بصمات من حضارة وادي الرافدين في حياتنا المعاصرة | أ.د.نائل حنون

آثار
آثار

يولي العالمُ اليوم اهتماماً كبيراً بحضارة وادي الرافدين، ويكاد لا يمر يوم من غير صدور كتاب أو بحث أو دورية محكمة عن هذه الحضارة الرائدة في تاريخ البشرية.





أسباب هذا الاهتمام متعددة ومتشابكة، وإذا أردنا تحديد بعضها فلا بد أن نذكر كونها أقدم حضارة متطورة على الأرض، وهي أطول الحضارات الإنسانية عمراً. ثم إنها أولى الحضارات التي أنهت عصورَ ما قبل التاريخ الطويلة، ونقلت البشرية إلى العصور التاريخية بابتكارها للكتابة. ومما توصف به هذه الحضارة أنها "ضخمة" بامتداداتها الجغرافية وأمدها الزمني وبما تركته من آثار مادية وكتابية وفكرية. ومن البديهي أن حضارة بهذا الحجم والأهمية لا يمكن أن تكون قد ازدهرت وماتت من غير أن تترك بصمات لها في حياتنا المعاصرة؛ سواء أكانت هذه البصمات وأوائل الأشياء في مجال العلوم والتقنية أم في العمران والمدن والبيئة، فضلاً عن إدارة الدول الكبرى القديمة ومجالات الثقافة والتوثيق والأدب والقضاء. بعبارة أخرى، أبدعت هذه الحضارة منجزاً حضارياً كبيراً وتركت تراثاً هائلاً ما كان له أن يكون عابراً في عمر البشرية على الأرض. 


قد لا يصدق بعضنا أننا لا نزال، في يومنا هذا، نستعمل صيغاً تعبيرية وتقنيات وجدت أصلاً في حضارة وادي الرافدين القديمة، وقد تكون اختفت وسائلها الأولى؛ ولكنها موجودة وفعالة في حياتنا اليومية على الرغم من هذا البعد الزمني عن أصولها. فعلى سبيل المثال حين كان سكان وادي الرافدين القدماء يدونون على الرقم الطينية عقودهم واتفاقياتهم ونصوص الصفقات التي يعقدونها، وكذلك أحكامهم القضائية ومراسيمهم، كانوا يصادقون عليها بوضع طبعات الأختام الشخصية لأصحاب القرار أو لأطراف الصفقات وكذلك الشهود. ولما كانت الأختام الرسمية والشخصية في معظم عصور تلك الحضارة أسطوانية الشكل؛ فقد كانت الطبعات تنفذ بدحرجة الختم الأسطواني لكل شخص مشارك على رقيم الطين بعد تدوين النص المسماري عليه وقبل أن يجف. والفعل الأكادي الذي كان يعبر عن دحرجة الختم الأسطواني هو "برم" (ب ر م) المشترك في اللغتَين الأكادية والعربية بمعنى "جدل، فتل"، ومصدره في اللغة الأكادية "بَرامُ" (barāmu). ومن خلال هذا الفعل صار معنى تصديق الوثائق في الأكادية هو الإبرام. وفي عصرنا هذا لم تعد الرقم الطينية مادة يدوُّن عليها، مثلما لم يعد التصديق ينفذ ببرم الأختام الأسطوانية التي باتت من آثار تلك الحضارة المبدعة؛ ولكننا لا نزال نستعمل الفعل القديم نفسه للدلالة على تصديق العقود والاتفاقيات بقولنا عنها "أبرمت اتفاقية ..." من دون إرجاع المصطلح للممارسة القديمة، ومن دون وجود سند لغوي في العربية لاستعمال هذا الفعل. 


