تحدَّثَ الأكاديمي اللبناني الدكتور رضوان السيد، عميد كلية الدراسات العليا والبحث العلمي بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، الحاصل على دكتوراه الدولة في الفلسفة من جامعة توبنغن، وعضو جمعية المستشرقين الألمان منذ 1978، وسبق له تدريس اللاهوت المقارن والأنثربولوجيا بجامعة هامبورج الألمانية، ومن أهم أعماله (المستشرقون الألمان.. النشوء والتأثير والمصائر)، وترجمَ (الرؤى الغربية للإسلام في العصور الوسطى) لريتشارد سوذرن، خلال لقائه الإعلامي ياسين عدنان، عبر برنامج "في الاستشراق"، عن كتابه "المستشرقون الألمان"، وكيف تطور الاستشراق الألماني؟ وما الفرق بينه وبين الاستشراقَين الفرنسي والبريطاني مثلاً؟ وما المراحل التي مر منها في تعاطيه مع الحضارة العربية الإسلامية؟ وهل فعلاً لم يعد هناك مجال للحديث اليوم عن الاستشراق في ألمانيا؟
الألمان وأسباب الاهتمام بالعربية والدراسات الإسلامية
وأجاب الأكاديمي اللبناني الدكتور رضوان السيد، عميد كلية الدراسات العليا والبحث العلمي بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، عن سؤال "هل توافق على أن الألمان حينما اهتموا بالعربية لم يكونوا معنيين في البداية لا بالإسلام كدين ولا بالعرب كحضارة، بقدر ما كانوا مهتمين بالتعمق في العبرية؛ لفهم دينهم؟"، قائلاً: "هذا كلام صحيح، وقد صدر قبل خمس سنوات كتاب عنوانه (في الضوء الساطع للتاريخ) بالألمانية، يقول هذا الكلام، إنه على أساس الدراسات الإسلامية ودراسات الإسلام والقرآن، نشأت على أساس دراسات العهد القديم عند الألمان، ثم امتدت إلى أنحاء أوروبا، ما وجه الحاجة إلى الإسلام؛ العبرية القديمة لغة منقضية وكثير من ألفاظها معانيها لا تُعرف بالتحديد، مفيش لغة سامية حية؛ إلا العربية، ولذلك لجؤوا إلى العربية والسريانية والآرمية، وبشكل متأخر الكلدانية والسومرية؛ فلجؤوا إلى العربية، لأنها لغة حية؛ ولذلك صار بعض الألمان اللاهوتيين في الأصل يتخصصون في دراسة العربية، وفي معرفة نحوها؛ لتعليمها من أجل خدمة ما يفعلون.. لغة، دراسة لغة العهد القديم، وتطوراتها..
هذا الأمر دخلت عليه مرحلة أساسية تحويلية في كتاب أبراهام جايجر 1834، حاخام شاب، كاهن يهودي، شاب إصلاحي كتب أطروحته للدكتوراه عن ماذا أخذ القرآن عن اليهودية؟ هكذا العنوان الأطروحة؛ ولأنه إصلاحي ولا يقول إن التوراة معصومة وأنها كتبت مرة واحدة.. وكذا؛ فاعتبروا أنه يمكن أن تكون دراسته القرآن دراسة علمية، بمعنى أنه لن يقول إن القرآن مأخوذ عن التوراة؛ لكنه في الواقع قال ذلك، وإن اعتبروا دراسته إنما دراسة علمية، ومنذ ذلك الحين صرنا نرى دراسات عن القرآن صحيح تتعاطى بالمعنى الفيلولوجي لعلاقته بالتوراة والإنجيل؛ ولكن يمكن القول إنها دراسات مهتمة بالقرآن بحد ذاته، وليست تابعة للدراسات في العهد القديم، وأولاها وأهمها طبعاً 1859، دراسة نولدكه (تاريخ القرآن)".
القرن الـ18 عند الألمان.. قرن دراسة تاريخ الحضارات
وأضاف د.رضوان السيد، رداً على سؤال "هذا بالنسبة طبعاً للقرآن والمضامين؛ ولكن اللغة في حد ذاتها متى تحس أنها إذا شئنا تحررت من هذا الإطار اللاهوتي الفيلولوجي الضيق، لكي تصير جزءاً من الثقافة العامة لدى الأوائل ؟": "نحن لا ينبغي أن ننسى هذا الكتاب الذي رأيته وأعطيتك إياه قبل هذه الحلقة اللي اسمه (الاستشراق الألماني في زمن الإمبراطورية)؛ يوضح أن القرن الثامن عشر، وليس التاسع عشر، صار كله دراسة عند الألمان لتاريخ الحضارات؛ تاريخ الحضارات الصينية والهندية واليابانية بشكل مستقل، عن دراساته بالعبرية، وللإسلام والقرآن، وكذا عندنا دراسة الحضارة الإسلامية أو دراسة الإسلام باعتباره ديناً؛ ولكنه حضارة تأخرت كثيراً.
لماذا الفيلولوجيا مفيدة؛ ولكنها مهلكة مثل المدمن على البترول، فأنت تظن أنك إذا استطعت أن تعرف تفكك هذه الكلمة (فعل)، تفككها ثلاثة أحرف، وأن هذه تعني الإضاءة، والثانية تعني الإظلام، والثالثة تعني.. تظن أنك فهمت النظام، كل شيء، وهذه كانت دراسات فيلولوجية؛ ولكنهم كانوا يربطونها عند الحضارات الأخرى بالتاريخ، إلا في الإسلام، إلا في القرآن، فظلت تشغلهم وإن كان لم يكونوا كلهم متدينين.. هؤلاء المستشرقون البروستانت الفيلولوجيون العظام تشغلهم مسألة أنه إذا فهمت القرآن وأصول القرآن وكيف تكون القرآن، فهمت الإسلامَ، مع أن الإسلام جنبه مسيطر على آسيا وإفريقيا ويعمل حروباً والعثمانيين لم يموتوا، عَم باحكي عن القرن التاسع عشر، ظلت هاتان الفكرتان؛ فكرة أن القرآن تابع لليهودية والمسيحية، واثنان أنك إذن بعد التحليل الشديد والتفكير إذا ركبته فهمت الإسلام كله، والمسلمين.. ظلت هذه حتى سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر، ليه؟ أولاً ما كانوا يحبون الإسلام، لأنه طوال ألف سنة هو الذي يصارع المسيحية، واليهودية أليست محبوبة عندهم؛ ولكن اليهودية ما عادت تشكل تحدياً لا في السكان ولا في النظام الديني.. هي ليست ديناً تبشيرياً".
تعلم العربية لخدمة العهد القديم وأحياناً الجديد
وتابع الأكاديمي اللبناني: "ليست ديناً تبشيريّاً؛ الذي حدث أن بعض الذين طلب منهم تعلم العربية لخدمة العهد القديم، وأحياناً العهد الجديد، اكتشفوا أنه فيه عشرات ألوف المخطوطات العربية في مكتبات الدول في أوروبا ومكتبات الجامعات، أتي بها القناصل وسُرقت واشتريت وكذا تكونت مجموعات، وبدأت تظهر لها فهارس بعدما عملوا فيها الإسلام المخطوطات اللاتينية والمخطوطات اليونانية القديمة، والمخطوطات تبين أن كلها لا تشكل عشرة في المئة من المخطوطات التي أتوا بها من البلدان العربية والإسلامية".
