مقدمة
عدنان: هناك
شخصية أخرى يهمني التوقف معها، كريستيان سنوك هورخرونيه، الذي اعترف له الكثيرون
بالنبوغ. ولكن في نفس الوقت، هناك مواقف تسجل على أدواره خلال فترة الاستعمار
الهولندي، حتى أنه اتهم مباشرة بالجاسوسية.
ديزيريه:
شخصية سنوك هورخورنيه من أشهر المستشرقين الهولنديين، ومن أكثر المستشرقين الذين
دار حولهم الجدال. ليس فقط بسبب دوره كمستشرق ساهم في تطوير السياسة الاستعمارية
في إندونيسيا، ولكن أيضًا بسبب رحلته إلى الحج. هذه الرحلة التي اتُهم فيها
بالجاسوسية. ولكن أعتقد أن كلمة "جاسوس" قد تكون قوية عليه، لأنه كان
باحثًا أنثروبولوجيًا أكثر من أي شيء آخر.
عدنان: في
النهاية، حينما عاد سنوك من الحج، كتب تقارير وأبلغ الإدارة الهولندية بأن حاولوا أن
تضايقوا الإندونيسيين لكيلا يذهبوا إلى الحج، ربما لإحساسه أنهم يشحنون دينيًا،
وهذا ضد –ربما- مصالح الإدارة الهولندية.
المدرسة الهولندية في الاستشراق
عدنان: أعزائي،
عزيزاتي، أهلاً وسهلاً ومرحبًا. تعتبر المدرسة الهولندية واحدة من أهم مدارس
الاستشراق الكلاسيكي التي لعبت دورًا رائدًا في مجال الدراسات العربية منذ القرن
السابع عشر، خصوصًا بعد إنشاء جامعة لايدن سنة 1575 ميلاديًا، وتأسيس كرسي اللغة
العربية بها سنة 1613، إضافة إلى إنشاء مطبعة عربية هناك بشكل مبكر سنة 1683. ومع
ذلك، فقد عانى الاستشراق الهولندي من الإهمال من طرف الباحثين العرب، والدراسات
التي كُتبت عنه باللغة العربية حتى الآن نادرة محدودة. لأجل ذلك، سنحاول اليوم
تسليط بعض الضوء على المدرسة الاستشراقية الهولندية. ولقد دعونا إلى هذا اللقاء
الباحثة والأكاديمية الهولندية ديزيريه كوسترز، خريجة الجامعة الكاثوليكية في
لوفان في تخصص الدراسات العربية الإسلامية، مديرة مؤسسة إيوانا للتفاهم الثقافي.
ديزيريه، أهلاً وسهلاً بك.
ديزيريه:
مرحبًا، شكرًا جزيلًا على الدعوة. أنا سعيدة جدًا لأنني هنا معكم.
عدنان: وأنا
أسعد. وأحب أن أبدأ معك بمفارقة، حضور اللغة العربية في هولندا لعله كان أسبق من
حضور الهولندية نفسها. توماس أربينيوس، وهو أول أستاذ للعربية في ليدن، كان قد
ألقى خطابًا افتتاحيًا عن تفوق اللغة العربية ومنزلتها الرفيعة يوم 14 مايو 1613،
أي قبل قرنين تقريبًا قبل أن تكون هناك لغة هولندية. فاللغة الهولندية لم تظهر إلا
مع نهاية القرن الثامن عشر. ما رأيك في هذه المفارقة؟
ديزيريه:
شكرًا مجددًا على الدعوة وأرحب بكل المستمعين والمستمعات. بالطبع، اللغة الهولندية
كانت موجودة في هولندا، لكنها لم تكن لغة أكاديمية أو لغة النخبة، لنقل. كانت
اللغة الهولندية منتشرة ولكنها لم تكن موحدة. وبالفعل، توماس أربينيوس شدد على
أهمية اللغة العربية. ولم يكن هو أول أستاذ للغة العربية في هولندا، لكنه كان أول
من تولى الكرسي مثلما تفضلت في سنة 1613. اللغة الهولندية أصبحت لغة موحدة في
هولندا في فترة الإصلاح البروتستانتي، وأيضًا عندما ارتبطت اللغة الهولندية
بالقومية الهولندية أو تطوير القومية الهولندية في إطار الحرب مع إسبانيا، حرب
استقلال هولندا. اعتبرت اللغة العربية مهمة بالنسبة لهدف لاهوتي، ربما سنتحدث أكثر
عنه في ما بعد، وأيضًا بسبب بداية العلاقات بين جمهورية هولندا ودول الشرق أو
الدول العربية.
أربينيوس
عدنان: الدول
العربية، يمكن أن نبدأ بالمغرب. حتى ونحن نتحدث عن أربينيوس، لا ننسى الحجري في
المقابل في المغرب، السفير المغربي.
ديزيريه:
تمام. يعني، من الممكن أيضًا أن يتساءل المرء كيف أن شخصية مثل أربينيوس، الذي عاش
في أواخر القرن السادس عشر، تعلم اللغة العربية أصلًا، فلم تكن هناك الكثير من
المواد لتعليم اللغة العربية. فأربينيوس على سبيل المثال، قبل أن يصبح أستاذًا
للغة العربية، سافر إلى عدة بلدان أوروبية، منها فرنسا، وهناك تعرف على شخصية
مغربية بصراحة، كان اسمه أحمد بن قاسم الحجري، وهو كان موريسكو (أي من المسلمين
الذين اعتنقوا المسيحية قسرًا في الأندلس). وكان هناك مبعوث من المغرب. فطوروا
صداقة، وبعد ذلك عندما رجع أربينيوس إلى هولندا وأصبح أستاذًا، تلقى رسالة من
الحجري أنه سيزور هولندا. بفضل هذه الصداقة، ظل الحجري ضيفًا عند أربينيوس في
هولندا طوال صيف عام 1613. وبالفعل، ساعد أربينيوس بتطوير المعجم الخاص به، وكان
هناك أيضًا جدال بينهما حول الدين ومواضيع مختلفة.
