ورقة بحثية بعنوان "تناقض أخلاق أسفار موسى والأسفار اليهودية" | عباس يونس العيدي

طقوس يهودية
طقوس يهودية

قدَّم عباس يونس العيدي، الكاتب والباحث العراقي، ورقة بحثية خلال حلقة نقاش "نقد السردية التوراتية" في عمان - الأردن، نظَّمها مركز "مجتمع" للدراسات الثقافية والتاريخية.




وحملت الورقة البحثية عنوان "تناقض النظم الأخلاقية - السلوكية.. بين أسفار موسى والأسفار اليهودية".


وننشر نص الورقة البحثية فيما يلي:

 وُضِعَ الكتابُ المقدسُ أو العهدُ القديمُ (بالوصف الكنسي المسيحي) الذي يعترف به معظم اليهود والمسيحيين في ثلاثة أقسام : التوراة و الأنبياء و المكتوبات ، وفي العبرية (توره תורה ، نبيءيم נביאיס، وكتوبيم כתבים)، وتشمل تسعة وثلاثين سفرًا حسب النسخة البروتستانية، وستة وأربعين سفرًا حسب النسخة الكاثوليكية، ويسمى العهد القديم بكامل أجزائه بالتناخ (Tenackh) وهي اختصار للحروف الأولى من كل قسم : 


1ـ أسفار التوراة الخمسة الأولى Torah  وبالعبرية תורה وتسمى أسفار موسى وباليونانية تسمى pentatuch وتشمل أسفار (التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، التثنية).


2ـ أسفار الأنبياء Nevim وبالعبرية  נביאיס: ويشمل أسفار يوشع والقضاة وصموئيل الأول والثاني والملوك الأول والثاني وأشعيا وأرميا وحزقيال وأسفار الأنبياء الصغار بحجم أسفارهم وهم أثنا عشر نبيا هوشع ويوئيل وعاموس وعوبيديا ويونان وميخا وناحوم وحبقوق وصفنيا و حجي وزكريا وملاخي، وهي أسفار نثرية في معظمها.


3ـ المكتوبات Ketuvim وبالعبرية כתבים: وتشمل أسفار المزامير وأيوب والأمثال وراعوث  ونشيد الإنشاد والجامعة والمراثي وأستير ودانيال وعزرا ونحميا وأخبار الأيام الأول وأخبار الأيام الثاني. وهي عموما ذات طابع شعري.


4- أما زيادات الأسفار التي في النسخة الكاثوليكية فهي: سفرا طوبيا ويهوديت بعد سفر نحميا، وسفرا الحكمة ويسوع بن سيراخ بعد سفر نشيد الإنشاد، وسفر باروك بعد سفر مراثي إرميا، وسفرا المكابيين الأول والثاني بعد سفر ملاخي. 


سلوك قضاة وملوك الدولة اليهودية

وشكّل العنف والتعامل الاجتماعي البدائي الوحشي مظهرًا واضحًا لسلوك قضاة وملوك الدولة اليهودية المبثوث في أسفار يوشع والقضاة وما تلاها، وبتناقض مع التوصيات والسلوكيات الأخلاقية والطقسية المتسامحة والسلمية الواردة في تعاملات الآباء وشخوص مرحلة الخروج وفي الأسفار التوراتية المبشرة بالشريعة الموسوية.


ويمكننا عدّ منهج أسفار يوشع والقضاة والملوك اليهود منسجمًا ومتشابهًا مع كل ما وصلنا من أثر أدبي وتاريخي وديني قديم للحضارات القديمة؛ كون تلك الأسفار متأثرة جدًا بذلك الأثر. فالسجلات الآشورية والبابلية والمصرية القديمة تنهض في تشريعاتها الوضعية ودعواتها على قواعد تتوخى الإنصاف في التعاملات اليومية والعلاقات الاجتماعية عمومًا، وفي شريعة حمورابي مثل شاخص وعظيم.


لكن، في الوقت نفسه، امتلأت تلك السجلات بمشاهد العنف والحروب والتهجير والقتل الوحشي والاغتيالات والصراعات الدموية بين أطراف العائلات المالكة، وغيرها من مناهج الحياة والأساليب الاجتماعية الأنانية الهمجية والبدائية المتدنية عن السمو الخلقي الروحاني. وقصص حرق المدن، وسوق الناس كعبيد، ونقلهم للسكن في مناطق بعيدة عن مناطق سكناهم، والقتل الإجمالي للأهالي معتاد ومتكرر لدى حضارات العراق ومصر وغيرها.


ولا يتناقض الأمر في تلك الحضارات البتة مع أخلاقيات دياناتها السائدة، فمعظم تلك الديانات كانت مرتبطة بإله (أو آلهة) محارب عنيف دائمًا، أو إله متخصص بالحرب، لا يتورع عن إبادة أعدائه وأصدقائه، ويطلب من أتباعه المضي بذات النهج المتطرف.

لكن ما ميّز أسفار التناخ هو ذلك الانقسام الواضح بين الأسفار الأولى المسماة بأسفار موسى أو (البنتاتيك pentatuch) التي رسمت مضمونًا إنسانيًا سلميًا مليئًا بالعفو والمسامحة، وبعيدًا عن العنف لرموزها المتمثلين بالآباء وموسى وهارون عبر التوكل على إلههم (يهوه) والاعتماد التام على قدرته، وبين الأسفار التالية (أسفار يوشع والقضاة والملوك وما تلاها)، وهي التي نسميها بالأسفار اليهودية في نهجها ومضمونها القائم على عدم التزامها بنصوص الشريعة الموسوية، والاندفاع العنيف البعيد عن تلك الأخلاقيات والقيم التي جاءت بها تلك الشريعة، والابتعاد عن إله إبراهيم، والتعبد لآلهة أخرى.


إن ذلك ليس استنتاجًا عائمًا دون حقائق داعمة، إنما هو ما تدل عليه الدراسة المتأنية للنصوص التوراتية، والمقارنات الدقيقة للأحداث المروية في الأسفار. وكي نتوخى الدقة في الأحكام، فقد وردت في سفر التكوين حالات عنف محدودة وفردية بعيدة عن التوجه السلمي العام. الأولى كانت قتل قابيل لهابيل، والثانية قتل لامك لشخصين بعد شجار أو عراك، من دون التخلي عن يهوه إله إبراهيم أو التنكر له، كما يرد في سفر الخروج، الإصحاح الرابع، الآية 8: ךיאמר (وقال) קין (قابيل) אל-ההבל (لهابيل) אחיו (أخيه) ויהי (وكان) בהיותם (بوجودهم) בשדה (بالحقل) ויקם (وقام) קין (قابيل) אל-הבל (إلى هابيل) אחיו (أخيه) ויהרגהו (وقتله).


والحادثة الأخرى وردت في نفس الإصحاح، الآية 23: ויאמר (وقال) למך (لامك) לנשיו (لامرأتيه) עדה (عده) וצלה (صلة) שמען (اسمعا) קולי (صوتي) נשי (يا امرأتي) למך (لامك) האזנה (أنصتا) אמרתי (لقولي) כי (لأن) איש (رجلا) רגתי (قتلته) לפצעי (لجرحي) וילד (وولدا) לחברتي (لشدخي).


الشريعة الموسوية لم تكن حاضرة

ومن المفهوم أن الشريعة الموسوية لم تكن حاضرة وقتئذ، إنما الصراعات البدائية التي تخلقها الظروف البيئية والمتعلقة بالطعام وأراضي الصيد وجمع الأثمار، ومن ثم الزراعة، مضافًا إلى الخلافات حول النساء والسلطة، هي التي كانت تتحكم بتلك التجمعات العائلية والعشائرية وتنتج قوانين المجتمعات وقيمها ومعاييرها. والرمزية التي تكمن وراء تلك المرويات واضحة وتفصح عن التحولات البيئية والاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها التجمعات البشرية.


فنظم القرابة ومحرمات الزواج كانت عرضة للتبدل، إذ تزوج إبراهيم سارة وهي أخته من أبيه، حيث كان ذلك طبيعيًا في مجتمع الأمومة أو بقاياه، كما يرد في الإصحاح العشرين من سفر التكوين: "12 וגם-אמנה (وأيضا بالحقيقة) אחתי בת-אבי הוא (أختي بنت أبي هي) אך לא בת-אמי (لكن لا إبنة أمي) ותהי-לי (وصارت لي) לאשה (امرأة (زوجة)). كذلك فعمرام (عمران) أبو موسى تزوج يوكابد وهي عمته أخت أبيه وجاء ذلك في الاصحاح السادس من سفر الخروج 20 ויקח (وأخذ) עמרם את יוכבד (عمرام يوكابد)דדתו (عمته) לו לאשה (له امرأة(زوجة))."


هناك حادثتان أخريان تشذان عن الصراعات الفردية الرمزية وعن سياق سفر التكوين، واتخذتا شكل صدام واسع نسبيًا. الأولى هي معركة إبراهيم مع "الملك" كدرلعومر وحلفائه، الذين أسروا ابن أخي إبراهيم، لوط، ونساءه وصادروا كامل ملكيته. لا نجد تفسيرًا لحضور هذه القصة الشاذة في حياة إبراهيم، فهي، وكامل قصة لوط، تبدو مقحمة وغريبة على النص، سيما وأن لوط سيختفي تمامًا من النص التوراتي بعد فترة قصيرة، إذ حرق (يهوه) سدوم وعمورة.


وقع هذا الحدث بعد زمن طويل من واقعتي قابيل ولامك الرمزيتين. كما أن إبراهيم لم تصغ شخصيته كرجل حرب مطلقًا، بل كنبي مسالم خاطبه الرب ووجهه نحو هدف محدد. يشرح الإصحاح 14، الآيتين 15 و16 تلك الواقعة، حيث هاجم إبراهيم كدرلعومر وجماعته: "15 ויחלק (وانقض) עליהם (عليهم) לילה (ليلا) הוא (هو) ועבדיו (وعبيده) ויכמ (وضربهم) וירדפמ (ولاحقهم) עד-חובה (حتى حوبه) אשר (الذي) משמאל (من شمال) לדמשק (لدمشق) 16 וישב (ورد) את כל-הרכש (كل المقتنيات) ועם (وأيضا) את-לוט (لوطا) אחיה (أخيه) ורכשו (ومقتنياته)  השיב (رد) ועם (وأيضا) את-הנשים (النساء) ואת-העם (الشعب)."


ومن المفهوم أن الشريعة الموسوية لم تكن حاضرة وقتئذ، إنما الصراعات البدائية التي تخلقها الظروف البيئية، والمتعلقة بالطعام وأراضي الصيد وجمع الأثمار، ومن ثم الزراعة، مضافًا إلى الخلافات حول النساء والسلطة، هي التي كانت تتحكم بتلك التجمعات العائلية والعشائرية وتنتج قوانين المجتمعات وقيمها ومعاييرها. والرمزية التي تكمن وراء تلك المرويات واضحة وتفصح عن التحولات البيئية والاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها التجمعات البشرية.


