• Facebook
  • instagram
  • X
  • youtube
  • tiktok
  • apple podcast
  • google podcast
  • spotify

المكون اليهودي في الحضارة الغربية | د. سعد البازعي

للإستماع





ناقشَ الدكتور سعد البازعي، الأكاديمي والمفكر السعودي، أستاذ الأدب الإنجليزي المقارن بجامعة الملك سعود، صاحب كتابَي "المكون اليهودي في الحضارة الغربية" و"استقبال الآخر.. الغرب في النقد العربي الحديث"، خلال لقائه الإعلامي ياسين عدنان، عبر برنامج "في الاستشراق"، كيف أسهم المكون اليهودي في تشكيل الوعي الغربي؟ وما الذي جعل هذا المكون أكثر قوةً وتأثيراً في الحضارة الغربية بغض النظر عن كون اليهود مجرد أقلية في أوروبا وأمريكا؟ وكيف أسهم هذا المكون في بناء معالم الخطاب الاستشراقي والتأسيسي للمنظورات الغربية إلى الشرق؟ ثم ماذا عن الاستشراق اليهودي؟ وما خصوصيته؟ والعديد من الأسئلة الأخرى...


المرجعية العرقية والدينية والمرجعية الثقافية

 وأجاب الدكتور سعد البازعي، الأكاديمي والمفكر السعودي، أستاذ الأدب الإنجليزي المقارن بجامعة الملك سعود عن سؤال بخصوص الفلسفة اليونانية والعمارة الإسلامية والأدب العربي "هذه الصفات العرقية والدينية والجغرافية على الفكر والإبداع، ألا ترى أننا نتجاوز بمعنى من المعاني على أساس أن الإبداع كوني والفكر كوني، أم أن هذه المرجعيات في نظرك أساسية مؤثرة لا سبيل إلى تجاوزها؟ بمعنى آخر هل المرجعية العرقية والدينية غير المرجعية الثقافية أم لعلهما شيئان؟"، قائلاً: "أعتقد أن المرجعيات لا بد منها؛ ففي نهاية الأمر الثقافات تتباين والأمم تختلف طوال التاريخ، من الصعب فصل الفكر والإبداع عن جذوره وعن منشأه وعن الظروف التي أثرت في تطوره وتغيره؛ لكن أيضاً من الخطأ أن ننظر إلى هذا على أنه حتمي حاكم لهذه التغيرات، بحيث إنه لا يمكن لفكر أو للثقافة أو للإبداع أن يخرج عنها، في العصور الحديثة بالذات، يعني أعتقد في القرنَين الأخيرَين على الأقل حصل التداخل بشكل واسع بين الثقافات، ومسألة الهوية الصارمة لم تعد قائمةً أو حتى مقبول الحديث عنها والنظر إليها على أنها معيار أساسي، في الماضي كان يمكن الحديث عن هذا بسهولة للعزلة التي كانت تعيشها الثقافات إن كانت نسبية".


الاختلاف أساسي والتعارف أيضاً.. نحن مهددون باكتساح ثقافي هائل

وأضاف الدكتور سعد البازعي، رداً على "ومع ذلك لاحظ معي أنه حتى في القديم؛ القرآن الكريم الذي نزل بلسان مبين، يعني عدد كبير من المفردات الفارسية غير العربية فيه، يعني ربما قدر الثقافة منذ البداية هو هذا التفاعل.. ربما الآن زاد؟": "زاد بكثير؛ ولكن أيضاً في القرآن الكريم (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا).. الاختلاف أساسي، والتعارف أساسي أيضاً؛ لكن التعارف لا يكون إلا بين مختلفين، يعني أصلاً لو لم نكن متباينين لما حصل هذا الاختلاف. وأعتقد أن الثقافة التي يعرفها العالم اليوم في فترة ما يُعرف بما بعد الحدث، تؤكد هذا التنوع الثقافي؛ تؤكده وتزيد من اكتشافه.. على أية حال نحن في العالم غير الغربي ربما أكثر احتياجاً لتأكيد هذا الاختلاف؛ لأننا مهددون باكتساح ثقافي هائل نتيجة العولمة اللغوية والاقتصادية أو ما سماها زيجمونت باومان (الحداثة السائلة) هذه التي تتدفق في كل مكان".


الاختلاف العِرقي.. الاختلاف الإثني.. الاختلاف الثقافي

وتابع الأكاديمي والمفكر السعودي: "لكن عودة إلى ملاحظتك في البداية؛ أعتقد أن هناك فرقاً بين الاختلاف العرقي والاختلاف الذي يسمى الإثني، وهو الذي يمزج الاختلاف العرقي مع الاختلاف الثقافي؛ في محاولة لفهم أنواع من الاختلاف يصعب فهمها بالمقولة العرقية فقط أو بالمقولة الثقافية فقط، فهناك تداخل بين الاثنين يجعل من الضروري أخذ هذه كمقولة تفسيرية تساعدنا على فهم ظواهر لا يمكن فهمها فقط من خلال العِرق أو من خلال الثقافة".


إشكالية وصف الإنتاج الفكري والعلمي لأشخاص بـ"اليهودي"