عدنان: وكان
هذا الجانب أيضًا الذي تفضلتِ بالإشارة إليه، هو أن هناك طبعًا قومية هولندية
مقابل الإسبان. الهولنديون كـ بروتستانت مقابل الكاثوليكية في إسبانيا. هل ربما
هذا ما قاد الهولنديين في لحظة ما باتجاه المغاربة، باعتبار أن إسبانيا كانت عدوًا
مشتركًا لهما معًا؟
ديزيريه: نعم،
لنبدأ من البداية. يمكننا أن نقول أن الاستشراق الهولندي بدأ في أواخر القرن
السادس عشر، وهذه كانت فترة عاشتها هولندا في حرب الاستقلال مع إسبانيا
الكاثوليكية، التي كانت مستعمرة لهولندا. فكانت هناك في حرب استقلال، وفي هذه
الحرب كان البُعد البروتستانتي مهمًا بالنسبة لما أصبحت فيما بعد جمهورية هولندا،
لأن ذلك كان شيئًا يميز هولندا عن إسبانيا الكاثوليكية. فطبعًا، كان أول
المستشرقين من اللاهوتيين، وتم النظر إلى الدين الإسلامي على أنه أفضل من
الكاثوليكيين، فكانت جمهورية هولندا اتبعت
سياسة "عدو عدوي صديقي"، بمعنى أن عدو إسبانيا كان المغرب والإمبراطورية
العثمانية، فطوروا علاقات معهم. وبالمناسبة، فإن فترة حرب الاستقلال التي ظلّت
ثمانين عامًا، كانت أيضًا تتزامن تقريبًا مع العصر الذهبي لجمهورية هولندا، حيث
طورت جمهورية هولندا الكثير من العلاقات مع الشرق. وكانت المغرب أول بلد عملت معه
معاهدة تجارية مع هولندا، في سنة 1609.
فرانسيسكوس رافلينيوس
عدنان: وأنتِ
تشيرين إلى العمق اللاهوتي ربما لهذا الحوار. أنا أفكر أيضًا أنه حتى بالنسبة للغة
العربية، بمعنى من المعاني، كان اللاهوتي دائمًا يتحكم. وهناك من يقول: إن ما حصل
مع اللغة العربية في هولندا لا يختلف كثيرًا عمّا حصل معها في ألمانيا. لم يتم
الاهتمام بها في البداية لذاتها، وإنما تمت دراستها بسبب معجميتها القوية ونحوها
الدقيق، وذلك من أجل توفير فهم أفضل للعهد القديم. لأن لغة العهد القديم كانت
منقرضة في تلك الفترة، فالعبرية التوراتية كانت تعتبر ضمن اللغات المنقرضة. وإلا،
هل كان من قبيل الصدفة أن أول أستاذ كرسي للعربية في جامعة لايدن كان هو نفسه فرانسيسكوس
رافلينغيوس، أستاذ كرسي العبرية بالجامعة؟
ديزيريه:
نعم.
عدنان: أنا
أخطأت في الاسم، أليس كذلك؟
ديزيريه:
تقريبًا، نعم. لأن اللاتينية كانت لغة أكاديمية في تلك الفترة. فله اسمان، "فان
رافلينين" الاسم الهولندي، و"رافلينيوس"، مثل "فان
إربين" و"إربينيوس". فـ"فان رافلينين" كان أول أستاذ
للغة العربية والعبرية، ولكنه لم يكن أول من تولى الكرسي للغة العربية. فهو كان
أول أستاذ، وبالفعل كان هناك علاقة وثيقة بين العبرية والعربية، كما تفضلتم. أن
اللغة العبرية كانت لغة ميتة، فما كان هناك معجم كافٍ لنستند عليه لفهم العهد
القديم أو الكتاب المقدس، فسموا اللغة العربية بنت اللغة العبرية.
عدنان: نعم،
هناك من سمى اللغة العربية أيضًا "خادمة اللاهوت".
ديزيريه:
خادمة اللاهوت، بسبب قربها من اللغة العبرية. فبالفعل كان الاهتمام باللغة العربية
في البداية اهتمامًا لاهوتيًا، لكي يستخدموها في زيادة الفهم بالكتاب المقدس.
وطبعًا، كان ذلك في إطار الإصلاح البروتستانتي، وهي حركة دعت إلى إعادة قراءة
النصوص. ولذلك كان هناك اهتمام جديد بقراءتها وأيضًا بفهمها.
ديزيريه:
عبر لغات سامية عمومًا، مثل العربية والآرامية والسريانية، هذه هي اللغات، وطبعًا
أيضًا في إطار الحركة الإنسانية "الهيومانزم" التي كان يوجد لها مركز في
لايدن في هولندا.
عدنان: تمامًا،
إذًا هناك هذا الجانب الإصلاحي البروتستانتي، وهناك أيضًا الجانب إذا شئنا أن نقول
"التنويري"، لأن رياح التنوير بدأت تهب على أوروبا حينها. وهنا لا
يمكنني إلا أن أذكر أدريان ريلاند، حتى رافلينيوس لا يجب أن ينسينا هذا الاسم. ما
هي الأدوار التي لعبها أدريان ريلاند في غمرة التحولات التي عرفها المنهج
الاستشراقي في سياق رياح التنوير التي بدأت تهب؟
ديزيريه:
التنوير هو أيضًا سياق حيث أصبح الاهتمام بالشرق أكثر، بينما كان في البداية
الاهتمام باللغة العربية من أجل أهداف لاهوتية، أصبح لاحقًا أيضًا لفهم الإسلام
وفهم العربية أكثر من أجل التجارة مع الشرق. فزادت الاهتمامات، وأيضًا بسبب
المخطوطات، المستشرقون الهولنديون لاحظوا أنه يوجد كثير من العلم في المخطوطات
العربية، فكان هناك اهتمام بالأدب والثقافة، وكافّة الأشياء. فأدريان ريلاند كان أحد أول المستشرقين المبكرين في
هولندا، عاش في أواخر القرن السابع عشر، وكان أستاذًا للغة العربية في أوتيركس. وكتب
أحد أهم الكتب التي أثرت على رؤية الهولنديين تجاه الإسلام. والعجيب أنه لم يسافر
ولا مرة، ولم يخرج من هولندا أبدًا، فكل ذلك كان بناءً على مصادر أولية. فصدر
الكتاب المهم هذا الذي اسمه: "في الأديان المحمدية" (Religiones
Muhammadicae)، والذي صدر
في عام 1705. وكان هذا الكتاب مهمًا لعدة أسباب: أولًا، دعا إلى الرجوع أو العودة
إلى مصادر أولية لفهم الدين الإسلامي، وثانيًا، أصر على أهمية تعليم اللغة العربية
لفهم الإسلام أو الدين الآخر في هذه الحالة.
وكتاب ريلانت هذا منقسم إلى جزءين: في الجزء الأول،
يعالج أو يترجم العقيدة الإسلامية إلى اللغة اللاتينية، وكتب ملاحظات تشرح للقارئ
الهولندي حول الدين الإسلامي. وفي الجزء الثاني، وصف ثمانية وثلاثين فكرة خاطئة
حول الإسلام منتشرة وقتها في هولندا، ووصف لماذا كان ذلك خطأ، بالطبع.
عدنان: هل
يمكن أن نقول بأن ذلك كان، بمعنى من المعاني، يسجل ضد الكاثوليك الإسبان؟
ديزيريه:
يمكن.
عدنان: لأن
أغلب تلك الأفكار نشأت في بيئة كاثوليكية، خصوصًا بعد طرد المسلمين من الأندلس.
