نقدُ السَّرديَّة التُّراثيَّة / قصَّةُ المِعْراجِ | د. محمد عناد سليمان

المسجد الأقصى
المسجد الأقصى

إنَّ حادثة (الإسراء والمعراج) من المعتقدات البديهَّية التي تلقَّاها الخلَفُ عن السَّلَف، حتى أصبحتْ جزءًا لا يتجزَّأ من أصول الدِّين، ولا يجوز المسَاس بها، أو الاقتراب من حماها؛ بل إنَّ مجرَّد العودة إليها، والبحث في مكنوناتها تجعل من الباحثِ عرضةً للاتِّهام، وسببًا في التَّكفير، على اعتبار أنَّ مثل هذه الحوادث والقصص قد أصبحت من مستلزمات الدِّين، ومن يتحدَّث عنها، ويبحث فيها، فكأنَّما يهدم الدِّين.






وليس المراد في هذا البحث التَّفصيل في قصَّة (الإسراء)، أو الإشارة إلى الخلاف الذي وقع بين أهل العلم من حيث (الإسراء) بروح النَّبيّ، أم بجسده، أم بكليهما معًا، فهي حادثة معروفة مشهورة، وقد أثبتها (القرآن الكريم)، وجعل سورةً تحمل اسمها، تُتلى حتى يرث الله الأرض ومَن عليها، ولا ينكرها إلا جاهلٌ ضالّ.


وإنَّما المراد ما التصق بهذه الحادثة، حتى أصبح جزءًا لا يتجزَّأ منها، ألا وهو حادثة (المعراج)، فما إن يُذكرُ (الإسراء) حتى يتسارع إلى الذِّهن ذكر (المعراج)؛ بل إنَّ بعضهم يقدِّم الثَّانية على الأولى، وعامَّة الأمَّة يظنُّون أنَّهما حادثة واحدة، ويعتقدون أنَّ (الإسراء) هو (المعراج) ذاته، وهو -كما أراه-  من الأوهام التي عرضتْ لهذه الأمَّة، وأُدخلت في الشَّريعة.


وكان مدخلي للبحث فيها طرحُ عددٍ من الأسئلة:


أوَّلها: إذا كانت حادثة (الإسراء)، وهي انتقال بين المسجدين، قد ذكرها (القرآن الكريم) صراحةً، وبسورة حملت اسم الحادثة نفسها، ألا وهي سورة (الإسراء) فلمَ لم نجدْ نصًّا صريحًا، أو لفظًا واضحًا يبيِّن حادثة (المعراج)، مع أنَّها أبلغ، وأشدُّ؛ لأنَّها انتقال من العالم السُّفلي، إلى العالم العلْوِيّ؟!


ثانيها: إذا كان (الإسراء) ذُكر للدَّلالة على عظمة النَّبيّ، وتبيان معجزاته، ومكانته عند ربِّه جلَّ وعلا، فـ(المعراج) أولى بالذِّكر؛ لأنَّه أعظم دلالة، وأقوى حجَّة!


ثالثُها: إذا كانت أعظم معجزة، فلمَ اختلف العلماء في تحديد زمانها؟ ألم يختلفوا في (الإسراء)؟ وهل كان بالرُّوح، أم بالجسد، أم بكليهما معًا؟ ألا يدلُّ ذلك على أنَّ ثمَّة عاملا أدَّى إلى الاختلاف في أعظم معجزة جرت للنَّبيّ ؟


وبما أنَّ حادثة (الإسراء) واضحة ظاهرة، وقد ذُكرت في كتاب الله عزَّ وجلَّ، فلا مجال لردِّها أو إنكارها، إلا أنَّ الواقع يشير إلى أنَّ العلماء اتَّخذوا منها أصلاً لإثبات حادثة (المعراج)، ونسبة ذلك إلى (القُرآن الكريم)، فكانت سورة (النَّجم) مرادَهم ومأواهم، وحاولوا جاهدين إخضاع الألفاظ، وعطف السِّياق ليوافق ما ذهبوا إليه؛ بل أستطيع القول: إنَّ من فعل ذلك يعلم علم اليقين مراده وهدفه، من تشويهٍ للدِّين، وحرْفِه عن صراطه، حيث عمل على تثبيت ذلك، ودسِّ ما يؤيّده من أحاديث وغيرها، ولن نلتفت إلى من يرى في (الأحاديث الصَّحيحة) قدسيَّةً تُضاهي قدسيَّة (القرآن) نفسه، أو تفوقُه عند بعضهم، ولا شكَّ أنَّ من فعل ذلك يدرك تمامًا عمله؛ بل هي عمليَّة متكاملة ومُتقنة، فكيف لا، وقد وقعت في الشَّرائع السَّابقة، فانتهى بها المطاف إلى التَّحريف والضَّلال، وما شريعة محمَّد ﷺ بدْعًا منها.