وأجاب الدكتور سعد البازعي عن سؤال "مثلاً في إطار علاقة الفكر بالجوانب الإثنية، ما الذي يبرر وصفنا للإنتاج الفكري والعلمي لأشخاص أمثال فرويد؛ ما معنى أن نصف إنتاجهم باليهودي، طالما هم جزء من السياق الحضاري الغربي؟"، قائلاً: "صحيح؛ هذا سؤال طبعاً مطروح حتى على العرب المسلمين المقيمين في الغرب؛ لكن بالنسبة إلى اليهود، الحقيقة الجماعات اليهودية لها وضع فريد في التاريخ الحديث أو حتى القديم نسبياً؛ لكن منذ القرن الثامن عشر بعد انتهاء الجاتوات ودخول اليهود في النسيج الحضاري والاجتماعي الغربي، ظلت هذه إشكالية قائمة، نحن لسنا مَن يصفهم دائماً؛ هم يصفون أنفسنا، يعني دريدا يتحدث كثيراً عن جذوره، هجومك صحيح.. في الجزائر، وكافكا يتحدث عنها بكثرة، ويعلن رفضه الصهيونية مثلاً عندما دُعي إلى أن يذهب إلى إسرائيل رفض، ولم يُدعَ إلا لأنه ينتمي إلى الجماعة اليهودية في تشيك. وكذلك بالنسبة إلى فرويد.. لكن أيضاً وأنا كنت أواجه هذه القضية في الكتابة عنهم، هناك أيضاً بعض السمات التي تجعل هذه المقولة، مقولة الانتماء الإثني، مقولة مهمة وتساعدنا على فهم ظواهر كثيرة، لو تجاوزناها، لو ألغينا هذه المقولة لما فهمنا لماذا هذا الاختلاف؟ لماذا هذا التوجه؟ أعتقد أنه من المفيد أن ننظر إلى ذلك. كان يعتقد نفس الشيء بالنسبة مثلاً إلى ابن رشد لو قُلنا، لو أنكرنا عروبته وإسلامه، يعني أين سيكون؟ يعني سيكون في الهواء، هكذا لا ينتمي إلى شيء، وهذا ينطبق على غيره".


دخول اليهود في المجتمعات الغربية وإشكالية ترك العزلة الدينية والعرقية

وأضاف أستاذ الأدب الإنجليزي المقارن بجامعة الملك سعود، رداً على "بأي معنى نتعامل معها دون أن نحيل حصراً وضرورة على الديانة أو على العِرق، كيف تتجسد؟": "الديانة تكاد تكون خارج هذا السياق؛ منذ التنوير أو منذ عصر الأنوار في أوروبا، بعد أن دخل اليهود في المجتمعات الغربية؛ يعني تركوا عزلتهم الدينية والعرقية، وصاروا جزءاً يعني منتمياً إلى التكوين الثقافي والحضاري الغربي المسيحي. سعوا جاهدين إلى أن يتخلوا عن كثير من سماتهم الخاصة.. سُمي هؤلاء بالإصلاحيين الذين دعوا مثلاً إلى استخدام الموسيقى في الكنيّس اليهودي؛ لكي يقتربوا من المسيحيين، وأن يحتفلوا بأعياد الميلاد.. إلى آخره. وهذه محاولة اندماج وتكيُّف؛ لكن ظلت هناك سمات لا تتغير، لم تتغير.. النازيون كانوا يعون هذا عندما بحثوا عن الجماعات اليهودية في كل مكان، فرويد اضطر إلى الهرب من النمسا إلى لندن، وتوفي هناك. لكن هناك شواهد من الأعمال وهذا هو المهم؛ الأعمال نفسها تحمل هذه السمات.

لو قارنا مثلاً سبينوزا بديكارت؛ يعني متعاصرَين تقريباً، يعني سبينوزا جاء بعده بقليل، بعد ديكارت، وكان يعد نفسه تلميذاً له؛ لكن ديكارت الفرنسي الثائر على القرون الوسطى والذي دعا إلى العقلانية، ظل يقف دون كسر حاجز الدين الكاثوليكي، وظل يؤمن يعني، بينما سبينوزا ظل يكسر كل الحواجز ويدعو إلى ما سُمي في ما بعد بـ(التنوير المتطرف)..".


اليهود بين شعب الله المختار وأقلية ساحقة.. ومعاداة السامية

وتابع د.سعد البازعي: "وأعتقد أن ما يصدق عليه يصدق على فرويد إلى حد بعيد؛ فنحن عندما نأخذ هؤلاء في سياق أقلويتهم، انتمائهم الأقلوي اليهودي تحديداً، وهناك سمتان لليهود؛ أعتقد الانتماء الأقلوي كونهم يشعرون بأنهم أقليات، وثانياً شعورهم بالتفوق.. هناك دائماً بعض الشعور بأنهم متفوقون في الذكاء أو بشيء ما، وهذا امتداد لمسألة شعب الله المختار؛ يعني هي تعلمنت إذا صارت اليهود يعني.. (هم يعتبرون أنفسهم أقلية ساحقة) أو أقلية كاسحة، وهذه عبارة حقيقة تساعدنا على فهم النفسية التي تعاملوا بها.. هم على الرغم من اندماجهم في المجتمعات الغربية؛ ظلوا يُنظر إليهم على أنهم مختلفون. وهم أيضاً أرادوا أن يُنظر إليهم على أنهم مختلفون، على الرغم من كل هذا الاندماج وكل هذا المستوى العالي من التكيف مع المجتمعات الغربية، مثلاً فرويد تعلم اللغة من أُمه البولندية التي جاءت من بولندا أصلاً، ظل البيت فيه هذا المكون الثقافي المختلف الذي لا تجده في البيت المسيحي المجاور، هذا يُشعره أنه مختلف، ويريد أن يكون مختلفاً أيضاً، ويعتز باختلافه..

فرويد وجدت له نصوصاً كثيرة تشير إلى هذا، رسائله تشير إلى هذا، لو لم أكن يهودياً، يقول، لما اكتشفت التحليل النفسي. نحتاج إلى فهم هؤلاء، هذه الثقافات المحيطة، هذه المجتمعات المحيطة، نعرفها من الداخل، يعني أن نتكيف معها؛ لكن أيضاً أن نمتلك سلاح المعرفة، وسلاح المعرفة مهم؛ لأنهم ظلوا دائماً قلقين.. من أن يضطهدوا مرة أخرى، وعملوا اضطهاداً مطارداً. انظر الآن كيف تتعامل جماعات اليهودية مع ما يُسمى بمعاداة السامية، أي عبارة تُقال ضد إسرائيل توصف بأنها معاداة السامية".