مليون مخطوطة.. ثقافة إسلامية عربية شديدة الهول
واستكمل د.رضوان السيد: "فبدؤوا يحققون، بدؤوا يطبعون كما يطبعون اللاتينية واليونانية.. فيستنفال وديجوريا طبعا عشرات المخطوطات الجغرافية، وغيرهما، طبع تاريخ الطبري إدورد سخاو، والثاني تبين أن هناك ثقافة إسلامية عربية شديدة الهول قدروها في نهاية القرن التاسع عشر بمليون مخطوطة في العالم، ثُلثها في أوروبا، ثم نحن نعرف الآن أنها تتجاوز ثلاثة ملايين، هذا ما بقي، ولذلك مع بدء نشر هذه المخطوطات قالوا إن القرآن لا نستطيع من خلاله أن نفهم الإسلام ولا الحضارة؛ يعنى إذا أردنا أن نروح كما رُحنا مع اليابانيين ومع الصينيين الذين عندهم عشرات النصوص وليس عشرات ألوف النصوص وفي كل الفنون، علينا أن نقرن إذا أردنا دراسة الإسلام لا بأس باعتبار القرآن، ولكن لازم الفيلولوجيا تقترن بالتاريخ".
اقتران الفيلولوجيا بالتاريخ
وأضاف عميد كلية الدراسات العليا والبحث العلمي بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية: "تأخرت لحقبة السبعينيات والثمانينيات؛ ولكن في هذا الوقت نقرأ عناوين؛ مثل تاريخ المؤسسات الإسلامية، ألفريد فن كريمر، نقرأ التاريخ الإسلامي لميلر، وبعدين جاءت الدولة العربية وسقوطها لفلهاوزن، حتى نولدكه بعد تاريخ القرآن في الثمانينيات، صار يحكي عن الجماعة الإسلامية الأولى، يقصد جماعة المدينة مع النبي، صلى الله عليه وسلم، وهكذا بدأت تقترن الفيلولوجيا بالتاريخ".
مأزق فيلولوجي.. تاريخ المفردات لا يمكن تحويله إلى تاريخ حضارة
وأجاب د.رضوان السيد، عن سؤال "هل تعتقد أنه بالنهاية هذا الاتجاه التاريخاني تخلَّق في قلب فقه اللغات السامية، يعني في قلب الفيلولوجيا؟"، قائلاً: "الاتجاه التاريخاني في الأصل لاتين وليس سامياً؛ دخلوه على الساميات من أجل العهد القديم، ثم كمان صار جزءاً من دراسة القرآن والإسلام؛ ولكن على مطالع القرن العشرين بدأ أناس يكتبون في نقده، باعتبار أنه قاص عن فهم الحضارة، هو يفهم نصاً معيناً، حتى إنه لا يفهم النص، لماذا؟ لأنه لا يعتبره أي كلام مكتوب أمامه نصاً، يعتبره مجموعةً من المفردات، ويبدأ بتفكيكها، وغالباً لا يعيد تركيبها.. هكذا حصل بينهم وبين العهد القديم.
شرموه شرمةً لا نهاية لها، ولم يسلم منه شيء لليوم، لا يسلم منه شيء؛ مع أن بعضهم كانوا يهوداً وبعضهم تذمَّر، سيمر من في القرن التاسع عشر، لونج مان، تذمروا بأنه ليس هذا هو الكتاب الذي نقرأه في صلواتنا، يعني الذي يدرسه فلهاوزن؛ لعن أباه وأمه، فلهاوزن من شدة التفكيك، ولكن لفلهاوزن دليل على أنه يستطيع أن يكتب بشكل مختلف، عندما كتب التركيبة الأولى للدولة الإسلامية في الدولة العربية وسقوطها، يعني بعض كبارهم كانوا يعرفون أن الفيلولوجيا لا تصلح لكتابة التاريخ؛ لأن تاريخ المفردات لا يمكن تحويله إلى تاريخ حضارة".
اللغة هي الفكر نفسه
وأضاف عميد كلية الدراسات العليا والبحث العلمي بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية: "نحن نعرف إنجاز دي سوسير في أساسيات اللغة، وكما هي اللغة ليست أداة للفكر؛ لكنها جزء منه أو هي الفكر نفسه، لكن هذا أمر آخر غير مسألة أن هناك تاريخاً أو ليس هناك تاريخ عند الفيلولوجي، مفيش تاريخ يعتقد أنه غريق عرف كل شيء ولا يستطيع أن يزعم غير ذلك، وكل غموض في أي حدث تاريخي بيقول لك هذا النص الذي تدون يستطيع أن يجلو لهذا الغموض.. ولهذا يُقال إن مثلاً دراسات متعلقة بالعربية والإسلام ظلت أسيرةَ اللاهوت والفيلولوجيا؛ ظلت أسيرة رسمياً، أسيرة الفيلولوجيا فعلياً، أسيرة اللاهوت، أسيرة تبعية الإسلام لليهودية والمسيحية".
التحرر من اللاهوت والفيلولوجيا
وأجاب د.رضوان السيد عن سؤال "خلينا نبحث الآن عن التحرر من اللاهوت والفيلولوجيا، إلى أي حد يمكن القول إن الحركة الرومانتيكية سوف تلعب دوراً أساسياً في ذلك، أنا أفكر في الشعراء الألمان الذين أدركهم سحر الشرق، جوته وديوانه الشرقي، وأفكر أيضاً في الشاعر الكبير فريدريخ روكرت، الذي كان يعتبر الشعرَين العربي والفارسي معشوقتَيه الجميلتَين، يعني هل تحس أن الحركة الرومانتيكية أضفت بعداً جديداً على العربية، لغةً وثقافةً، لدى الألمان؟"، قائلاً: "هذا في القرن الثامن عشر، وهذا صحيح، وليس عند الألمان فقط، عند الفرنسيين أيضاً، لما لسوء الحظ ما ربط بتاريخ الحضارة الإسلام، نظروا إليها على أن هذه اللغة الشعرية الجميلة والعظيمة هي تشبه البداوة الألمانية، البداوة العربية في الشعر الجاهلي، وفي ترجمة المعلقات.. جوته والشعر الفارسي بالنسبة له ذروة حضارة، بس الشعر العربي عند دريكير هو في الحقيقة أنه البداوة بذرة البداوة هناك في الشعر الذي صنع لغة هو الشعر، ولذلك راحوا من هذا الشعر، راحوا يترجمون (ألف ليلة وليلة)، ويطبعون (كليلة ودمنة)، يعني السرديات الطويلة اللي لم تُسهم إلا في أوائل القرن العشرين باعتبارها جزءاً من الحضارة، صاروا يعتبرونها جزءاً، ثم على طريقة اليونان الأسطورة من عندهم، بداوة اليونان أو الشعر، بداوة العرب، إلى درجة أن فلهاوزن ظل متأثراً بهذه المسألة؛ يعني الدولة العربية بالنسبة إليه العنصر البدوي هو الذي أنشأه وهو الذي حطمه، يعني الصراع القبلي، فلسوء الحظ الرومانتيكية التي أعطت نظرات إيجابية أحياناً حول الإسلام، يعني فولتير كان متناقضاً؛ ساعة يعتبرها حضارةً عظيمةً نكايةً في المسيحيين، وساعة لأ؛ يعتبر محمد ديكتاتوراً شرقياً، فهذه المسألة ما صارش في إنتيجرتي إلها ضم، مع كأنها جزء من الحضارة إلا بشكل متأخر، وإلا الرومانتيكية مضبوط غيَّرت إلى حد كبير، إنما بطريقة عجيبة يعني مين بيطلع بباله إنه هيدي البداوة العربية مثل البداوة الألمانية، هو الألمان ماعندهمش شعر قديم هلّا أَد الشعر العربي".
الدولة العربية الأولى.. وأكثر شيء أزعج الأمويين
وأضاف الأكاديمي اللبناني: "فتبنوه؛ شيء جميل؛ فذلك طلعت عند فلهاوزن دولة قومية، الدولة العربية الأولى، وأكثر شيء كان يزعج الأمويين، معاوية وعبد الملك، إنه تقول لهم أنت قومي عربي أو أنت عربي.. بتروح الشرقية بتاعته، لأنه إذا كان بدك تعمل حالك عربي، فبنو هاشم أولى منك إذا كان الفخر بالأصول العربية.. لأ كم أنجزت للإسلام وإن كانوا بيصير يلعبون سياسات قبلية؛ ولكنهم علنا هم أكبر أنصار الإسلام، كل سنة بيغزوا، والخليفة لا يستبيح لنفسه، إذا لم يغزوا بيدفع ألف دينار لواحد من مواليه، ليغزو مكانه، ويبعث ابنه على الغزو؛ لا يمكن تروح حملة إلا وابنه لأمير المؤمنين الذي سيصبح أميراً للمؤمنين، بيروح مع إنه فيها مخاطرة ومغامرة".
