التناخ.. مصادر وكَتَبَة | عباس يونس العيدي

العهد القديم
العهد القديم

ملاحظات سبينوزية




معظم المفكرين والمؤرخين وحتى اللاهوتيين التوراتيين يرون أن العهد القديم متعدد المصادر، وكُتِب على مدى زمني واسع، ولعل أهم النظريات التي عالجت مصادر العهد القديم تلك التي رأت أنها تشكلت في أربعة مصادر:


1- اليهوية، مع المملكة الموحدة يهوذا واسرائيل (1050 – 953 ق.م.)  


2- الإيلوهيمية، مع المملكة المنقسمة الى دولة يهوذا ودولة اسرائيل (953-722 ق.م.) 


3- التثنوية، مع إصلاحات يوشيا (648-608 ق.م.) 


4- الكهنوتية، مع مراحل النفي وما تلاها.


فالمصدر اليهوي (Jahwist)، ويرمز له بالحرف J، يغلب فيه استخدام اسم الإله يهوه (Jehovah)، ويرجح العلماء تاريخ تأليفه وكتابته إلى 850 ق.م. ويركز هذا المصدر على العهد الإلهي، وزمن الآباء، ويحاول أن يجذر وجود الأسباط وتاريخهم.


أما المصدر الإلوهيمي (Elohist)، ويرمز له بالحرف E، فيتكرر فيه ذكر اسم إلوهيم؛ أي: الآلهة (أو الإله)؛ حيث الميم حرف الجمع بالعبرية، ويرجح أنه كُتب في المملكة الشمالية (أي: مملكة اسرائيل)، وقد دمج المصدران في مجموعة واحدة رمز إليها بالرمز EJ،  وذلك في 650 ق.م.


أما المصدر الثالث وهو التثنوي (Deuteronomy)، ويرمز له بالرمز D، وهو مصدر منفصل ألِّف خلال القرن السابع ق.م، وكُشف عنه على عهد يوشيا عام 622 ق.م عند ترميم معبد أورشليم .


والمصدر الرابع الكهنوتي (Priestly)، وهو مؤلف في القرن الخامس ق.م.


وتوصلت بعض الدراسات المعمقة الى أنه تم تجميع المصادر الأربعة في كتاب واحد، وهو العهد القديم، سنة (200 ق.م). أما بقية الأسفار، فحرّرت خلال القرن الأول ق.م. ويمكن الاستدلال على وجود تداخل المصدرين اليهوي والإيلوهيمي، كمثال، من خلال دراسة قصة نوح والطوفان في سفر التكوين، فهذان المصدران يتميزان بشكل جلي، وهما يحكيان نفس القصة؛ حيث وُحدت الحكايتان بقصة واحدة، ففي الإصحاح السادس-الآية الخامسة يرد مايلي:


5: וירא יהוה (ورأى يهوه) כי רבה רעת האדם (وأن كثر شر الانسان) בארץ (في الأرض) וכל-יצר מחשבת לבו (وكل تصور أفكار قلبه) רק רע כל-היום (فقط شر كل اليوم).


وفي الآية الحادية عشر من نفس الإصحاح تعاد نفس الآية، لكن، يستخدم إلوهيم بدلا من يهوه، كما أن الكلمات المستخدمة فيها تغير واضح:


 11: ותשחת הארץ לפני האלהים (وأفسدت الأرض أمام الله) ותמלא הארץ המס (وملئت الأرض عنفا) 12: וירא אלהים (ورأى الله) את-הארץ והנה נשחתה (الأرض ها قد أفسدت) כי-השחית כל-בשר (لأن أفسد كل بشر) את-דרבו (دربه) על-הארץ (على الأرض). 


أما الآية التاسعة عشر من نفس الإصحاح، فتتحدث عن إدخال اثنين من كل جسد الى الفلك:


19: ומכל-החי (ومن كل حي) מכל-בשר (من كل جسد) שנין מכל תניא (اثنين من الكل تدخل) אל-התבה (إلى الفلك) להחית (للأحياء) אתך זכר ונקבה יהיו (معك ذكر وأنثى تكون).


لكن الآية الثانية من الإصحاح السابع من نفس السفر (التكوين) تعيد الفكرة ذاتها، لكن بأرقام أخرى، كما هو واضح فيما يلي:


2:מכל הבהמה הטהורה (من كل بهيمة طاهرة) תקח-לך (تأخذ لك) שבעה שבעה איש ואשתו (سبعة سبعة ذكر وأنثاه) ומן-הבהמה אשר לא טהרה (ومن البهيمة التي ليست طاهرة) הוא שנימ איש ואשתו (هي اثنين ذكر وأنثاه).