أنظمة حسابية حية

عُرف عن حضارة وادي الرافدين تطورها البيِّن في الرياضيات التي ظهرت نصوصها المدونة على رقم الطين منذ فجر الكتابة في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، وبلغت ذروتها في العصر البابلي القديم (2004- 1595 قبل الميلاد). وكان النظام الستيني هو المعتمد في العلوم الرياضية لتلك الحضارة. وهذا النظام مختلف عن نظامنا الحالي في الحساب، وهو النظام المئوي. وفي النظام الستيني، الذي يرجح العلماء المختصون أنه وضع مع ابتكار الكتابة على الأقل، يكون الرقم 60 هو القاعدة للأرقام الكبيرة، وذلك بعد تصاعد الأرقام من الواحد إلى العشرة، ثم العشرات إلى الستين، ومن بعده مضاعفات الستين. وكان لكل من هذه الأرقام المفصلية رمز خاص به في الكتابة ابتداء من الشكل الصوري الأول وانتهاء بالشكل المسماري المتطور منه. وقد كان المثلث الصغير المقلوب رمزاً للرقم 1، والدائرة الصغيرة للرقم 10، ثم المثلث الكبير المقلوب للرقم 60، وحين تكون في داخله دائرة صغيرة يصبح رمزاً للرقم 600 (60 × 10). وكان رمز مربع الرقم 60 (60 × 60 = 3600) هو الدائرة الكبيرة الكاملة. 


وقد عد هذا الرقم رمزاً للعالم أو الكون. وبرسم دائرة صغيرة في وسط الدائرة الكبيرة يصبح الرقم المرموز له 36000. واستعملت أربع علامات مسمارية لترمز إلى الكسور: نصف، ثلث، ثلثين وخمسة أسداس. كان النظام الحسابي الستيني فعالاً في المسائل الرياضية وفي أعمال المساحة، التي كانت متطورة في حضارة وادي الرافدين؛ خصوصاً في ما يتعلق بقياس مساحات الأراضي والحقول الزراعية. كما استعمل النظام الحسابي نفسه في الأرصاد الفلكية في وادي الرافدين. وفي الحقيقة أن استمرار استعمال النظام الستيني في بلاد بابل خلال القرون الأخيرة السابقة للميلاد ساعد كثيراً الفلكيين الإغريق الذين لم يكن لديهم نظام رقمي مناسب حينذاك. نتيجة لذلك استعملت حسابات فلكية بابلية من قِبل الفلكيين الإغريق القدماء والعرب المسلمين في زمن بعيد عقب توقف استعمال الكتابة المسمارية. السؤال المطروح الآن هو: هل غاب النظام الحسابي الستيني تماماً من حياتنا أمام استعمال النظام المئوي في عصرنا الحديث؟ والجواب المفاجئ أنه لم يغب تماماً، فلا نزال نستعمل شواهد منه إلى جانب النظام المئوي الحديث. ومن قبيل هذه الشواهد تقسيم الدقيقة إلى ستين ثانية، وتقسيم الساعة إلى ستين دقيقة، وبالتالي تقسيم الساعة إلى 3600 ثانية. ومن الشواهد الأخرى في حياتنا المعاصرة من النظام الحسابي الستيني تقسيم زوايا الدائرة إلى 360 درجة، وهذا الرقم من مضاعفات الستين الأساسية وليس من مضاعفات المئة.


ولا بد من الإشارة هنا إلى أن تقسيم اليوم إلى 24 ساعة هو تقسيم حضارة وادي الرافدين لليوم نفسه؛ فقد قسموا اليوم إلى 12 ساعة مضاعفة، أي 24 ساعة أيضاً. وكانت الساعة المضاعفة في حسابات هذه الحضارة تعادل ساعتَين في توقيتنا الحديث، ويطلق عليها في اللغة الأكادية "بيّرُ" (bēru)، وكانت هذه الكلمة تكتب في النصوص المسمارية الأكادية إما مقطعياً (بي2 – ي – رو bé-e-ru) أو رمزياً باستعمال الرمز السومري "دانّا" (DANNA)، والرمز السومري في النصوص الأكادية كان يكتب ولكن لا يقرأ إلا بالأكادية وليس بلفظه السومري. ومن دلالات كلمة "بيّر" في اللغة الأكادية "1 / 12 من اليوم" و"1 / 12 من الدائرة"، أي 30 درجة. وتدل الكلمة نفسها على مقياس طول يعادل 10800 متر في قياساتنا الحالية. 