الأسطورة اليونانية والأسطورة العربية
وتابع د.رضوان السيد رداً على "ليكتسب شرعية": "كل ليكتسب الشرعية؛ يعني الإنجاز للإسلام، وإذا كانت الغزوات جزءاً كبيراً من الإنجاز للإسلام، فإذن فلنمش فيه.. معاوية بن أبي سفيان ما تذكر النبي عليه الصلاة والسلام، إلا لما أجا ليموت، قال لهم أنا كنت باحلق له شعره، للنبي، وأخبي الشعرات، حطوا لي إياها على عينَي، الشعرات بلك الرسول، عليه الصلاة والسلام، يشفع لي، فهم كانوا يتظاهرون.. شديد، بعضه حقيقي وبعضه غير حقيقي، يعني قصدي التأكيد من جانب ديكارت وجوته على الشعرية البدوية؛ لم تكن في وعي العرب الأوائل، هذه الشعرية البدوية بالعكس كانوا يعتبرونها فخراً قبلياً وليس أكثر من ذلك، فإذن ما تقوله عن الرومانتيكية أو الرومانسية في القرن الثامن عشر أثرت بشكل عام إيجاباً، إنه يمكن النظر إلى الإسلام، يمكن النظر إليه بخليط مع النبل البدوي على الشعرية وعلى الخيال والأساطير الموجودة اللي بيشبهوا بها أساطير اليونان؛ ففي العنصر الأسطوري والعنصر الشعري وليس ديكارت، فيه واحد درس الصور بأواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، درس الصور الأسطورية بالشعر العربي؛ مثل صورة الأفعى عند النابغة الذبياني، مثل يعني، فالأسطورة اليونانية كمان حبوا يدخلوها على الأسطورة العربية".
الاستشراق الألماني أسلم من الاستشراقات الأخرى
وأجاب عميد كلية الدراسات العليا والبحث العلمي بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، عن سؤال "وأنت تشير الآن إلى فولتير، وترى أن هناك نوعاً من التوافق في الرؤية العامة بين الألمان والفرنسيين، ألا أحس مع ذلك حتى لو ابتعدنا عن فولتير.. إلى فلوبير، لمارتين، شتوبيرون، نيرفال، تحس مع ذلك أنه لأ علاقتهم مع الشرق لم تكن بهذه الرومانسية، والشرق بدأ يفقد سحره في ما يكتبون.. هل ربما لارتباطهم في الغالب بمؤسسة معينة، هي مؤسسة الاستعمار، هي حملة نابليون، بينما ظل ارتباط الأدباء والشعراء الألمان بالشرق، يعني فيه نوع من الصفاء والتعالي عن السياسة وحساباتها؟"، قائلاً: "أنت تشير إلى الأطروحة التي يقول بها كثيرون؛ إن الاستشراق الألماني أسلم من الاستشراقات الأخرى؛ بسبب عدم وجود أو ضعف المقولة الاستعمارية أو الواقع الاستعماري بداخله، وضع أنهم كانوا زعلانين.. بعض المستشرقين الألمان مثل ريتشارد هارت مان، مثل مارتن هارت مان، ابن عمه، يمكن مطلع القرن العشرين كانوا زعلانين؛ واحد منهم ينصر الاستعمار البريطاني، وواحد ينصر الاستعمار الفرنسي، زعلانين إنه ألمانيا مقصرة عن الاستعمار، ويعتبرون أنه بس قليل الجزء هذا، يعتبرون أنه إيه الرسالة الأوروبية في الشرق الإسلامي، هي رسالة تحضيرية، رسالة حضارية، معظم المستشرقين الألمان بالذات اللي جايين من أصول لاهوتية أو فيلولوجية، من اشتغلوا كمان في دراسة الحضارات واللي عملوا متاحف لتلك الحضارات بعدها موجودة حتى الآن في برلين.. هؤلاء الناس ماكانش عندهم دوافع حتى وهم يعملون متحفاً للسجاد الإيراني، إلا تاريخ الحضارة بالفعل، ما كان يفكر مثل حتى مارجريوس أو نيكولسون أو حتى هاميلتون جيب أو حتى سيلفستر دي ساسي، عن الرسالة الحضارية للأوروبيين، لأ كان يقول هذه حضارة عظيمة.. السجاد عندهم شيء مهم جداً، ويعني أشياء كبيرة حضارية في ذاتها دون اعتبار للنرجسية الأوروبية حول الثقافة والحضارة التي كانت موجودة أيضاً في بعض الأوساط، نعم.. تستطيع أن تقول...".
إدوارد سعيد والاستشراق الألماني
وقال د.رضوان السيد، رداً على "ولهذا إدوارد سعيد سمَّى الاستشراق الألماني (الاستشراق المعرفي)": "لأ؛ كان متناقضاً، أنا أعرفه شخصياً، طبعاً إدوارد سعيد، وتناقشت معه مراراً، ولم تنتهِ نقاشاتنا... ووجه التناقض هو؛ أول شيء قال ليس مهماً لما قالوا له لماذا قال لهم دلّوني على كتاب متميز لهم في الاستشراق، وهذا الكلام خطأ طبعاً؛ وبعدين رجع قال تحت وطأة كثرة الألمان، اعرف اثنين ألمان، ناقشاه، بأن هذا استشراق معرفي، وينبغي دراسته بشكل مستقل، بس ما الفرق بينه وبين قلب الظلام كونرايت (واشتغل على جوزيف كونراد)، حتى كتاب مثل (بحر الروح) لفريد الدين العطار، لهيلمترته، ماذا يفتقر إذا قرأته بدقة.. بينما ريتريه كان بِدّه يقلد، مسكين بِده يقلل ويتفوق على ماسينون في كتابه عن الحلاج، أنا رأيي لأ؛ الحلاج أحلى، أجمل، مش أكثر دقة في دراسة التصوف، فريد الدين العطار صاحب منطق الطير".
إدوارد سعيد والاستشراق الألماني وأطروحته في الاستشراق الاستعماري
وأضاف الأكاديمي اللبناني: "فإدوارد سعيد في كل الأحوال ظلت عنده هذه، إلا أنه ما قدر يعلل لماذا لم يهتم بالاستشراق الألماني؟ هو عدم اهتمامه بالاستشراق الألماني كان سينقض أطروحته في الاستشراق الاستعماري، سينقض أطروحته أو جزئياً على الأقل (صحيح؛ لأنه يرى أن الاستشراق هو تمثل أوروبي للشرق، مرتبط وجوباً بمشروع استعماري، وجهة نظري، وهذه قلتها لإدوارد سعيد سنة 81، ليس لأنني عبقري، هو وعبد الله العرور كانا يخافان، مش يخافان أن يقولا إنه أنت ألماني يعني (ألماني الهوى)؛ مش لأجل الاستشراق أنه بشكل عام الألمان دقيقون ومزعجون، فأنا أقول كتابك (الثقافة والإمبريالية) أهم، الاستشراق شيء تافه في الثقافة الغربية، لا يشكِّل شيئاً إذا أنت لم تفهم النفسية الغربية بتروح تدرس هلمرت رتر أو هاملتون جيف، أبداً، بتشوف علماء الاجتماع الكبار، علماء النفس الكبار، بتشوف فرويد، بتشوف دوركايم، بتشوف جماعة فلسفة العلوم، بتشوف جماعة الرياضيات والفيزياء والكيمياء، بتشوف جماعة الجاذبية، جماعة التطور، بتشوف الفلسفة، بتشوف الفلسفة الألمانية أو غير الألمانية، أما الاستشراق، شو الاستشراق يا سيدي؟ كتبوا خلال قرنَين ألف كتاب عن الإسلام، شو عظيم، طيب كتبوا ألفَي كتاب عن اليابان، يعني سُنن نستضيفها من اليابان من خلال الاستشراق الأوروبي، كتبوا عشرة آلاف كتاب خلال خمسين سنة عن الهند باعتبار الهند آلية، كمان كانوا من أنصار الخطب الهندية كلهم، يعني شو أكبر أعداء الغرب الآن؟ المفكرون الهنود، أنت تعرف أن تطور إدوارد سعيد تسبب من غير قصد في تطور اتجاه ساب ألترن تجاه التابع الذي يدرس، التابع من الأمريكان، للّاتين، ومن الهنود بشكل أساسي، وبعض العرب منهم وائل الحلاق.. الآن منهم، أقلامهم طلال أسد بن اليبولوفيس، هلا بنحكي، ذكرني به، أحكي لك عنه؛ لأن هو أهم بكثير من إدوارد سعيد، في ما يتعلق بنقد الاتجاه الاستعماري.. وهو بريطاني- أمريكي، ولا أعرف إذا كان بعد مدير مدرسة فرانكفورت، مدير مدرسة نيويورك للعلوم الاجتماعية، لا أظن تقاعس فوق الثمانين..".