ديزيريه:
وتم منع كتابه حتى من قبل البابا في روما، واتهم بالكلفينية التركية، وهذا هو
الشيء الذي كان الكاثوليك يقولون عنه، أن البروتستانت قريبون جدًا من الأتراك،
لدرجة أنهم كانوا يعملون دعاية لصالح العثمانيين في وقتها. ولكن أعتقد أنه فعلاً
حاول أن يكون موضوعيًا في بحثه.
التحول في أدوار اللغة العربية بالنسبة للهولنديين
عدنان: هذا
الاهتمام، كما قلنا، باللغة العربية. نحن نعرف أن المجتمع الهولندي بشكل عام حريص
على عدم إنفاق المال العام على ما لا ينفع. يعني، الهولنديون معروفون بهذه الخاصية،
وكانوا دائمًا حينما ينفقون على اللغة العربية يبررون إنفاقهم، في البداية بأن اللغة العربية "خادمة اللاهوت". ولكن فيما
بعد، كما تفضلت بالإشارة إلى هذه المعطيات كلها، كان هناك العلاقة مع العثمانيين،
ثم فيما بعد، حينما وصل الهولنديون إلى منطقة جنوب شرق آسيا المسلمة في أواخر القرن
السادس عشر، اكتشفوا أن اللغة العربية مفيدة في العلاقة مع هذا المجتمع، ما دام
مجتمعًا إسلاميًّا. أريد أن أسألك عن هذا التحول في أدوار اللغة العربية بالنسبة
للهولنديين، مجتمعًا ومستشرقين. كيف ترصدينه؟
ديزيريه:
جيد. شكرًا على السؤال. أعتقد أن الاستشراق في هولندا يختلف عن جيرانه، لأنه أولًا
لم يكن لديهم أي مستعمرات في البلدان العربية. هذا يختلف عن فرنسا، بالطبع. ولم
يكن لديهم أي رحلات تبشيرية في البلدان العربية. فدور اللغة كان مختلفًا عن
جيرانه. فكما ذكرنا في البداية، كان الاهتمام لأسباب لاهوتية، وفيما بعد للتجارة
وكسب العلم من المخطوطات العربية. وبالنسبة للفترة الاستعمارية، كانت اللغة
العربية مصدرًا أو وسيلة لفهم النصوص الإسلامية المكتوبة باللغة العربية التي كانت
تستخدم في إندونيسيا على سبيل المثال. فلم تكن اللغة وسيلة للتواصل مع الإندونيسيين،
بل كانت أكثر لفهم النصوص. وفيما بعد، بالطبع، بعد استقلال إندونيسيا، يمكننا
القول إن الاهتمام بتعليم اللغة العربية قد قل قليلاً. وفي الفترة الأخيرة، خصوصًا
بعد نقد إدوارد سعيد، صار التدريس يشمل اللهجات أكثر في الجامعات الهولندية من
الفصحى. الفصحى كانت مهمة للدراسات الفيلولوجية، ولكن بعد انتقاد إدوارد سعيد،
أصبحت الدراسة ليس كاستشراق، بل دراسة اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وأصبحوا
يدرسون أيضًا لهجات، لكن أعتقد حاليًا، هناك نوع من الإهمال لتدريس اللغة العربية
في جامعات لايدن. وقد كان هناك خبر قبل أسبوعين في الأخبار الهولندية أن جامعة
لايدن وجامعة أوترخت ربما تلغيان دراسات اللغة العربية بسبب، عدم وجود ميزانية
كافية لتشجيع هذا. ويمكننا أن نتساءل إذا كانت الجامعة هي أفضل مكان أيضًا لتعليم
اللغة العربية، لأن اللغة العربية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من المجتمع الهولندي
حاليًا. هناك جاليات عربية تتحدث العربية، وهناك أجيال ثانية وثالثة من المغاربة،
على سبيل المثال، تعلموا الهولندية، وكثير منهم مهتمون بتعليم اللغة العربية. ولكن
ليس الكل يذهب إلى الجامعة في هولندا، هناك جزء صغير من المجتمع الهولندي يذهب إلى
الجامعة. وبالتالي، تم أيضًا تدريس اللغة العربية في مدارس خارج إطار الجامعة،
وأعتقد أن هذا تطور مهمّ يمكن أن ننقاشه.
عدنان: تمامًا.
يعني لم تعد الجامعة هي الحضن الوحيد لتعليم اللغة، كما تفضلتي. هناك تحول من
الاهتمام الأولي باللغة العربية الفصحى في عمقها الفيلولوجي ومضامينها وما إليه،
إلى الانتباه للهجات، خصوصًا لهجات الجاليات التي استوطنت هولندا، ربما أفكر في
الجالية المغربية على سبيل المثال. ولكن، ألا تحسّين ديزيريه أنه بعد أحداث 11
سبتمبر، هذا الاهتمام باللغة العربية لم يعد اهتمامًا باللغة في ذاتها، وإنما عاد
ليرتبط من جديد بالإسلام؟ تم ربط العربية بالإسلام في إطار -ربما- الاهتمام
بالإسلام الراديكالي الذي بدأ ينتشر في أوروبا، وعبر العالم. فتم دمج الدراسات أو
الكراسي العربية مع الدراسات الإسلامية في أكثر من جامعة هولندية. ما رأيك في أن
الأمر يتعلق بمشروع "أسلمة" للمعرفة العربية في جامعات هولندا؟ وألا يعني
هذا أن اللغة العربية عادت من جديد لتلعب دورها القديم كـ"خادمة"
للاهوت؟
ديزيريه:
سؤال جيد. أعتقد أنه يمكننا أن نبدأ بأن نذكر أن دراسة الاستشراق في هولندا كانت
دائمًا تتبع تيارين: التيار الفيلولوجي الذي لا يزال موجودًا، والتيار التسييسيّ
أو المسيس للاستشراق. هذان التياران كانا موجودين جنبًا إلى جنب، وأعتقد أنه
يمكننا القول بذلك، وهناك أمثلة على ذلك. أما بالنسبة لما حدث بعد 11 سبتمبر، صحيح
أن دراسة اللغة العربية ارتبطت بمواضيع سياسية أكثر، وهذا كان حتى قبل 11 سبتمبر،
حيث كانت هناك انتقادات موجهة إلى الجاليات العربية في هولندا. على سبيل المثال، أهم
رجل سياسي ذكر هذا كان بن فورتين، بالطبع، هذا كان قبل 11 سبتمبر. وفيما بعد 11
سبتمبر، كان هناك حادثة قتل تيو فان خوخ، وهو رجل إعلامي، وقد أثر ذلك بشكل كبير
على المجتمع الهولندي وعلى النقاش حول إمكانية اندماج الجالية العربية أو الجالية
الإسلامية في هولندا. فبالطبع، بعد هذا الحادث، صار هناك نوع من تسييس الاستشراق
أو تسييس دراسة اللغة العربية والعلوم الإسلامية. بمعنى أن التركيز أصبح على
الإسلام الراديكالي في هولندا أو إمكانية الاندماج. كانت اللغة العربية ضرورية في
هذا السياق لأن المستشرقين رجعوا إلى قراءة النصوص الإسلامية والنظر إلى هذه
النصوص لتحديد مدى توافقها مع المجتمع الهولندي. وهذا كان أحد الأسئلة المطروحة في
تلك الفترة. ثانيًا، كانت اللغة العربية ضرورية للتواصل مع الجاليات في هولندا
التي تتحدث العربية. فكانت نوعًا ما "لغة خادمة"، ولكن لهدف آخر بالطبع.