هناك نادرة تاريخية يتداولها المختصون بالمسماريات، وهي تدل على براعة القدماء في استعمال الأرقام. فقد حدث أن ملك بلاد آشور، سنحاريب (704- 680 ق.م)، صب جام غضبه على مدينة بابل؛ بسبب حدوث تمرد وانتكاسات عسكرية، فدمرها وأعلن أنه لن تقوم لها قائمة لمدة سبعين عاماً. ولكن بعد تسعة أعوام مات هذا الملك وخلفه ابنه أسرحدون (680- 668 ق.م) الذي غيَّر سياسته تجاه بابل، وقرر إعادة إعمارها من جديد. ولعدم رغبة الملك الجديد في مخالفة كلام أبيه بخصوص الأعوام السبعين؛ فقد أحدث تغييراً في الرقم الذي دونه سنحاريب. ذلك أن الرقم سبعين كان مكتوباً بالرقم ستين (مسمار عمودي مطور عن المثلث المقلوب الكبير) مع زاوية مضافة على يمينه، والزاوية هي رمز الرقم عشرة والتي طورت من شكل الدائرة الصغيرة القديمة. وبهذا يكون الرقم 60 + 10 = 70. وما فعله أسرحدون هو إعادة كتابة الرقم لتكون الزاوية على يسار رمز الستين، مستغلاً التشابه بين رمزَي الستين والواحد، وبهذا أصبح الرقم 10 + 1 = 11. 


وبهذه الطريقة استطاع أسرحدون أن يباشر بإعادة إعمار بابل وإحيائها من جديد بمجرد مرور عامَين على اعتلائه العرش دون أن يخل ظاهرياً بقرار أبيه الملك السابق. قد لا تكون هنا حاجة إلى العودة لنظرية فيثاغورس عن المثلث القائم الزاوية وكونها من نتاج الفكر الرياضي الهندسي لحضارة وادي الرافدين؛ إذ دونت في النصوص المسمارية قبل زمن فيثاغورس بأكثر من ألف عام. ولكن من الجدير بالذكر هنا أن حسابات حديثة تطابق ما قدمته لنا هذه الحضارة الخالدة وإن حدث بعض الاختلافات البسيطة في الكسور مثلاً. ومن الأمثلة على هذا حساب نسبة محيط الدائرة إلى قطرها والذي عده رياضيو العراق القدماء 3، ولا يختلف هذا الرقم عن حسابه في الرياضيات الحديثة إلا في الكسور (3.142). ويتبع حسابنا لطول السنة (365 يوماً) حساب حضارة وادي الرافدين القديمة، وكذلك تقسيمها إلى 12 شهراً. والأكثر إثارة من هذا أننا نستعمل اليوم أسماء معظم شهور السنة التي كانت مستعملة في تلك الحضارة. وفي ما يأتي أسماء الأشهر في النصوص المسمارية الأكادية: نِسانُ (Nisannu) "نيسان"، أيّارُ (Ayyāru) "أيار"، سِمانُ (Simānu) "حزيران"، دُئوزُ (Du’ūzu) "تموز"، أبُ (Abu) "آب"، أيلولُ/ أيلونُ (Elūlu/Elūnu) "أيلول"، تَشريةُ (Tašrītu) "تشرين أول"، أرَخسَمنُ (Araḫsamnu) "تشرين ثاني"، كِسليمُ (Kislīmu) "كانون أول"، طيبيةُ (Ṭebētu) "كانون ثاني"، شَباطُ (Šabāṭu) "شباط" وأدّرُ (Addaru) "آذار". ومن خلال أسماء الأشهر هذه يستطيع المرء أن يلاحظ إلى أي مدى نتبع اليوم التسميات نفسها تقريباً لأشهر السنة، فثمانية من الأشهر في تقويمنا اليوم هي نفسها في تقويم حضارة وادي الرافدين القديمة. في ما يخص تسلسل الأشهر، كان شهر نيسان في عصور الحضارة القديمة هو الشهر الأول في السنة، واليوم الأول من نيسان هو اليوم الأول في السنة، ولذلك كانت تبدأ فيه احتفالات رأس السنة التي تشغل الأيام الاثني عشر الأولى منه. 


