من الواضح أن يوسفوس، الذي وُلد عام 37 م، كان يكتب ما وصله وما اطلع عليه مما اختزنته الذاكرة الشعبية اليهودية الشفاهية حول حرب قريبة من عصره، وليست بعيدة كما ورد لديه، إذ جعل الأحداث تجري في عام 167 ق.م. وهو لم يعتمد على مصادر مكتوبة معلنة ومعروفة، لكنه قد يكون اطلع على وثائق كتبها الكهنة اليهود كمذكرات أو مراسلات مضافة للحكايات الشعبية، وصفت تفاصيل الاضطرابات التي وقعت زمن الإمبراطور الروماني أغسطس الذي كلف القائد إيليوس غالوس حوالي عام 37 ق.م. بغزو اليمن في حملة ذكرها وعايش فصولها الجغرافي الروماني استرابون. لكن يوسفوس جعل من فلسطين ساحة لروايته استنادًا إلى قناعته التي دافع عنها في مؤلفاته، مما يتطلب وقفة نقدية ضرورية لتفكيك تلك القناعة.
فمدينة القدس الحالية، وهي التي يدعي اللاهوتيون والكنسيون أنها أورشليم التاريخية، خلت تمامًا من الأواني واللقى الأثرية، حسبما أكد ذلك علماء الآثار في الفترة الواقعة بين القرن السابع عشر إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد. وعلى الأرجح كانت المدينة قد اختفت وهجرها سكانها، وهذا ما يدحض ادعاءات يوسفوس الذي غاص في ضياع وضلال بعيد في كتابه (ضد أبيون)، بعد أن حاول تحوير حقائق التاريخ فجعل من الهكسوس أجدادًا للعبرانيين، وأنهم بعد هزيمتهم في مصر اتجهوا إلى يوديا (اليهودية) وبنوا أورشليم، ويعني بذلك مدينة القدس. وقد استند على روايات مشوشة كتبها بعض الكتاب والمؤرخين المصريين القدامى الذين لم يشيروا إلى اليهود أو بني إسرائيل مطلقًا. ومن الثابت أنه لا علاقة قط بين الهكسوس والعبرانيين نسبًا أو دينًا أو تاريخًا، وأن تلك الأقوام ارتبطت بالعرب إلى حد كبير واندفعت بعد هزيمتها في مصر القديمة نحو الجزيرة العربية، موطنهم الأول وليس إلى سوريا.
وبعد زمن طويل، فإن هيرودوتس، وهو مؤرخ يوناني آسيوي (484-425 ق.م)، تجول في منطقة سوريا الكبرى والبلاد المصرية ووادي الرافدين (وحتما مر بفلسطين)، ولم يذكر مطلقًا بلادًا باسم اليهودية كما لم يذكر مدينة بعنوان أورشليم. وعبثًا حاول يوسفوس في كتاب (الآثار اليهودية) وكذلك كتاب (ضد أبيون) أن يضطر نص فيثاغورس التاريخي الجغرافي، الذي أشار إلى الشعوب التي تمارس طقس الختان، لقول ما لم يقله في محاولة مفضوحة ومرتبكة لتصنيع تاريخ قديم لليهود في فلسطين قبل غزو الإسكندر المقدوني للمنطقة.
وكذلك كان موقف هيرونيموس، المؤرخ الذي كتب عن تاريخ الملوك من وفاة الإسكندر حتى وفاة الملك بيرهوس، وزعم يوسفوس أنه صار واليًا على سوريا، فلم يذكر اليهودية ولا أورشليم ولا اليهود مطلقًا. أما هيرميبوس، وهو كاتب سير من أزمير عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، فلم يذكر سوى أن فيثاغورثس فيما يمارسه أو يقوله من كلمات وتعاليم يحاكي عقائد اليهود وأهل طراقيا، لكنه لم يأت إلى ذكر بلاد اسمها اليهودية ولا مدينة اسمها أورشليم.
فاليهود كانوا معروفين ومنتشرين في تلك الفترة، يسكنون مناطق عدة منها قرى فلسطين وسوريا عمومًا ومصر وبابل وغيرها، بعد أن هجروا ودُمرت أورشليم اليمنية ومدن اليهودية على يد نبوخذ نصر.
كما أن يوسفوس حاول، وفق فهمه وربما رغبته في تعظيم شأن بني قومه أمام الكتاب الآخرين الذين حطوا من قيمتهم، أن يلوي عنق النصوص نحو معانٍ بعيدة عن جذورها ومقاصدها، خصوصًا فيما يتعلق باليهودية وأورشليم. فقد حاول تأويل الوصف الجغرافي الذي قدمه خويريلوس، وبالاستفادة من هوميروس (وهو معاصر لهيرودوتس وأصغر سنًا منه)، لجبال سوليموي والبحيرة العريضة من جبال أثيوبيا وأرتيريا والبحر الأحمر والفينيقيين (وهم الحميريون) الموجودين على جانبي البحر، بنقله إلى الفينيقيين في سوريا وعلى جانبي البحر الميت، وهو تأويل خاطئ تمامًا.
