سفر المكابيين: حقائق واستنتاجات | عباس يونس العيدي

التوراة
التوراة

ليس للسفر كاتب محدد، وهو غير متعلق بنبي أو رسول أو مبعوث سماوي -كما هو مؤشَّر إزاء معظم الأسفار اليهودية أو التوراتية-، إلا أنّ هناك من اجتهد وصنفه وقدمه للمجالس الكنسية الناشئة في أحضان اليهود المرتدّين المستمسحين؛ لكونهم أصحاب دين جديد، أيّ أصحاب كتاب أخبار مقدس. وهؤلاء وضعوا سيرة دينية عن ثورة يهودية عارمة، انتظم فيها اليهود بتنظيم عسكري متقدم دون إعداد مسبق ضد جيوش مضطهديهم الوثنيين الغرباء، وضد المتأغرقين المرتدين عن الشريعة من اليهود أنفسهم في أورشليم، وذلك في زمن اختلف عليه بين المؤرخين ورجال الكنيسة.





وسفر المكابييّن بكامله غير معترف به يهوديا؛ فهو كنسيّ مسيحي، تعترف بالجزء الأول والثاني منه الكنيستان الكاثولوكية والأرثوذوكسية، أما البروتستانت فلا يعترفون به؛ نظرًا لاضطراب الوصف الجغرافي، وجهل كاتبه بجغرافية فلسطين، -حسب ادعاء الكنيسة البروتستانية-، وهذا ما سنعلّله لاحقا. 


لم يرِد ذكر لهذا السفر قبل نهاية القرن الثاني الميلادي؛ فالقديس كليمندس السكندري (155-220م)، والقديس كليمندس الروماني (ولد سنة 100م)، والعلامة ترتليان (بدأ خدمته الكنسية عام 197م)، كلهم لم يذكروا السفر ولم يشيروا إليه، فالسفر كنسيّ مسيحي عُرف بعد القرن الثاني. 


ورغم أن معظم المختصين شخصت أمامهم العلاقة الوثيقة بين سفر المكابيين وبين تاريخ يوسفيوس المعنوَن بـ(ملحمة اليهود)، إلا أنّ من الحصافة أن ننظر إليهما كنصين متوازيين، لا بد من أن أحدهما مشتق من الآخر، وهذا ما أشار إليه الدكتور فاضل الربيعي في كتابه (الرومان ويهود اليمن، لغز الهيكل الثاني). 


وتبرز ملاحظة شكلية ضرورية تتمثل بالتشابه الكبير بين أسلوب السفر وبين أسلوب كتبة التاريخ الإسلاميين، حيث يبتدئ الجميع باستعراضٍ وترديدٍ لما ورد في الأخبار القديمة والأسفار التوراتية حصرًا -بما فيها من ثوابت إيمانية وإعجازية-، ثم ينتقل الى موضوعه؛ وذلك كي تكون قاعدة لما يروى لاحقًا، وفي ذلك تأثر واضح للكتبة والرواة الإسلاميين بهذا السِّفر وما قيل عنه. 


وتدّعي المصادر الكنسية أن يوسفيوس ولد عام (37) بعد ميلاد المسيح، بينما كُتب سفر المكابيين سنة (63) طبقًا لنفس المصادر ( دون ذكر ما إذا كان هذا  هو التاريخ الميلادي او ما قبل الميلاد)، وكان معروفًا في الأوساط اليهودية. وهنا يشخص سؤال: ما هي الضرورة والدافع اللذان دفعا بيوسفيوس -بعد ما يقرب من مائة عام- أن يعيد كتابة أحداث سفر مقدس بعينها، ويصنفها في كتاب أطلق عليه عنوان (الملحمة اليهودية)؟ من البداهة أن يمر بالبال أن ثمة خطأً أو تلفيقًا في مسائل التوقيتات والعلاقة بين المؤلفين، سيّما أن السِّفر والكتاب ليس لهما نصّ عبري، إنما الترجمة اليونانية فقط، ورغم الادعاءات بوجود نصين عبريين ضائعين، لكن الشكوك القوية تظل تحوم حول هذه الادعاءات. والمرجح في مقارنة منطقية للسفر والكتاب أن يوسفيوس هو الأسبق في الكتابة، وأن السفر اشتق منه من قبل المختصين بالشأن الكهنوتي الكنسي؛ ليكون كتابًا مقدسًا تتبناه الكنيسة؛ لتؤكد تواصلها مع اليهودية الأصل. 