وفي الواقع كان نظام التقويم هذا هو المتبع في العالم حتى عام 1582م؛ حينما غير إلى الأول من شهر كانون الثاني بعد إقرار نظام التقويم الغريغوري. ومن المعروف أن حضارة وادي الرافدين القديمة كانت تلتزم في تقويمها الأشهر القمرية؛ ولكنها كانت تتوافق مع النظام الشمسي، وعدد أيام السنة فيه 365 يوماً. ومن هنا وجد نظام "الشهر الكبيس" في تلك الحضارة. فحتى يتم تعويض نقص أيام السنة القمرية عن الشمسية لجأ السكان القدماء إلى إضافة شهر إلى أشهر السنة كل ثلاث سنوات؛ لتعويض النقص الحاصل في عدد أيام السنة. وكانت تلك الإضافة تتم بتكرار الشهر الأخير من السنة، وهو شهر آذار، وأحياناً يكرر الشهر السادس، وهو شهر أيلول. وهكذا كان يظهر في التقويم القديم في أوقات منتظمة شهر "آذار ثاني" أو شهر "أيلول ثاني". وفي ختام الحديث عن الأشهر في تقويم الحضارة القديمة تنبغي الإشارة إلى أن سكان البلاد القدماء وضعوا رموزاً سومرية لكتابة اسم كل شهر في النصوص الأكادية. ومثلما الحال في استعمال الرموز السومرية في النصوص الأكادية لم تكن تلك الرموز تقرأ بالسومرية وإنما بالأكادية. وبسبب جهل البعض لطريقة استعمال الرموز السومرية في النصوص الأكادية (Logograms) فقد افترضوا أن تلك الرموز تمثل الأسماء السومرية للأشهر، وهذا غير صحيح؛ فلم يكن هناك تقويم سومري وتقويم أكادي، وإنما هو تقويم واحد مع وجود اختلافات وأسماء أشهر أخرى محلية في بعض المدن والمناطق.


الرياضيات والفلك

لقد مكَّن تطور الرياضيات في حضارة وادي الرافدين من التوصل إلى حقائق فلكية معتمدة في العصر الحديث، حتى يخالها الناس في يومنا هذا من نتاج العلم الحديث. فعلى سبيل المثال اكتشفت قطع فخارية تمثل القبة الفلكية، وجاءت هذه القطع من عدة مواقع أثرية في العراق. نشير هنا إلى إحدى هذه القطع التي اكتشفت في تل قوينجق في نينوى وحفظت في المتحف البريطاني تحت الرقم K 8538. تحمل هذه القطعة رسوماً للكواكب والأبراج مع كتابة مسمارية تشرحها، وهذه الرسوم تتوزع على ثمانية قطاعات متساوية. 


ويتضح من الرسوم والشروحات المقترنة بها أنها تشمل الشعرى اليمانية (Sirius)، كوكبة الفرس الأعظم (Pegasus)، برج الحمل (Aties)، كوكبة الثريا (Pleiades)، برج الجوزاء (Gemini)، كوكبة الشجاع (Hydra)، الخباء اليماني (Corvus)، السنبلة (العذراء Virgo) وبرج الميزان (Libra). وفي عام 1980م حدث اكتشاف مذهل على يد كاتب المقال حين كان يقوم بالتنقيب في تل حداد في حوض سد حمرين، وهو التل الذي اكتشف فيه بقايا مدينة ميترناة (ميتران) القديمة. ويتمثل هذا الاكتشاف في قطعة فخارية مشابهة لقطعة المتحف البريطاني الموصوفة آنفاً، والتي لم تكن قد نشر عنها بعد حينذاك. وقد أعطيت هذه القطعة المكتشفة رقم الحفريات "8 حداد"، بحسب الإجراءات المتبعة في عمليات التنقيب الأثري، وسلمت إلى المتحف العراقي بموجب محضر رسمي في أواخر عام 1980م، وكذلك سلم التقرير الخاص بالتنقيب ويتضمن الوصف الكامل للقطعة وكل قطعة أخرى مكتشفة. وكان على رأس دائرة الآثار العراقية، حينذاك، شخص منحرف استحوذ على كل ذلك ولم يعرف مصير ما سلم رسمياً في وقته. في عام 2007م قام الكاتب بنشر تفاصيل هذه القطعة وصورها في كتابه "حقيقة السومريين ودراسات أخرى في علم الآثار والنصوص المسمارية" مع شرح القطع المشابهة لها في المتحف البريطاني التي كانت قد نشرت قبل ذلك. 