ومن المفارقات أنه فهم ما قاله بيروسوس البابلي عن حملة نبوخذ نصر على بلاد "المصريين والسوريين والعرب" بأنها تشير إلى البقعة الجغرافية لبلاد الشام ومصر الإمبراطورية، وأن هذا القائد البابلي فرض سيطرته على تلك البلدان. وهذا ما لا يتفق مع حقائق التاريخ المسطورة في النقوش البابلية والمصرية، فنبوخذ نصر لم يغزُ مصر في كل حملاته، إنما فتح بلاد العرب وصولًا إلى أورشليم، التي كانت في بلاد اليهودية في اليمن، واصطدم مع المصريين، وهم أهل "معين مصرن" وليس الإمبراطورية الإيجبتية (مصر الحالية). فأورشليم لم تكن في فلسطين، وإنما هناك حيث غزاهم البابليون في اليمن، وحيث غزاهم إيليوس غالوس الروماني سنة 37 ق.م تقريبًا وتلقى هزيمة كبيرة على يد الملك الشرح يحضب، الذي أسماه يوسفوس كهنوتيًا. وكذلك من كتب قصة حرب المكابيين من الكهنة والكنسيين (بيهوذا المكابي) بمعنى المخلص أو المختار.
من الملاحظات المهمة التي توجه التحليل توجها صحيحًا ودقيقًا وتفسر عدم معرفة وتعامل رجال الحملة الرومانية مع الكتاب المقدس هو أن الكتاب لم يكن مترجمًا إلى أي لغة. فـيوسفوس، وهو كاهن يهودي يعرف العبرية حتمًا، لم يشر قط إلى وجود ترجمة للكتاب المقدس (العهد القديم وفق الوصف الكنسي). ولو كان يعرف ترجمة يونانية أو لاتينية للتوراة، لوجه منتقدي اليهود وأخلاقياتهم وطقوسهم إلى قراءة تلك الترجمات وعدم الاعتماد على الأقاويل والتكهنات والافتراءات، لكنه لم يفعل ذلك أبدًا، مما يعني عدم توفر التوراة مترجمة بين يديه.
وفي كل ما كتب، لم يذكر هو أو من تعرض لهم أي إشارة لترجمة سبعينية متكاملة ومرجعية أو غيرها للنصوص التوراتية. وجل ما قاله هو أن بطليموس فيلادلفوس كان مولعًا بقراءة الأشعار المتعلقة بالكتابات المقدسة، وأنه كلف ديميتريوس وأندرياس وأريستياس بترجمة قوانين التوراة، كما أنه نفسه قام بترجمة بعض النصوص، كما ذكر ذلك في كتابه "الآثار اليهودية". فمانيثون (280 ق.م) لم يكن يعرف التوراة أو ترجماتها، وأبيون (42 ق.م ـــ 37 م)، الذي عاصر ولادة المسيح، لم يعرف أو يذكر شيئًا عن التوراة أو ترجمة يونانية لها. وقد هاجم اليهود قائلًا إنه سمع المعمرين المصريين يتحدثون عن موسى، لكنه لم ينقل عن أي نص مكتوب ولم يحاجج فيه، مما يعني أن تلك الترجمات لم تكن موجودة حينذاك، بل وُضعت في القرن الأول الميلادي وعلى مراحل، وبشكل تدريجي، والأرجح بعد النصف الأول منه، وبالترافق مع كتابة الأناجيل المسيحية، أي حوالي سنة 60 م.
تجدر الإشارة إلى أن إنجيل متى استشهد بنُتف صغيرة من سفر أشعيا، ومرة واحدة بسفر ميخا، وبمصطلح واحد من سفر دانيال. ولم تزد بقية الأناجيل على ذلك، لكن التدقيق في رسالة كلميندس (كليمنضس) (150 – 215 م) إلى كنيسة كورنثوس يبين أنها محشوة بالاستشهادات المقتطعة من أسفار توراتية عديدة، مما يدل على وجود ترجمة واسعة ومرجعية للنصوص التوراتية، سيما أن كليمندس كان رومانيًا وليس عبريًا.