فنظم القرابة ومحرمات الزواج كانت عرضة للتبدل؛ فإبراهيم تزوج سارة وهي أخته من أبيه، حيث كان ذلك طبيعيًا في مجتمع الأمومة أو بقاياه، كما يرد في الإصحاح العشرين من سفر التكوين: "12 וגם-אמנה (وأيضًا بالحقيقة) אחתי בת-אבי הוא (أختي بنت أبي هي) אך לא בת-אמי (لكن لا ابنة أمي) ותהי-לי (وصارت لي) לאשה (امرأة/زوجة)". كذلك، فإن عمرام (عمران)، أبو موسى، تزوج يوكابد، وهي عمته (أخت أبيه)، وجاء ذلك في الإصحاح السادس من سفر الخروج: "20 ויקח (وأخذ) עמרם את יוכבד (عمرام يوكابد) דדתו (عمته) לו לאשה (له امرأة/زوجة)".


وهناك حادثتان أخريتان تشذان عن الصراعات الفردية الرمزية وعن سياق سفر التكوين، واتخذتا شكل صدام واسع نسبيًا. الأولى هي معركة إبراهيم مع (الملك) كدرلعومر وحلفائه، الذين أسروا ابن أخي إبراهيم، لوط، ونساءه وصادروا كامل ملكيته. لا نجد تفسيرًا لحضور هذه القصة الشاذة في حياة إبراهيم، فهي، وكامل قصة لوط، تبدو مقحمة وغريبة على النص، سيما وأن لوط سيختفي تمامًا من النص التوراتي بعد فترة قليلة، إذ حرق (يهوه) سدوم وعمورة.


وقع هذا الحدث بعد زمن طويل من واقعتي قابيل ولامك الرمزيتين. كما أن إبراهيم لم تصغ شخصيته كرجل حرب مطلقًا، بل كنبي مسالم خاطبه الرب ووجهه نحو هدف محدد. يشرح الإصحاح 14، الآيتين 15 و16 تلك الواقعة، حيث هاجم إبراهيم كدرلعومر وجماعته: "15 ויחלק (وانقض) עליהם (عليهم) לילה (ليلا) הוא (هو) ועבדיו (وعبيده) ויכמ (وضربهم) וירדפמ (ولاحقهم) עד-חובה (حتى حوبه) אשר (الذي) משמאל (من شمال) לדמשק (لدمشق) 16 וישב (ورد) את כל-הרכש (كل المقتنيات) ועם (وأيضا) את-לוט (لوطا) אחיה (أخيه) ורכשו (ومقتنياته)  השיב (رد) ועם (وأيضا) את-הנשים (النساء) ואת-העם (الشعب)".


وعدا موضوع الختان، وهو طقس مقدس منذ إبراهيم أو حتى قبله لدى بعض الأقوام الأخرى، يظهر مشهد الأحداث خاليًا إلى حد بعيد من التعليمات والتشريعات الإلهية المباشرة والمكثفة بصيغ وصايا أو تحريمات أو ما شابه ذلك، مضافًا إلى خلو المشهد من الطقوس الدينية العامة التي تجذب إليها المجموعة البشرية العائلية. وليس محجوبًا أن الكثير من تقاليد وعادات وروابط المجتمعات البدائية الطوطمية ما زالت تنبض بالحياة في المجتمع الإبراهيمي، ويمكن ملاحظتها بوضوح في قصص وشخصيات سفر التكوين.


لكن ما عوض غياب الوازع الديني المفرغ بصيغة تشريعات وقوانين في تلك الفترة هو ما كان يُعقد من اتفاقات ثنائية بين العوائل والعشائر على شكل حلف (أو قسم) متبادل يضمن مصالح الجميع ويحول دون وقوع الصدامات العنيفة بين أفرادها، مثل ما حصل بين أبيمالك وبين إبراهيم. إذ لم تنضج بعد الشرائع الدينية الشاملة، ولم تهيمن على السلوكيات العامة والفردية، رغم وجود إشارات إلى احترام مشوب بالخوف من كون إبراهيم نبيًا يرعاه الإله (يهوه) ويستمع لكلامه ودعواته، التي تسببت برؤيا مخيفة لأبيمالك أجبرته على رد سارة لإبراهيم وعقد اتفاقية تقوم على خشية حقيقية من شخصية هذا النبي. وقد عرضت ذلك آيات من الإصحاح 21 في سفر التكوين، منها: "23 ועתה (فالآن) השבעה (إحلف) לי (لي) באלהים (بالله) הנה (هنا) אם-תשקר (إذا تغدر) לי (بي) ולניני (وبنسلي) ולנכדי (وذريتي) כחסר (كاللطف) אשר-עשיתי (الذي صنعت) עמך (معك)  תעשה (تصنع) עמדי (معي) ועם-הארץ (ومع الأرض) אשר-גרתה (التي تغربت) בה (بها) ; 24 ויאמר (قال) אברהם (ابراهيم) אנכי (أنا) אשבע (أحلف)."


وكان ذلك كافيًا لأن تسود العلاقة الطيبة بين الطرفين كموقف أخلاقي متبادل ينأى بالجميع عن الصراعات والسلوكيات المضرة. وقد تكرر هذا الحلف بين أبيمالك وبين إسحق ابن إبراهيم في زمن لاحق ووفق نفس المبادئ، كما ورد ذلك في نفس السفر، الإصحاح 26: " ויאמרו(فقالوا) ראו (رؤيا) ראינו (رأينا) כי-היה (أن كان) יהוה (يهوه) עמך (معك) ונאמר (فقلنا) תהי (يكون) נא (إذا) אלה (حلف) בינותינו (فيما بيننا) בינינו (بيننا) ובינך (وبينك) ונכרתה (ونقطع) ברית (عهدا) עמך (معك)".

ولابد هنا من الإشارة إلى حضور الإله الحامي أمام إبراهيم دائمًا، فهو يحيطه برعايته ويدافع عنه عمليًا، ويرهب من يحاول الإساءة إليه. وبذلك يعوض عليه سلميته القائمة على عجزه وعدم قدرته على مواجهة من يتعرض له بالأذى. فقد ضرب فرعون ملك مصر، وأنذر أبيمالك وأرعبه بعدما حاولا أخذ سارة منه، ونتج عن ذلك رد حقوق إبراهيم وإعادة سارة إليه من دون أن يلجأ إلى العنف والمواجهة الجسدية المسلحة. وسيتكرر مشهد الإله المحارب والمدافع والمغني عبيده عن العنف كثيرًا فيما سيقع من أحداث سردت في سفر الخروج خاصة.



قصة يعقوب وعيسو

وفي ذات السفر تأتي قصة يعقوب وعيسو لتؤكد فضيلة الابتعاد عن العنف وعن خلق الغدر والكذب، وتكريس شيمة العفو والتسامح. ففي حين تمكن يعقوب وبتدبير أمه من سرقة بكورية أخيه عيسو، ثم تبعها بسرقة بركته من أبيه إسحاق بعملية غدر وحيلة، مما أدى إلى اشتعال العداوة والبغضاء في قلب هذا الأخير، فإن عيسو تحدث مع نفسه أو مع آخرين عن تصميمه على قتل أخيه كي يشفي غليله. وسمع يعقوب بنوايا أخيه فهرب إلى خاله لابان بعيدًا عن أهله وأرضه. وبعد رحلة شاقة وقصة شيقة وتغرب طال أمده، حيث تزوج ابنتي خاله لابان وكان له منهما ومن جاريتيهما أولاد وبنات، وأصبح غنيًا يمتلك قطيعًا كبيرًا من البقر والحمير والضأن والماعز، عاد إلى أهله متوقعًا تفجر غضب أخيه عليه. لكن ما واجهه كان بعيدًا للغاية عن توقعاته، فقد استقبله عيسو بأحسن استقبال وسامحه على ما كان من غدره وكذبه، فيما يمثل صورة فريدة رائعة للتسامح كما يرد في الإصحاح 33 من سفر التكوين: "4 וירע (وركض) עשו (عيسو) לקראתו (للقائه) ויחבקהו (وعانقه) ויפל (ووقع) על-צוארו (على عنقه)  וישקהו (وقبله) ויבכו (وبكيا) ".


وهناك قصة لا شك أنها دخيلة ولا تقع ضمن أجواء السفر وسلسلة الأحداث التي أشار إليها (وهي الشاذة الثانية) والشبيهة إلى حد بعيد بقصة حرب إبراهيم مع كدرلعومر من حيث كونها طارئة وناتئة عن مستوى سردية سفر التكوين. فهذا السفر تتحكم به قيم العفو والتسامح وتفهم أسباب أخطاء الآخرين وبواعثهم، والاتكال التام على إلههم في تصريف شؤونهم ومعالجة المخاطر التي تحيق بهم والإيمان بقدرته على معاقبة من يوقع بهم الأذى. لكن تصرف أولاد يعقوب كان بعيدًا عن كل ذلك. وتلك القصة كانت خطف شكيم بن حمور الحوي واعتدائه على دينة بنت يعقوب، ومن ثم طلبه الزواج منها. إذ تلا ذلك الانتقام المروع الذي قام به إخوتها، وذلك ما عرضه السفر في آيات الإصحاح 34: "1 ותצא (وخرجت) דינה (دينه) בת-לאה (بنت ليئة) אשר (التي) ילדה (ولدت) ליעקב (ليعقوب) לראות (للرؤية) בבנות (في بنات) הארצ (الأرض); 2 וירא (فرأى) אתה (إياها) שכמ (شكيم) בנ-חמור (بن حمور) החוי (الحوي) נשיא (رئيس) הארץ (الأرض) ויקח (فأخذ) אתא (إياها) וישכב אתה (وضاجعها) ויענה (وعناها)."


في هذه القصة تطل مشاعر الانتقام والروح الثأرية بكل قوة، متجاوزة كل معايير السفر الأخلاقية، والتي ارتكزت على صدق الكلمة وحفظ العهد والتسامح. وهي تشابه إلى حد كبير أخلاقيات عصر القضاة والملوك، وتبتعد عن سمات عصر الآباء. ففي حين اعتمد إبراهيم وإسحاق ويعقوب وعيسو على إلههم يهوه في رد المظالم عنهم والانتقام من أعدائهم، متجنبين أي شكل من أشكال العنف، نجد أولاد يعقوب ينفذون انتقامهم بأيديهم ويبيدون أهل شكيم وقريته جميعًا، معرضين إياهم للقتل والسبي والنهب. وقد اتخذوا طريقة ماكرة تمنح الأمان لحمور وابنه شكيم من خلال دفعهم لتبني طقس الختان الذي سيجعلهم مطهرين وصالحين لمصاهرة عائلة يعقوب. ويكون الختان علامة عهد الأمان والأخوة بين عائلتيهما، بينما قام أولاد يعقوب بمهاجمتهم في اليوم الثالث لختانهم حيث كانوا في حالة العجز عن صد الهجوم.