إدوارد سعيد: الإمبريالية صنعت كل الثقافة عند شعوب العالم الثالث
وتابع د.رضوان السيد: "تطورت دراسات إدوارد سعيد وجعلوها شاملةً، واستوحى كتابه الاستشراق من كتاب شامل اسمه الثقافة والإمبريالية، يقول إن الإمبريالية صنعت كل الثقافة عند شعوب العالم الثالث؛ يعني تفكير الأوروبيين والغربيين بنا، بمَن فيهم الأمريكان، شمل الأنثربولوجيا والسيسيولوجيا والفلسفة والعلوم الاجتماعية بشكل عام، والعلوم النفسية والأخلاق.. فهمهم فلسفة الأخلاق عندنا صار اسمها مدرسة التابع، أهمهم سبيفاك الذي كتب الآن كتابه (هل يستطيع التابع أن يتكلم؟) باع نصف مليون نسخة، الكتاب هذا، فهذا التابع يعنى إدانة الغرب والدعوة إلى إزالته بالقوة، إلى هذا الحد، طبعاً إدوارد سعيد اضطر في التسعينيات أن يقول والله أنا لا أكره الغرب ولا أريد إزالته، أنا كل ما في الأمر، أردت أن أقول إن هؤلاء المستشرقين خانوا المبادئ الليبرالية للتنوير في طريقة قراءته تلامذة إدوارد سعيد، وتلاميذه وتلميذاته يقولون ما التنوير؟ هو المصيبة، هم وجماعة التابع، جامعة، مدرسة التابع، المدرسة تتسع كل يوم، ولسوء الحظ دخلها أوروبيون ودخلها أمريكان أو جماعة عالم ما بعد الأمريكا، وهذا إيمانيويل تود الفرنسي، اللي كل يوم بيكتب، آخر كتاب من شهرَين عن انهيار الغرب، كلهم دول فروع من هذه المدرسة التي تدين الغرب، نوع من إدانة الذات أو تدَّعي أنها مدرسة دراسية بحتة في الاقتصاد، وتقول بالتالي بانهيار الغرب، يعنى إنه خلاص انتهت حضارته وانتهت سيطرته وما ذلك، فأنا قلت لإدوارد سعيد اشتغل على الثقافة، إذا كان ولا بد.. قلت له سيستم الحياة، نظام لباسنا، نظام أكلنا، نظام تفكيرنا، نظام عيشنا.. كله غربي، وكله مصنوع، وكله ثلاث أرباعه سيئ ولا يلائمنا، أما الاستشراق شو يعني أنت تظن أنك بقلب الظلام لكولن رأيت.. أنا أظن أنك فهمت، فهمت إنجلترا جيداً من هذا؛ لأن الأدب الروائي أعظم بكثير في التأثير من داخل الحضارة، وعلى الحضارة، يبدعون هؤلاء".
الفنانون المبدعون مؤثرون أكثر من المستشرقين
واستكمل د.رضوان السيد: "الفنانون المبدعون مؤثرون أكثر من المستشرقين، قلت له أنا باعرف فان إيس، قال إيه؟ قلت له فان إيس وبعدين ألِّف عشرين كتاباً، قلت له ألّف حتى الآن 46 كتاباً، قال لي ما خرج منها بالإنجليزي إلا كتاب واحد صغير، قلت له إيه يعني ما ألفش عشرين قبل وفاته، مات 2021، قلت له مَن يحس به، هذا أهم مستشرق ألماني في القرن العشرين، منهم مَن يقول، هو مَن يقول هيلموت ريته.. بس إنه من حيث الإنتاج هو الأكثر إنتاجاً، فماذا أقول لا أريد التقليل من أهمية الاستشراق؟ أقول إن من حق حضارة العرب ومن حق العرب والمسلمين، ونحن في ذروة التوتر في العلاقة بالحضارة الغربية، ومستمر هذا التوتر، مئتا عام، من حقنا أن نقوم بكشف حساب وأن نختار الزاوية، أختار هذه الزاوية التي يعتبرها الأضعف؛ لأن إدوارد سعيد يمكنه أن ينال منها بشدة، لأنه بالنهاية عربي وعنده مشكلة، هو فلسطيني، فلأ أنا لا أنكر عليه أن يفعل، بس أنكر عليه أن يعتبر الاستشراق ممثلاً للغرب، هو جزء صغير، فأنا إذ كان يقول والله لو أنا كنت أدرس لاهوت في الأربعينيات، مطلع الخمسينيات، والله لو كانت المدرسة التي كنت فيها، هو كاثوليكي، لو كانت جيدة، ولم أكره الأساتذة، لما رُحت، صرت أدرس لغات شرقية، ورُحت صوب الإسلام، فحتى إذا درست اللاهوت الغربي، طبعاً اللاهوت ممثل، ممثل كبير، حتى الآن تستطيع أن تقول إن هذا الغرب من خلال هذا الفيلسوف الكاثوليكي أو الفيلسوف البروتستانتي، بس مش معنى ذلك أنه ليس من حقك، من حقك؛ خصوصاً إذا كنت عربياً أو مسلماً وسط هذا التوتر الكبير أن تعمل كشف حساب".
المستشرقون أثروا تأثيراً لاحقاً وساحقاً علينا
وأضاف عميد كلية الدراسات العليا والبحث العلمي بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، رداً على "طبعاً وأنت مجبر على أن تعمل كشف الحساب؛ لأنك بالنهاية ترى أن الاستشراق أعطى مجموعة من التمثلات التي تكرست وبنى طقماً من الصور النمطية التي طقت ": "هذا أمر آخر، ولمن يقول إنه ثبُت أنها تؤثر، لأقول لك مش صحيح، ما يُقال من أن آراء المستشرقين وما قاله إدوارد سعيد أثَّرت في الساسة الغربيين والاستراتيجيين الغربيين الذين أثرت فيهم.. طبعاً تأثير بسيط؛ المثقفون من بينهم تشرشل مثلاً.. بس أكثر الساسة الغربيين ليسوا مثقفين، إنما المستشرقون أثروا تأثيراً لاحقاً وساحقاً علينا، على أجيالنا المختلفة، شاؤوا أم أبوا، إما لجهة الاستيعاب والتكرار دون ادعاء عدم العودة إلى المستشرقين، وإما بالعودة إلى المستشرقين وتخليك أو تصير أطروحات.. في كل الأحوال شغلونا أكثر من مئة عام".