سبينوزا كان متطرفاً في دعوته إلى إلغاء المسافة بين الخالق والمخلوق

وتحدثَ أستاذ الأدب الإنجليزي المقارن بجامعة الملك سعود، عن اليهود الإصلاحيين الذين حاولوا أن يتفاعلوا مع المجتمع المسيحي الحاضن لهم؛ قائلاً رداً على "ومثال سبينوزا مثال نافع؛ وهناك مَن ذهبوا أبعد في تنويرهم (المتطرف)، كما هي الحال عند سبينوزا، وأفكر أيضاً في ماركس.. هؤلاء الذين وصفوا يهودياً بكاري الذات، ومع ذلك هم يهوديون، ما زلنا دائماً نشتبك مع هذه المفارقة؛ أنت يهودي حتى وأنت تكره ذاتك وأصلك وانتماءك": "نعم؛ هذا قائم حقيقة، لكن لو أردنا أن ندخل في التفاصيل كما تفضلت.. أعتقد أننا ينبغي أن ننظر في توجهات الفكر؛ يعني سبينوزا مثلاً عندما طرد من الكنيس اليهودي وتبرأت منه الجماعة اليهودية، ترك منتجاً فكرياً قوض أو سعى إلى تقويض البنية الثقافية الدينية المسيحية نفسها، مع أنه دخل في المسيحية وغير اسمه؛ لكن يعني ما يُسمى بالنقد المقدس الذي نظر إلى الكتاب المقدس، التوراة، والإنجيل، على أنها أدب في نهاية الأمر، منتج إنساني.. هذا يعود إلى سبينوزا، يعني أطروحته في رسالة اللاهوت والسياسة هي النظر إلى هذه النصوص على أنها لا تملك قداسة أصلاً.. أنها منتج بضرب هذه الفكرة، أنا يعني لا أتخيل مفكراً مسيحياً كان يمكن أن يطلقها أو مفكراً مسلماً على أية حال؛ لكن موقع سبينوزا الاجتماعي، وطبعاً لا شك تفرده الفكري وعبقريته، مكنته من أن يطرح هذه الفكرة. ولا شك أنه أيضاً في كتابه الآخر اللي هو الأخلاق كان متطرفاً أيضاً في دعوته إلى إلغاء المسافة بين الخالق والمخلوق؛ يعني هذا التوجه المعروف طبعاً في التاريخ، لكن لم تخرج كتب في القرن السابع عشر بهذه الحدة في الفكرية؛ يعني في ما بعد يعني سبينوزا متفرداً ومؤثراً بصورة هائلة، وأنا لا أتخيل تاريخ العلمانية في الحضارة الغربية من دونه".


وأجاب د.سعد البازعي عن سؤال "كيف أن يهوديته مضمرة في إنتاجه؛ حتى في رفضه اليهودية ظل يهودياً؟ فمضمار المتن والمنتج لهذه اليهودية جعلتني أتذكر بول سيلان، الشاعر الألماني الكبير، قصائدي تضمر يهوديتي، يقول هذا الكلام؟"، قائلاً: "هو أيضاً الإنسان عندما يحاط بالأعداء، فإما أن يخاف ويهرب أو يتعالى عليهم، وأن يقول لهم أنا متفوق عليكم.. هذا نوع من الدفاع عن النفس، وأنا أرى أن ما فعله فرويد أو ماركس يحمل هذا المضمون، مضمون المقاومة؛ مقاومة الأكثرية التي تريد أن تجتاحك وتلغي اختلافك وتميزك".


اليهود لم يكونوا أقلية عادية

وقال الأكاديمي والمفكر السعودي رداً على سؤال "هل الأقلية اليهودية هي التي كانت لديها النباهة الكافية لكي تجد لنفسها موقع قدم وتنخرط بإيجابية في المجتمع المسيحي أم ربما المجتمع المسيحي الحاضن هو الذي ربما عرف كيف يستوعب الأقلية اليهودية ويستفيد منها ويدمجها ضمن النسيج الاجتماعي والثقافي والفكري لأوروبا؟": "هو الحقيقة لم ينجح تماماً في دمجها؛ يعني ولا اليهود استطاعوا أن يندمجوا مئة في المئة. أعتقد أنه لو قارنا وضع الأقلية اليهودية بأقليات أخرى؛ لاكتشفنا الاختلاف الكبير.. اليهود لم يكونوا أقلية عادية؛ كانوا دائماً أقلية أتت إلى المجتمعات الغربية، وهي تحمل إرثاً تعرف أنه مختلف، وترى أنه متفوق؛ هم يحملون التوراة ويرون أنهم هم الأصل، فهذا يختلف مثلاً عن الغجر.. أقلية عايشة في أوروبا، إعلام، يكون هذا الإرث وهذا التاريخ الطويل. فهناك علاقة معقدة، علاقة نفسية وثقافية طويلة، ربطت هذه الأقليات بتاريخهم".


هوارد بلوم.. ونظرية قلق التأثير

وأضاف د.سعد البازعي، رداً على "إذن يعني ليس هناك أي انصهار مطلق دائماً؛ هم يعيشون داخل ذواتهم وخارجها بحذر؟": "هوارد بلوم اتكأ إلى حد بعيد على فورد في تطوير نظريته في التأثير؛ والتي اشتهر بها حقيقة، يعني أكثر الناس يعرفون بلوم من خلال هذه النظرية، نظرية ما يعرف بقلق التأثير. فهو استفاد من المنتج الفرويدي، ووظفه بطريقة ذكية جداً في دراسة الأدب؛ لكنه أيضاً اتكأ على التراث الغنوسي، اليهود، الصوفي اليهودي. وهذا أعتقد كان مصدراً لتميزه، أراد أن يبرز انتماءه.