تأثير ألف ليلة وليلة
عدنان: سنعود
الآن إلى النصوص الأساسية التي انتبه لها المستشرقين الأوائل، وشكلت مادة ملهمة، ليس
فقط للمستشرقين وقرائهم ومن يتابعون إنتاجاتهم، ولكن حتى للسياسيين. أفكر مثلًا في
الترجمة الفرنسية لأنطوان غالاند لألف ليلة وليلة، لا أدري أين قرأت أن الترجمة
الهولندية لعلها صدرت قبل ترجمة أنطوان غالاند، ولكن فيما نلاحظ بأن الترجمة
الفرنسية لألف ليلة وليلة كان لها تأثير كبير في فرنسا وعبر أوروبا كلها وعبر
العالم. بينما نحس بأن الترجمة الهولندية لم يكن لها نفس التأثير. هل لديك تفسير
لذلك؟
ديزيريه:
نعم، حول معلومة أن الترجمة الهولندية كانت قبل الفرنسية لم أجد هذه المعلومة. لكن
أول ترجمة أو أول جزء ترجم من قبل جالاند كان في 1704. وأعرف أنه في هولندا كانت
هناك نسخة فرنسية مقرصنة من هذا الكتاب، ظهرت بعد هذه الترجمة بسنة.
عدنان: ظهرت
بالفرنسية؟
ديزيريه: بالفرنسية
ولكن كنسخة مقرصنة. فكانت موجودة عند النخبة الهولندية، لأنه كما ذكرنا، اللغة
الهولندية لم تكن دارجة في وقتها. لكن الكل كان يقرأ، خصوصًا النخبة كانت تقرأ ألف
ليلة وليلة، لكن لم يتلقَ الكتاب نفس الحماس كما في فرنسا. كان له تأثير، ولكن ليس
نفس التأثير...
عدنان: هل
يمكن، مثلاً، أن نفسر عدم التأثير إلى ذلك الحد بمسألة العقلية؟ عقلية الهولندي التي
تختلف عن عقلية الفرنسي أو البريطاني مثلاً؟
ديزيريه:
نعم، هناك تفسير بأن العقلية الكالفينية الهولندية كانت أقل ميلاً إلى حكايات الطرفة
أو الفكاهة، مثلما اعتُبرت ألف ليلة وليلة. وكانوا أكثر ميلاً إلى حكايات الحِكَم.
على سبيل المثال، حكاية حي بن يقظان.
عدنان: ابن
طفيل.
ديزيريه: نعم،
ابن طفيل.
عدنان: ابن
طفيل تمت استعادة حكاياته في الأدب الهولندي.
ديزيريه:
صحيح، حي بن يقظان ترجم ثلاث مرات. أول مرة في سنة 1672، وبعد ذلك مرة أخرى في
1710. وفي هذه النسخة الأخيرة كتب أدريان ريلانت الذي ذكرناه ملاحظات تشرح للقارئ
الهولندي حول أحداث حي بن يقظان.
عدنان: وفلسفة
ابن طفيل أيضًا، لأنها رؤية فلسفية..
ديزيريه:
وجزء من العقل الكالفيني أنهم كانوا مهتمين أكثر بالبعد الديالكتيكي من البعد
الصوفي في كتاب ابن طفيل على سبيل المثال. ولكن رغم ذلك، ألهمت ألف ليلة وليلة عدة
كتّاب هولنديين لكتابة ما نسميه حكايات شرقية. أحد أشهر هؤلاء الكتاب هو يان
نومانس الذي كتب مسرحيات على نفس وتيرة ألف ليلة وليلة.
عدنان: عجيب،
إذن، ومع ذلك، هناك تأثير. إذًا، سنحترم جدية العقلية الهولندية ونذهب إلى الجامعة
مباشرة. جامعة لايدن التي بدأت بها الدراسات الاستشراقية سنة 1591، المعهد
الهولندي للشرق الأدنى التابع لها تأسس سنة 1939. أنا أريد أن أسائل تلقيك
للدراسات الاستشراقية في جامعة لايدن. هل تتلقين هذا الحقل كحقل أكاديمي محض، أم
ربما كظاهرة سوسيوسياسية؟
ديزيريه:
أعتقد أن مسار جامعة لايدن، وخصوصًا تعليم الاستشراق فيها، كان دائمًا متأثرًا
بالسياق الاجتماعي أو السياسي. فحتى بداية جامعة لايدن، والقصة بالطبع أنها تأسست
كهدية من فيليم فان أورانيا، وهو الذي قاد الحرب ضد الإسبانيين لمدينة لايدن بسبب
مقاومة مدينة لايدن..
عدنان: القائد
الليموني.
ديزيريه:
نعم، بسبب مقاومة المدينة ضد الإسبانيين. فمن البداية كانت الجامعة هدية تلقائيًّا
في سياق سياسي اجتماعي. بعد ذلك، يمكننا أن نرى، مثلًا، أن كثيرًا من المستشرقين
المبكرين كان لهم دور في ترجمة رسائل تجارية لشركة الهند...
عدنان: الصينية؟
ديزيريه: الصينية،
نعم. وفي فترة الاستعمار، كان هناك ارتباط وثيق بين الجامعة وإندونيسيا. دروس حول إندونيسيا،
أو دروس حول الإسلام في إندونيسيا. الشخصية البارزة التي ساهمت في ذلك كانت
كريستيان سنوك هورخرونيه. وكما ذكرنا بعد أحداث 11 سبتمبر، كثير من العلماء في لايدن
درسوا الإسلام الراديكالي ومواضيع أخرى مرتبطة بالسياق. ولكن في نفس الوقت، هناك
دائمًا التقاليد الفيلولوجية في جامعة لايدن، والمعهد الذي ذكرته مثال على ذلك. فهناك
معاهد تهتم بدراسة المخطوطات الموجودة في جامعة لايدن. وبالمناسبة، أحب أن أذكر أن
جامعة لايدن، من بين كل الجامعات في هولندا، كان لها دور كبير في تحديد أو في
تشكيل دراسة الاستشراق، ليس فقط في هولندا، ولكن في أوروبا بشكل عام. وأعتقد أنه
يمكن تقسيم ذلك إلى ثلاثة أشياء. أولًا: تأثير المستشرقين الذين خرجوا أو عملوا في
جامعة لايدن، بدءًا من أربينيوس وصولًا إلى خوليوس، أو شخصيات أخرى مثل رينهارت
دوزيه، وأيضًا يانج بول. كل ذلك أدى إلى منهج جامعة لايدن المتخصص في تحليل النصوص
بدقة. فأعتقد هذا أولًا. ثانيًا: المخطوطات الموجودة في جامعة لايدن. لا توجد
جامعة في العالم، أو في أوروبا على الأقل، لديها هذه الكمية من المخطوطات.
