مدرسة الصليبي - الرُّبيعيّ تتحوَّل إلى العالميَّة (1) | د.علي محمد اسبر

كتاب كمال الصليبي
كتاب كمال الصليبي

برنارد ليمان: أحداث التوراة وقعت في جنوب غرب الجزيرة العربيَّة





يتحدّر المؤرِّخ وعالم اللسانيات برنارد ليمان  Bernard Leemanمن أصول سيبيريّة؛ لكنه نشأ في مدينة سونغيا وهي عاصمة منطقة روفوما في جنوب غرب تنزانيا. كان مناضلًا عسكريًّا وسياسيًّا من عام 1970 إلى 1994 ضدّ نظام الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا، وهو أستاذ التاريخ في معهد تالوا للتدريب اللاهوتي ومحاضر في عدد من الجامعات العالمية، وله العديد من المؤلَّفات في حقل نقد التَّاريخ التَّوراتيّ من أهمها "ملكة سبأ والدراسات التوراتية 2005 م". وتتصف رؤيته التَّاريخيّة بأنَّها نظير حقيقيّ للاكتشافات التي ابتدأها كمال الصليبيّ في كتابه "التَّوراة جاءت من جزيرة العرب" وتابعها عدد من المؤرِّخين العرب إلى أن تحوَّلت مع فاضل الربيعيّ إلى مدرسة نقديّة واضحة الأهداف. هنا محاولة لقراءة معمَّقة في فكر ليمان.


دوافع ليمان للبحث في جغرافيا التَّوراة

كانت بلقيس ملكة سبأ موضوع اهتمام ليمان واستلهمَ بحثَه عنها من أسطورة كانت منتشرة في منطقته الأصلية كليمنجارو، تنزانيا، تقول إنَّ منليك Menelik، وهو ابن سليمان وملكة سبأ، دُفن في فوهة جبل كيبو Kibo، أعلى قمة من قمم كليمنجارو الثلاث.


وبدأ ليمان بالتركيز على التراث الشَّفويّ للشُّعوب المحليّة، فانتبه إلى كلمة "رووا/لووا Ruwa/Looa" وهي كلمة محلية يستخدمها شعب تشاغا Chagga people وهو ثالث أكبر مجموعة عرقيَّة في تنزانيا، وتعني "الله" أو "الإله". وقد انتقلت إليهم هذه الكلمة من شَعْبِ كوشي Cushitic people الذي يرجع أنثروبولوجيًا إلى أصول عربيّة وكان قد استقرَّ في تلك المنطقة منذ نحو 1000 عام قبل الميلاد. إنَّ المتحدثين الكوشيين رغم اندماجهم وتأثرهم ثقافيًا ولغويًا بالمستوطنين الناطقين بالبانتو، إلا أنهم تمكنوا من الحفاظ على هويتهم المميزة وثقافتهم الخاصة في منطقة "مبولو" جنوب مقاطعة أروشا في تنزانيا. تدلُّ كلمة "رووا/لووا Ruwa/Looa"  على الإله أو القوَّة العليا التي يعبدونها ويعتقدون بوجودها. لكن انتبه ليمان إلى أنَّ كلمة "رووا/لووا" هي اسم مؤنث، مطابقة صوتيًا للكلمة العبرية רוח הקודש التي تعني "روح القدس" وتُنطق بالعبرية رُوْح أَقوديش، وتُرسم وفق نطقها العبريّ بالإنكليزيّة Ruach HaKodesh وهي أيضًا اسم مؤنث، وتُفهم فكرة الروح القدس في التُّراث اليهودي وفق المدراش، كإحدى أهم الوسائل الممكنة المتبقية للإنسان بمعزل عن أيّ واسطة لإقامة اتِّصال مع الله.  من هنا بدأ ليمان يُفكِّر في كيفيّة انتقال ألفاظ من هذا القبيل وأحداث توراتيّة محدّدة وإقحامها في مناطق جغرافيّة في تنزانيا. لكنَّه اعترف أنَّ أبحاثه في بداية المطاف لم تسفر عن أكثر من الأساطير.  