ومن الممكن تلمس حقيقة مفادها أن هناك تغيرًا واضحًا في نظام القرابة الذي كان مؤسسًا على نظام العشيرة الأمومية، حيث يكون للرجل الحق بالبحث عن زوجة له من عشيرة أخرى، أي من غير بنات أمه (إذ أن الزواج الداخلي، أي أن يتزوج الرجل امرأة من داخل عشيرته، كان محرمًا) بالرضا أو الخطف أو غيرها من الأساليب الممكنة. لذلك يندرج تصرف شكيم ابن حمور الحوي في سياق تلك القيم الأمومية السائدة، ولا يحق لعائلة الزوجة (أو المخطوفة) السعي لاستردادها، فقد باتت من عشيرة أخرى. لكن التحول الفعلي نحو العشيرة الأبوية، بما يعنيه ذلك من تسلط واستحواذ الرجل على كل شيء، ومن ضمنها النساء، وما يستتبع ذلك من استنبات أخلاقي ونهج سلوكي ملائم، صنف تصرف شكيم على أنه عدوان وتجاوز لا يغتفر يستحق أقصى العقوبات دون انتظار مساندة إلهية.


إن مستوى هذا التحول في عصر يعقوب وبحسب مجريات الأحداث لم يكن ناضجًا بما يكفي لتبرير رد فعل أبنائه، ولذلك يكون من المرجح أن هذه السردية نقلت وطوعت من عصر آخر غير عصر الآباء. ويروي الإصحاح 34 رد فعل أخوي دينة من أبيها وأمها: "25 ויהי (وكان) ביום (في اليوم) השלישי (الثالث) בהיותם (بكونهم) כאבים (متوجعين) ויקחו (فأخذا) שני-בני-יעקב (إثنان إبنا يعقوب) שמעונ ולוי (شمعون ولاوي) אחו (أخوا) דינה (دينة) איש (رجل) חרבו (سيفه) ויבאו (وأتيا) על-העיר (على مدينة) בטח (بأمان) ויהרגו (وقتلا) כל-זכר (كل ذكر); 26 ואת-החמור (وحمور) ןאת-שכמ (وشكيم) בנו (ابنه) הרגו (قتلا) לפי-חרב (بحد السيف) ויקחו (وأخذا) את-דינה (دينة) מבית שנמ (من بيت شكيم) ויצאו (وخرجا)".


أولاد يعقوب.. أزمة أخلاقية في تجربة قاسية

وبعد تلك القصة الناتئة عن مستوى السفر، ترد قصة أخرى تعود بالأحداث إلى الأجواء الاعتيادية للسفر. إن أولاد يعقوب في هذا السفر، وبعد واقعة شكيم بن حمور، يتعرضون إلى أزمة أخلاقية في تجربة قاسية تمثلت في محاولتهم إبعاد أحد إخوتهم من أبيهم، وهو يوسف بن راحيل، الذي أنجبته ليعقوب، حيث وقعوا تحت مطرقة نوازعهم واضطرابهم النفسي الناتج عن الغيرة الشديدة والرغبة في الاستئثار بعطف وأموال أبيهم، وبين سندان أخلاقهم وقيم آبائهم الموروثة التي تمنعهم من ارتكاب المحظور واجتناب الدنس.


تمثل هذه القصة انتماءً كليًا إلى البيئة الأخلاقية والقيمية لسفر التكوين، حيث يظهر الصراع بين الخير والشر كعامل جوهري يحكم تفاصيل الأحداث. ويكون هناك تبشير متفائل يتسرب إلى كل تفاصيل السردية بانتصار الخير المحتم وهزيمة الشر وانكفاء أصحابه وندمهم على ما اقترفوه من أخطاء جسيمة. وكما هو ديدن قصص السفر، فإن الإله يتحكم بمجريات الأحداث ويقودها إلى حيث الوصول لانتصار إرادته وإرادة من أطاعه وهزيمة من عصاه.


لكن ظهور الله لن يكون مباشرًا ومواجهًا داعمًا ومؤيدًا أو محذرًا ومنذرًا للموالين أو للمخالفين، إنما يكتفي هنا بحضور خفي مدبر عن بُعد، لا يظهر فيه ولا يخاطب أحدًا بأي صيغة للوحي. لكنه منح يوسف خصائص فريدة، حيث تعاظمت لديه بفعل الله قدرات وميزات جسدية وغيبية متعاظمة تمثلت في وسامته الفائقة ونزاهته وعفته وقدرته على تفسير الأحلام (تعبير الرؤيا)، بما يشكل في نهاية الأمر إمكانية للتنبؤ بالمستقبل وما سيجري فيه، والتحكم به أحيانًا وتغيير مسارات أحداثه، وكل ذلك يحصل بتدبير إلهي مسبق.

ولا بد هنا من إدراج ملاحظة مهمة تتعلق بهذه المسألة حصراً: يوسف قادر على التحكم بنتائج الأقدار المحتمة واقتراح الحلول التي تؤدي إلى توجيهها نحو مسارات مرغوبة، كما فعل مع أحلام فرعون بالبقرات والسنابل. لكنه يظهر غير مكترث بحلم السجينين، الساقي والخباز، فتركهما لمشيئة القدر ولم يتدخل باقتراح أو حل ما.


لم تتوفر ليوسف أدوات إعجازية كما توفرت لموسى لاحقًا، لكنه تمتع بالقدرة الهائلة على الإقناع بما امتلكه من صفات وقدرات شخصية متفوقة، لكنها في أبعد حدودها لا تخرق قوانين الطبيعة. لذا بدت قصته واقعية إلى حد بعيد جدًا، ومعبرة عن أخلاقيات عصر الآباء وقيمهم.


ويتوجب أن ننتبه إلى غياب العنف ودوره في هذه السردية، رغم ابتدائها بعمل غادر حقود بعيد عما يدعو إليه يهوه في سفر التكوين من قيم الصدق والسلم والوفاء. يرد في الإصحاح 37: "19 ויאמרו (فقالوا) איש (رجل) אל-אחיו (لأخيه) הנה (ها) בעל (صاحب) אחלמות (الاحلام) הלזה (هذا) בא (أتى);  20 ועתה (والآن) לכו (تعالوا) ונהרגהו (نقتله) ונשלכהו (ونطرحه) באחד (بأحد) הברות (بآبار) ואמרנו (ونقول) חיה (وحش) רעה (شرس) אכלתהו (أكله) ונראה (ونرى) מה-יהיו (ماذا تكون) חלמתיו (أحلامه); 21 וישמע (فسمع) ראובנ (رأوبين)  ויצלהו (فأنقذه) מידם (من يدهم) ויאמר (وقال) לא נכנו (لانضرب) נפש (نفسه); 22 ויאמר (وقال) אלהמ (لهم) ראובנ (رأوبين) אל-תשפכו-דמ (لاتسفكوا دم) השליכו (اطرحوا) אתו (إياه) אל-הבור (في البئر)הזה (هذه) אשר (التي) במדבר (بالبرية) ויד אל-תשלחו-בו (ويدا لا ترسلون فيه) למעו (لأجل) הציל (إنقاذ) אתו (إياه) מידהם (من يدهم) להשיבו (لإعادته) אל-אביו (الى أبيه)"

إن استعراض آيات قصة يوسف يبين عمق الصراع الأخلاقي والقيمي الذي انتاب نفوس أولاد يعقوب وهم يناقشون كيفية التخلص من أخيهم لأبيهم يوسف. فمن دعوة إلى قتله، وهو فعل سبق أن مارسوه بحق شكيم وعشيرته وفق تلك القصة الغريبة، ثم التراجع عنها بمبررات الدم الواحد، وبعدها اقتراح طرحه في شق أرضي عميق أو كما ترجمت "بئر جافة" وتركه لمصيره تأكله الضواري، وانتهاءً ببيعه لتجار إسماعليين كعبد أجير.


كل ذلك عكس اضطرابًا أخلاقيًا عاصفًا اجتاح جماعة الإخوة، ذلك الاضطراب الناشئ عن تضاد بين قطب التربية الإبراهيمية التي تقوم على رفض العنف والغدر والبغض وعدم الانسياق وراء الدوافع الأنانية الكريهة بمقاييس تلك التربية، وبين قطب تسلط الغرائز وتسيد المصالح الأنانية والرغبة في الاستحواذ، الذي تفرضه طبيعة تطور الأفراد والمجتمعات وبناها التحتية دون تطور ملموس في البعد الروحاني الطقوسي والشرائعي.


هذا الاضطراب يُرمز به إلى الانكفاء القيمي الأخلاقي الذي انتاب أفراد مجتمع العشيرة الإبراهيمية كتمثيل للمجتمعات العشائرية الأخرى المعاصرة لها. إن ذلك الاضطراب المضطرم والصمود الروحي الخلقي المضاد شكل المادة الخام التي تمخضت عنها الشريعة الموسوية بأحكامها ودعواتها القيمية المتطورة.


ويأتي لقاء يوسف بإخوته الذين غدروا به، ونبل تصرفه معهم، تكريسًا للسلوك السامي الذي بشر به سفر التكوين. فبدلاً من أن يدفعه قبح نياتهم وسوء تصرفهم معه إلى اتخاذ موقف عدائي انتقامي، نراه يسلك درب المسامحة والعفو عند المقدرة، كما روى الإصحاح 45 ذلك الموقف: "14 ויפל (ووقع) על-צוארי (على رقبة) בנימן-אחיו (بنيامن أخيه) ויבך (وبكى) ובנימן בכה (وبنيامن بكى) על-צואריו (على رقبته);   15 וינשק (وقبل) לכל-אחיו (أخوته) ויבך (وبكى) עליהם (عليهم) ואחרי (وبعد)  כן (ذلك) דברו (تكلموا) אחיו אתו (اخوته معه). 


ولو أن يوسف اتخذ موقف الخصومة السلمية مع إخوته بهجرهم وتركهم لحال سبيلهم، فإنه لن يخرج عن أخلاقيات سفر التكوين والقيم الإبراهيمية. لكنه لم يتوقف في موقف المسامحة النبيل عند هذا الحد، ولم يكتفِ بالتجاوز عن سيئات وسلوكيات إخوانه، بل ذهب أبعد من ذلك، حيث برأهم من فعلتهم وجعلهم جزءًا من إرادة يهوه (أو إيلوهيم). فقد اعتبرهم أدوات استعملها الله لإنقاذ بني إسرائيل من مجاعة مميتة، وسوّغ ما بدر منهم من أحقاد وتآمر دنيء بما يعذرهم ويرفع من شأنهم، ويخرجهم من ظلمة سيئات أعمالهم وشعورهم بالخزي والذنب العظيم، ذلك الشعور المدمر المحبط والمنقطع عن أي أمل بالمغفرة.


فجعل الله هو المدبر لكل ما حدث، وجعلهم جزءًا من عمل خير كبير، حتى لو كانوا جزئية شريرة ولدت في السياق. وبشرهم بمغفرة من ربهم ورحمة، فهم كانوا وسيلته من أجل إنقاذ بني إسرائيل، والحفاظ على نسلهم في زمن المجاعة القاسية. وذلك ما جاء في الإصحاح 45: "7 וישלחני (وأرسلني) אלוהים (الله) לפביכם (أمامكم) לשום (لجعل) לכם (لكم) שארית (بقية) בארץ (في الأرض) ולהחיומ (ولإحياء) לכם (لكم) לפליטה (لنجاة) גדללה (كبيرة); 8 ועתה (والآن) לא-אתם (ما أنتم) שלחהם (أرسلتم) אתי (إياي) הנה (هنا) כי (بل) האלהים (الله) וישימני (وجعلني) לאב (أبا) לפרעה (لفرعه) ולאדון (وسيدا) לכל-ביתו (لكل بيته) ומשל (ومسلط) בכל-ארץ מצרים (بكل أرض مصريم)."


