه الأجزاء من العالم؟ لماذا أتينا؟ أتينا لنحضرهم، يعني هم يتكلمون عن شيء يسمونه مهمة التحضير.. مهمة التحضير؛ لأنه يعني هناك عبء حضاري كلفني به الله من أجل أن أحضر هذه الشعوب المتخلفة وأدخلها التاريخ، يعني أنت مَن نصبك لتكون رسول الله على الأرض، من أجل أن تحتل هذه الشعوب وتقوم كما تقول بتحضيرها، هذا جزء من الخطاب التبريري للاستعمار والإمبريالية، وهو يتخذ أشكالاً وسمات وصفات، ويستعمل أدوات مختلفة؛ لكنه في جوهره واحد هو.. أنا أريد أكون هناك من أجل أن أسيطر على هذه الشعوب وأنهب مقدراتها، يعني أنا سمعت قبل فترة رئيس وزراء بريطانيا يتكلم مع الشعب البريطاني، ريشي سوناك، وهو أيضاً من أصحاب الاستشراق المعكوس، هو هندي؛ لكنه يتكلم بالفكر الاستشراقي والفكر الإمبريالي الغربي".
إشكالية مفهوم عرب الخدمة
وقال فخري صالح مجيباً عن سؤال "بالمناسبة هناك مفهوم عرب الخدمة؛ لنقل شرقي الخدمة، الكثير من أبناء الشرق يجدون أنفسهم في مصاف المسؤوليات في الغرب، فيصيرون ربما أحياناً أكثر استشراقاً من المستشرقين؟": "صحيح، هذا فرانتس فانون، كما تعلم، يسميه عبد البيت، عبد البيت في المستعمرات، الذي يكون أكثر سخطاً وشراسةً على ابن ثقافته وابن لونه، أكثر ملكية من الملك، حتى إذا كان صاحب البيت تعاطف مع هذا العبد الذي يتكلم عنه عبد البيت بأنه قام بأشياء سيئة، يقول له لا أنت يعني بغير صحيح، هذا الكلام يجب أن يجلد.. إلى آخره، هذا هو عبد البيت".
المشروع الاستعماري مستمر
واختتم الناقد والمترجم الفلسطيني/ الأردني: "نعود إلى ريشي سوناك، يقول إنه على الشعب البريطاني أن يفهم أنه أصبح فقيراً، فأنا علقت ضاحكاً، كنت جالساً مع بعض الأصدقاء، قُلت يبحثون لهم عن أماكن من أجل أن ينهبوها مجدداً، فهذا هو فكر الاستعمار، أنه أنت لا يكفيك ما في يدك، أنت تريد أن تنهب الشعوب الأخرى، توسع تجارتك، تجعل الآخرين كلهم مستهلكين، هم يمنعون الشعوب أن تقوم بالتصنيع والزراعة؛ يجبروننا على أن نستخدم نفس الحبوب التي يزرعونها، وممنوع أن نطور حبوباً أخرى، أقصد يعني بالنسبة إلى القمح والأشياء الأساسية التي نستعملها، يعني في حياتنا لا نستطيع أن نستغني عنها. إذن معنى ذلك أنت تجد أن هذا المشروع الاستعماري مستمر لم يتوقف إطلاقاً، وهو يستخدم هذه المفاهيم الجوهرانية من أجل أن يبرر مشروعه فقط".