إن الثقافة التوراتية السائدة كانت شفاهية ومنقولة عن الكهنة والأحبار، ولم يكن متاحًا للآخرين من غير الناطقين بالعبرية الاطلاع على نص مترجم ومتكامل للنصوص التوراتية، رغم أنه من المحتمل أن تكون هناك ترجمات لبعض المقاطع، مضافًا إلى ما كان يُردد بصيغة أناشيد دينية طقسية يتلوها رجال الدين ويرددها العامة، خصوصًا ما يتعلق بالنبوءات الواردة في أسفار أشعيا وميخا وبعض المزامير.
إن الارتداد المسيحي ونشوء الفرق اليشوعية، باعتبارها هرطقات يهودية، تفاقمت مع دخول الرومان إلى اليمن (وليس فلسطين) في عهد الإمبراطور أغسطس، الذي كلف القائد إيليوس غالوس بتأمين طريق البخور والقضاء على نفوذ الممالك اليمنية الصغيرة والمتناحرة. وانتشرت بين اليهود الدعوة إلى التحلل من طقوس الختان، وتحريم لحم الخنزير، وقدسية يوم السبت، وغيرها من الطقوس والشرائع اليهودية، مما أدى إلى نشوب صراع عنيف بين الطرفين. وظهرت بعض قصص هذا الصراع في كتاب يوسفوس عن يهوذا المكابي.
ويذكر المؤرخ استرابون أن القائد الروماني نقل معه أكثر من 500 شخص بين يهودي ومرتد، وحملهم معه إلى الإسكندرية، حيث شكلوا بذرة المسيحية التي ستنمو بقوة بعد انضمام الأوروبيين إلى الدعوة الجديدة، وبعد بدء ترجمة أجزاء مهمة من التوراة واطلاعهم عليها.
يقول برونو بور (1809-1882) إن المسيحية ومسيحها وُلدا في روما والإسكندرية عندما اجتمع مناصرو الرواقية الرومانية والأفلاطونية اليونانية المحدثة مع اليهودية لتشكيل دين جديد. بينما نشر جون م. روبرتسون كتابه المسيحية والأسطورة عام 1900، والذي تحدث فيه عن طائفة يشوع اليهودية القديمة التي عبدت الإله يشوع بوصفه الوريث المسيحي للدين التوحيدي.
في المقابل، يذكر ستونيوس (70-140 م.)، صاحب كتاب حياة القياصرة، أن المسيحيين هم طبقة ولم يربطهم باليهود. تاريخيًا، يمكن اقتفاء أثر قصة المسيح المصلوب في الشخصية التلمودية (يسوع بن بانديرا) الذي أُعدم ليلة عيد الفصح بأمر الكسندر جنايوس (106-79 ق.م)، فيما أشار بعض علماء التاريخ المسيحي المعاصرين إلى تكرار ظهور أدعياء النبوة اليشوعية وصلبهم.
إن ديانة الثالوث الكوكبي (القمر، الشمس، الزهرة) وما يناظر (الأب، الأم، الابن) هي ديانة قديمة كانت منتشرة في أوساط اليمنيين، وشكّلت جذرًا قديمًا وقويًا للديانة المسيحية المنشقة عن اليهودية التوحيدية الصارمة. ولا شك أن المرتدين اليهود المتأثرين بالثقافة الرومانية، وقبلها اليونانية، قد استحضروا بوعيهم أو من لاوعيهم تلك الديانة المتأصلة في نفوسهم وصاغوا على غرارها دينهم المسيحي الجديد.
وبما أن لأورشليم وقعًا تقديسيًا جذابًا لضمائر اليهود، كان لا بد من التواصل مع تلك المدينة المقدسة بأي صيغة ممكنة. يقول يوسابيوس في تاريخ الكنيسة إن بعض المهرطقين أنشأوا كنيسة في إحدى القرى وأطلقوا اسم أورشليم على تلك القرية من أجل الاستيلاء على مشاعر الناس ودفعهم للانتماء إلى تلك الكنيسة. وهذه الواقعة متكررة بالفعل، ليس بالنسبة لأورشليم فقط، بل لكل المدن التي يتركها أهلها طوعًا أو قسرًا؛ إذ يدفعهم الحنين والتعلق بالماضي إلى إطلاق أسماء مدنهم على محل سكناهم الجديد.
هذا هو حال القرى الفلسطينية التي استوطنها اليهود أثناء العهد الفارسي والعهد الهلينستي، حيث أطلقوا عليها أسماء المدن اليمنية اليهودية القديمة التي كانوا يقطنونها، ومنها أورشليم. وجاءت المسيحية الجديدة لتكرس تلك التسمية وتستفيد منها في انتشارها وفي تعزيز موقف المؤمنين بها، خصوصًا أن أورشليم الفلسطينية الجديدة تقع على الطريق البري المهم بين الإسكندرية والكنائس الناشئة في شمال سوريا والعراق، التي لعبت دورًا خطيرًا في انتشار وتفشي الديانة الجديدة نحو أوروبا.