مدونو النصوص التوراتية

وما يلي هذا السفر الغني بالقيم الأخلاقية البسيطة، المتناسبة مع المستوى التطوري الأولي للبنى التحتية للمجتمع، وحيث تبين أن السلمية والجنوح للأمن الاجتماعي وتهدئة الصراعات مع العشائر الأخرى وتجنب خوض الحروب معها كان هو المنهج العام السائد في أجواء السفر مع بعض الاستثناءات الفردية أو المقحمة لأسباب تتعلق بمدوني النصوص التوراتية. إن ما يلي كل هذا هو سفر روحاني غاية في السلمية والتطلع إلى السماء، ويمثل الثمرة الطبيعية لسفر التكوين بمناهجه الإنسانية، حيث يجري فيه الصراع بين الله (إيلوهيم) وبين فرعون ملك مصر، ولا يمثل موسى وهارون إلا رسولين ومتكلمين باسم الله من غير أن يخوضا بقدراتهما الفردية الإنسانية أي صراع، معتمدين كليًا على ربهم ذي القدرات المطلقة.


ونجد صعودًا دائمًا ونضوجًا مستمرًا لأحكام وتحريمات وشرائع تضبط علاقة الفرد بالله وبالمجتمع في إطار ملاحقة دؤوبة للعدالة وتوخي الإنصاف والطهارة الروحية عبر سيل من الطقوس المحاطة بعطور البخور واللبان. وإذا كان سفر التكوين قد طرح مسألة خطأ التناحر الفردي بين الأخوين ومقتل أحدهما بسبب التطلع للتقرب إلى الله، فإن سفر الخروج يبتدئ بخطأ تناحر مقارب، حيث يقتل موسى مصريًا لا من أجل التقرب إلى الله، فهو كما يُستدل من النص لم يتعرف إليه بعد، ولم يتواصل معه حتى بصيغة الأحلام أو الوحي، إنما لنصرة ابن جلدته العبري على خصمه المصري بعد أن كبر وأدرك شدة معاناة العبريين قومه وتعرضهم للتنكيل والسخرة والعمل المجهد المميت، كما ورد في سفر الخروج الإصحاح الثاني 11: "ויהי (وكان) בימים (في الأيام) ההם (تلك) ויגדל (فكبر) משה (موسى) ויצא (وخرج) אל-אחיו (الى إخوته) וירא (ورأى) בסבלתם (أثقالهم) וירא (ورأى) איש (رجل) מצרי (مصري) מכה (ضاربا) איש-עברי (رجل عبري) מאחיו (من إخوته); 12 ויפן (فالتفت) כה וכה (هنا وهنا) וירא (ورأى) כי אין (أن ليس) איש (رجل) ויך (فضرب) את-המצרי (المصري) ויטמנהו (وطمره) בחול (بالرمل)."


فموقفه كان انفعاليًا ينطلق من رفض شديد للظلم والتجبر الواقع على صنف من الناس موصوفين بالعبيد، لكن ليس من منطلق ديني، إنما من منطلق إنساني طبقي في حقيقته، فهو إدانة للمجتمع العبودي الذي يُسحق فيه الفقراء لدرجة الاستعباد. ومن واقع هذا الاضطهاد ومن التبشير بشريعة جديدة، ولد شعب جديد. ورغم أن النص لم يبين أسباب خلاف العبري مع المصري، فإنه يشير إلى علاقة استعبادية أدت إلى اضطهاد العبري وعجزه عن الرد. وعموماً، لم يكن الصراع أو الخلاف دينياً مطلقاً، فالسفر في أكثر من موضع يشير إلى أن بني إسرائيل قد نسوا إلههم، بل إن يهوه ربهم كان قد نسيهم وتذكرهم بعد موت فرعون وتعالي صراخهم. هكذا يرد الأمر في سفر الخروج، الإصحاح الثاني، الآية 24: "וישמע (وسمع) אלוהים (الله) את-נאקתם (أنينهم) ויזכר (فذكر) אלוהים (الله) את-בריתו (عهده) مع-אברהם את-יצחק את-יעקב (إبراهيم وإسحاق ويعقوب)".


وليس معلوماً ما هي ديانة بني إسرائيل في هذه الفترة، لكن فرعون على الأغلب كان قد فرض ديانته عليهم. وموسى تربى أصلاً في البلاط المصري، ومن المرجح أنه كان على ديانتهم أيضاً، ولم يعرف إله آبائه القدماء حتى التقاه في البرية عندما كان يرعى غنم يثرون إثر هروبه واختفائه خوفًا من عقوبة فرعون.


وسيكون الحج وإحياء طقوس دين إبراهيم هو الموضوع الجوهري للصراع الذي سيشغل معظم صفحات السفر، حيث يناصر الله (يهوه) تلك المجموعة القبلية المستعبدة في خروجهم من أسر العبودية والاضطهاد الذي سلطه فرعون عليهم. ويبقى لقاء موسى بربه حدثًا كبيرًا وجليلاً أدى إلى ولادة الديانة الجديدة التي توجهت إلى ربها (أبيها) القديم مرة أخرى في مسيرة حج شاقة استغرقت عقوداً من الزمن بعد زمن طويل من النسيان والانقطاع. لقد أيقظ موسى الصلة بين بني إسرائيل ويهوه من سباتها العميق، بعدما غمرها النسيان وكادت أن تموت. يرد في الإصحاح الثالث من السفر:  "13 ויאמר (وقال) משה (موسى) אל-האלהים (الى الله) הנה אנכי בא (ها انا ذاهب) אל-בני ישראל (الى بني اسرائيل) ואמרתו להם (وأقول لهم) אלהי אבותיכם (إله آبائكم) שלחני אליכם (أرسلني إليكم) ואמרו-לי (فقالوا لي) מה-שמו (ما اسمه) מה אמר אלהמ (ماذا أقول لهم) 14 ויאמר אלהים (فقال الله) אל-משה (الى موسى) אהיה אשר אהיה (أكون الذي أكون) ויאמר כה תאמר (وقال هكذا تقول) אל-בני ישראל (الى بني اسرائيل) יהוה (يهوه) אלהי אבתיכם (إله آبائكم) אלהי אברהם (إله إبراهيم  ואלהי יצחק (وإله اسحاق) ואלהי יעקב (يعقوب) שלחני אליכם (أرسلني إليكم) זה-שמי (هذا اسمي) לעלמ (للأبد) וזה זכרי לדר  דר (وهذا ذكري جيل بعد جيل)."


موسى والتجربة الحربية الأولى

في هذا النص، تعرف موسى إلى ربه وتكلم معه مباشرة، وأعلن الرب أن اسمه هو (يهوه)، وهذا ما يجب أن يعرفه بنو إسرائيل. وموسى، الذي ابتدأ حضوره منفعلًا ومنفلت الأعصاب بحيث قتل إنسانًا، نراه بعد هروبه ولقائه بيثرون وبناته، ومن ثم بربه، إنسانًا هادئًا نادمًا، حكيمًا وديعًا وخجولًا، لا يجرؤ على مواجهة فرعون فيطلب العون من أخيه هارون الذي هو أكثر جرأة وفصاحة منه.

فموسى هنا نبي سلام ودعوة حرية ونبذ كامل للقوة والحروب والثورات. ويهوه لم يقلده رمحًا أو يدعه لامتشاق حسامًا، وإنما طلب منه أن تكون عصاه، التي يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه، سلاحه ووسيلته في الإقناع، بوهم تحولها إلى أفعى، وما تحمله هذه الصورة من معانٍ تخاطب الروح بضرورة الإيمان عبر المعجزة، التي هي فعل أخلاقي بعيد عن سفك الدماء والقيم العنفية البذيئة.

وتبدأ مساجلة صعبة وشائكة بين الرسولين وبين فرعون، الذي كبله يهوه وأصابه بعمى البصيرة، وجعله يتخلى عن عنفه وينسى قدرته على الفتك بهما. فيخضع لاختبارات يكون فيها يهوه هو الطرف الآخر المنتصر دوماً عبر معجزاته، بينما يقف موسى وهارون لا يملكان من شؤون الصراع أمرًا سوى تقديم معجزات يهوه، يضعانها أمام فرعون، ثم يطلبان منه الاتعاظ واستيعاب العبر دون تحريض على العنف، ودون خداع أو مراوغة.


وهما بذلك يأتيان بأخلاق جديدة على مجتمع منقسم طبقياً بشدة ويرتكز إلى مفاهيم القوة وتجييش المجتمع، وينظر باحتقار ودونية للفقراء والعبيد ويحملهم مسؤولية حالهم. وينتظران النهاية المحتومة للصراع برضوخ فرعون وإطلاق سراح بني إسرائيل. لكنهما لم يطلبا أكثر من إطلاق سراح مجموعة العبيد لكي تحج إلى ربها في الصحراء وتذبح له الذبائح وتحتفل بعبادته، وهذا هو ما ورد في كلام موسى وهارون إلى فرعون، الوارد في الإصحاح الخامس من سفر الخروج، الآية 1: "ואחר (وبعد ذلك) באו משה ואהרן (أتيا موسى وهارون) ויאמרו אל-פרעה (وقالا لفرعه) כה-אמר יהוה (هكذا قال يهوه) אלהי ישראל (إله اسرائيل) שלח (أرسل) את-עמי (شعبي) ויחגו (فيحجوا) לי (لي) במדבר (بالصحراء). وكذلك يتكرر ذات المعنى تماما في الآية 3; ויאמרו אלהי העברים (وقالا إله العبرانيين) נקרא עלינו (دعانا) נלכה (نذهب) נא דרב (طريق) שלשת ימים (ثلاثة أيام) במדבר (بالصحراء) ונזבחה (ونذبح) ליהוה (ليهوه) אלהינו (إلهنا) פן-יפגענו (لئلا يفجعنا) בדבר (بوباء) או בחרב (أو بسيف). 


فطلبهما هو أن يدع فرعون بني إسرائيل ليحجوا ويذبحوا لإلههم على بعد ثلاثة أيام في الصحراء، أي يمارسوا طقسًا دينيًا جاء به موسى بأمر يهوه. ولم يقولا إنهم سوف يهربون أو لن يعودوا في هذه المرحلة. كما أنهما وصفا إله إسرائيل بأنه إله سلام لا يريد الشر بفرعون، وطلبه هو السماح برحلة الحج فقط، وليس أكثر من ذلك.


ولم يسعَ موسى إلى تسليح بني إسرائيل أو دفعهم للفوضى أو الثورة على مستعبديهم، بل بقي يدعو إلى التعامل السلمي الصبور، معتمدًا كليًا على قدرة يهوه في ردع فرعون. أي أنه اكتفى بالدعاء واستجابة يهوه لدعائه، وابتعد عن الاصطدام رغم دعم إلهه له. وقد اتبع موسى سلوكًا ومنطقًا مهذبًا وسلميًا مع فرعون، فلم يشكُ له حال قومه السيء، أو يذكر مذلة بني إسرائيل واضطهادهم من قبل المصريين، وتغافل عن هذا الأمر كليًا وعدّه ثانويًا بالنسبة لمهمته، التي تركزت على مسألة الحج في الصحراء خوفًا من أن يبتليهم ربهم بالوباء أو القتل.