من أجل ذلك سنخصِّصُ دراستنا هنا لسورة (النَّجم)، ومحاولة تفسيرها اعتمادًا على منهج تفسير (القرآن بالقرآن)، ومعرفة السِّياق الذي عليه آياتها؛ لأنَّ من رأى في المعراج حقيقة، اتَّخذ من هذه السُّورة دليلا، ونشير إلى أنَّ أهل التَّفسير قد اختلفوا في تأويل آياتها، وذهب بعضهم مذهبًا يأباه كلام الله عزَّ وجلَّ، وبعضهم نسب إلى النبيِّ ﷺ ما لا يجوز على الله منه، وغير ذلك.


إنَّ سورة (النَّجم) تستفتح آياتها بقسَمٍ عظيم يؤكِّدُ نفي الضَّلالة عن محمِّد ﷺ؛ لأنَّ قريشًا أنكرت عليه نزول الوحيّ، وأنكروا بناء على ذلك نزول القرآن، يدلُّنا عليه أواخر السَّورة التي قبلها في قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ [الطور: 30]، وقوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ﴾ [الطور: 34]، فأقسم سبحانه وتعالى هنا في أوائل السُّورة بـ(النَّجم) أنَّ محمَّدًا على الطّريق القويم، وأنَّه لا يتكلِّم من تلقاء نفسه، أو عن نزعة هوى، وقد أكَّد سبحانه وتعالى ذلك في غير موضع، فقال تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ [الحاقة: 46].


ثمَّ شرع سبحانه وتعالى في الآيات التَّالية في وصف (جبريل) عليه السَّلام، وأنَّه الذي ينزل على النَّبيّ  بـ(القرآن)، فقال تعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [النجم: 5-11].


وبَنَى مَنْ ذهب إلى أنَّ النَّبي ﷺ قد صعد إلى السَّماء وهو خلاف المشهور على قصَّة (المعراج) عددًا من الأمور، ومنها: رؤية النَّبيّ  لربِّه رؤية العين الباصرة، ولا شكَّ أنَّ هذا مما لا يمكن قبوله؛ لأنَّه يخالفُ النصَّ القُرآنيّ في غير موضع، كقوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 103]، وقوله أيضًا: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ [الشورى: 51].


ولعلَّ قولهَ تعالى في سورة النَّجم نفسها ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ [النجم: 13] من أهمِّ الآيات التي اعتمدَ عليها السَّردُ التُّراثيّ لتثبيتِ حصول حادثة المعراج، وأنَّ النَّبيّ  قد رأى جبريلَ للمرَّة الثَّانية عند عروجِهِ، وحتى نستوضح حقيقة ذلك نسأل أنفسنا: إذا كانت هذه الرؤية الثَّانية، فأين هي الرُّؤية الأولى؟ وأين مكانها؟ وأين مكان الرُّؤية الثَّانية؟


وللوصول إلى الإجابة التي تتوافق مع كتاب الله، واعتمادًا على مبدأ ترتيل القرآن نرى أنَّ الله سبحانه وتعالى قد بيَّن هذه الرُّؤية الأولى في موضع آخر من كتابه العزيز، فقال تعالى في سورة التَّكوير: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ [التكوير: 23]. وجاءت بعد قوله تعالى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ﴾ [التكوير: 22] ، ثم تلاها قوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ [التكوير: 25]. للرَّد على ما قاله المشركون من جنونه وغير ذلك، وهو موافق لما ورد في سورة (النَّجم) نفسها، والسَّبب الذي أُنزلت من أجله.


أمَّا الرٌّؤية الثَّانية فقد وردت في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ [النجم: 13]. ولا شكَّ أن المقصود هنا رؤيته لـ(جبريل) عيه السَّلام، وليس لله سبحانه وتعالى كما هو مشهور في السَّرْدِ التُّراثيّ.


والظَّاهر من ذلك كلِّه أنَّ (النَّزلة) التي بمعنى الهبوط هي الرُّؤية الثَّانية، وهو (جبريل) عليه السَّلام، إلا أنَّ الغريب حقًّا أن يجعل بعضهم معنى (النَّزلة): الصُّعود أوِ العُروج، وهو معنى معاكس تمامًا لمعناها اللِّسانيّ والمراد منها.