وفي سفر التكوين أيضا، في قصة  يوسف الاصحاح 37، يرد ما يلي:


28: ויעברו אבשים מדינים (وعبروا رجال مديانيون) סחרים (تجار) וימשכו ויעלו את-יוסף (فسحبوا وأصعدوا يوسف) מן-הבור (من البئر) וימכרו את-יוסף (وباعوا يوسف) לישמעאלים (للإسماعيليين) בעשרין כסן (بعشرين فضة) ויביאו את-יוסף מצרימה (وجلبوا يوسف إلى مصر).


ولنلاحظ أن كلمة مصريمםםץרימה أضيف إليها حرف الهاء؛ مما يعني أن كاتب هذا النص من قبيلة لها هذا الأسلوب بالكلام، وهو إضافة حرف الهاء، سواء في الآخر، أو في وسط الكلمات، والآية تقول: إن مديانيين أخرجوا يوسف من البئر وباعوه للإسماعيليين الذين جلبوه إلى مصريمه (مصر -حسب الترجمة الرسمية-). لكن، في الآية السادسة والثلاثين من نفس الإصحاح، تُذكر معلومات مختلفة؛ فالمديانيون هم الذين جاؤوا بيوسف إلى مصريم، وكلمة םץרימ (والتي تذكر بدون حرف الهاء المضافة)، وليس الإسماعيليون، وهذا يدل على أن هناك دمجًا بين نصّين لكاتبين من الكهنة ومن عشيرتين مختلفتين باللهجة: "36- והמדנים (والمديانيون) מכרו אתו (باعو إياه) אל-מצרים (إلى مصريم) לפוטיטר סריס פרעה (لفوطيفار خصي فرعة (فرعون)) שר הטבחים (رئيس الشرط)."


ومن المفارقات التي تدل على تعدد كُتاب الأسفار أن يذكر سفر أشعيا (وهذا طبعًا لقب لكاهن وليس اسمًا، ويعني "المنير" أو "المشع") أن هذا الكاهن عاش في زمن ملوك يهوذا: عزيا، ويوثام، وآحاز، وحزقيا، كما جاء في الإصحاح الأول، الآية الأولى. أي قبل تدمير أورشليم وقبل سبي نبوخذنصر لليهود. ورغم ذلك، يذكر كورش ومسح يهوه له ملكًا ويتحدث عن عودة بني إسرائيل، وهذه مفارقة غريبة تبرهن أن هذه الآية على الأقل (وربما السفر بكامله) كتبت بعد زوال مملكة بابل.


1: חזון ישעיהו בן-אמוץ (رؤيا أشعيا بن آموص) אשר חזה על-יהודה וירושלם (التي رأى على يهودا وأورشليم) בימי עזיהו יותם אחז יחזקיהו מלכי יהודה (في أيام عزيا يوثام أحاز حزقيا ملوك يهوذا)


وفي الإصحاح 45 يتحدث عن كورش:

45-כה-אמר יהוה (هكذا قال يهوه) למשיחו לכורש (لمسيحه لكورش) אשר-החזקתי (الذي شددت) בימינו לרך-לפניו גוימ (بيمينه لدوس أمم) ....


وهكذا، بالنسبة لبقية آيات سفر التكوين وغيره، يمكن تمييز كتاب مختلفين دُمجت أعمالهم في سفر واحد. ومن الضروري أن نشير إلى ما ذكره الدكتور فاضل الربيعي في العديد من كتبه حول ظاهرة تأنيث الأسماء لدى بعض قبائل اليمن، مثل "وادي بيش" الذي يُحول إلى "وادي بيشه". وهذه ظاهرة لغوية تختص بها قبائل اليمن، ومنها بعض عشائر بني إسرائيل، حيث انعكست هذه الظاهرة على أسفار التوراة.


وقد تطرق الفيلسوف باروخ سبينوزا (1632-1677)، وهو من عائلة يهودية، في دراسته أسفار التوراة لمسائل جادة كثيرة. لكن المشاكل التي واجهت منهجه تكمن في مجهولية الظرف التاريخي الذي رافق كتابة الأسفار أو تأليفها، كذلك عدم معرفة المؤلفين أو الكتبة وتاريخ حياتهم، مضافًا إلى عدم معرفتنا بالنصوص الأصلية للكتاب المقدس وإن كانت هناك نسخ أخرى غير التي تُرجم عنها النص الموجود حاليًا.