وهذا في الحقيقة تمويه لصلب الصراع وبعيد عن سبب هروبه الأول عندما قتل المصري لأنه رآه يضرب العبري. فأصل المسألة طبقي، واستحال بعد لقائه يهوه إلى دعوة دينية لا تهتم للواقع الطبقي المستعبد المر لبني إسرائيل، لكنها تعدهم بحل جذري وشامل لمشكلتهم الكبرى المتمثلة بالعبودية من خلال الهجرة إلى أرض تفيض عسلًا ولبنًا. فلا حرية بحسب دعوة موسى إلا بالاستجابة ليهوه والانخراط في مسيرة الحج التي تستغرق ثلاثة أيام في الصحراء نحو الأرض الموعودة.


واستمرت حوارات موسى مع فرعون، مترافقة مع الضربات الإعجازية التي وجهها يهوه لفرعون وشعبه، حتى حلت ليلة الرحيل نحو الصحراء. وكانت ليلة دموية قاسية، حيث قتل يهوه كل بكر في مصر، بدءًا من بكر فرعون الجالس على العرش إلى بكر كل البهائم. وقد ناح شعب فرعون كله تلك الليلة. وطيلة تلك المرحلة، لم يقم موسى ولا أي من بني إسرائيل بأي عمل عدائي مع أهل مصر، بل على العكس، فقد أعارهم المصريون الذهب والفضة وغيرها، فيما اعتبره يهوه سلبًا لهم.


إن يهوه هو الذي واجه فرعون، وليس موسى أو هارون، وهو المسؤول عن كل ما حصل لقوم فرعون. أما موسى، فلم يكن في كل ذلك إلا رسولًا لا يتحمل مسؤولية في كل ما جرى. وحتى عندما تابع جيش فرعون بني إسرائيل عند البحر، قال موسى كلمته المعبرة عن حقيقة الأحداث في الإصحاح الرابع عشر، الآية 14: "יהוה (يهوه) ילחם (يقاتل) לכם (لكم) ואתם (وأنتم) תחרשון (تخرسون)". فالمعركة هي معركة يهوه وليست معركتهم، وهم غير قادرين على مواجهة فرعون وجيشه ومركباته، وحده يهوه القادر على مواجهته، حيث أطبق عليه وعلى جماعته البحر واختفوا من حياة بني إسرائيل.


لكن السلام لا يمكن أن يدوم أبدًا، فقد تعرض بني إسرائيل إلى هجوم من قبيلة أخرى تسمى عماليق (עמלק)، وكانت التجربة الحربية الأولى، حيث وقف موسى بعصاه ينصر أفراد قبيلته بقيادة يهوشع (יהושע). وهذه هي المرة الأولى التي يراق فيها دم بفعل مباشر من إسرائيلي منذ حادثة قتل المصري على يد موسى. لكن البيئة الاجتماعية ظلت سلمية بعيدة عن أجواء الحرب وقيم العدوان والهمجية، وقد فرضت هذه المعركة عليهم فرضًا، فهم في معرض الدفاع عن النفس وليسوا معتدين على أحد.


وبعد أن نظم موسى شعبه بناءً على نصيحة يثرون حموه، فجعل هناك معلمين وقضاة يتسلسلون وصولًا إليه، بدأت مرحلة إنضاج الشريعة والأحكام. حيث أخذ موسى الشعب إلى جبل سيناء (סיני)، وهناك كلمه الله وتلقى منه الشريعة. وتحددت بشكل واضح ومباشر أخلاقيات المجتمع الموسوي وأحكام الشريعة التي يتبعونها، وكانت درجة ترقي كبيرة قفزت بالنظم الأخلاقية والقيمية نحو آفاق سامية، حيث يصف الإصحاح العشرون جملة تلك الشريعة ومنها: "13; לא תרצח (لاتقتل) 14 לא תנאף (لا تزني) 15 לא תגנב (لا تسرق) 16 לא–תענה (لا تشهد) ברעך עד שקר (بصاخبك شهادة زور) 17 לא תחמד בית רעך (لا تشتهي بيت صاحبك) לא תחמד אשת רעך (لاتشتهي امرأة صاحبك) ועבדו (وعبده) ואמתו (وأمته) ושורו (وثوره) וחמרו (وحماره). 


وقدس يوم السبت وحرم النحت وصنع الأصنام وعبادتها ورفع الأزميل على الحجر، وأقر الختان كشريعة، وغيرها من الأحكام والشرائع التفصيلية المشتقة من حياة القبيلة الرعوية المرتحلة. وفي هذا السفر ظهرت بادرة عدت نمطًا من الارتداد عن الشريعة الموسوية وبصيغة تمرد سلمي على سلطة موسى الذي كان غائبًا. فقد قام هارون بصنع تمثال لعجل وصف بأنه يهوه إله إسرائيل، ويبدو أن التمرد كان واسعًا وجرى بلا معارضة تقريبًا، وكان هارون، الرجل الثاني بعد موسى، لعب دور القائد لهذا التمرد حسب نصوص سفر الخروج، حيث صنع العجل الذهبي وأقام أمامه محرقة لتقديم النذور وحرق البخور.


ولكن هناك فهم آخر مضمونه أن هذا التمرد يعبر عن حاجة القبيلة البدوية البسيطة لرموز مادية تتوجه إليها في طقوسها وحجها، إذ لم تستطع الاستمرار بعبادة يهوه المجرد الذي لا يستطيعون التعامل المباشر معه، فاتخذوا من موسى رمزًا له. وعندما طال غياب هذا الرمز في سفرته التعبدية، شاع ظن أنه لن يرجع، فوقع تمرد سلمي يبحث عن بديل لموسى يتوجهون إليه.

هذا التمرد يمكن وصفه بأنه عملية تطوير للديانة الموسوية، وما يبرهن ذلك هو ما حصل من استجابة موسى لإرادة الشعب بصنع خيمة الاجتماع وتابوت العهد ولوحي العهد، التي سيتوجه نحوها المؤمنون في كل نشاطهم الديني والاجتماعي، وذلك كله استعدادًا لرحيل موسى وللحيلولة دون انتكاس ديانته. وليس بلا معنى أن يكون هارون وبنيه هم الكهنة في هذا التدبير، بينما كانوا هم قادة التمرد وصانعيه.


لقد أخطأ هارون باجتهاده، حيث كان يجب أن يقترح رمزًا متصلًا بالديانة وشرائعها، لا بصنع عجل ذهبي سيتطور حتمًا إلى إله بديل ليهوه. لكنه لم يدعُ إلى إله آخر غير يهوه، ولم يتخذ موقفًا معاديًا للديانة وأحكامها وشرائعها. ورغم سلمية مشروع التطوير المقترح من قبل هارون، فقد قوبل بعنف غير متوقع، يأتي خارج سياق السلوكيات الموسوية، عندما جعل اللاويين يعاقبون المرتدين في المخيم، فقتلوا ثلاثة آلاف رجل، وعد موسى ذلك تكريسًا للاويين في خدمة ربهم، كما جاء في الإصحاح الثاني والثلاثين: "28 ויעשו (وعملوا) בני-לוי (بنو لاوي) כדבר (ككلام) משה (موسى) ויפל (وسقط) من-الעם (من الشعب) ביום ההוא (في ذلك اليوم) כשלשת אלפי איש (ثلاثة آلاف رجل)".


ومن الصعوبة تفسير تصرف موسى ودعوته لاستباحة المخيم، خصوصًا أنه كان يتواصل مع ربه من أجل أن يغفر لقومه خطيئتهم، وأن يمنع عنهم انتقام يهوه. ويبدو أن الصراع كان محتدمًا ساعة اتخذ هذا القرار، وأن هناك من المرتدين ممن لم يتراجعوا عن فعلتهم وانتقلوا إلى مرحلة العصيان المسلح، فكان ذلك سببًا في اضطرار موسى لمعالجة المسألة بهذا الأسلوب العنيف المتناقض مع دعوته وأخلاقياتها.


وانتقل السفر في صفحاته الأخيرة إلى وصف مواد وطريقة بناء خيمة الاجتماع التي يلتقي فيها موسى ربه، وكذلك تابوت العهد الذي سيضم بداخله حجري الوصايا العشر الربانية التي نقشها يهوه بنفسه. وقد أطنب موسى في شرح طبيعة وكمية المواد التي يحتاجها العمل، وساهم الجميع بتبرعات سخية في توفير تلك المواد حتى فاضت عن ما هو مطلوب، وكان الشعب منشغلًا كليًا بإنجاز العمل، فيما يقوم موسى والقضاة الذين اختارهم بعملهم اليومي في تسيير شؤون الناس والحكم فيما بينهم من خلافات.


وتنهمر أحكام الشريعة المفصلة في سفر اللاويين، حيث تأسست نظم أخلاقية جديدة بموجب الأحكام والتشريعات الموسوية، دفعت المجتمع الإسرائيلي البدوي مسافات واسعة نحو التحضر والابتعاد عن القيم القديمة، بما فيها نظم القرابة. وإذا لاحظنا كمثال على عمق التغيير الأخلاقي، زواج إبراهيم من أخته بنت أبيه وزواج عمرام، أبي موسى، من عمته، فقد جاء النص الشرعي الموسوي الجديد حاسمًا، فحرم هذه العلاقات القرابية وعدها جرمًا يستحق الموت، كما ورد في الإصحاح الثامن عشر: "11 ערות (عورة) בת-אשת אביך (بنت امرأة أبيك) מולדת אביך (مولودة أبيك) אחותך הוא (أختك هي) לא תגלה ערותה (لا تكشف عورتها) 12 ערות  אחות אביך (عورة أخت أبيك) לא תגלה (لاتكشف) שאר אניך הוא (قريبة أبيك هي)."


تطور مهم لنظم القرابة.. انتهاء عصر الأمومة وبدء عصر العشيرة الأبوية

إن هذا تطور مهم جرى لنظم القرابة بما يشير إلى انتهاء عصر الأمومة تمامًا وبدء عصر العشيرة الأبوية، التي ستترسخ في مجتمعها قيم جديدة وقوانين اجتماعية حاكمة مختلفة عما عرفته العشيرة البدوية الرحالة. إن سفر اللاويين هو سفر سن الشرائع والقوانين فيما يتصل بمختلف شؤون الحياة حينذاك، وهو سفر معبأ بالقيم الأخلاقية وأحكام الجزاء وطقوس الديانة الموسوية الجديدة، التي لعبت فيها النذور والذبائح والبخور الدور المهيمن، وحددت شكل العلاقات القائمة بين الأفراد وبينهم وبين الكهنة، وما تتطلبه الحياة الدينية من ضوابط.


وبذلك، يمثل هذا السفر ذروة الارتقاء القيمي والروحي وتكثيفًا للمستوى الخلقي المتقدم الذي وصله المجتمع الإسرائيلي، والذي وصلته الديانة الموسوية، وبات التمسك به هو أساس الصلة مع الرب ومع ممثلي الرب. ومن الجدير بالذكر أن هذا السفر (وأسفار أخرى) قد اندثر مع الزمن، وتركته الأجيال اللاحقة ولم تعمل به، في ضياعها وتخبطها وابتعادها عن دين موسى.