ملحمة كيبرا نغاست (مجد الملوك)

ومع ذلك، قاده اهتمامه إلى دراسة ملحمة Kebra Nagast كيبرا نغاست=مجد الملوك"، كتبها باللغة الجعزية Geʽez (=لغة قديمة جنوبيَّة قديمة نشأت في إثيوبيا وإريتريا) نبور إسحاق الأكسوميّ، وكانت بمثابة إحدى أهم الوثائق في التاريخ الدستوري الإثيوبي منذ نحو عام 1314 حتى عام 1974 مع انتهاء سلالة من الملوك المسيحيين الأرثوذكس الإثيوبيين الذين حكموا تلك البلاد.


يُعَدُّ كتاب "كيبرا نغاست" مزيجًا من ثلاث مخطوطات قديمة، كُتبت في أوقات مختلفة، وتم دمجها في وثيقة واحدة في السنوات الأولى من القرن الرابع عشر الميلادي. أقدم جزء في ملحمة "كبرا نغاست" هو دورة "سبأ-منليك"، التي تروي قصة لقاء الملك سليمان وملكة سبأ (=ماكيدا في التراث الإثيوبيّ) نحو عام 950 قبل الميلاد، وميلاد ابنهما منليك، وإنشاء دولة إسرائيلية في إثيوبيا. يتناول الجزء الثاني من الكتاب "دورة كالب Caleb Cycle" -وكالب هو ملك أكسوم حكم من 520 إلى 540 م-القضايا السياسية والدينية في القرن السادس الميلادي، بين الإمبراطورية البيزنطيَّة، والعرب الجنوبيين، وأكسوم (إثيوبيا المبكرة). أما الجزء الثالث فهو سرد موجز لكيفية تأليف كتاب "كبرا نغاست" في أكسوم نحو عام 1314."


اطلاع ليمان على فكر كمال الصليبيّ ومراسلاته معه

قام ليمان بتحليل تاريخيّ-جغرافيّ لدورة سبأ-منليك وفقًا لأحداثها المرتبطة بجغرافيا إثيوبيا، لكن كانت ردَّةُ فعله الأوليَّة مخيبة للآمال، لأنَّ الإشارات في هذه الدَّورة نفسها إلى جغرافيا إثيوبيا لم تكن منطقيَّة. وبالتالي، رفضها لعدم وجود قيمة تاريخية لها، لكن تجدَّد اهتمامه بدورة سبأ-منليك بعد نشر كتاب "التَّوراة جاءت من جزيرة العرب" لكمال الصليبي في عام 1985 م. 