إشكالية استسهال قراءة دراسات المستشرقين مترجمة للعربية
واستطرد د.رضوان السيد رداً على "كل فكرنا العربي المعاصر تخلق في رحم الاستشراق": "تخلق في رحم الاستشراق.. ولكن الذين كانوا يعرفون اللغة الفرنسية أو الإنجليزية، يتقنون ويقرؤون فيها؛ استطاعوا أن يكتبوا دراسات نقدية مبكرة، مثل عبد الله العروي، ومثل أنور عبد الملك، أنا ترجمت مقالته (الاستشراق في أزمة 1963) مش أنا ترجمته 63، يعني هو أصدرها 63، وبعدين العروي جاء بدراساته حول جونبين فون. دول ناس عملوا تقابل وتفاعل مبكر، بينما أهم الشخصيات الذين هم مثقفون تسعين في المئة منهم قرؤوها؛ قرؤوا دراسات المستشرقين مترجمة للعربية، حتى الذين كانوا يتقنون اللغة استسهلوا فذهبوا للترجمة.. إيه هلا واحد نقدي جداً للاستشراق ولدراسات الإسلام، مثل هشام جعير، اقرأ كتبه الأخيرة؛ لا تميزه عن المستشرقين، لا تميزه عن القراءة النقدية الاستشراقية الجذرية أحياناً".
هشام جعير وتبنِّي أطروحات اللاهوتيين الألمان
وتابع الأكاديمي اللبناني: "كان نقدياً جداً؛ ولكن لو قرأت نقده، وهو أستاذي وزميلي، زعلت منه وانتقدته؛ لأنه في كتابه عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في الأجزاء الثلاثة، تبنَّى أطروحات اللاهوتيين الألمان مترجمة إلى الفرنسية، وأثبت ذلك بالصفحة، وكذا.. فزعل منِّي، وقال لي أنت أزهري متخلف.. وكذا.. ثم بعد ذلك تصالحنا، هذا مثقف عظيم، ليس في كتابه (أوروبا والإسلام) عادي في كتابه عن مدينة الكوفة.. عن مدينة الإسلام البديعة، وفي كتابه عن الفتنة، الله أكبر لا يحسن أحد كتابه، فبتلاقيه تأثر هنا أو هناك، فيعني هذه الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة نشأت في حضن هذا الاستشراق من هدي الاستشراق شديد الأهمية لنا لا قراءته قراءة نقدية، تقييم تجربته تقييماً نقدياً وليس فقط من حيث إنه يمثل أفكاراً أوروبية.. طبعاً يمثل بشكل من الأشكال أفكاراً أوروبية وغربية عن العرب والإسلام، والقدامى منهم متأثرون بقصة أن القرآن سرق من العهد القديم أو من العهد الجديد".
النهايات والتأويلات دائماً مختلفة في القرآن عما هو موجود في العهدَين القديم والجديد
وقال د.رضوان السيد رداً على "ولكن مسألة السرقة طبعاً نضعها بين قوسين": "سؤال، كلام فارغ، كلام فارغ ليه؟ لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، القرآن أنت تريد إنشاء نظام فلسفي جديد، إذا كنت تعتقد أن ما هو موجود في البيئة كاف وكامل، كيفك تنشئ نظاماً؟ أنت بدك تنتقل للنظام الموجود؛ لأنك تحس أنه غير كامل، غير صالح، ما عاد صالحاً للمرأة.. وهكذا هو القرآن القرآن، رغم اعتقاده بالدين الواحد لإبراهيم، وأن المسيحيين واليهود هم الأقرب في عصر النبي، صلى الله عليه وسلم، وفي القرن السابع للديانة الإبراهيمية؛ لكن عندهم انحرافات، فأنت تنقد هذا النظام من خلال قصص الأنبياء، تورد قصة النبي وتؤولها تأويلك الخاص؛ لأنك لم تنشئ نظاماً جديداً، لم تنشئ نظاماً دينياً جديداً، فأنا لا أنكر ولا أستنكر ولا أستغرب؛ لأنه مصدقاً لما بين يديه، وهو يقول لنا مصدق لما بين يديه، لا أستغرب أن يقتبس قصصاً، ولكنه يؤولها تأويلاً مختلفاً؛ حتى قصة يوسف في كل شيء، فلذلك هؤلاء سذج؛ لأنهم مبشرون قليلو العقل، إنه أخذ قصة كذا في واحد اسمه سعيد رينوندس، شُفته مرة في المغرب، لا أعرف شو أصوله، هل هو كان مسلماً ويتمسح، هو كاثوليكي يعني، مع اتجاه تبشيري، قعد كتب طوال عشرين سنة كتباً في قصة إنه النبي، صلى الله عليه وسلم، أخد مؤلف القرآن، أخد القصص من العهد القديم والعهد الجديد، فيه ناس من زملائه قالوا له طيب ما كررت نفسك عشر مرات، بس دائماً النهايات والتأويلات مختلفة في القرآن عما هو موجود في العهدَين، حتى مثل إنه لا يدخل في ملكوت الله إلا كما يدخل الإبرة في سن الخياط.. فرجع قال كتب كتاباً جديداً عن القرآن..".
لماذا أخذ أساتذتنا كثيراً من المستشرقين؟
وأضاف الأكاديمي اللبناني، رداً على "جمل، جمل في سن الخياطة، أنا آسف": "إيه جمل، هذا الجمل في القرآن إيه صار يقول نهايات القصص التي يأولها محمد تأويلاً مختلفاً، يتعمد ذلك، لينسي الناس أنه سرق القصة من الأوَّلين.. كلام فارغ يعني، فأنا لا أقول إن كل بحوثهم الناقدة الآن للقرآن، سأعود لهذا التيار أو الراديكالية في النقد للقرآن، لا أقول إن كلها سخيفة، بعضها ينبغي قراءته والنظر فيه؛ خصوصاً لما يتأمل مخطوطة قرآنية قديمة مكتوبة على البرديات، وماذا يعني نوع الخط، وما شابه، لكن الذي أقوله إنه حتى المستشرقين، لماذا جامعاتنا وأساتذتنا أخذوا كثيراً من المستشرقين؟ لأنه بالفعل كانوا يجرون بحوثاً كلاسيكية دقيقة أحياناً، وتستطيع أن تتجاهل ميولهم؛ ولكنهم عندما يدرسون واقعاً مثل المدارس التاريخية التي قرأت واقعة انقسام المسلمين في الحرب الأهلية الأولى، تلاقوا ثلاث أربع مدارس، المكتوبة بعد مئة سنة من ذلك، يعني الإخباريين الذين نقلوا وسجلوا وكتبوا كتباً عن واقعة الصفين أو عن مقتل علي أو عن مقتل عثمان.. هذه كلها موجودة في تاريخ الطبري، ولكن لم ننتبه إليها.. علماؤنا الكبار جاؤوا يدرسون، وجاء نيلدوكه، مش نيلدوكه، فليهاوزن، ودرسوا هذه المدرسة، أبي مخلف، وهذه مدرسة سيف بن عمر، وهذه مدرسة.. ففي كثير من الأحيان يساعدوننا في فهم مصادرنا التاريخية".