ويطرح الدكتور الربيعي في نفس كتابه المشار إليه رأيًا مفاده أن يوسفيوس هو شخصية خيالية، ومن ألّف كتاب (ملحمة اليهود) هم الكهنة الكنسيون؛ استنادًا الى روايات تناقلتها الذاكرة الشعبية اليهودية، حيث جمعها يوسفيوس أو مجموعة من الكنسيين في كتابٍ أوليٍّ بعنوان كان شائعًا حينذاك، وهو الذي اطّلع عليه العالم الكنسي أريجانوس (185-254 ميلادية). 


والحقيقة أن النظرة الفاحصة الى تسمية السِّفر سوف تولّد لدينا قناعة أنه مؤلف في زمن متأخر، وليس معاصرًا للأحداث ذاتها، فعنوان المكابيين استخدم لأول مرة من قبل المؤرخ الكنسي يوسابيوس، والقديس كبريانوس، والقديس كليمندس، أواخر القرن الثاني، ومن المحتمل أن يكون ذلك هو تاريخ كتابة السِّفر؛ اعتمادًا على قصة ملحمة اليهود المنسوبة ليوسفيوس أو لغيره.


 وهناك خبر يقول: إنّ السلطة الكهنوتية في أورشليم بعثت النص المؤلف من خمسة أسفار مع رسالة تحث يهود مصر الى اتخاذ الهيكل على جبل صهيون مركزًا للخدمة الدينية، ولو نظرنا الى ما يرِد في السِّفر وكتاب يوسفيوس؛ (حيث يرِد أن الهيكل تعرض لأذى جسيم، وأن اليهود المرتدين توسع تأثيرهم إلى نطاق واسع، سواء في أورشليم أو غيرها)، لتوضَّح لنا أن علاقة تأليف السِّفر واحتفاظ السلطة الدينية اليهودية به في أورشليم ادّعاء لا يمكن الركون إليه، وأن الموضوع متعلق بيهود مصر المتأغرقين  المترومنين حصرًا. 


وتدقيقًا لاسم السِّفر؛ فقد ذكر البعض أنه كان يفتتح بقراءته بالقول: (عصى العصاة على الرب) أو (قضيب رؤوساء أبناء الله)، وأن اسم السفر كان (سفر الحشمونيين)، أو (الحسمونيون)، وهناك تسمية أخرى ادّعاها أرجانيوس -كما ورد في كتاب تاريخ الكنيسة ليوسابيوس-، وهي: (كتاب بيت أمراء الرب)، وتذكر المصادر الكنسية أن أوريجانوس رأى بنفسه النص العبري من سفر المكابيين، وكان بعنوان: (سار بيت سابا نويل)، واعتقد البعض أنها عبارة آرامية، وهي أسبق من العنوان اللاحق، وهو (سفر الحشمونيين)، ولا شك أن هذه العبارة مشتقة من عنوانٍ أو تفصيلٍ في كتاب ملحمة اليهود، وذكر الدكتور فاضل الربيعي ضمن تحليله المفصل والدقيق للسِّفر في كتاب (الرومان ويهود اليمن) أنّ (سار أو الساروس -باليونانية-) هي (إيل سره)، و(سترابون) المؤرخ الروماني يذكر هذه الكلمة باللسان الروماني لتعني (السرح أو إيل سرح أو الشرح)، أما (بيت سابا)، فهي ببساطة ووضوح (بيت سبأ)؛ فيكون العنوان هو: (سيرة إلشرح وقبيلة سبأ)، وهو العنوان الحقيقي لقصة الملحمة اليهودية الشعبية المصاغة لاحقًا بسفر المكابيين. 