وشملت مرحلة الانقلاب على عصر موسى معظم زمن الأسفار التي تلت سفر التثنية، حتى عثر على سفر الشريعة أو اللاويين (أو على سفر التثنية الذي هو إعادة لشرائع سفر اللاويين) الكاهن العظيم حلقيا في بيت الرب أثناء عمليات الصيانة والبناء، فسلمه إلى الملك يوشيا في أواخر عهد الدولة اليهودية، وأحيا به الشريعة الموسوية، كما ورد في سفر الملوك الثاني، الإصحاح 22: "8 ויאמר (وقال) חלקיהו הכהן הגדול (حلقيا الكاهن الأعظم) אל-שפן הספר (إلى شافان الكاتب) ספר התורה (سفر الشريعة/التوراة) מצאתי בבית יהוה (وجدته في بيت الرب) ויתן חלקיה (وأعطى حلقيا) את-הספר (السفر) אל-שפן ויקראהו (إلى شافان فقرأه)".


ويتعرّض موسى في سفر العدد إلى جملة من التجارب العاصفة التي تضج بالعبر وتعاليم الآداب الاجتماعية والشخصية وخلق التواضع وتجنب الغرور والنفاق والتآمر، والتمسك بالتسامح. وفي جميع تلك التجارب، لم يكن موسى عنيفًا، بل أوكل الأمر إلى يهوه كما هو ديدنه. وقصة غيرة مريم، أخته، وتحريضها هارون إثر زواج موسى من امرأة كوشية، وغضب يهوه من تصرف مريم ومعاقبتها بالبرص، ثم توسل موسى بالرب للعفو عنها وشفائها، تمثل عبرة متفوقة بالتسامح والرأفة. فموسى يطلب لمريم المغفرة والصفح رغم موقفها العدائي.


وفي تفسير أنثروبولوجي لتصرف مريم وانتفاضها ضد موسى وزوجته الكوشية، فإن التغيير الجوهري في نظام القرابة، وحظر الزواج من الأخوات بنات الأم وبنات الأب، يمثل السبب الأساسي لتلك الانتفاضة (بمعنى أن تصرفها كان مقاومة للتغيرات في نظم القرابة والزواج). ومن بعد ذلك، انقلاب جزء من شعبه عليه وتقديم مطالباتهم التي لا توحي بإيمان عميق بالرب، كلها قوبلت بتفهم وحلم كبير من موسى، مقابل غضب شديد من يهوه متبوع بعقوبات شديدة الوطأة طالت أعدادًا كبيرة من الإسرائيليين العصاة. لكن موسى لم يدعُ يهوه إلى الانتقام، بل كان يطلب منه دومًا العفو عن المارقين، كونهم أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذين عقد يهوه معهم عهده، ولطالما ذكره بذلك.


ويصف سفر العدد موسى بخلق سامٍ، فيقول إنه كان رجلًا حليمًا جدًا، كما ورد في الإصحاح الثاني عشر، الآية 3: "והאיש משה (والرجل موسى) עניו מאד (حليم جدًا) מכל האדם (من كل بشر) אשר על-פני האדמה (الذي على وجه الأديم/الأرض)".


وعندما أرسل موسى رجالًا يستطلعون الأرض ورجعوا بأخبار أفزعت الإسرائيليين وقرروا العودة إلى مصر، غضب عليهم الرب غضبًا شديدًا وكاد أن يضربهم بوباء يجتثهم من الأرض. لكن موسى، الرجل الحليم، سامي الخلق والصبور للغاية، طلب من يهوه أن يسامح هذا الشعب مرة أخرى كما فعل من قبل. وجاء في ذات الإصحاح من السفر رجاء موسى وطلبه العفو لشعبه: "סלח-נא (إغفر إذا) לעון העם הזה (ذنب هذا الشعب) כגדל חסדך (كعظمة لطفك) וכאשר נשאתה לעם הזה (وكما سامحت هذا الشعب) ממצרים ועד-הנה (من مصر وحتى الآن)".


وحتى العشائر الأخرى التي صادفتهم في ترحالهم لم يضمر لها موسى وهارون العداوة، وكان مطلبهما هو السماح لبني إسرائيل بالمرور عبر أراضي تلك العشائر، كما حصل مع الأدوميين والكنعانيين والأموريين. لكن موقف هؤلاء الذين يتعبدون لآلهة أخرى غير رب إسرائيل كان معاديًا وعدوانيًا في حالات كثيرة، واضطر موسى للقتال والدفاع عن عشيرته، وفي أحيان قليلة الهجوم والسيطرة على الأرض الضرورية للانتقال من حال البداوة والترحال إلى حال الاستقرار والتحضر.


وفي كل تلك المسيرة الطويلة، كان موسى حريصًا كل الحرص على تنفيذ الشريعة والتمسك بأحكامها والاستمرار في تطويرها وفق توجيهات يهوه. وبات مقياس قيمة كل فرد من جماعته هو مدى التزامه بالأحكام والقيم والطقوس التي جاءت بها الشريعة الموسوية، وفي مقدمتها الإخلاص ليهوه وتوحيده، والامتناع كليًا عن عبادة آلهة الأقوام الأخرى أو ممارسة طقوسها والتضرع لها.


وقد بدت بوادر العصيان والتنكر للشريعة الموسوية وعدم الخضوع لتعاليم الرب مبكرًا لدى الشعب بعد موت موسى على جبل نبو. فقد حرمت مدينة أريحا بكل ما فيها على بني إسرائيل، لا يأخذون منها شيئًا إلا الذهب والفضة والآنية المصنوعة من النحاس والحديد، التي مسموح أن يستولى عليها، لكن تنقل إلى خزائن بيت الرب. ومع ذلك، كان هناك من عصى واستولى على أشياء محرمة، فحلت نقمة الرب على بني إسرائيل كما وصف ذلك سفر يشوع، الإصحاح السابع: "וימעלו בני-ישראל (وخان بنو إسرائيل) מעל בחרם (بالحرام) ויקח (وأخذ) עכן בן-כרמי בן-זרח (عكن بن كرمي بن زارح) למטה יהודה (لسبط يهوذا) מן החרם (من الحرام) ויחר-אף (واحتر غضب) יהוה (يهوه) בבני-ישראל (ببني إسرائيل)".


وهذه أولى الخطايا والانحرافات التي ميزت سلوك بني إسرائيل في الأسفار التالية لأسفار موسى. وقد كلفتهم غضبًا شديدًا من يهوه، فهزموا في معركة عاي، ولم يكن ربهم معهم في هذه المعركة، حتى توسل يشوع به للصفح عنهم ومسامحتهم على ما اقترفوه من عصيان بأخذ الحرام. ولم ينته الأمر إلا برجم عكن بن كرمي، فهدأ غضب يهوه.


وفي هجوم بني إسرائيل على عاي لاحقًا، حيث انتصروا وقتلوا كل من في المدينة وأحرقوها حتى غدت ركامًا، ظهر مشهد جديد يمثل قسوة وموقفًا شديد الفظاعة لم يكن معروفًا على عهد موسى ولم يأتِ به نص في كل الشريعة. لكن اجتهادًا منحرفًا حصل في قيم وأخلاق مجتمع يشوع بن نون، وسارد السفر اتخذ موقفًا مؤيدًا لهذا السلوك دون أن يعود إلى نصوص الشريعة وقيمها. فأمر يشوع بتعليق جثة ملك عاي على شجرة من الصباح حتى المساء، أي أنه ابتدع فكرة الصلب والتمثيل بالقتلى بفعل الرغبة الجامحة في الانتقام، كما يورد ذلك الإصحاح الثامن من سفر يشوع: "29 ואת-מלך (وملك) העי (عاي) תלה (علقه) על-העץ (على الشجرة) עד-עת הערב (حتى وقت المساء)"


إشكالية الانسجام مع القيم الموسوية المبثوثة في سفر الشريعة

وقد استساغ المشهد فكرره مع الملوك الخمسة (ملك أورشليم، ملك حبرون، ملك لخيش، ملك يرموت، وملك عجلون) وأبقى جثثهم معلقة على الشجرة حتى المساء كما فعل مع ملك عاي. إن مدون السفر لم يكترث لبشاعة الصورة وعدم انسجامها مع القيم الموسوية المبثوثة في سفر الشريعة، مما مثل نكوصًا وانحدارًا أخلاقيًا لم تعرفه أسفار موسى الخمسة.


وفي سفر القضاة، جرى التخلي عن شريعة موسى علنًا ودون مواربة في مجال الوفاء وعدم الغدر والتمسك بالوعود. ففي قصة النبية دبورة وباراق وقائد جيش حاصور الكنعاني (سيسرا)، تقوم ياعيل، زوجة حابر القيني، التي بين قومها وبين يابين ملك حاصور سلام (أي نوع من الاتفاق على عدم الاعتداء والغدر)، بتضييف ذلك القائد، ثم تسقيه اللبن، وبعد أن ينام، تقوم باغتياله بعملية غدر واحتيال لا تنسجم مع ما بشّر به ودعا إليه موسى. لكن مدون السفر يطرح المسألة على أنها بطولة وعمل كبير أدته ياعيل، ولم يشر إلى مفهوم أو خلق الوفاء، بل راحت دبورة في نشيدها تبارك ياعيل الغادرة وتفتخر بعملها.


وفي نفس السفر، بعد أن ظهر ملاك يهوه لجدعون (الذي له اسم آخر وهو يربعل)، وبعد أن قدم له الملاك كل البراهين التي تؤكد أن الرب اختاره لدحر المديانيين، وبعد انتصاره عليهم بمعونة يهوه، عاد ليرتكب الخطيئة التي تشبه خطيئة هارون، فصنع صنمًا وراح بنو إسرائيل يتعبدون له وتركوا عبادة ربهم. وهذه ملاحظة جديرة بالاهتمام، إذ يقوم المختار، الذي رأى ملاك الرب، بصنع صنم ليعبده بنو إسرائيل، متجاوزًا كل وصايا الشريعة الموسوية بتجنب صنع التماثيل والأصنام. وكان ذلك انحرافًا خطيرًا ارتكبه جدعون، كما جاء في الإصحاح الثامن من سفر القضاة: "27 ויעש אותו גדעון (وصنعها جدعون) לאפוד ויצג אותו (ووضعه) בעירו בעפרה (في مدينته بعفرا) ויזנו כל-ישראל (وزنوا كل بني إسرائيل) אחריו שם ויהי (وراءه هناك) לגדעון ולביתו למוקש (وكان لجدعون ولبيته فخًا)".


إن التنكر لعبادة يهوه والذهاب إلى عبادة الأصنام وآلهة الأقوام الآخرين كان سمة بارزة في الأسفار اليهودية، ولا يشمل ذلك عامة الناس فحسب، بل يشمل أيضًا العديد من الكهنة والملوك. ومن المؤكد أن اتباع آلهة أخرى يجر إلى اتباع شرائعها والتخلي عن الشريعة الموسوية المسطورة في الأسفار الخمسة الأولى. وكان ذلك أدعى لزعزعة النظم الأخلاقية والسلوكية التي تأسست وترسخت على عهد موسى وهارون، والتخلي عنها وسيادة نظم أخرى بعيدة عنها وأحيانًا مناقضة لها.