برنارد لويس: الاستعمار الأمريكي أسوأ أنواع الاستعمار
وتابع عميد كلية الدراسات العليا والبحث العلمي بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية: "وبعدين ما لم يهتم به المسلمون إلا مؤخراً، كتبوا مئات الدراسات في الفقه، أصول الفقه، مع أنها كانت أقل من الدراسات في التاريخ وفي التصوف وفي الفلسفة.. الآن نتبين أننا بحاجة إليها في وعد اللي هو بول شارناي، كاتب كتاب اسمه (روح الشريعة الإسلامية) من أدق الكتب في فهم الفقه والأصول، وعلاقتهما بالنظام الفقهي الذي قام، فلذلك نعم هناك جوانب إيجابية، مش إيجابية كمان، هذا كلام ساذج، هناك جوانب موضوعية تستطيع أن تتأملها، أنا عَم أقول جاذبية الاستشراق ما سببها عند الغربيين؟ ما عندهم هذه الجاذبية اللي عندنا نحن، أو جوست كونت عنده هذه الجاذبية، وليس هاملتون جيب، هلا بييجوا يقولون الآن كثيراً إنه برنارد لويس سبب غزو العراق، ثمة مبالغة، شو برنارد لويس؟ بمَن أثر برنارد لويس؟ أنا سألته، لبرنارد لويس، قال أسوأ أنواع الاستعمار هو الاستعمار الأمريكي، قُلنا له كيف؟ قال لأنه هوّدِّي مستعمرين محترفين، الفرنساوية والبريطانيين، وحتى الطليان، إلى حد ما الأمريكان مش مستعمرين.. هو يدعي ذلك، أنه غير مستعمر، إنه جاي لبناء الدول بحرية وديمقراطية، كل ما في الأمر ولا مرة غزا الأمريكان مكاناً إلا وأفسدوه وانسحبوا منه مهزومين، مع أنهم أتوا بنوايا طيبة..".
وأجاب د.رضوان السيد عن سؤال "هل هذا كلام برنارد لويس؟"، قائلاً: "نعم"، معلقاً على "لكنه لم يكتبه قط؟"، قائلاً: "لأ قُلت له يعني من النتيجة مثلاً نفهم أنك قُلت لبوش، قال لي أنا كان شو ممكن أقول له إلا أنه إيه لا بأس بغزو العراق".
وأضاف الأكاديمي اللبناني: "بلكي بلكي بتكون مساحة العراق هي ضخمة، وممكن تهدد إسرائيل، وبعدين بتظل تثير الحروب في المنطقة وكذا، ينبغي يعني إزالتها إذا أمكن، قُلت له أنت يعني لم تصدق في تبشيره بالديمقراطية في العراق، قال لي لأ، ولم أقل له إنكم ستبنون ديمقراطية، وقال لي الآن هذا الكلام 2007- 2008، قال لي الآن فيه حرب أهلية بالعراق والأمريكان موجودون".
وقف التعاون بين المستشرقين والدولة الألمانية
وأجاب د.رضوان السيد عن سؤال "كيف أسهمت هزيمة ألمانيا وحلفائها الأتراك خلال الحرب العالمية الأولى في وقف التعاون ما بين فئة المستشرقين والدولة الألمانية؟"، قائلاً: "الفترة كانت قاسية وكان التحالف تحالفاً عسكرياً وتحالفاً عمرانياً؛ يعني هم عملوا سكة حديد بين إسطنبول وبغداد ومكة، مش مكة- المدينة، وما استخدموا من المستشرقين إلا في أتاي الذين كانوا خبراء باللغات العربية والتركية للعلاقات بين الدولتَين والمؤسسات في الدولتَين.. والآخرون المستشارون أو الخبراء الذين يكتبون الدراسات عن تطور العلاقات تظل أكثرها سرية، لكن صار فيه مجلات يعملون للعلاقة، تظهر بعضها في تلك المجلات التي نستطيع من خلالها متابعة هذه العلاقة ومدى إسهام المستشرقين فيها، صاحب كتاب (المستشرقون الألمان في زمن الإمبراطورية والاستشراق في زمن الإمبراطورية)، الذي ترجمته في جزأين في الهيئة المصرية العامة للكتاب، وساعدني أستاذان؛ واحد مغربي وواحد لبناني، لأنه كتاب كبير، ودرست خمس ست سنوات في ترجمته، أنا لا أحسن العمل في فرق عمل في الترجمة أو حتى تأليف مشروع؛ بمعنى أنني ليس انتقاصاً من قدر الزملاء؛ ولكني أعود إلى المراجعة وأجد أنه لا بد أن أشتغل كثيراً حتى يرجع المشروع ينتظم، سوزان هذه تقول إنهم أسهموا إسهامات بائسة وسيئة؛ مع أنها يبدو هي أصلها ألماني- يهودي؛ ولكنها الآن طبعاً أمريكية. أنا وجهة نظري بالعكس يعني لم يسيئوا إلى اليهود كما تزعم؛ لأنه كانوا عند السلطان عبد الحميد، من أنصار السماح لليهود بالاستيطان في فلسطين، وعندما كان الموظفون العثمانيون يسيئون أو يمتنعون عن بيع أراضيهم، كانوا يتوسطون من أجل ذلك.. فالموظفون الإمبراطوريون منتشرون في المؤسسات العثمانية في تركيا".
حينما تسيء الدولة الاختيار
وأضاف الأكاديمي اللبناني: "الألمان مع ذلك وجدت أنهم في ذلك الوقت كانوا يستغلون عمل متحفين في برلين للحضارة العثمانية، يجيبوا حاجات بالشراء أو بالاستهداء؛ ليعملوا، وتشكو المؤلفة من أنه مش كلهم كانوا خبراء، أحياناً الدولة أساءت الاختيار، فجاءت بأناس ما كان يعني يمكن أن يسهموا إسهاماً حقيقياً في العلاقة؛ سواء الحضارية أو حتى المدنية في إنشاء المؤسسات وتطوير الاقتصاد، ما كانش فيه ناس أكفاء إلا العسكريين الجنرالات اللي كان عَم بيعيدوا تدوير الجيش العثماني، المهم العلاقة بشكل عام ثمانون في المئة منها تمت عن غير طريق المستشرقين، والمستشرقون شاركوا بأسلوبَين؛ أسلوب غير مهم اللي هوّ الترجمة والنقل، والأمر الثاني هو الدعاية للمؤسسات المدنية والدعاية للدولة العثمانية، ولأنها ولية أمر الجهاد، تصور أنه يكتب مستشرق ألماني هاردتمان أو الآخر اللي صار وزيراً في جمهورية فيمار، يكتب دراسة عن حق السلطان العثماني في الجهاد، في إعلان الجهاد، إيه.. هذه أسوأ ما شاركوا فيه في نظر الذين يقيمون تلك الفترة، رد عليه سنوكر كرونيه، فلان الفلاني داعية الحرب (إيه؛ لأنه هولندي، كرونيه، وهولندا كانت في الطرف الآخر) في الطرف الآخر؛ إذن لاحظ معي أن الاعتبار السياسي كان وراداً مئة في المئة، كان وارداً بقوة، مش بس في الإعلام والإعلان وفي الجهد الحضاري، إنه بسبب بشاشة العثمانيين معهم كانوا يأتون بأمور كثيرة ينشئون على أساسها متاحف أو مؤسسات وهم في الإعلام وفي دراسات الإسلام المعاصر في ذلك الوقت عملوا مجلة للدعاية لتركيا في الحرب بالألمانية وعملوا معسكرات للجنود العثمانيين، وكانوا بيجيبوا لهم مشايخ، للجنود العثمانيين، بالمئات، اللي كانوا بيدربوهم بالآلاف.. كنت أنا أدرس في توبينجن، على طريق توبينجن، بين شتوت دو كرت وتوبينجن، فيه تركيِّين، يعني منازل الأتراك، فسألت فقالوا لي دول كانوا في الحرب العالمية يجيبوهم للتدريب، وعندهم أئمة ويتعلمون بالعربية والألمانية والتركية".
وتابع عميد كلية الدراسات العليا والبحث العلمي بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية: "ففي كل هذا شاركوا فيه المستشرقين، مش هم يضعون الخطاب طبعاً بالمعنى الصغير لذلك الخطاب، وهم يعملون في الإعلام ويردون على المفكرين الفرنسيين والبريطانيين والهولنديين، ولا يأبهون بأنه يعيروهم التانيين إنكم كنتم من جماعة فرنسا ومن جماعة إنجلترا ومن جماعة الاستعمار الحضاري من ثلاث أربع سنين.. الآن، ماذا تفعلون؟ وأين أنتم؟ وما شاء هذه فترة قصيرة.. ولكنها مهمة ودالة ومليئة بالتفاصيل؛ دالة على أمرَين، على أن الدول عندما تريد أن تشغل العلم أو تشغل، تستطيع فوراً رغم ادعاء المستشرقين الألمان والعلماء الألمان، ماكس فيبر مثلاً، قال إنهم مستقلون وديمقراطيون وقاعدون في مؤسساتهم ولا يتعاطون، مش صح تستطيع الدول أن تأتي به ..".