تعرف أنه عاش إلى عمر عشر سنوات، وهو لا يعرف الإنجليزية. كان يتكلم اللغة الليدية عندما جاء مع عائلته إلى نيويورك، ثم اندمج تدريجياً مع المجتمع الأمريكي واللغة الإنجليزية. تتمظهر يهوديته أيضاً في كراهيته لـ (ت. س. إليوت)، فهو عدو له ويعلن هذا، وطبعاً (ت. س. إليوت) له موقف من اليهود معروف أيضاً، يعني في أحد كتبه يقول إن اليهود لا يمكن أن يندمجوا في مجتمعاتنا، ويعني يظلون مختلفين. فبلوم يعني لم يعجبه هذا قط، وظل يرى أن إليوت هو المنافس الكبير، وأراد أن يحل محله.. (وأراد أن يقول لإليوت نحن مختلفون ونعرف أننا مختلفون، وليس من حقك أن تقول بأننا مختلفون) بالضبط؛ ولكننا متفوقون أيضاً، فهذه من سمات الانتماء اليهودي عند بلوم تحديداً، أعتقد أننا لكي نفهم يعني نقبل، وهو نقد هائل تماماً". 


المسيحيون وصعوبة تقبُّل الحضور اليهودي في البداية

وتحدَّثَ د.سعد البازعي عن الأقلية الفكرية والثقافية اليهودية وسط المسيحيين، وأنها كانت أيضاً مرهقة للمسيحيين على أكثر من مستوى في الواقع، وأن المسيحيين يعتبرون التوراة جزءاً من الثقافة الغربية، وحتى من ثقافتهم المسيحية يتعاملون مع ناس لا يعترفون أصلاً بهم، مجيبًا عن سؤال "هل مفارقة عدم الاعتراف المتبادل أو هذا الاعتراف غير المتبادل، كيف عاشه المسيحيون؟": "المسيحيون وجدوا صعوبة في تقبل الحضور اليهودي في البداية؛ يعني عندما بدأ الاندماج اليهودي في ألمانيا تحديداً؛ ظهر مفكر اسمه مزوشيه ماندزول، في ألمانيا؛ كان أول مَن ترجم التوراة إلى اللغة الألمانية، وكان هذا مظهراً من مظاهر الاندماج أو يعني خطوة نحو الاندماج بين الجماعات اليهودية والمجتمعات الألمانية المسيحية التي رحبوا بها طبعاً الألمان، وهناك كثيرون دافعوا عنه؛ لكن جاء مَن طرح عليه سؤالاً أدى إلى دخول في أزمة نفسية عميقة، قيل له أنت الآن تدرك قيمة الثقافة المسيحية، تدرك الدين المسيحي، كيف تفسر إصرارك على البقاء يهودياً في ديانتك؟ ما الذي يبرر بقاءك يهودياً مع أنك تعيش في مجتمع مسيحي وتدرك الآن أهمية وقيمة الدين المسيحي؟ طبعاً السائل يعني ينطلق من مسلمة أن المسيحية الدين المتفوق.

طبعاً هذا لا يقر به اليهود؛ لكن اليهود أيضاً يتحركون من منطلق أنهم أقلية مستضعفة، في ذلك الوقت كانوا يحاولون أن يحصلوا على شرعية اجتماعية ثقافية فكرية.. إلى آخره. فأدخله في أزمة عميقة لم يخرج منها إلا بعد فترة طويلة، انعزل واكتأب؛ لأنه لم يدرِ كيف يمكن له أن يدافع عن هذا يعني مثلما الآن يعني لو أن مسلماً طرح على مسيحي: لماذا أنت مسيحي مع إنك ترى عظمة الإسلام، كيف تفسر بقاءك مسيحياً؟ يعني هذا السؤال يمكن أن يطرح في أي مجتمع يسود فيه دين معين مع بقاء جماعات تصر على البقاء مختلفة وتريد أن تكون جزءاً من هذا المجتمع. كيف يمكن التوفيق بين هذين؟ هذه مشكلة عاشها اليهود؛ لكن اليهود كانوا أيضاً مسلحين بالشعور بأنهم شعب الله المختار، وأنهم هم الأول في البداية، إن ليس المسيح منهم أصلاً، وإن التوراة جاءت أولاً، وإنه لا يتصور وجود العهد الجديد دون العهد القديم.. وهكذا، فهذه مسائل خلقت وضعاً مختلفاً، يعني مختلفاً عن مثلاً علاقة المسلمين بالمسيحيين أو علاقة أية أقلية دينية أخرى يعني تعيش في بين ظهراني المسيحيين.. فهو فريد من نوعه".


المسلمون والمسيحيون واليهود.. الاستشراق والغرب في مقابل الشرق

وتابع أستاذ الأدب الإنجليزي المقارن بجامعة الملك سعود: "لا شك أن هناك اختلافًا بين ما يطرحه الإسلام، وما تطرحه الديانة اليهودية.. الديانة اليهودية معروف أنها منغلقة على نفسها، وكثقافة ليست متاحة للجميع، وليست مفتوحة.. المسيحية أيضاً منفتحة على الآخرين.. ولهذا هناك تبشير بالنسبة إلى المسيحيين، التاريخ اليهودي في البيئة الإسلامية في الأندلس بصفة خاصة يؤكد هذا الانفتاح العجيب الذي حصل يعني أن يصل اليهودي إلى مرتبة رئيس وزراء لدولة إسلامية، شيء لا يمكن تخيله في أوروبا إلى العصر الحديث. يعني بينجامين دزرائيلي صار رئيس وزراء في بريطانيا، ويعني مسألة استغرقت قروناً حتى وصلوا إلى هذا. بينما في العالم الإسلامي، وهو الذي شجع على شراء قناة السويس تماماً، وتسديد الديون التي كانت متراكمةً على مصر في ذلك الوقت؛ لكي تدخل بريطانيا إلى مصر بهذه الطريقة".