عدنان: أنا
زُرتها واستمتعتُ بقضاء يوم كامل بين المخطوطات العربية هناك.
ديزيريه:
نعم، جميل. هناك مجموعتان أساسيتان. الأولى من ياكوب خوليوس، وهو كان خليفة
أربينيوس، وجمع المخطوطات في المغرب بمساعدة الحجري الذي ذكرناه سابقًا، وأيضًا في
القسطنطينية وحلب. فهو جمع أكثر من –أتصور- 400 مخطوطة. ولكن أكبر مجموعة أتت من...
عدنان: المجموعة
الثانية؟
ديزيريه:
المجموعة الثانية جاءت من شخص اسمه ليفينوس فارنر، وهو كان مبعوثًا هولنديًا في
القسطنطينية، وعاش هناك فترة طويلة. وبمساعدة شبكته، كانت هوايته أن يجمع
المخطوطات، فجمع أكثر من ألف مخطوطة. فهذا أمر رائع جدًا، وتبرع بالمخطوطات لجامعة
لايدن بعد وفاته. وهنا نجد على سبيل المثال "طوق الحمامة" لابن حزم،
النسخة الوحيدة منه موجودة في جامعة لايدن، وقد جاءت من ليفينيوس فارنر. وأيضًا مثلًا،
أحد مجلدات الطبري موجود في لايدن. وهذا شيء يفتخر به، والآن يعملون على رقمنة كل
هذه المخطوطات.
دار نشر بريل
عدنان: ونحن
نتحدث عن المخطوطات، نتحدث أيضًا عن طباعة الكتب العربية. وهنا يجب أن نتحدث عن دار
نشر "بريل" بلايدن، دار النشر الهولندية العريقة التي تأسست سنة 1683،
والتي تعتبر دارًا استثنائية بكل المقاييس. فقبل دخول المطبعة إلى العالم العربي،
كانت "بريل" قد شرعت في استلام المخطوطات العربية مباشرة بعد تحقيقها
لطباعتها بالحرف العربي. ويكفي أن نذكر بطباعة "بريل" لدائرة المعارف
الإسلامية والأطالس التراثية الخاصة ببلاد العرب والمسلمين. لا يمكن أن نتحدث عن جامعة
لايدن هنا ولا نتحدث عن دار نشر "بريل".
ديزيريه:
نعم، دار نشر "بريل" كان لها دور كبير في طبع الكتب للمستشرقين
الهولنديين، ابتداءً مع إربينيوس، وطبعًا فيما بعد، الكثير من المستشرقين طبعوا (أعمالهم)
هناك، لأنهم كانوا محترفين جدًا في طباعة المخطوطات أو الخطوط غير الغربية..
عدنان: اللاتيني.
ديزيريه:
نعم اللاتيني، مثل العربية والسنسكريتية والعبرية ولغات أخرى. أهم مشروعين أحب أن
أذكرهما: أولًا، تاريخ الطبري، الذي كان إنجازًا كبيرًا بالنسبة لدار نشر
"بريل". وأحد مخطوطات تاريخ الطبري كان موجودًا في جامعة لايدن، وكان
المستشرق "دغوي" هو الذي تبنى المشروع لكي يطبع التاريخ الكامل للطبري
في دار نشر "بريل". فهو عمل مع مستشرقين من دول مختلفة في العالم لكي
يجمع المجلدات، أعتقد أنها كانت عشرين مجلدًا للطبري ليعمل منها كتابًا كاملًا.
فهذا كان أحد المشاريع الكبيرة لـ"بريل"، وطبعًا الموسوعة...
عدنان: الموسوعة
الشهيرة...
ديزيريه:
الشهيرة، نعم. فدار نشر "بريل" بدأت بنشر هذه الموسوعة في أواخر القرن
التاسع عشر، وطبعًا كانت جهدًا كبيرًا..
ديزيريه:
موسوعة بهذا الحجم، وكان تعاون كبير.. في النسخة الأولى ساهم فيها مستشرقون
أوربيون. وكان هناك انتقاد من العالم العربي فيما بعد، أنه لم يوجد أي متخصصين من
العالم العربي أو مسلمين ساهموا في الموسوعة. فحاولوا أن يغيروا ذلك في النسخة
الثانية، والآن حاليًا يعملون على النسخة الثالثة من الموسوعة.
عدنان: لا
ننسى أننا حينما نتحدث عن بداية المطبعة في 1683، لم يكن هناك طبع في العالم
العربي. فهي أول مطبعة عربية، لها الريادة عربيا، وليس فقط عبر العالم. لهذا نلح
على أهميتها حتى بالنسبة لنا، وليس فقط بالنسبة لهولندا أو جامعة لايدن.
ديزيريه:
نعم، نعم. والآن، يعملون كثيرًا، مازالوا يطبعون الكتب، وأيضًا بشكل افتراضي. على
موقعهم يمكنك العثور على الكثير من المجلات والكتب. وكان لديهم حتى عام 2006 مكتبة
في مركز مدينة لايدن حيث باعوا الكتب، لكن للأسف أغلقت أبوابها.
عدنان: كالكثير
من المكتبات العلمية المتخصصة.
ديزيريه:
ممكن بالطبع تفسير ذلك بأن الدراسة الفيلولوجية خسرت أهمية في مجال الدراسات
الاستشراقية.
عدنان: تمامًا،
هي فعلاً خسارة. ولكن مع ذلك، ما زالت المكتبة متوفرة. وسأخبرك أنني قبل يومين
تلقيت عبر الإيميل برنامج ندوة في إيطاليا، ندوة تضم مجموعة من المهتمين بالثقافة
العربية والإسلامية. هناك ندوة كبرى حول الثقافة والأدب في المغرب في إيطاليا، وفي
الرسالة التي تلقيتها، يشيرون إلى أن أعمال الندوة ستصدر عن مطبعة "بريل".
ديزيريه:
جميل جدا.