وأضاف د.رضوان السيد: "والأمر الثاني وهذا مشترك بينهم جميعاً؛ كلهم عندهم إحساسات وطنية وقومية، وعندما يرون أن هذا لصالح ألمانيا فمستعد أن يكذب وأن يبالغ.. وكذا"، معقباً على "وأن يبشر بالجهاد ؟": "ويبشرون بالجهاد لأ، ويدافعون عن سلطة، وعن صلاحية السلطان العثماني لإعلان الجهاد.. ترجموها إلى كل اللغات؛ لإعلان السلطان، إلى درجة أنه فيه واحد قال إنه يمكن هارتمان هو اللي كتب الإعلان للسلطان، مش صحيح؛ المسلمون كانوا، يعني العثمانيين والعلماء بشكل عام، كانوا متدربين على ذلك".
تعاون المستشرقين الفرنسيين مع نابليون والألمان مع الإمبراطور الألماني
وتابع الأكاديمي اللبناني، رداً على "فترة فلهيلم مثلاً لا تختلف كثيراً عن فترة نابليون، وتعاون المستشرقين الفرنسيين مع نابليون نرى له نظيراً في تعاون المستشرقين الألمان مع الإمبراطور الألماني؛ ولو أن الفترة كانت قصيرة، ولو أنه يعني بعد الحرب كل شيء انتهى؛ إنما أريد أن أذهب إلى ما بعد الحرب وما بعد الهزيمة في الحرب وصعود النازية": "أذكركم بمثال عن كيف تضع آلات في الحرب وبعدها، وانتهت علاقة الاستشراق الألماني بسياسات الدولة، إلا في ناحية واحدة، رُحت على توبينجن، فكان الأستاذ فان إس جوزيف.. فان إس جاء بعد رودي بارت الذي تأثرت به وترجمت له كتاب (محمد بالقرآن)، وهو قام بترجمة القرآن إلى الألمانية,, رجل طيب بيتياسيت، طويل ورفيع، وكان عجوزاً، صار ثمانين، فصرنا أصحاباً، وكنت أنا أحب أن أحكي معه؛ لأنه بيحكي بلغة العلماء، وأنا كنت عَم أتعلم ألماني جديد؛ فحكي لي قصة، قال لي أنا أخذوني لأني أعرف العربية جيداً، ما عرفوا أن عربيَّتي كلاسيكية، أخذوني في الحرب لأترجم للمارشال رومل في الصحراء الغربية، بس رومل يحتاج إلى التفاوض مع مَن؟ مع شيوخ القبائل اللي بيتكلموا بعامية لا أفهمها، وأنا لا أحد يفهمني؛ فأنا لم أفده، يعني أدرك بعد الجلسة الأولى قال لي أنت بتعرف رودي، أنت ما تعرفش حاجة، قال له والله باعرف عربي بس، هذه العربية غير هذه العربية، المهم وجدوا خبراء غيرنا طليان إيه؛ لأنه بتعرف الألمان، والطليان كانوا متحالفين، هذا أسر، حرام، لما جاء المارشال مونتجمري وسحبوا الألمان رومل، وانتصر مونتجمري عليهم في العلمين، أسر.. بتعرف بعتوني فين، لتيريني دات، أسيراً إيه بقي خمس ست سنوات، كتب عدة دراسات، القرآن والتاريخ.. كذا بخطه، أثناء أسره، فالمهم أنه اقتصرت مهمتهم حتى طبعاً استغلوا قصة الحسيني مفتي القدس، اللي كان عنده مشكلة فلسطين، وإنه راح على برلين وقابل هتلر، وإنه صار يعمل دعاية، وجابوا واحد اسمه يونس البحري، صار يذيع عن عظمة الألمان وسوء الغربيين إيه، فصارت مهزلة، قصة استخدام الاستشراق؛ سواء الألماني أو معرفة اللغة الألمانية من جانب العرب بعد الحرب العالمية الثانية، انتهي تماماً؛ إلا أنه لم تعد الدولة تحتاج إلى المستشرقين، وقالت لهم عودوا إلى تخصصاتكم الكلاسيكية، إلا في ناحية واحدة، ما هي مسألة إسرائيل".
النازية وتراجع الدولة عن احتضان الاستشراق
وقال د.رضوان السيد رداً على "مسألة إسرائيل؛ ولكن قبل أن نصل إلى إسرائيل والدولة، لأ نحن لا يمكن أن نقفز على النازية؛ لأن للنازية دوراً كبيراً وأساسياً في هذا التراجع التام عن احتضان الدولة الاستشراق؛ لأن النازية بالنهاية تحتقر كل ثقافات الشعوب، يعني ما عندها، والحقيقة أن مجموعة من المستشرقين الألمان الكبار الذين قالوا لهم عودوا إلى تخصصاتكم، وأنا أتحدث تحت رقبتك دكتور رضوان، كما يقولون، بأنهم سعدوا سعادة كبيرة بإهمال الدولة لهم ": "صح، وأنا كتبت هذا الكلام.. كتبت هذا الكلام؛ لأني نتيجة أحاديث معهم كان يقول لي فان إس، أستاذي، عرفني على شتيبات، عرفني على شبولر، عرفني على... فأروح وأعمل معهم مثل مقابلات لما قبل الحرب وما بعد الحرب، وكانوا كلهم كباراً في السن وقاربوا على التقاعد أو تقاعدوا، وكان بعضهم يأتون أيضاً إلى بيروت عند المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت، مركز بحث محترم، وكنا لذلك، أنا مثلاً هذا الكتاب الذي كتبته للمستشرقين، هو في ذكرى رودي بارت؛ لأنه انزعج، رودي بارت، انزعاجاً شديداً من كلام محمد الباهي، أستاذنا في الأزهر".
ماذا قال محمد الباهي؟
وأضاف الأكاديمي اللبناني: "محمد الباهي كتب في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) وعمل ملحق اسمه (المبشرون والمستشرقون وعداؤهم للإسلام 1957- 59- 64، طبع عدة طبعات.. مئات المستشرقين يكتبون ثلاثة أسطر؛ هاملتون جيب، مستشرق تافه، شغلته العداء للإسلام، عمل كذا من مؤلفاته، كذا، فرودي بيرت قال هذا كل الاستشراق، معقول رودي بارت وشتيبرت دول اللي كتبت في ذكراهم كتاب (المستشرقون الألمان)، شتيبرت كان صديق جمال عبد الناصر، كان ملحقاً ثقافياً في القاهرة في الستينيات، هذا هو الاستشراق.. أنا قُلت لجورج شحاتة قنواتي اللي هو رئيس معهد الدومينكان بالقاهرة، كمان كان عبد الناصر يود أنه لازم نكتب كتاباً ضد محمد البهي، قال له لأ، المسلمون سيأخذون برأي محمد الباهي، دعنا ننسى هذا الكتاب أحسن ما نذكر الناس به، فكتب أبي، فكتب كتاباً اسمه (الإسلام شريكاً)، هذا شتيبات، شارك فيه رودي بارت، في ذكراهما، وهما شخصان طيبان ممتازان، وهم ذكروا هذه الأشياء، كم سروا عندما تركتهم الدولة الألمانية.. إيه؛ بينما فيه ناس مثل شبولر ورومر، ظل في نفسيهما أنهما وطنيان وقوميان.. ألمان، وتأثروا كثيراً جداً بقصة هتلر وقصة المذابح ضد اليهود، فكانوا يأخذون على العرب عندما نقابلهم أنهم لا يفهمون أن الألمان متحفظون في قصة إسرائيل؛ أي أنهم لا يريدون إدانة إسرائيل، إيه.. على استعمارها فلسطين هلّا، بينما فيه ناس مثل فان إس، قال أنا لا أزور إسرائيل منذ غزت بيروت 1982، بطَّل يتعاون مع المستشرقين الإسرائيليين مثل شتيفان فل، كتب تقريراً شاركت فيه لجنة دولية وكتب تقريراً في إدانة إسرائيل وإدانة إقامة دولة على أرض فلسطين، بس الأكثرية إما صمتوا وإما عبروا لنا عن انزعاجهم من أننا لا نفهمهم؛ بسبب إعراضهم عن إدانة السياسات الإسرائيلية".