ويرى سبينوزا أن موسى ليس كاتب التوراة، أي الأسفار الخمسة الأولى، ولأسباب يشرحها كما يلي:


1- لا يتحدث الكتاب عن موسى بضمير الغائب فحسب، وإنما يعطي عنه شهادات عديدة مثل: "تحدث الله مع موسى"، "كان الله مع موسى وجهًا لوجه"، "وكان موسى رجلاً حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس" (العدد 12:3)، "فسخط موسى على وكلاء الجيش" (العدد 31:14)، "موسى رجل الله" (13:1)، "لقد مات موسى خادم الله ولم يقم من بعد نبي في إسرائيل مثل موسى".


2- يجب أن نذكر أن هذه الرواية لا تقص خبر موت موسى ودفنه وحزن الثلاثين يومًا للعبرانيين، بل تروي أيضًا أنه فاق جميع الأنبياء إذا قورن بالأنبياء الذين عاشوا من بعده، "ولم يقم من بعد نبي في بني إسرائيل كموسى الذي عرف الرب وجهًا لوجه" (التثنية 34:1). إن هذه شهادة لم يكن ممكنًا أن يدلي بها موسى أو شخص أتى بعده مباشرة، بل شخص عاش بعده بعدة قرون وعرف الأنبياء من بعده. لا سيما أن الكاتب استعمل صيغة الفعل الماضي، ويقول عن قبره: "ولم يعرف أحد قبره إلى يومنا هذا" (التثنية 34:6).


3- تمتد الروايات في بعض الأحيان الى ما بعد موت موسى فيروى في سفر الخروج (16:35) أن بني اسرائيل أكلوا المن أربعين يوما حتى وصلوا الى أرض مسكونة على حدود بلاد كنعان، أي اللحظة التي يتحدث عنها سفر يشوع (5:12). وكذلك يخبرنا سفر التكوين (16:31) وهؤلاء الملوك الذين ملكوا في أرض أدوم قبل أن يملك ملك في بني اسرائيل، ولا شك أن المؤرخ يتحدث عن الملوك الذين كانوا يحكمون الأدوميين قبل أن يخضعهم داود لحكمه ويضع حاميات ضدهم في أدوم (صموئيل الثاني 8:14).


4- يجب أن نذكر أيضا أن بعض الأماكن لم تطلق عليها الأسماء التي عرفت بها في زمن موسى بل أطلقت عليه أسماء عرفت بعده بوقت طويل. إذ يقال أن ابراهيم تابع أعداءه حتى دان (التكوين 14:14)، وهو إسم لم تأخذه المدينة التي تحمله إلا بعد موت يشوع بمدة طويلة (القضاة 18:29).


ويؤكد سبينوزا أن سفر يشوع لايمكن أن يكون قد كتبه يشوع نفسه وأن هناك دلائل تبرهن ذلك ذكرها كما يلي: سنبرهن لأسباب مماثلة على أن سفر يشوع ليس من وضع يشوع نفسه بل أن شخصا آخر هو الذي شهد ليشوع بأن شهرته قد طبقت الآفاق (يشوع 6:27) وبأنه لم يغفل شيئا مما أوصى به موسى وبأنه عندما تقدم به السن دعا الى المجمع ثم قضى نحبه، فضلا عن ذلك فأن الرواية تمتد الى الوقائع التي حدثت بعد موته إذ أنه يذكر على وجه التحديد أنه بعد موته كان الاسرائيليون يعظمون الله ما عاش المسنون الذين عرفوا يشوع.


تمتد الروايات في بعض الأحيان إلى ما بعد موت موسى، فيروى في سفر الخروج (16:35) أن بني إسرائيل أكلوا المن أربعين يومًا حتى وصلوا إلى أرض مسكونة على حدود بلاد كنعان، وهي اللحظة التي يتحدث عنها سفر يشوع (5:12). وكذلك يخبرنا سفر التكوين (16:31) عن الملوك الذين ملكوا في أرض أدوم قبل أن يملك ملك في بني إسرائيل، ولا شك أن المؤرخ يتحدث عن الملوك الذين كانوا يحكمون الأدوميين قبل أن يخضعهم داود لحكمه ويضع حاميات ضدهم في أدوم (صموئيل الثاني 8:14).


5- يجب أن نذكر أيضًا أن بعض الأماكن لم تطلق عليها الأسماء التي عرفت بها في زمن موسى، بل أطلقت عليها أسماء عرفت بعده بوقت طويل. إذ يُقال إن إبراهيم تابع أعداءه حتى دان (التكوين 14:14)، وهو اسم لم تأخذه المدينة التي تحمله إلا بعد موت يشوع بمدة طويلة (القضاة 18:29).