عائلة يونبول
عدنان: بما
أنها نسخة افتراضية، ولكنها ما زالت قيد النشر والطباعة الافتراضية والإلكترونية على
الأقل. هناك معْلمة أخرى من معالم الاستشراق الهولندي في الواقع. إلى جانب الجامعة
والمطبعة، هناك عائلة "يونبول". هذه العائلة التي تعتبر أشهر عائلة
استشراقية ليس فقط في هولندا، بل ربما في كل أوروبا. كيف ترصدين، ديزيريه، المسار
الاستشراقي لهذه العائلة الذي انطلق خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر وانتهى بوفاة
جوتييه يونبول في 2010؟
ديزيريه:
نعم، هذه العائلة كان لديها دور مهم في ترسيخ الدراسة الاستشراقية في هولندا. فنجد
أن الأول من الأجيال الأربعة كان ثيودور يونبول، وهو كان فعلاً شخصًا تخصص في
الشريعة الإسلامية، وهو من أسس هذه الدراسة أو ساهم بشكل كبير في منهجية دراسات
الشريعة الإسلامية في هولندا.
عدنان: الشريعة؟
ديزيريه:
نعم، الشريعة. وابنه أبراهام، درس في المعهد الموظفين الهولنديين في إندونيسيا،
ودرس هناك من بين مواضيع أخرى اللغة اليافانية (يافانز). فممكن أن نقول إنه من
الجيل الأول إلى الثاني نشاهد أن أبراهام كان له علاقة بأهداف دولة هولندا، وابن
لأبراهام. الآن ننتقل إلى..
عدنان: الجيل
الثالث.
ديزيريه: الجيل
الثالث، اسمه أيضًا ثيودور. كتب كتابًا مهمًا جدًا بالنسبة لتعليم الموظفين
الهولنديين في إندونيسيا، كتابًا حول "الشريعة المحمدية". في وقتها
كانوا يسمونها "الشريعة المحمدية"، في 1903. وهذا الكتاب ظل لعقود طويلة
المرجع للموظفين في إندونيسيا.
عدنان: الموظفين
الهولنديين الذين يعملون في إندونيسيا خلال فترة استعمار هولندا لإندونيسيا.
ديزيريه:
نعم، صحيح. وطبعًا بعد استقلال إندونيسيا، عمومًا، قل الاهتمام الهولندي بدراسات
الاستشراق، لأنه لم يكن هناك أفق للعمل في إندونيسيا. وبالتالي، كان هناك اهتمام
أقل بدراسة الاستشراق. وهنا نجد أنه كانت هناك مساحة أكبر لمواضيع فيلولوجية من
جديد. فآخر الأجيال، جوتييه، كان مستشرقًا فيلولوجيًا بامتياز، بمعنى أنه كان
مختصًا بالحديث، وكان شغوفًا جدًا بهذا الموضوع. كتب كتابه حول موسوعة الأحاديث
النبوية أو الأحاديث الصحيحة. صدر الكتاب في 2007. وأنا سمعت من زملائه في جامعة
لايدن أنه كل صباح كان يذهب إلى مكتبة الكتب الشرقية في لايدن ويدرس الأحاديث
والإسناد، وكان شغوفًا جدًا بهذا الموضوع. ساعات طويلة، كان عنده نفس طويل بالنسبة
للموضوع.
عدنان: ولكن
هذا النفس سينقطع في 2010 بعد وفاة جوتييه ورحيله. لحسن الحظ أن كل تراث العائلة
لم يضِع، لأن الأرشيف والمخطوطات كلها أُعطيت لجامعة لايدن. وأنا اطلعت على بعض
هذا الأرشيف هناك. ثم أيضًا هناك المؤسسة، مؤسسة يونبول، التي تهدف اليوم إلى
تعزيز دراسة اللغة العربية والإسلام. هل تعتقدين أن هذه المؤسسة تشكل بمعنى من
المعاني امتدادًا لعطاء هذه الأجيال الأربعة؟
ديزيريه:
نعم بكل تأكيد، لأن المؤسسة تدعم باحثين من كل أنحاء العالم ليستمروا في الدراسة
الفيلولوجية في جامعة لايدن. وأعتقد أن هذا مهم جدًا.
رينهارت دوزيه
عدنان: تمامًا.
إذن هل تعتقدين أنه يمكننا إنهاء حديثنا دون أن نتوقف عند معلم آخر من معالم
الاستشراق الهولندي؟ أفكر في رينهارت دوزيه، رائد الدراسات الأندلسية، الذي لم يكن
لا عربيًا ولا إسبانيًا، ومع ذلك هو صاحب أهم كتاب مرجعي حول تاريخ المسلمين في
إسبانيا. ما دلالة أن يتصدى لهذا التاريخ مستشرق من خارج المدار العربي الإسباني
وهولندي بالذات؟
ديزيريه:
نعم، شكرًا على السؤال الجميل. طبعًا هذا الكتاب حول المسلمين في الأندلس، في إسبانيا،
كان أحد أهم الكتب حول الموضوع. وأنا متأكدة أنكم ذكرتم الكتاب في أكثر من حلقة من
هذا البرنامج. فأعتقد أهمية أن يكون أولًا خارج الإطار الإسباني وخارج الإطار
العربي، فهو نظر إلى تاريخ المسلمين في إسبانيا بشكل أكثر حيادية. قد يكون ذلك،
لأنه لا يتبع السرديات العربية التي تقول: إن الأندلس كانت الفترة المثالية، ولا
يتبع السرديات الإسبانية التي..
عدنان: تعتبر
إقامة المسلمين في الأندلس نكبة ومصيبة وكارثة نالت منهم ومن تاريخهم.
ديزيريه:
نعم، وركز على "الريكونكويستا" أكثر من أي شيء آخر.
ديزيريه:
بالطبع. وأعتقد أنه كان باستطاعته أن ينظر إلى الموضوع بحياد أكبر. وكونه
هولنديًا، كباحث مقيم في هولندا ومرتبط بجامعة لايدن، فكان الكثير من المصادر
متاحًا له من المخطوطات. فكان بإمكانه أن يبحث في مصادر أولية جديدة حول الموضوع.
وطبعًا كان في السياق أيضًا أنه هناك مازال في الذاكرة الجمعية الهولندية الحرب ضد
إسبانيا، فهو كان يشك في كل شيء له مصدر في إسبانيا بسبب هذا التاريخ، ثمانين
عامًا تاريخ استقلال هولندا. نعم، لكن في نفس الوقت يمكننا أن نقول إنه لم يكن فقط
مستشرقًا هولنديًا، لأنه كتب باللغة الفرنسية طبعًا، وأيضًا كان متأثرًا بأفكار
رينو وجوبينيو. فكان ينظر إلى الأندلس أيضًا في سياق معين، حيث تأثر بالأفكار الموجودة
التي أعطت أهمية كبيرة مثلًا للعرق في بحثه.
صرامة دوزيه
عدنان: على
فكرة، أنا فعلاً سبق لي أن استحضرت دوزيه في أكثر من لقاء سابق. دائمًا أستحضره
لكي أشيد بصرامته العلمية، لأن الرجل كان يؤكد أنه لا سبيل إلى إنجاز كتابة
تاريخية علمية لتاريخ الأندلس إلا بعد تحقيق أهم النصوص المتعلقة بهذا التاريخ.