ولعلَّ سائلاً يقول: إذا كان (الأفق الأعلى) هو الرُّؤية الأولى، و(نزلة أخرى) هي الرُّؤية الثَّانية، فماذا تقولون في قوله تعالى: ﴿عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾ [النجم: 14]. ﴿عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ [النجم: 15]؟ ألم يتخذها بعض أهل العلم دليلاً على أنَّ المراد الرُّؤية في السَّماء وليست في الأرض؟ وبالتّالي فيه دلالة على (المعراج) نفسه؟


نقول: لا شكَّ أنَّ كلامنا السَّابق كفيل بتفنيد هذا الزّعم وردِّه، ونضيف إليه فهمًا جديدًا مستنبطًا من الدِّراسة اللِّسانيَّة للنصِّ القرآني نفسه، ومتوافقًا مع سياق الآيات في هذه السُّورة، فالسِّدْرةُ في قوله تعالى: ﴿عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾ [النجم: 14]، تعني لسانيًّا الشَّجَرَة الطَّيِّبة ذات الثّمَر الطَّيِّبِ، وتُعرف باسم (النَّبِق)، ينتفع بورقها، ومنها نوع آخر لا ينتفع بورقه، وعند البحث نجدُ أنَّ (السِّدرة) مكان معروف في (مكة المكرَّمة)، وعندها شجرة (النَّبق)، يؤيد ذلك ما ورد في سنن (أبي داود) /2032/، وكذا في مسند الإمام (أحمد) /1416/، ومسند (الحميديّ) /337/،  و(البيهقيّ) في (سننه الكبرى) /9757/، و(ابن الأثير) في (جامع الأصول) /6995/، والخَبَرُ بلفظه من سنن (أبي داود) قالَ: (حدثنا حامد بن يحيى حدثنا عبد الله بن الحارث عن محمد بن عبد الله بن إنسان الطّائفي عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن الزبير قال: لما أقبلنا مع رسول الله ﷺ من ليّة، حتى إذا كنا عند السّدرة، وقف رسول الله  في طرف القرن الأسود، حذوها فاستقبل نخبا ببصره، وقال مرة واديه ووقف حتى اتّقف النّاس كلهم، ثم قال: إنَّ صيد وجٍّ وعضاهه حرام، محرم لله، وذلك قبل نزوله الطّائف، وحصاره لثقيف).


 وهو خَبَرٌ مشهور استدلَّ الفقهاء والأئمة به على حرمة صيد (وجّ)، وبالتَّالي فلا حجَّة لهم في جعل (السِّدرة) مكانًا في (الجنَّة) بناء على ما ورد من اختلاف في الرّوايات السَّابقة.


ولعلَّ الأمر العظيم في هذا الخَبَرِ ورود كلمة (وجٍ) وهو (الطَّائف) نفسها، وقيل: وادٍ قريب منها. فقد ذكره (ياقوت الحموي) في معجمه فقال: (وفي الحديث أنَّ النّبي ﷺ قال: إنَّ آخر وطأة لله يوم وجّ، وهو الطَّائف. وأراد بالوطأة الغزاة ههنا، وكانت غزاة الطّائف آخر غزوات النَّبيّ ﷺ. وقيل: سمّيت وجًّا بـوجّ بن عبد الحق من العمالقة. وقيل: من خزاعة).


 وذكره ابن قتيبةَ برقم /64/عن كَعْبٍ أيضًا فقال: (إِنَّ وَجًّا مُقَدَّسٌ، مِنْهُ عَرَجَ الرَّبُّ إِلَى السَّمَاءِ يَوْمَ قَضَاءِ خَلْقِ الأَرْضِ).


 يظهر في هذا الخَبَرِ أنَّ الله سبحانه وتعالى عرج منه إلى السَّماء يوم قضاء خلق الأرض، وأن (كعب الأخبار) هو أوَّل من استخدم هذا اللفظ بمعنى الصّعود إلى السَّماء، ويؤيد هذا الخَبَرَ ما ذكره (ياقوت) قبل قليل: (آخر وطأة وطئها الله بوجٍّ). وهو خَبَرٌ رواه (أحمد /17562/، و(الحميديّ) في مسنده /336/، و(الطّبرانيّ) في (معجمه الكبير) /704/، و(السّيوطيّ) في (جامع الأحاديث) /25458/، وقال (الهيثميّ): (رجاله ثقات).  وأورده (الألوسيّ) و(أبو حيَّان) في تفسيريهما.