ويؤكد سبينوزا أن سفر يشوع لا يمكن أن يكون قد كتبه يشوع نفسه، وأن هناك دلائل تبرهن ذلك، ذكرها كما يلي: سنبرهن لأسباب مماثلة على أن سفر يشوع ليس من وضع يشوع نفسه، بل إن شخصًا آخر هو الذي شهد ليشوع بأن شهرته قد طبقت الآفاق (يشوع 6:27) وبأنه لم يغفل شيئًا مما أوصى به موسى، وبأنه عندما تقدم به السن دعا إلى المجمع ثم قضى نحبه. فضلاً عن ذلك، فإن الرواية تمتد إلى الوقائع التي حدثت بعد موته، إذ يذكر على وجه التحديد أنه بعد موته كان الإسرائيليون يعظمون الله ما عاش المسنون الذين عرفوا يشوع.


ونفس الموقف يتخذه سبينوزا من سفر القضاة، فهو يرفض أن يكون القضاة هم من كتبوه، وينطبق الأمر على سفر صموئيل الذي يرى أنه كُتب بعده بقرون. وحسب تحليل سبينوزا، فإن الأسفار الستة الأولى، مضافًا إليها سفري القضاة وراعوث، وأسفار صموئيل والملوك، كلها كتبها كاتب واحد ومن مصادر متعددة، ولذلك جاءت يشوبها اضطراب واضح. ويرتاب بأن عزرا الكاتب هو ذلك المبدع الذي بذل جهودًا جبارة لإنجاز عمله، ففي رأيه، إذا أخذنا في اعتبارنا هذه الخصائص الثلاث: وحدة الغرض في جميع هذه الأسفار، وطريقة ربطها فيما بينها، وتأليفها بعد الحوادث المروية بقرون عديدة، نستنتج من ذلك، كما مر، أن مؤرخًا واحدًا هو الذي كتبها. أما من هو المؤرخ، فسبينوزا لا يستطيع أن يحدده بوضوح، ومع ذلك فهو يرتاب في أن يكون عزرا.


ويقوم افتراضه هذا على أسباب وجيهة إلى حد بعيد، ذلك لأنه لما كان المؤرخ يمتد بروايته (ونحن نعلم أنها وحيدة) حتى تحرير يواكين، ويضيف الراوي أنه كان جالسًا طيلة حياته على مائدة الملك، فلا يمكن أن يكون الراوي سابقًا على عزرا. ولكن الكتاب لا يذكر أحدًا ازدهر في ذلك الوقت سوى شهادة الكتاب الوحيدة لعزرا، الذي عكف بحماس بالغ على دراسة شريعة الله وعرضها، وكان كاتبًا ملمًا كل الإلمام بشريعة موسى. وإذن، فنحن لا نجد شخصًا آخر سوى عزرا يمكن الاشتباه في أن يكون مؤلف هذه الأسفار.


ومن ناحية أخرى، يشهد سفر عزرا بأن عزرا لم يعكف بحماسة على دراسة شريعة الله فقط، بل عكف أيضًا على عرضها. وعزرا لم يكتب سفر توراة الله (والذي يفترض سبينوزا أنه سفر التثنية نفسه) فقط، إنما أضاف إليه شروحًا كثيرة اقتضتها ضرورات فهم النصوص. كذلك، فقد قام بقراءته على الرجال الذين حضروا معه حتى فهموه وفهموا الشرائع الواردة فيه، ومن أمثلة الإضافات والشروح التي أدخلت في السفر الآية الثانية عشر من الاصحاح الثاني والتي جاء فيها:


 12: ובשעיר ישבו (وبسعير أقاموا) החרים לפנים (الحوريون من قبل) ובני-עשו יירשום (وبنو عيسو يرثونهم) וישמידום (وأهلكوهم) מפניהם וישבו (من أمامهم وأقاموا).


وهي شرح للآيتين الثالثة والرابعة اللتين تتحدثان عن بني عيسو الذين ليسوا أول من نزل في سعير، إنما سبقهم في ذلك الحوريون، وقد أجبروهم على الرحيل من المكان. وهذه الشروحات، وهي كثيرة، تحاول إفهام المستمع تفاصيل ما تقوله بقية الآيات، وهي حتمًا من وضع من قرأ السفر، وهو عزرا الكاتب، كما أكد على ذلك سفر نحميا.