القطعة الفخارية "8 حداد" دائرية الشكل مقعرة بهيئة القبة وتحمل في باطنها أشكالاً منفذة بطريقة شبه مجسمة تظهر الشمس في المركز تحيط بها حلقة من الشعاع وحولها تسع كرات صغيرة. إن هذا المشهد، ومشابهة القطعة في أسلوب صنعها لقطع المتحف البريطاني الأخرى التي تصور القبة الفلكية بطرق مختلفة، وكذلك اكتشافها مع مجموعة من النصوص الرياضية، تدل جميعها على أنها تصور القبة الفلكية بما يثبت حقيقة كون الشمس مركزاً للمجموعة الشمسية ووجود تسعة كواكب (وهي كواكب المجموعة الشمسية كما نعرفها اليوم) تدور حولها. وحين أعلن عن هذه القطعة في تسعينيات القرن العشرين (قبل النشر عنها)، من قبل أحد الصحفيين الذي زار الكاتب، حينذاك، في مقر عمله في الديوانية، واطلع على صور القطعة وموضوعها، أجرت إذاعة "BBC" البريطانية، مقابلة تليفونية مع الكاتب وبثتها مع تعليق عليها يقول إن محاكمة غاليليو غاليلي وحرق مكتبته ومواجهته عقوبةَ الموت، بسبب قوله إن الشمس هي المركز وإن الأرض تدور حولها، كان أمراً غير ذي جدوى بعد أن اتضحت معرفة سكان العراق القدماء هذه الحقيقة قبل مئات السنين. 


إذا تساءل امرؤ عن الكيفية التي توصل من خلالها السكان القدماء إلى هذه الحقيقة الفلكية، فعليه أن يتذكر تفوق أولئك السكان في الرياضيات ودقة حساباتهم الفلكية في العصر نفسه الذي تعود إليه هذه القطعة؛ وهو العصر البابلي القديم (قبل 2800 عام من يومنا هذا). وهنا لا بد أن نذكر أن الحقيقة العلمية عن كون الشمس في المركز، ودوران الأرض وكواكب المجموعة الشمسية حولها، كانت مطروحة قبل تمكن نيكولاس كوبرنيكوس من القول بها في القرن السادس عشر الميلادي، وتأييد غاليليو غاليلي لها في القرن السابع عشر الميلادي. ويثبت هذا الاكتشاف الأثري تأصل هذه الحقيقة في حضارة وادي الرافدين القديمة، ولعلها انتقلت في ما بعد إلى الإغريق حين تبناها أرستراخوس في القرن الثالث قبل الميلاد، بعد أكثر من 1500 عام من تاريخ القطعة المكتشفة. ثم إن العرب المسلمين عرفوها؛ إذ أشار إليها محمد بن أحمد البيروني وإن لم يرجح أي من الرأيين بخصوص كون الشمس هي المركز أم الأرض. ولكن المشكلة كانت في أوروبا التي توقفت عند فرضية بطليموس التي ذهبت إلى ثبوت الأرض وكونها مركز الكون وأن الشمس والقمر والكواكب السيارة تدور حولها. وتبنت الكنيسة هذا الرأي وحاربت مخالفيه إلى درجة الحكم عليهم بالموت (دون جدوى على حد تعبير هيئة الإذاعة البريطانية).


لم يُصحح موقف أوروبا، وتعود إلى الصواب الذي قدمته أولاً حضارة وادي الرافدين، إلا في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي؛ حينما قدم عالم الطبيعيات الفرنسي فوكو، الدليلَ على حركة الأرض، وبالتالي حسم العلم موضوع الخلاف الذي ما كان يجب أن يكون بعد العصر البابلي القديم.


ونختتم بالتذكير أن اكتشاف آخر كواكب المجموعة الشمسية (بلوتو) تم من قبل عالم الفلك الأمريكي كلايد تومبو، في عام 1930م؛ ليس عن طريق الرصد بالتلسكوبات، وإنما بطريقة حضارة وادي الرافدين القديمة، أي بالحسابات الرياضية الفلكية.