لهذا حقق "البيان" لابن عذاري المراكشي، حقق "المعجب في تلخيص
أخبار المغرب" لعبد الواحد المراكشي، حقق "نزهة المشتاق" للشريف
الإدريسي، كما شرع في تحقيق "نفحة الطيب" للمقري. صرامة وطول نفس صاحبها
لا يمكن إلا أن يكون إمّا ألمانيًّا أو هولنديًّا.
ديزيريه:
ممكن أن يكون ذلك، ولكن أعتقد هي صرامة دوزيه أكثر من أي شيء آخر.
عدنان: تنسبينها
للشخص لا للبلد.
ديزيريه:
لأنه حتى قبل أن يكتب هذا الكتاب، وهذا الكتاب أخذ عشرين سنة ليكتبه، كان دقيقًا
جدًا في بحثه حول المخطوطات في جامعة لايدن عندما كان ما زال طالبًا. فكتب هذا
المعجم حول لباس العرب بسبب دراساته للمخطوطات، وكان فعلاً فريدًا في طول نفسه.
وقرأت طرفة أنه حتى عندما تزوج في 1844، قضى رحلة شهر العسل هو وزوجته في ألمانيا.
فحتى خلال رحلة شهر العسل كان يبحث عن مخطوطات. لا أعرف ما كان رأي زوجته في ذلك،
ولكن في هذه الرحلة وجد مخطوطة ومصدرًا مهمًا في مدينة جوته الألمانية حول تاريخ
السد الأندلسي، الذي أثّر على كتاباته.
عدنان: عجيب!
وأنا أتكلم ونحن مدينون له بالتحقيقات في الواقع، الكتب التي حققها والتي جعلته
فعلاً يرمّم الرؤية لتاريخ الأندلس، ويعطيه حضورا طيبا في بناء هذا التاريخ
للسردية العربية. فمن هنا كان الإنصاف في الحقيقة. كان رجلاً منصفًا جدًا في بناء
ذلك التاريخ وكتاباته.
كريستيان سنوك هورخرونيه
عدنان: هناك
شخصية أخرى يهمني التوقف معها، لأنه بالنهاية، الاستشراق الهولندي له رموز، ونحن
الآن نمُرُّ بدويزيه. أريد أن أتوقف مع هورخرونيه كريستيان سنوك؛ هورخرونيه الذي
اعترف له الكثيرون بالنبوغ، ولكن في نفس الوقت هناك مواقف تُسجل على أدواره خلال
فترة الاستعمار الهولندي، حتى إنه اتُّهم مباشرة بالجاسوسية. ولا أدري إلى أي حد
تتفقين مع هذه التهمة؟
ديزيريه:
نعم، شخصية سنوك هورخرونيه من أشهر المستشرقين الهولنديين، ومن أكثر المستشرقين الذي
ثار الجدل حولهم. ليس فقط بسبب دوره كمستشرق ساهم في تطوير السياسة الاستعمارية في
إندونيسيا، ولكن أيضًا بسبب رحلته إلى...
عدنان: الحج.
ديزيريه:
الحج. هذه الرحلة حيث اتُّهم فيها بالجاسوسية، ولكن، أعتقد أن كلمة
"جاسوس" قوية عليه، لأنه كان باحثًا أنثروبولوجيًا أكثر من أي شيء آخر.
وهذا ما قام به في مكة. يعني أنه ذهب إلى هناك ليس فقط باسم الحكومة الهولندية لكي
يكتب عن الجالية الإندونيسية خلال الحج. وإذا الجالية الإندونيسية لديها أفكار
قومية إسلامية، قد تحدد...
عدنان: لا،
هو بالنهاية، سنوك حينما عاد من الحج، كتب تقارير، وقال للإدارة الهولندية: حاولوا
أن تضايقوا الإندونيسيين لكيلا يذهبوا إلى الحج. ربما لإحساسه بأنهم يُشحنون
دينيًا، وهذا ضد –ربما- مصالح الإدارة الهولندية.
ديزيريه: حسنًا،
شكراً على السؤال. طبعًا، الطريقة التي قام بها ببحثه في هذه الأيام، في الوقت
الحاضر، ليست مقبولة. هذا واضح بأن طريقته في القيام بالبحث مشكوك فيها. ولكن، لا
نستطيع أن نقول بنسبة مئة في المئة إنه قام بالرحلة متنكرًا، لأنه كان حسب كلام نفسه
مسلمًا. فكان لديه الحق ليقوم بالحج. طبعًا إذا كان فعلًا مسلمًا أم لا فقط هو
يعرف. لا نستطيع أن نحكم على نيته، وكان أيضًا قد تعرض لضغط من قبل الهولنديين ألّا
يكون مسلمًا، وضغوط من أطراف مختلفة. ولكنه كتب في رسائل لأصدقائه في وقت مبكر أنه
اعتنق الإسلام.
عدنان: اعتنق
الإسلام.
ديزيريه:
الإسلام.
عدنان: وتزوج
من إندونيسية، وكان له منها أربعة أبناء.
ديزيريه:
فإذا كان في الرحلة متنكرًا أم لا، فهذا سؤال. بالنسبة لدراسته حول الإندونيسيين
في داخل...
عدنان: الحج.
ديزيريه:
خلال الحج، الحكومة الهولندية وكّلته بأن يعمل هذا البحث. وهذا البحث أدّى إلى أول
كتاب كامل حول الحياة في مكة للهولنديين. كان أول كتاب سمح للهولنديين أن يفهموا
أيضًا طريقة الحياة في مكة. فكان له تأثير جيد أيضًا بالنسبة للصورة حول المسلمين
وحول الحج. فكان له أيضًا تأثير، نوعًا ما، إيجابي ضد الصورة النمطية. فالموضوع
ليس أبيض أو أسود.
عدنان: أبدا،
أبدا. ليس أبيض أو أسود. ونحن هنا فعلاً لتدارس هذه الأوجه في تداخلها. طبعًا. من
الطبيعي أن تتداخل الأمور المعرفية مع المصالح المتعددة والمتضاربة أحيانًا.
ديزيريه: أريد
أن أذكر شيئًا، مثلاً، سنوك هورخرونيه، كان أول شخص عمل على تصوير مكة، والحياة
اليومية في مكة، خصوصًا بالتركيز على الإندونيسيين. وحتى إنّه قام بتسجيل الآذان
في مكة. فهو من أول الأشخاص الأنثروبولوجيين الذين قاموا ببحث، ليس فقط كتابة،
ولكن أيضًا تصوير وتسجيل. فعندما ترى الصور الآن، ترى أنه قام بشيء جميل أيضًا.