وإذا كان هذا الوادي قريب من (السَّدرة)، وهي المكان الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة (النَّجم)، فلا شكَّ أنَّ من نَسَبَ (المعراج) إلى النَّبي ﷺ من هذا المكان يعلم حقيقة مثل هذه الأمور، وإذا كان (المعراج) قد نُسب إلى الله سبحانه وتعالى كما في هذين الخبرين، فإن نسبته إلى الرَّسول ﷺ أقلُّ وأولى ممِّن أراد القول ذلك.


أمَّا قوله تعالى ﴿عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ [النجم: 15]. فلا دليل فيه على أنَّ المراد بـ(الجنَّة) الجنّةُ التي في السَّماء، وباعتماد منهج تفسير (القرآن بالقرآن) نجد أنَّ لفظ (الجنَّة) قد ورد في (القرآن الكريم) بمعنيين:


الأوَّل: جنة الدُّنيا، وهي البستان، وهو الأصل في معناه اللغوي. الثَّاني: جنَّة الآخرة، وهي غيبيَّة، وقد وردت موصوفة بألفاظ متغايرة، من ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً﴾ [الفرقان: 15] ، وقوله تعالى: ﴿وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾ [الشعراء: 85]، وقوله أيضًا: ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾ [الحاقة: 22].


أما لفظ (المأوى) فليس خاصًّا بـ(الجنَّة)، فقد ورد لها كما في قوله تعالى: ﴿أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 19] ، وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: 41] ، وورد أيضًا مقترنًا بـ(الجحيم) كما في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: 39].


وأمَّا قوله تعالى: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ [النجم: 18]، فالمرادُ (جبريل) عليه السَّلام في صورته التي خلقه الله عليها.

وقد وقعنا اعتمادًا على منهجِ تَرتيل القرآن الكريم على سبب عزوف السَّابقين عن سورة (الإسراء) إلى سورة (النَّجم) لإثبات (المعراج)، وهو أنَّ سورة (الإسراء) قد نصَّت صراحة على عدم حدوث (المعراج) الذي هو (الرُّقي في السَّماء)، فقال تعالى في سورة الإسراء: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 88-93].


فالله عزَّ وجل أخبر نبيَّه بلفظ (قل) وبلفظ (سبحان) الدالَّة على التَّنزيه أن يحدث مثل ذلك، وهو (بشر رسول)، والسُّؤال الأهم: في حال حدوث ذلك، واستجاب الله لطلبهم -فرضًا والقرآن فرض ذلك أيضًا- هل سيقع منهم إيمان أم سيبقون على كفرهم؟

لقد أجاب القرآن الكريم نفسه على هذا السؤال في مواضع عدَّة، وأنَّهم لن يؤمنوا، فقال تعالى: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ [الأنعام: 7]، ﴿وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ﴾ [الأنعام: 8] ، ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾[الأنعام: 9]. وقال أيضًا: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ﴾ [الحجر: 14-15]، وقال تعالى: ﴿وَإِن يَرَوْا كِسْفاً مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ﴾ [الطور: 44].


بل إنَّ الله سبحانه وتعالى قد أورد غير ما سألوا، كأن يكلمهم الموتى، وحكم بأنَّهم وإن حدث ذلك فلن يؤمنوا فقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ [الأنعام: 111].


فهؤلاء كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾ [يونس: 96-97]، فلن يؤمنوا، وقال في مواضع أخرى: ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: 101]، وقال: ﴿وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 132].


وبعد هذا العرض الموجز أرى أن لا حقيقة لقصَّة (المعراج)؛ بل هي موضوعة منحولة من قصة (الإسراء) نفسها، ولا شكَّ أنَّ من وضعها أراد تشويه الدِّين وإدخاله في عالم الوهم والخيال، وجرِّه إلى طريق الخرافات والأساطير، مثلها في ذلك مثل قصة (الأعور الدَّجَّال)، و(نزول عيسى)، و(انتظار المهدي) ممِّا لم ينزِّل به الله جلَّ وعلا سلطانًا.


وأظنُّ ظنًّا يُزاحِمُ اليقينِ أنَّها قصص دخيلة على شريعة محمّد ، كما دخلت على من سبقه من الأنبياء في شرائعهم، وحسبنا في ردّ ذلك وتفنيده كلام الله سبحانه وتعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو السَّميع العليم.