وقبل الذهاب الى التفاصيل، لا بدّ من التدقيق في مشكلة التقويم المعتمد في السفر والكتاب؛ في قصة ولادة السيد المسيح يذكر يوسابيوس أن الولادة جاءت في السنة (42) من حكم أوغسطس، وهي السنة (28) لإخضاع مصر لسلطة روما، وتقابل سنة (750) من بناء روما، أي: سنة (2ق.م)، وبعضهم يقول: (4ق.م)، فهناك تقويم روماني بعنوان (بناء روما)، وهناك تقويم روماني مسيحي آخر هو ميلاد المسيح، لكن سفر المكابيين وكتاب يوسفيوس المزعوم يحددان الأحداث بهذه الطريقة: "في شهر كسلو من عام 173"، من دون تحديد التقويم المعتمد، واللافت أنّ شهر (كسلو) هو تسمية يمنية حميرية عبرية اقتبست من الآشورية، وليست يونانية أو مصرية؛ فالكاتب كان حتمًا على صلة باليمن، ونقل ما تردده الألسن كرواية شعبية، لكنّ (173) تظل مجهولة التقويم، فهل هو السلوقي أم الروماني أم البابلي؟ ناقش الدكتور فاضل الربيعي هذا الإشكال؛ فذكر أن الفارق بين التقويمين السلوقي والروماني يصل الى 24 سنة، أما حسب التقويم الحميري، فسيرتفع الفرق الى 115 سنة أو 109، وليس 24، لكن اعتماد الشهر الحميري (كسلو) يرجح أن التقويم كان حميريا ، وهذا يعني أن الأحداث حسب التقويم المسيحي وقعت عام (33 ق.م).


 إنّ هذا العام (33 ق.م) هو تمامًا تاريخ الحملة التي أمر بها الإمبراطور الروماني (أغسطس)، وقادها الجنرال (إيغالوس)؛ حيث تم الاستيلاء على ميناء عدن، وهذا الغزو استمر لعشر سنوات، انتهى بهزيمة نكراء للجيش الروماني؛ إذ واجه القائد (إيغالوس) خصمًا عنيدًا شديد البأس، هو الملك السبئي (إلشرح يحضب)، وهو الذي تشير إليه الروايات اليهودية بـ(يهوذا المكبي)، فيما تعاون معه المرتدّون بقيادة (القيل نشأ كرب بن يهأمن)، واستطاع الجيش الروماني السيطرة على مقاطعة (شمير مقبنة) في (تعز)، وتدعى حسب التسمية الرومانية (عشقة)، وهي ما تعرف اليوم بـ(العوشقة)، كذلك وصل القائد الروماني إلى (أفرولا)، أي المعافر، وكذلك (مارستب)، أي: (مأرب)، فحاصرها، وتراجع عنها بعد نقص شديد بالمؤن والماء بشكل خاص. 


لقد خاض (إيلشرح يحضب=يهوذا المكبي) حرب عصابات طويلة ناجحة ضد الرومان، اضطرهم في نهاية الأمر الى الانسحاب، تصحبهم هزيمة شنيعة، لكنّ هذا الغزو تسبب في نشوب حرب أهلية لزمن طويل بين الملوك الأقيال والأذواء، خصوصًا، بين (ألشرح بن يحضب) وشقيقه (يأزل)، وبين (شعر وتر) وشقيقه (يريم أيمن). 


إن هذا الغزو وما تلاه من حرب أهلية في بلاد حمير اليهودية بين مخاليف ومقاطعات اليمن هي القصة التي اختزنتها الذاكرة الشعبية، وتحولت على أيدي الكهنة والكنسيين الى كتاب يوسفيوس وسفر المكابيين، وإذا علمنا أن إيغالوس أخذ معه 500 يهودي (معظمهم ممن تعاون مع الغزاة وارتدّ عن الشريعة اليهودية في الختان وتحريم لحم الخنزير وغيرها)، نستطيع أن نفهم سرّ ولادة المسيحية في الدوائر الكهنوتية المرتدّة بالإسكندرية، وكذلك سرّ ترجمة الكتاب المقدس (الترجمة السبعينية) في تلك الدوائر. لقد جرت عملية تزييف للأحداث جغرافيتها، وإلحاقها بزمنٍ وجغرافيا أخرى بعيدة عن تلك التي وقعت فيها فعلًا، وكان ذلك منطلق حملة تلفيق تاريخية لم يسلم منها كامل تاريخ المنطقة، بل حتى تاريخ الحضارات القديمة.