وولد لجدعون سبعون ابنًا، وواحد يدعى أبيمالك من سرية (جارية أو عشيقة) له من أهل شكيم. ومثلت قصة هذا الولد شرخًا عظيمًا في السلوك والأخلاق، وتحطيمًا مروعًا للإرث القيمي والاجتماعي الموسوي. ففيما تؤكد الشريعة الموسوية على صلة الرحم والتماسك الاجتماعي والعلاقات الوطيدة بين الأخوة، حيث ومنذ بواكير الأسفار ذكرت قصة هابيل وقابيل لتكون موعظة يتعلمها المؤمن فيتجنب التنافس غير الشريف مع الأخوة ويتجنب الانحدار إلى هاوية الجريمة، قام أبيمالك، ابن جدعون، بتحريض أخواله من بني شكيم فقدموا له الدعم ليستأجر مجموعة من القتلة ويقضي على كل إخوته السبعين من أجل أن يتزعم العشيرة.


وكان هذا السلوك الإجرامي مبتدَعًا ومناقضًا لكل أعراف وقوانين الشريعة، إذ وضع سابقة ستتكرر في التاريخ اليهودي. ويروي الإصحاح التاسع من سفر القضاة تلك القصة الدموية: "5 ויבא בית אביה (وجاء إلى بيت أبيه) עפרתה (إلى عفرة) ויהרג את-אחיו (وقتل إخوته) בני–ירבעל (بني يربعل) שבעים איש (سبعين رجلًا) על-אבן אחת (على حجر واحد)، ויותר (وبقي) יותם בן ירבעל (يوتام بن يربعل) הקטן (الصغير) כי נחבא (لأنه اختبأ). 6 ויאספו (واجتمعوا) كل-בעלי (كل سادة) שכם (شكيم) وكل בית מלוא (وكل بيت ملو) וילכו (ومضوا) וימליכו אבימלך למלך (وملكوا أبيمالك ملكًا)".


وفي نفس السفر، يورد المدون قصة مأساوية تدل على مدى الانحراف في الشعائر الذي حصل في المجتمع اليهودي المتخلي عن القيم الموسوية. فقد قدم يفتاح الجلعادي نذرًا إلى الرب، وهو أن يقدم أول من يخرج من بيته حين عودته سالمًا من حربه مع بني عمون هبة إلى يهوه ويصعده محرقة. وكان أن استقبلته ابنته الوحيدة حين عودته منتصرًا، وتوجب عليه أن يفي بنذره.


ويظهر في القصة موقفان متناقضان بشدة: الأول هو موقف الأب المتهور، البعيد عن شريعة موسى، بنذره المشؤوم؛ والثاني موقف الابنة المستجيبة لتلك الشريعة والمذعنة لإرادة الأب. إن المدون لم يستنكر هذا النذر، وجعل يهوه يقبله رغم الطابع الإجرامي وغير العقلاني لذلك النذر.


وإذا استذكرنا قصة محاولة إبراهيم ذبح إسحاق استجابة لنداء في حلمه، وقيام يهوه بافتداء إسحاق بكبش كبير، فإننا نجد موقف يهوه قد تغير في قصة يفتاح الجلعادي. وكأنه تخلى عن أخلاقه القديمة، فلم يمنع يفتاح من ارتكاب جريمته أو يقدم حلاً بديلاً كما فعل مع إبراهيم، بل سوغ ليفتاح فعلته، فقام بإحراق ابنته التي استسلمت لإرادته تقدمة ووفاءً لنذره السقيم.


إن الذي تردى في هذه القصة ليس أخلاق وقيم بني إسرائيل فحسب، بل أخلاق ومعايير الرب أيضًا، إذ تحول إلى قاضٍ أعمى يقبل بالظلم ويستسيغ الجريمة. ومن المفارقات أن يجعل السارد نساء بني إسرائيل ينحنَ على الفتاة المسكينة كل عام أربعة أيام، في سلوك تأنيب حاد للضمير (ولعله للرب أيضًا)، كما جاء في سفر القضاة، الإصحاح الحادي عشر: "40 מימימ ימימה (ومن أيام إلى أيام) תלכנה (يذهبن) בנות ישראל (بنات إسرائيل) לתנות (لندب) לבת-יפתח (بنت يفتاح) הגלעדי (الجلعادي) ארבעת ימים בשנה (أربعة أيام في السنة)".


ويبلغ التردي مدى بعيدًا جدًا، فتندلع الصراعات القبلية بين عشائر بني إسرائيل في حرب أهلية طاحنة كان أطرافها بني بنيامين من جهة، وباقي عشائر إسرائيل من جهة أخرى. وسبب هذه الحرب هو أن رجلًا من بني لاوي نزل في جبعة التي لبني بنيامين، فحاول أهلها قتله واغتصبوا زوجته حتى ماتت. فقام الرجل بتقطيع جثة زوجته ووزعها في كل أرض إسرائيل ليثير حميتهم، فاستجابوا له وتحالفوا لمعاقبة المجموعة التي قامت بهذا الفعل، لكن بني بنيامين رفضوا تسليمهم، فاشتعلت الحرب.


وسارد النص يدخل يهوه طرفًا مؤيدًا لتحالف بني إسرائيل وداعمًا لهم، بل ومحرضًا. حين استشاروه، قال لهم إن عشيرة يهوذا هي من تبدأ القتال، وهكذا كان. لقد تخلى يهوه عن دوره الذي كان يمارسه في أسفار موسى، حيث كان هو من ينزل العقاب بالمخطئين فيبيدهم أو يشق الأرض لتبتلعهم، أو ينزل بهم الموت المفاجئ، أو يحرقهم بالنار، فلا يجعل عشائر بني إسرائيل ولا حتى موسى أو هارون يشتركون في العقاب.


لكن الذي حصل في هذا السفر هو أن يهوه هو الذي حرض بني إسرائيل على إبادة إخوتهم من بني بنيامين، ولم يشترك هو في العقاب، ليكون ذلك تطورًا غريبًا في هذا السفر المليء بمناقضات أسفار موسى. وفي خضم ندمهم على استئصال سبط بنيامين وإبادته بسيوف إخوته، وجه بنو إسرائيل اللوم إلى يهوه وعاتبوه بتساؤل غاضب يحمل مغزاه تحميله المسؤولية. فقد كان بمقدور الإله دفع بني بنيامين لتسليم الجناة فينالون العقاب المستحق، بدلًا من نشوب هذه الحرب المؤلمة التي طحنت سبطًا من أسباط بني إسرائيل.


لقد بادل السارد الأدوار بين يهوه والشعب، فجعله محط لوم وعتاب شديدين من قبل شعبه المختار، كما جاء في الإصحاح الحادي والعشرين من نفس السفر: "3 ויאמרו (وقالوا) למה יהוה אלהי ישראל (لماذا يا يهوه إله إسرائيل) היתה זאת בישראל (كان هذا في إسرائيل) להפקד (لفقد) اليوم (اليوم) מישראל שבט אחד (من إسرائيل سبط واحد)".


لقد كان يهوه في كامل أسفار موسى هو الموجه، وهو المعاقب، وهو المعاتب، والشعب دائمًا محط العتب واللوم والعقاب. أما في هذا السفر، فقد وضع السارد إله إسرائيل في موضع العتب واللوم دون أن يمنحه فرصة التسويغ والتفسير. بل في الآية 15 من نفس الإصحاح، وجه السارد تهمة خطيرة ليهوه، فهو الذي شق الشعب: "15 והעם נחם לבנימין (والشعب ندم لبنيامين) כי-עשה (لأن صنع) יהוה (يهوه) פרץ (شقا) בשבטי ישראל (بأسباط إسرائيل)".


ويبلغ التردي مدى بعيدًا جدًا، فتندلع الصراعات القبلية بين عشائر بني إسرائيل في حرب أهلية طاحنة كان أطرافها بني بنيامين من جهة، وباقي عشائر إسرائيل من جهة أخرى. وسبب هذه الحرب هو أن رجلًا من بني لاوي نزل في جبعة التي لبني بنيامين، فحاول أهلها قتله واغتصبوا زوجته حتى ماتت. فقام الرجل بتقطيع جثة زوجته ووزعها في كل أرض إسرائيل ليثير حميتهم، فاستجابوا له وتحالفوا لمعاقبة المجموعة التي قامت بهذا الفعل، لكن بني بنيامين رفضوا تسليمهم، فاشتعلت الحرب.


وسارد النص يدخل يهوه طرفًا مؤيدًا لتحالف بني إسرائيل وداعمًا لهم، بل ومحرضًا. حين استشاروه، قال لهم إن عشيرة يهوذا هي من تبدأ القتال، وهكذا كان. لقد تخلى يهوه عن دوره الذي كان يمارسه في أسفار موسى، حيث كان هو من ينزل العقاب بالمخطئين فيبيدهم أو يشق الأرض لتبتلعهم، أو ينزل بهم الموت المفاجئ، أو يحرقهم بالنار، فلا يجعل عشائر بني إسرائيل ولا حتى موسى أو هارون يشتركون في العقاب.


لكن الذي حصل في هذا السفر هو أن يهوه هو الذي حرض بني إسرائيل على إبادة إخوتهم من بني بنيامين، ولم يشترك هو في العقاب، ليكون ذلك تطورًا غريبًا في هذا السفر المليء بمناقضات أسفار موسى. وفي خضم ندمهم على استئصال سبط بنيامين وإبادته بسيوف إخوته، وجه بنو إسرائيل اللوم إلى يهوه وعاتبوه بتساؤل غاضب يحمل مغزاه تحميله المسؤولية. فقد كان بمقدور الإله دفع بني بنيامين لتسليم الجناة فينالون العقاب المستحق، بدلًا من نشوب هذه الحرب المؤلمة التي طحنت سبطًا من أسباط بني إسرائيل.


لقد بادل السارد الأدوار بين يهوه والشعب، فجعله محط لوم وعتاب شديدين من قبل شعبه المختار، كما جاء في الإصحاح الحادي والعشرين من نفس السفر: "3 ויאמרו (وقالوا) למה יהוה אלהי ישראל (لماذا يا يهوه إله إسرائيل) היתה זאת בישראל (كان هذا في إسرائيل) להפקד (لفقد) اليوم (اليوم) מישראל שבט אחד (من إسرائيل سبط واحد)".

لقد كان يهوه في كامل أسفار موسى هو الموجه، وهو المعاقب، وهو المعاتب، والشعب دائمًا محط العتب واللوم والعقاب. أما في هذا السفر، فقد وضع السارد إله إسرائيل في موضع العتب واللوم دون أن يمنحه فرصة التسويغ والتفسير. بل في الآية 15 من نفس الإصحاح، وجه السارد تهمة خطيرة ليهوه، فهو الذي شق الشعب: "15 והעם נחם לבנימן (والشعب ندم لبنيامين) כי-עשה (لأن صنع) יהוה (يهوه) פרץ (شقا) בשבטי ישראל (بأسباط إسرائيل)".