الغرب مقابل الشرق.. كيف توحد اليهودي والمسيحي؟

وأجاب د.سعد البازعي عن سؤال "مسألة الغرب في مقابل الشرق؛ كيف توحَّد اليهودي والمسيحي ضمن تصور فكري وثقافي واحد ضد الإسلام؟ يعني هذا الانتقال من المسيحيين في كفة والمسلمين واليهود في كفة، إلى وضع المسيحيين واليهود في كفة والإسلام في كفة؟"، قائلاً: "لا، هو لا شك أن العلاقة التي تربط اليهود بالمسيحية علاقة مختلفة عن علاقة المسلمين بأي من هذين.. المسيحيون أمام واقع لا يمكن إنكاره. وهو أن ما يُسمى بالكتاب المقدس في أوله التوراة. يعني لا تستطيع أن ترفض، لن يوضع القرآن في الجزء الأخير مثلاً من هذا الكتاب المقدس؛ لكن التوراة موجودة وعليك أن تتعامل معها بصورة أو بأخرى. ظهرت طبعاً طوال التاريخ المسيحي الأوروبي تصورات كثيرة وتفسيرات ونظر إلى أن المسيحية ختام عظيم لهذا التطور وأن اليهودية مجرد مرحلة؛ مرحلة في هذا التاريخ، لكن كان لا بد من التعامل مع الوجود اليهودي فهو كأنه توأمة متوترة، علاقة توأمية متوترة جداً من البداية؛ فاليهود متهمون بقتل وصلب المسيح؛ ولكنه أيضاً تصور المسيحية بدون اليهودية، وهذه معضلة كبرى بالنسبة إلى المسيحيين وليس بالنسبة إلى اليهود. يعني اليهود يلغون الإنجيل تماماً ويتعاملون مع التوراة وحدها. فالمسلمون في وضع مختلف؛ لأنهم جاؤوا تالياً، ونظروا إلى هذا كله على أنه جزء من الدين الإسلامي أصلاً؛ يعني الكتب المقدسة ليست منكرة عند المسلمين، صحيح أن هناك طبعاً اعتقاداً أو نظرة إلى أنها حرفت، لكن هذا لا يغير من الأمر كثيراً؛ لأنها تظل مقبولةً في أساسها، في جوهرها.. لكني أريد أن يعني في هذا السياق ونحن ربما نختتم هذا النقاش حول اليهود أو نخرج منه شيء آخر إلى أن توضح مسألة كثيراً ما تُطرح يعني بمجرد ما يُقال إن فلاناً يهودي يطرح الدين كما لو أن اليهودية هي دين في الأساس فقط، بينما هي في الحقيقة تحولت مع الزمن إلى هوية إثنية عرقية اجتماعية أكثر منها ديناً. فليس هؤلاء متدينين أصلاً يعني ولا علاقة لهم.. علمانيون ١٠٠٪".


وأضاف أستاذ الأدب الإنجليزي المقارن بجامعة الملك سعود رداً على "وحتى في إسرائيل اليوم يعني أغلبهم علمانيون وهم متطرفون": "تماماً، والصهيونية أصلاً أيديولوجيا علمانية ١٠٠٪، يعني وظفت اليهود المتدينين أنفسهم لخدمة أغراضهم".


هل المستشرقون اليهود كانوا أقرب إلى الإسلام أو فهم الإسلام؟

وأجاب د.سعد البازعي عن سؤال "هل يمكن الحديث عن استشراق يهودي ذي خصوصية يتميز بها داخل المدونة الاستشراقية الغربية؟"، قائلاً: "الاستشراق لم يكن ضمن القضايا التي تناولتها في كتاب المكون اليهود. في ما بعد عرفت عن وجود مستشرقين يهود، وأنهم مهمون جداً؛ يعني أتذكر منهم جولد تسيهر، ربما هو يكاد يكون أهم أو من أهم الأسماء التي طرحت؛ ولكني لا، لم ألاحظ اختلافاً كبيراً يميز الاستشراق لدى المستشرقين اليهود عن استشراق غيره. التميز أو الاختلاف كان الاستشراق نفسه كتيار، هل المستشرقون اليهود كانوا أقرب إلى الإسلام أو فهم الإسلام؟ ربما قد يكون، لأن جولد تسيهر بالذات كاد يسلم لما جاء إلى مصر، وصلَّى في الأزهر حتى يقال إنه صلَّى".


الأدب وطبيعة التمثلات الغربية في الشرق

وأجاب د.سعد البازعي عن سؤال "كيف كشف الأدب عن طبيعة التمثلات الغربية في الشرق؟"، قائلاً: "إدوارد سعيد طبعاً بدأ هذا في إشارته إلى الأدب اليوناني القديم، على أنه هو بداية الخطاب الاستشراقي، فإن النظرة الاستشراقية بدأت.. هناك مَن يجادل في هذه المسألة أو يرى أنها غير مؤسسة تأسيساً حقيقياً؛ لذلك عندما أتيت لكتابة أطروحتي بقدر ما استفدت من سعيد، كان هو في الحقيقة المنطلق؛ إلا أنني لم أذهب هذا المذهب. أنا أردت أن أتفادى هذه المشكلة؛ لأنها مشكلة مثيرة للجدل، فبدأت بالعصور الوسطى، وأعتقد أن القول إن الاستشراق الأدبي تحديداً بدأ بالعصور الوسطى له ما يبرره أكثر مما يبرر القول إن اليونانيين القدماء كان لديهم هذا التصور، الأطروحة بدأت بالاطلاع على كتاب سعيد، أنا كانت عندي رغبة في الكتابة عن تصورات الأوروبيين للمسلمين. كيف انعكست الآداب الغربية؟ لأنني كنت أصادف بين الحين والآخر عربية إسلامية في الرواية، في الشعر، في المسرح؛ لكن سعيد عندما نشر كتابه وأنا كنت أبحث عن إطار نظري، أعطاني هذا الإطار، وهو طبعاً كما تعلم اتكأ على ميشيل فوكو، طبعاً خطاب دون مفهوم الخطاب لدى فوكو لم يكن ممكناً لسعيد أن يطور  أطروحة الاستشراق؛ فأنا أخذت سعيد وأخذت فوكو معاً، ونظرت إلى الأدب بوصفه تياراً مختلفاً عن الاستشراق العلمي أو الفكري الذي تحدث عن التاريخ؛ فهو استشراق بمعنى أنه تصور مجموعة من التصورات والمواقف التي اتخذها الكتاب الغربيون بصفة عامة؛ أوروبيون وأمريكيون تجاه الشرق العربي الإسلامي، وليس الشرق الأقصى مثلاً، يعني منطقتنا هذه كيف يمكن أن نقرأ هذه التصورات، هذه الشخصيات المتكررة، هذه الاستعارات، هذه المجازات، هذه النظرة الرومانسية حيناً، العدائية حيناً، فوجدت أن مقولة الاستشراق تساعد على فهم هذه الظاهرة في تحولاتها؛ لأننا، وأنا هذا الذي حاولت أن أفعله وأرجو يعني لا أدري على الأقل اللجنة اقتنعت وهي أنه عندما نعود إلى العصور الوسطى موقفاً استشراقياً يشوبه التوتر والعداء ما فيه شك يعني؛ لأنه المسيحية كانت قوية والعقيدة الدينية كانت قوية والحروب الصليبية لعبت دوراً كبيراً في تشكل خطاب أدبي مؤدلج ويخلق صوراً نمطية ويخلق تمثلات سلبية عن الشرق لا مجال فيها للتنويع، حتى إنه يعني تطورات ليست غنية..".