عدنان: تمامًا،
ومذهل ومهم معرفيًّا
ديزيريه:
الموضوع قليلًا...
عدنان: تمامًا،
بالغ التعقيد. وأنا أغبطه لأنه كان له محامية رفيعة. أنتِ تجيدين الدفاع عنه، كما
هي عادة الهولنديين.
ديزيريه:
أنا لا أريد أن أدافع عنه، ولكن. نعم
عدنان: لا،
لا، ولكن مفهوم تمامًا. لاحظي أننا نتكلم عن أسماء كبيرة في الواقع، وقيمتها
المعرفية. لاحظي أنها قيمة عليا، حتى ونحن نتكلم عن بعض أدوار، (مشبوهة). ولكن
العمق المعرفي لا جدال فيه.
واقع دراسة اللغة العربية في الجامعة الهولندية
هل تعتقدين أن الجامعة الهولندية ما زالت إلى اليوم
حريصة على هذا العمق؟ لأن هناك من يقول إن واقع دراسة اللغة العربية والعلوم
الإسلامية المعاصرة في الجامعة الهولندية والفلمينية، ربما لم تعد بذلك العمق، ما
رأيك؟
ديزيريه:
سؤال صعب نوعًا ما، لأن هناك بالطبع، مثلما ذكرت، تم تحديد دراسة اللغة العربية
والعلوم الإسلامية بسبب انخفاض الميزانيات. فقد لا تُدَرس اللغة العربية أصلاً بعد
ربما سنة أو سنتين، وهذا طبعًا يؤثر على قيمة الدراسة. ولكن في نفس الوقت، هناك
معاهد ومؤسسات تحاول أن تحافظ على هذا التراث الغني. فأتمنى أن يستمر هذا، أو
تستمر الدراسات العميقة الفيلولوجية خصوصًا. وأتمنى أيضًا، على سبيل المثال،
التنوع الثقافي في هولندا، وأيضًا في بلجيكا، وأن تُغني الدراسات العربية والعلوم
الإسلامية، لأننا نلاحظ أن المستشرقين الحاليين ليسوا فقط هولنديين. على سبيل
المثال، هم أيضًا من الجاليات العربية، يأتون إلى هولندا وبلجيكا بمعرفتهم،
ويُسهمون في تطوير هذه الدراسات. وأعتقد أن هذا شيء مهم جدًا ومميز جدًا.
عدنان: إذن،
أنتِ تعتبرين أن الدياسبورا العربية الإسلامية التي التحقت بالجامعات هناك، يمكن
إدراجها ضمن هذا الإطار الاستشراقي؟
ديزيريه:
صعب. طبعًا مفهوم الاستشراق أو المستشرق تحوّل عبر السنين. ولكن ما أريد أن أقوله:
إن هناك علماء من الجاليات العربية أو من البلدان العربية، أتوا إلى هولندا
وبلجيكا ورفعوا من دراسات اللغة العربية والعلوم الإسلامية.
عدنان: رفعوا
من سويّتها، وربما ساهموا في خلق وضع جديد متحرك.
ديزيريه:
نعم، أعتقد ذلك. وأيضًا، مثلًا إذا نظرنا، ما هو الفرق بين الاستشراق في القرن
السابع عشر والآن؟ ممكن أن نقول أيضًا: إن المواضيع التي كان يدرسها المستشرقون
المبكرون، كان الشرق، مثلا، شيئًا بعيدًا، واللغة العربية كانت شيئًا بعيدًا. ولكن
الآن أصبح جزءًا لا يتجزأ من مجتمعاتنا، فبطبيعة الحال أيضًا، هذا أثر على دراسات
هذه المواضيع.
عدنان: إذن،
في الأنثروبولوجيا نتحدث عن أنثروبولوجيا البعيد وأنثروبولوجيا القريب. فيمكن الآن
أن نتكلم عن الاستشراق البعيد والاستشراق القريب.
ديزيريه:
ممكن.
عدنان: ويمكن
حتى أن نسحب الآن لافتة الاستشراق لكي نتحدث في الواقع عن درس أكثر تعقيدًا. أرجو
أن الجامعات الهولندية والبلجيكية أن تساهم فيه بذات الروح القديمة التي رسختها لايدن،
والتي بها تحضرين معنا اليوم. ومن المهم الإشارة إلى هذه الديسباورا العربية
الإسلامية، وكيف أنها التحقت بالجامعات، مثلًا، الهولندية والبلجيكية وصار لها
إسهام وتفاعل داخل هذه الجامعات. ولكن، لا أعتقد أنها المورد الوحيد للدرس
الاستشراقي الحديث إذا شئنا، لأنني أعتقد أن هذه الأسماء الكبرى التي كنا نتحدث
عنها الآن أكيد أنّ لها أبناء وحفدة يحملون المشعل من داخل الهولنديين والبلجيكيين
أنفسهم؟
ديزيريه:
نعم، صحيح. الجاليات العربية الإسلامية وغير الإسلامية طبعًا. ولكن، أنا سعيدة
جدًا عندما أنظر حولي كشابة هولندية، وأجد في زملائي ليس فقط الذين تخرجوا من
دراسات عربية، ولكن بشكل عام، أجد أن هناك فضولًا لمعرفة الثقافات المختلفة. وهذا
شيء يلهمني جدًا. وهذا أيضًا سبب من الأسباب التي جعلتني أؤسس مؤسسة إيوانا
للتفاهم الثقافي، لأنني، ماذا يلهمني؟ أن هناك الكثير من الشباب الهولنديين
والبلجيكيين الذين يدرسون، ليس بالضرورة في الجامعة، ولكن بشكل عام يهتمون بالأدب
العربي على سبيل المثال. هناك كثير من الأنشطة حول الأدب العربي في مدن مثل
أمستردام أو لاهاي أو بروكسل. وهناك اهتمام فعلاً متبادل. فهذا شيء بالنسبة لي
جميل جدًا. ولا أريد أن نقول: إن كل هؤلاء الأشخاص مستشرقون جدد، وربما كلمة
"مستشرق" أو "مستشرقة" غير مناسبة في هذا الإطار، ولكن، هناك
أشخاص مهتمون بمعرفة وزيادة المعرفة. وهذا جميل.
عدنان: وما
يعنينا نحن هو تحديدًا هذا الفضول المعرفي والحوار الثقافي والأدبي، حتى ولو كان
الاستشراق إطارًا لهذا الحوار. فما يعنينا هو الجوهر. شكرًا لأنك حملتِنا إلى هذا
الجوهر ونقلتِ لنا روحًا هولندية معرفية لها صرامتها ولها عطاؤها المتجدد. ديزيريه
كوسترس، شكرًا على حضورك بيننا.
ديزيريه:
شكرًا جزيلًا على الدعوة. كان حوارًا جميلًا جدًا. شكرًا.
عدنان: بوجودك.
أعزائي عزيزاتي، إلى اللقاء.