وفي معالجة هذه المسألة الجسيمة، اختفى يهوه تمامًا ولم يبدِ أي نصح أو يصدر أي أمر، وتصرف شيوخ بني إسرائيل ووجهاؤهم بما تبقى من القصة، التي تضمنت عملاً أخرق آخر يؤكد الاضطراب الأخلاقي ويمعن في مفارقة قيم الشريعة الموسوية. فقد أقسم بنو إسرائيل ألا يزوجوا بناتهم لسبط بنيامين، واحتاروا في صحوة ضمير بكيفية الحفاظ عليهم من الانقراض، حيث قتلت كل نسائهم أثناء الحرب.

وفي سياق بحثهم عن حل، اكتشفوا أن مجموعة إسرائيلية تسكن يابيش جلعاد لم تحضر معهم الحرب، فقرروا مهاجمتهم وقتل كل نسائهم المتزوجات والأطفال والرجال، والإبقاء على الفتيات اللواتي لم يتزوجن بعد لسبيهن وتقديمهن إلى سبط بنيامين كزوجات. وبدلاً من أن يؤدي ندم بني إسرائيل إلى مكافأة من لم يحضر واقعة الحرب وإبادة البنياميين، قرر شيوخ وجمهور الإسرائيليين قتلهم عن بكرة أبيهم وسبي نسائهم في مفارقة أخلاقية وانحطاط قيمي فظيع ليس له نظير في كل الأسفار الموسوية.


ويصف نفس الإصحاح المشهد المأساوي دون أن يتمكن السارد من إيجاد أساس أخلاقي يفسر ويسوغ هذه الممارسة الهمجية وهذا الارتداد نحو الوحشية الخالية من أي قيم: "11 וזה הדבר אשר תעשו (وهذا الأمر الذي تصنعون ) כל-זכר וכל-אשה ידעת משכב-זכר תחרימו (كل ذكر وكل امرأة عرفت رجل تحرمون (تقتلون))12 וימצאו מיושבי יביש גלעד (فوجدوا من ساكني يابيش جلعاد) ארבע מאות נערה בתולה (أربعمائة فتاة بتول) אשר לא-ידעה איש (التي لم تعرف رجل) למשכב זכר (لمضاجعة ذكر) ויביאו אותם אל-המחנה שלא (وجلبوهن الى المخيم في شيلوه) אשר בארצ כנען (الذي بأرض كنعان) 13 וישלחו כל-העדה (وأرسلوا كل الجمهور) וידברו אל-בני בנימן אשר בסלע רמון (وتكلموا الى بني بنيامين الذين بصخرة رامون)."



انحراف شديد عن قيم أسفار موسى وانهيار الأسس الأخلاقية

إن الانحراف الشديد عن قيم أسفار موسى وانهيار الأسس الأخلاقية التي تحكم العلاقات بين عشائر بني إسرائيل، واتباع آلهة الأقوام المجاورين وترك عبادة يهوه، واختفاء الدور الجوهري الذي مارسه يهوه طيلة المسيرة الكبيرة لعشائر بني إسرائيل، واكتفاء السارد بمنحه صلاحية الموافقة على قرارات الشيوخ والوجهاء دون تفحص ومقارنة بأحكام الشريعة الموسوية، كل ذلك يعكس الافتراق الكبير بين أسفار موسى وسفر القضاة. ويرسم بوضوح حالة التردي التي انتابت المجتمع اليهودي بابتعاده عن ما سنه الآباء الأوائل لهذا المجتمع من قيم وأعراف وأحكام.


ولم يقتصر التردي والانحلال على عموم الشعب وفئاته وطبقاته المختلفة والبسطاء من الناس، إنما شمل الملوك وأصحاب الشأن والأنبياء أيضًا. فقد حفلت مسيرتهم المسطورة في أسفار صموئيل والملوك بشتى أنماط السلوك المنحرف والعبادة الارتدادية. وتأتي مسيرة داود وبتشبع، زوجة أوريا الحثي، لتبين شدة وطأة ذلك الانحراف والابتعاد عن قيم موسى وشريعته.


وداود ليس إنسانًا من سائر الناس، إنما هو ملك عينه الرب ودل صموئيل النبي عليه، فاختاره من بين أولاد يسي وجعله ملكًا لكل بني إسرائيل بكل عشائرها. وهو الذي كان محض راعٍ في غنم أبيه، وقد سانده بقوة في مواجهة شاول الذي سبقه كأول ملك لإسرائيل، فنزع الملك من آل شاول وأعطاه إلى داود. ورغم شدة إيمانه بيهوه، فإن داود ارتكب الخطيئة الجسيمة، فاشتهى بتشبع، امرأة أوريا الحثي، المحارب في جيشه، وهو الأمر المنهي عنه بشريعة موسى. ونام معها وحبلت منه بولد أماته يهوه عقوبة لداود، كما جاء في الإصحاح الحادي عشر من سفر صموئيل الثاني: "4 וישלח דוד מלאכים (وأرسل داود رسلا) ויקחה ותבוא אליו (فأخذها وأتت إليه) וישכב עמה (ونام معها) והיא  מתקדשה מטמאתה (وهي طاهرة من طمثها) ותשב אל-ביתה (ورجعت الى بيتها) 5 ותהר האיש (وحبلت المرأة)ותשלח (وأرسلت) ותגר לדוד (وأخبرت داود) ותאמר הרה אנכי (وقالت حبلى أنا).


ولم يكتفِ داود بذلك، إنما أمر بإرسال أوريا الحثي، زوج المرأة، إلى جبهة الحرب الأولى، حيث قُتل في عملية اغتيال صريحة، كما روى نفس الإصحاح: "14 ויהי בבקר (وكان في الصباح) ויכתב דוד ספר אל-יואב (فكتب داود سفرا الى يوآب) וישלח  ביד אוריה (وأرسل بيد أوريا) 15 ויכתב בספר לאמר (وكتب في السفر قائلا) הבו את-אוריה (اجعلوا أوريا) אל-מול פני המלחמה החזקה (اجعلوا أوريا الى أمام القتال الشديد) ושבתמ מאחריו  ונכה ומת (وترجعون من ورائه فيضرب ويموت)."


إن هذه القصة، التي لا تليق بإنسان سوي، فكيف بملك أو نبي، تعكس مدى انهيار القيم الموسوية في المجتمع اليهودي، وتبين التناقض الفاضح بين أسفار موسى بأخلاقياتها وشرائعها وبين الأسفار اليهودية المتردية بالسلوك المنحرف لعموم المجتمع اليهودي، بمن فيهم الملوك وولاة الأمر. ومن المذهل أن يهوه، وهو الذي أعطى لموسى كتاب الشريعة، يعاقب داود بطريقة تكرس نسف الأخلاق والقيم التي أقرها في شريعته. إذ توعده بتسليط الشر عليه من داخل بيته، وأن يقوم ابنه بمضاجعة نسائه في وضح النهار. ومن الغريب أن ينحدر يهوه إلى مستوى الخطيئة، بينما كان هناك فرصة للعقوبة التي تؤكد الفضيلة وتلتزم بأحكام الشريعة.


إن الأسفار اليهودية تتضمن تخبطًا وشذوذًا لا يمكن التستر عليه، مما يبعدها عن سياق أسفار موسى. ولم يفلح السارد في الارتقاء إلى المستوى الروحاني والسلوكي لتلك الأسفار. لقد حرمت الشريعة زواج الأخ من أخته، سواء كانت بنت أبيه أو أمه، وجرى التطرق لهذا التطور في نظم الزواج والقرابة فيما سبق. لكن سارد السفر يبدو أنه غير مطلع على الأحكام الواردة بهذا الشأن، وراح يتعامل مع اعتداء أمنون ابن داود على أخته ثمار (תמר) وكأنه فعل غير مرغوب به وليس جريمة تعاقب عليها الشريعة. وجعل داود يتقبل الأمر ويغفر لأمنون فعلته لأنه كان يحبه، مما حدا بأبشالوم ابن داود وشقيق أثمار إلى أن يقتل أمنون وينشق على أبيه، وتنشب بينهما عداوة وحرب انتهت بموت أبشالوم، لأن يهوه أراد معاقبته.


لقد كانت حرب أبشالوم مع أبيه نموذجًا آخر للخروج التام على أحكام الشريعة وتسويغ عصيان الابن على أبيه، وهو السلوك المحرم كليًا موسويًا، بل وقبل ذلك إبراهيمياً. ولعل قصة إسحاق وتجربته في الطاعة المطلقة لأبيه تعكس الخلق المطلوب توراتيًا من الأبناء تجاه آبائهم. ومن يعصِ أو يذم، ناهيك عن أن يحارب أباه، فليس له إلا أشد العقوبات حتمًا. لكن السارد يضع الأمر بكامله تحت تخطيط وإشراف يهوه بطريقة مربكة جدًا، وترسم صورة متناقضة لذلك الإله.


أما الزنى، المعروف بارتكاب الإثم بين المحصنات والمحصنين، فله حده الواضح في الشريعة، لكن في حالة زنى داود ببتشبع، عُطل ذلك الحد، وأسقط يهوه العقوبة على الولد الذي حبلت به المرأة الزانية، وكأنه هو المذنب فيما جرى. فمات رغم توسلات داود بربه. لكن يهوه عوض داود بولد آخر من المرأة الزانية التي باتت زوجته، وكان اسمه شلمه (سليمان)، وحظي بحب يهوه ورعايته له، وأصبح ملكًا مميزًا في سفر الملوك.


وسارد النص جعل من سليمان ملكًا منحرفًا بانسياقه وراء دين زوجاته ومحظياته، ووصفه بأنه ارتكب الشر بعيني يهوه، كما جاء في الإصحاح الحادي عشر من سفر الملوك الأول: "6 ויעש שלמה  הרע בעיני יהוה (وصنع سليمان الشر بعيني يهوه) ולא מלא אחרי יהוה כדוד אביו (وما مال وراء يهوه كداود أبيه) 7 אז יבנה שלמה (حينئذ يبني سليمان) במה לכמוש שקץ מואב (مرتفعا لكموش إله موآب) בהר אשר על-פני ירושלם (بالجبل الذي على وجه أورشليم) ולמלכ שקץ עמונ (ولمولك إله بني عمون)...9 ויתאנף  יהוה בשלמה (وغضب يهوه على سليمان) כי-נמה לבבו (لأن مال قلبه) מעמ (من مع) יהוה אלהי ישראל (يهوه إله اسرائيل) הנראה אליו מעמימ (الذي رئي له مرات)".


ويبدو أن السارد أراد أن يضع سببًا لانقسام المملكة الذي حصل بعد سليمان إلى مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل. وقد تمتد جذور هذا الانقسام الحقيقية إلى زمن أبيه داود، الذي ملك أولاً على يهوذا، ومن بعد ذلك انضمت له بقية الأسباط. وبقيت وحدة المملكة قلقة، والتفكك أمرًا محتملًا. ومن أجل ذلك، حمل السارد سليمان المسؤولية، وجعله سببًا في ذلك بارتكابه الشر واتباعه آلهة أخرى غير يهوه.


ومن بعد ذلك، ملك رحبعام في يهوذا وملك يربعام في باقي عشائر إسرائيل، ولذلك مبحث آخر.

وبهذا القدر ينتهي هذا الجزء من البحث.