وتابع أستاذ الأدب الإنجليزي المقارن بجامعة الملك سعود: "لكن عندما نأتي إلى عصر النهضة تبدأ صور تتنوع والأفكار تختلف، وهناك يتطور نوع من الدراما الحقيقية؛ يعني إلى حد بعيد لدى الكتاب الأوروبيين، لكن النقلة الحقيقية تحصل في القرن التاسع عشر؛ سواء في فرنسا أو في بريطانيا أو ألمانيا".


العصور الوسطى و"ألف ليلة وليلة"

وأجاب د.سعد البازعي عن سؤال "لماذا توج التلقي الغربي (ألف ليلة وليلة) أهم كتاب عربي، رغم أن مؤسستنا العربية النقدية الكلاسيكية ظلت تعتبره أدباً وضيعاً؟ وهل الاستشراق كان له دور في تغيير رؤيتنا وفي ترقية (ألف ليلة وليلة) من وضع الأدب الوضيع إلى أدب صار العرب ينسبون له، وصار هو يمثله، صار كتاباً في العالم؟"، قائلاً: "هناك أسباب موضوعية أعتقد أنها لا بد أن تؤخذ في الاعتبار؛ يعني عندما تُرجمت أجزاء من (ألف ليلة وليلة) في القرن الثامن عشر على يد أنطوان جالان الفرنسي، وهو كان مبعوث فرنسا في تركيا، قرأ هذه النماذج وترجمها.. الترجمة لعبت دوراً كبيراً في تغيير الصورة؛ لأن  الأوروبيين لم يقرؤوا (ألف ليلة وليلة) بلغتها العامية المتواضعة، قرؤوها بلغة أدبية في نهاية الأمر. لذلك لم يروا العمل الذي كنا نراه وما زلنا نراه يعني إلى الآن بلغته الوسطاوية البسيطة العامية إلى حد بعيد. نظروا إلى اللغة الأدبية، وما أبهرهم هو الجوانب السردية. يعني هذا التفوق العجيب في ألاعيب السرد والحكي. ثم النظر إلى شهرزاد وعلاقتها بالموت وتوظيف الأدب أو الحكاية لتفادي الموت.. هذه المسائل كانت غائبة عن التصور العربي؛ لأن العرب ظلوا فترة طويلة لا يدركون القيمة الأدبية الحقيقة للسرد، لكن أعتقد أن اللغة العامية حجبت هذه الجوانب.. نحن عندما فتحنا على أوروبا بدأنا نأخذ نظريات نقدية ونتعلم أموراً كشفت لنا قيمة الرواية أصلاً والسرد بحد ذاته، وجاءت الرواية والقصة القصيرة إلى آخره وتعلمنا أيضاً أن ننظر إلى هذه الفنون من زاوية مختلفة، فأيضاً رأينا (ألف ليلة وليلة) معهم من هذه الزاوية المختلفة، فهذا طبعاً بالإضافة إلى أنه في الأدب المقارن هناك أعمال تكتسب حياة في أدب آخر لا تكتسبه في أدبها الأصلي".


متى سيكف الغرب عن النظر إلى إنتاجنا الأدبي والفكري على أنه آخر ومختلف ومن درجة أقل؟

وقال أستاذ الأدب الإنجليزي المقارن بجامعة الملك سعود، رداً على "متى سيكف الغرب عن النظر إلى إنتاجنا الأدبي والفكري على أنه آخر أولاً، مختلف ثانياً، من درجة أقل ثالثاً، هنا لاحظ أعود معك إلى الاستشراق وأسئلته؛ ولكن من بوابة الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف؟": "لا أدري إن كان سيتوقف أو أنه ينبغي أن يتوقف؛ لأن مبررات الاختلاف قائمة، يعني هناك اختلاف حقيقي، الشعر العربي في توجهاته تاريخياً يعني مختلف تماماً عن الشعر الألماني أو الفرنساوي، وكذلك هو الأدب بصفة عامة والثقافة في مناحيها المختلفة؛ لكن المشكلة هي في النظرة الدونية، هذه المشكلة مسألة القيم الأيديولوجية أو هذه المسائل هي المزعجة. نحن أيضاً ننظر إلى الآداب الغربية على أنها مختلفة، وأنا أعتقد أن هذا مصدر غنى. التنوع هذا مصدر غني للثقافات الإنسانية؛ يعني لا تندمج في نهاية الأمر تماماً، يعني حتى عندما نأخذ من الآخر أو الآخر يأخذ منا، هذا الذي نأخذه يتشكل من جديد ويأخذ صبغة مختلفة تماماً؛ يعني ما حدث لـ(ألف ليلة وليلة) حدث، يعني الرواية عندما دخلت العالم العربي، اللغة العربية لم تكن رواية فلوبير اصطبغت مكونات المحلية، دخلت فيها (ألف ليلة وليلة)، دخلت الحكايات الشعبية، دخلت أمور لا أن يتخيلها الفرنسيون أو الألمان في أعمالهم الروائية، وكذلك هي الحال في الشعر. فالتفاعل يحدث وهناك مساحات مشتركة تتخلق نتيجة هذا التفاعل؛ لكن لا يحصل اندماج أو تماثل، أعتقد أن هذا غير متصور؛ بل إن الكتَّاب العرب خُذ مثلاً المهجرين.. المهجرين عندما ذهبوا إلى الأمريكتَين ظلوا يكتبون كما لو كانوا في سوريا أو لبنان أو أي بلد عربي آخر، وكذلك الأندلسيين عندما ذهبوا إلى الأندلس، يعني العرب الذين ذهبوا إلى الأندلس، ظلوا حتى القرن الحادي عشر والثاني عشر الميلادي يكتبون كما لو كانوا في بغداد أو في دمشق أو في الجزيرة العربية".