النازيون.. الألمان وضرورة الخروج من الكلاسيكية الاستشراقية
واستكمل د.رضوان السيد، رداً على "هناك تحولات حتى بعد الحرب العالمية الثانية، تحس أن الألمان يعني صاروا يريدون الانخراط في الأفق الغربي الأوروبي العام، وبالتالي ماذا يعملون بالعالم العربي الإسلامي، صعب عليهم بهذا المعنى، فحصل تحول عميق مسَّ الاستشراق الألماني في جوهره المعرفي": "صار عندهم أولوية باعتبارهم أوروبيين، ولأنهم أوروبيون صحيح أنهم يتبعون هذه القيم ويتمسكون بها أكثر من الغربيين الآخرين، لأنهم خانوها مع النازيين، ومن جهة ثانية أحسوا بضرورة الخروج من الكلاسيكية الاستشراقية؛ بمعنى أن هناك قيماً تحكم التاريخ كما تحكم الحاضر ولا تنسى، هكذا قال لي جرينوت أوتر رحمه الله، توفي، كان مساعد فان إس، ثم صار أستاذاً في جامعة هامبورج، ومات، وكان أيضاً مدير المعهد الألماني في بيروت، قال لي لا تنسَ أن التاريخ خيارات، واختيارات الحاضر والمستقبل إمكانات وأفعال التاريخ تستطيع أن تفسره كما تريد؛ فلذلك مش صحيح أنه بتقول لي أنا لا أحكم على الغزوات العربية للعالم، لأنه وقتها كان الزمان زمان.. كذا، باقدر أدينها وباقدر أرحب بها إذا كنت من أنصار الإمبراطورية.. إيه؛ إنما لست بالخيار عندما أكون معاصراً، لماذا؟ لأنه في غيري بده يرد عليهم مش هتظبط، بينما قصة تفسيري للتاريخ هذا أمر آخر، بمعنى أن الاستشراق الألماني حس بضرورة تماهيه وتقاربه مع الاستشراقات الأخرى، حتى في قراءة القرآن، حتى في قراءة القرآن آخر كتاب كلاسيكي في قراءة القرآن هو كتاب اسمه رودي بارت، بعد ذلك كثيرون منهم دخلوا مع مَن يسمون المراجعين الجدد الذين ينكرون القرآن وينكرون النبوة ويعملون عمايل؛ بهذا المعنى الاستشراق بشكل عام والاستشراق الألماني بشكل خاص، انتهت خصوصيته في الخمسينيات.
إنهم انتقلوا إلى مرحلة جديدة بتحب تسميها استشراقاً سمِّها؛ بس هم من بعد كتاب إدوارد سعيد ما عادوا يحبون يسمونها استشراقاً؛ سواء الدراسات الإسلامية، الدراسات العربية.. هكذا، وأهم مشكلاتها أنهم يقولون لماذا ندرس الإسلام على حدي هذه عنصرية، كأنه ليس ديناً محترماً، ليه ماندخلوش في كليات اللاهوت التي فيها كراس بروتستانت وكاثوليك ويهود ويهود إصلاحيون ويهود أرثوذكس، وفيها كورس للدراسات الإسلامية".
إشكالية الوفاء للتقاليد الكلاسيكية
وأضاف عميد كلية الدراسات العليا والبحث العلمي بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية: "إيه، درسته وسط هذه المتغيرات، ومع ذلك هم مراجعون جدد، كانوا يعتبرون أن فان إس كلاسيكي خائن؛ يعني لأنه لا يزال أميناً للتقاليد الاستشراقية، هو مادلونج، وهذا الفرنسي العظيم صاحب كتاب الأشعريزم، ترجمت له بعض مقالات أنا جي ماريه، صار الآن يا حرام أعمي وأصم، ما عاد يكتب هذا الجيل، ظل وفياً للتقاليد الكلاسيكية، وهم قلة الفرنسيين الذين اشتغلوا كما يشتغل الألمان منهم هذا الجي ماريه، منهم شارت بيلا.. منهم حتى ماسليون، متعدد، يشتغل كأنه عدة شخصيات، ترك مذهباً دينياً للجمع بين الإسلام والمسيحية، شو اسمه القبلية.. هو حتى كان يبحث عن المسيح في شخص الحلاج؛ فلذلك منذ الخمسينيات وإن كنا لم ننتبه لها إلا حتى السبعيبنيات، يعني لما ظهر كتاب إدوارد سعيد وظهر الهجاريزم والإسلام كستديس أو كوران إستديز لوانس برو؛ بدأنا ننتبه إلى أن هناك ظاهرة جديدة علينا؛ أن نختار لها اسماً، وهم أيضاً، وهم صاروا ينزعجون ليس لكتاب إدوارد سعيد بل بشكل عام إنه هم ليسوا مستشرقين؛ بمعنى أنهم ليسوا غرباء، هم دارسون مثل الدارسين الذين يدرسون اقتصاديات البترول.. هكذا قال لي هاينز هالمان، بيشتغل على الإسماعيلية، قال لي أنا اعتبرني يا أخي باحثاً في البترول؛ سواء أكان البترول يابانياً أم كان عربياً، فحل عني بهذا اللقب الاستشراق".
مرحلة جديدة في علاقات الشرق بالغرب
واختتم د.رضوان السيد، رداً على "صحيح، حتى ماكسن رودينسون قالها، حينما قال ليس هناك علماء صينيات ولا علماء مصريات، هناك علماء يشتغلون في علوم محددة": "محددة.. أنا أريد أن أعلق تعليقاً أخيرًا؛ فيلسوف لا أذكر الآن اسمه، قال الناس يظنون أننا نحن الفلاسفة عندما نتنكر للدين تنتهي المشكلات، بمعنى أنه ذهبت الأوهام والأساطير، ونلجأ إلى العلم، عندما نتنكر للدين أو الأديان تدخل علينا عشرات الأمور الأخرى التي تسمى نفسها أدياناً، نتنكر للدين الكلاسيكي، فتدخل أديان جديدة كثيرة جداً تزيد من الشرذمة ومن الفوضى، فالعلوم الاجتماعية وعلوم نقد النص وظروف العصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية أنهت هذا التخصص العميق لمدة مئتي عام أو مئة وخمسين عاماً كان يُسمى الاستشراق؛ لكن المجال لن يفرط فيه، ناس لا يزالون يزعمون أنهم أوفياء له؛ ولكن الأكثرية دخلت في ميول مختلفة وفي مذاهب مختلفة وفي تيارات شتى، ولذلك حتى كتبي التي منها عددان من مجلة الاستشراق 1982، مجلة (الفكر العربي) التي خصصتها للاستشراق، ومجلة (الاجتهاد) كمان بالتسعينيات، و(المستشرقون الألمان)، وترجماتي (رؤى الغربية للإسلام)، كلها دراسة لمرحلة ماضية استشرفت بعض الأمور نتيجة هذا الدرس المعمق والترجمات بالنسبة إلى المستقبل القريب؛ لكنها قد تصح وقد لا تصح، نحن في مرحلة جديدة وفي مخاض كبير في علاقات الشرق بالغرب وفي الدراسات المتعلقة بهذين المجالَين اللذين صارا مجالاً واحداً".