ثقافة الاختلاف مطلوبة دائماً

وتابع الأكاديمي والمفكر السعودي: "عنصر التلقي يكتب لمَن؟ هو في نهاية الأمر في ذهنه متلقٍّ عربي أكثر ما في ذهنه متلقٍّ غربي. وتعامل البيئات الغربية مع المنتج العربي أو غير العربي على فكرة حتى الصيني والياباني يختلف عن تلقي هذه الأعمال في البلدان التي جاء منها الكاتب أو ينتمي إليها. فهذا طبعاً جزء من الاختلاف الثقافي الذي تفضلت بالإشارة إليه.. يظل قائماً ويظل بحاجة إلى أن نستوعبه عندما ندرس هذه الظواهر، فثقافة الاختلاف أو نقد الاختلاف مطلوب دائماً، وهذا لا يعني العزلة إطلاقاً، يعني هو تهمة أن هذا فيه عزلة ثقافية وأن المجتمعات واحدة.. وكذا، وأنت تفضلت بالإشارة إلى كتاب استقبال الآخر، هذا الكتاب مبني على أطروحة أن المناهج النقدية الغربية عندما نستوعبها ونحن بحاجة إلى استيعابها والإفادة منها. لا يمكن أن تبقى كما هي ولم تبقَ كما هي، فعلاً يعني إدوارد سعيد يتحدث عن انتقال النظرية في أوروبا نفسها. عندما انتقلت النظرية البنيوية من غرب أوروبا إلى وسط أوروبا إلى رومانيا والتشيك والبلدان الاشتراكية، اصطبغت بالماركسية، وأخذت منحى آخر؛ فانتقال النظرية يعني تخلقها من جديد، وهذا حصل طبعاً بالنسبة إلى نظريات كثيرة؛ لكن المشكلة مع بعض الإخوة النقاد العرب هو أنهم ينطلقون من مقولة الكونية، وأنه لا ينبغي أن نعدل أو نضيف أو نغير على أساس أن هذا معطى عالمي.. وإلى آخره من هذه المقولات التي حتى لو حاولوا حقيقة أن يتبنوها وينطلقوا منها، الواقع يرفض ذلك؛ لأنهم يتعاملون مع أدب ولد في بيئة مختلفة، فلا بد أن تتغير المقولات النقدية والمصطلحات النقدية؛ لاستيعاب هذا الاختلاف القائم".


السينما الغربية انعكاسًا

وأجاب أستاذ الأدب الإنجليزي المقارن بجامعة الملك سعود، عن سؤال "ما يعنينا ربما نحن اليوم هو العمق الفكري، وفي أطروحتك أعود إليها دائماً صورة العرب والمسلمين في الآداب الغربية، هو الموضوع الذي انشغلت به واشتغلت عليه، وهنا طبعاً نبتعد عن المناهج، لكي نذهب إلى جوهر الأدب، هذه الصورة التي تكرست في الآداب الغربية، هل تحس أنها ظلت حكراً على الأدب أم أنها انتقلت إلى وسائل أخرى أكثر تأثيراً وجماهيرية؟"، قائلاً: "الوسائط الجديدة، السينما الغربية، جاءت انعكاساً أو امتداداً لهذه الصور التي تطورت في الأدب؛ فشخصية العربي المسلم في هوليوود شخصية نمطية جداً، يعني ظلت محكومة بتصورات قبلية، تصورات نمطية جداً، تتكرر من عمل إلى آخر، وأعتقد أنها أقل تنوعاً وغنًى مما نجد في الأدب بصفة عامة؛ يعني الأدباء سواء أكانوا كتاب رواية أو قصة أو شعراء، ظلوا أكثر تقبلاً للاختلاف وإبداعاً في التنويع من المخرجين وكتاب السينما في هوليوود وفي غير هوليوود.

وأنا أعتقد أن الجماهيرية تلعب دوراً؛ لأن السينما تتجه إلى الجمهور مباشرةً وإلى جمهور قد يكون أمياً، بينما الأدب يتعامل مع مثقفين مع قراء، لا بد له أن يستوعب هذا الاختلاف، هذا المستوى، الثقافة، بينما الجمهور السينمائي أو جمهور السينما هو جمهور متوسط القيمة متفاوت بين المثقف والعادي والبسيط؛ لكن هدفهم في نهاية الأمر هو شباك التذاكر.. فلذلك يكون جماهيرياً ومخالفة الكلاشيهات تربك الجمهور. لذلك هم يريدون الأمور تظل كما هي؛ خصوصاً بالنسبة إلى العرب والمسلمات تستطيع أن تقول عنهم ما تشاء في أوروبا أو في الغرب؛ لكن لا تستطيع أن تقول ما تشاء عن اليهودي..".


الحرية والديمقراطية من صورة العربي في السينما الغربية مقارنةً باليهودي

وأضاف د.سعد البازعي: "ونعود إلى المسألة الأخرى؛ اليهودي الآن شبه غائب عن السينما الغربية، شخصية اليهودي التي مثلاً المرابي.. إلى آخره. لا، انتهت بقي العربي المسلم تستطيع أن تضعه إرهابياً، تضعه فاسقاً.. مهما قُلت عنه مقبول، لا، لن يغضب أحد في أوروبا طبعاً، لأنه فيه حرية وديمقراطية، وهذا يعيدنا إلى مفهوم الخطاب لدى فوكو. لأن فوكو يعني يذكرنا بأن الخطاب ليس مفتوحاً بالصورة التي يتخيلها الكثيرون. متحكم فيه وجزء من آليات الهيمنة والصور النمطية التي تخضع لمصالح أيضاً، مصالح عليا، لا أقصد المؤامرة؛ لكن أقصد المصلحة الثقافية، بمعنى أنه من مصلحتنا كفرنسيين أو ألمان أن ننظر إلى هؤلاء بهذه الطريقة، بينما نستثني أولئك عن هذه النظرة؛ لأن هؤلاء أصدقاؤنا وأقرب إلينا، وأولئك أبعد".


القانون الدولي والكيل بمكيالَين.. لماذا تجاهل الغرب الدرس الأندلسي؟

واستطرد أستاذ الأدب الإنجليزي المقارن بجامعة الملك سعود، رداً على "حتى على المستوى القانوني، القانون الدولي، نحن نرى كيلاً بمكيالَين واضحاً على مستوى القوانين.. أنت ترى كيف أن القتل هنا يتعامل معه بطريقة، والقتل هنا يعتبر عادياً، يعني كأنك مع الأسف أمر يجعلنا عوض أن نتباكى على هذا الحاضر، المسلم أن نحتمي على الأقل بالحلم، لدينا لحظة كأنها الحلم، عشناها وهي لحظة الأندلس. هذه اللحظة الفارقة في تاريخ الإنسانية. وأنا أستعيدها اليوم، لماذا تجاهلها الغرب؟ لماذا تجاهل الغرب الدرس الأندلسي؟ لماذا تجاهل الغرب كيف قام الأندلسيون بتسيير الفكر الإنساني نحو العقلانية الغربية مثلاً؟ وكيف كان الفكر الرشدي في صميم هذه الاستمرارية ضامناً لها؟ يعني حيث أعطى مثلاً مشعل بن ميمون اليهودي.. هكذا مرت الأمور لكي نعيش التنوير وما إليه.. لماذا أوقف الاستشراق هذه الاستمرارية وفصل بين الشرق والغرب؟ وهل من سبيل إلى استعادة الأندلس الرمزية، يعني كلحظة حوار ثقافية تسع كل الثقافات؟": "أعتقد الاستشراق متنوع، ولم يكن يعني ذا مسار واحد، يعني هناك مستشرقون سعوا إلى تثبيت هذه الصورة، وأشير بصفة خاصة إلى مستشرقين إسبان وألمان وأيضاً بعض الفرنسيين، يعني الذين أعلوا من شأن هذا التاريخ المضيء وأكدوا مدينية الحضارة الغربية للمسلمين، وأن هناك لحظة، هذه اللحظة المضيئة فعلاً كانت موجودة؛ لكن هذا الصوت ظل خافتاً، نتحدث عن الهيمنة.. بالمناسبة هناك كتاب نشرته باحثة من أصل كوبي، أمريكية هي، حول الأندلس. وأشارت فيه إلى هذه اللحظات، الأندلس العربية المسلمة، أنا أتكلم عن كتاب تُرجم أيضاً، ترجمه كاتب سعودي، والكتاب كتب مقدمته بلوم تحديداً، الكتاب لباحثة اسمها مينوكال، وبلوم في هذه المقدمة يشيد بهذا الجانب ويبرزه ويعجب به، مع أنه لا علاقة له بالأدب الأندلسي أو بالأندلس أصلاً؛ لكنها كانت، الباحثة، تشتغل في جامعة إيدج هيل في ذلك الوقت، وبلوم طبعاً نجم لامع في ذلك الوقت، فطلبت منه يكتب المقدمة.

أعتقد أن كونه يهودياً ربما لعب دوراً بالنسبة إليها، إن القيمة الرمزية أن اليهود كانت لهم هذه المكانة، ليس فقط الأندلس، لاحظ أنها صقلية أيضاً. كان فيها قدر هائل من التعايش في عهد فريدريك الثاني، هذا الإمبراطور الذي انفتح على المسلمين، والشريف الإدريسي كان معه تقريباً في بلاطه. بل اتهم بأنه أسلم؛ يعني اتهمه البابا بأنه أسلم، وإنه كان مهتماً باللغة العربية.. إلى آخره".


المتشددون الأوروبيون والمتشددون في كل مكان يرفضون الاختلاف

واختتم د.سعد البازعي: "فهذه المرحلة التي لم تستمر مع الأسف، يعني أنا أترجم الآن كتاباً يتحدث عن التنوير المنقطع الذي توقف؛ لكنه ليس عن الأندلس، وإنما عن لحظة تاريخية أخرى يرى المؤلف أنها كانت يمكن أن تقود إلى حضارة أو إلى فترة من التنوير أو مرحلة عالية من العقلانية والاستنارة؛ هي مرحلة ابن سينا والبيروني في القرن العاشر الميلادي. هذه المرحلة التي سبقت الأندلس كانت لحظة مضيئة أيضاً لم يوقفها إلا زحف المغول وانهيار بغداد وانهيار تلك الحضارة في وسط آسيا وغربها.. نحن أمام لحظات كثيرة حقيقة لم يكتب لها الاستمرار، وأعتقد أن هذا هو شأن التاريخ الإنساني، يعني نحن بحاجة إلى استعادتها لأنها فعلاً زاد قوي، تذكر ليس أوروبا فقط وإنما حتى بعض العرب والمسلمين ممن يتشددون في التعامل مع الآخر، ويرفضون الاختلاف.. المتشددون الأوروبيون يرفضون الاختلاف، والمتشددون في كل مكان يرفضون الاختلاف، وهناك حاجة إلى هذا الانفتاح العقلاني الذي يقبل الآخر، يقبل التحاور معه، يقبل أن يأخذ منه ويعطيه؛ لكن طبعاً بشروط تحترم إنسانية الإنسان قبل أي شيء".