تابع ليمان باهتمام كبير الهجوم الأكاديميّ العالميّ الذي تعرَّض له الصليبي بعد نشره لكتابه المذكور، بدءًا من المعارضة القوية لنظريته من مؤرخين وعلماء آثار وباحثين صهاينة في "إسرائيل"، حيث تم تفسير كتاب الصليبيّ على أنه محاولة لتقويض أساس الدولة اليهودية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى شُنَّت حملة عالميّة شعواء على كتاب الصليبيّ، فقد وصف جون داي أستاذ اللاهوت في جامعة أكسفورد ومحرِّر أطلس الكتاب المقدس لأكسفورد نظريّة الصليبيّ بأنَّها "هراء تام"، في حين أنَّ موقف كلّ من جون إمرتون أستاذ اللغة العبريّة في جامعة كامبريدج، والباحث تودور بارفيت من جامعة لندن ضد الصليبي استند إلى تأكيدهما الغريب على أنَّ اللغة العبرية لم تنقرض أبدًا كلغة حيَّة، لذلك الشَّعب اليهودي نفسه مستمرّ ولا توجد حلقات جغرافيّة مفقودة في سيرورته التاريخيّة. وندَّد عالم الآثار الأمريكيّ والأستاذ في جامعة بنسلفانيا جيمس ساور بكتاب الصليبيّ مؤكِّدًا أنَّ أورشليم موجودة في مكانها الحالي تمامًا كما تقول التَّوراة.  وانتقد عالم الآثار الأمريكي فيليب هاموند من جامعة يوتا في عام 1991 الصَّليبي لتوصُّله إلى استنتاجات تاريخية مغلوطة من تحليل الأدلة اللغوية والأثريّة أوقعته في سوء فهم، كما أنَّ مقاربة الصليبي –في رأيه-بين أسماء الأماكن المتشابهة أو حتى المتطابقة على أساس أنَّها دليل على "الهُويَّة" بين مكانين هو أمر سخيف بشكل صارخ. وأدان هاموند تجاهل الصليبي للتحليلات النحويّة للغة العبرية في التَّوراة بدءًا من الماسوريين (=كهنة يهود متخصصون في كتابة وتلاوة التناخ) إلى الدراسات الحديثة وعدّه موقفًا متعجرفًا. وانتهى هاموند إلى أنّه كان من الخطأ نشر كتاب الصليبي، سواء أكان ذلك في طبعته الألمانية الأصلية أم في الترجمة الإنكليزية. كما أكد و. سيبلي تاونر أستاذ في كلية اللاهوت الاتحادية في ريتشموند، فيرجينيا، في عام 1988 أنَّ "زخم آلاف السنين من التقاليد وجميع الدراسات الحديثة... تعمل بقوة ضد أطروحة الصليبيّ". وانتقد بروس دالبرغ أستاذ اللاهوت في كلية سميث عام 1994 الصليبي لعمله بمفرده، بمعزل عن اهتمامه بالحوار أو التوافق على الأقل مع علماء اللغة العبريّة أو علماء الدراسات الكتابيّة. وقال عالم النقوش الأمريكيّ جوناس جرينفيلد (1994): "إن تسمية ما يفعله الصليبي بـ'الدراسات الكتابية' تجعل مجال عملنا مهزلة لا أكثر." وفي عام 2003، نشر ويليام ديفير، أستاذ علم آثار الشرق الأدنى في جامعة أريزونا، كتابه "من كان الإسرائيليون الأوائل ومن أين أتوا؟" حيث رفض عمل الصليبيّ، واصفًا إياه بأنه "كتاب مشهور... تم التشكيك فيه تمامًا ورفضه، بالطبع، من قبل النُّقاد من جميع الاختصاصات المتعلّقة بالدراسات الكتابيَّة". 


لكن رَفَضَ ليمان كلّ هذا النقد الذي تعرَّض له الصليبيّ، وأرسل ليمان نفسه إلى الصليبي قائمة بالمواقع الجغرافيّة المذكورة في دورة سبأ-منليك، فردّ الصليبيّ معترفاً بأنَّه غير مُلمٍّ بمحتوى دورة سبأ-منليك؛ ومع ذلك، قدَّم لـ"ليمان" خريطة توضِّح أسماء الأماكن، فاقتنع ليمان من هذه الخريطة بأنَّ دورة سبأ-منليك قصة حقيقية، لأنَّ روايتها تطابق المواقع الجغرافيَّة الواردة في التناخ بما يتسق مع أسماء أماكن في غرب شبه الجزيرة العربيَّة وليس في إثيوبيا ولا فلسطين.


تصوّر ليمان عن الجغرافيا الحقيقيّة للتوراة

لم ينجح المستشرقون وعلماء الآثار والباحثون اللاهوتيون وفق رأي ليمان في تفسير كيف يمكن لمكان مثل فلسطين في القرن العاشر قبل الميلاد عانى من الجفاف والفقر وغياب الموارد، أن يخلق فجأة ممالك غنيّة وقويّة مثل المملكة المتحدة لداود وسليمان أو مملكتي إسرائيل ويهوذا بعد انقسام هذه المملكة المتحدة. إذ لا توجد ببساطة أسباب اقتصاديّة لحدوث ذلك في مثل هذا المكان. وفي الوقت نفسه، كانت هناك فعلًا أسباب اقتصادية هائلة لظهور مثل هذه الممالك ليس في فلسطين ولكن في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية.


قام ليمان بمسوحات في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، فتبيّن له وجود ثروة من الأدلة تتجلّى في طرق التجارة، وتواريخ تعاقب الممالك، واللغويات، وأسماء الأماكن، والتقاليد، والرواسب المعدنية، والتغير البيئي، والمواقع الأثرية، والتطور الدِّينيّ، وثقافة قديمة تتعلّق بتابوت العهد، وتوافقات جغرافية وتاريخيّة استثنائيّة مع ما هو وارد من معلومات في دورة سبأ-منليك من كتاب كيبرا نغاست، وهذا كلّه يُشير-في رأيه-إلى أن الموطن الحقيقيّ للعهد القديم في جنوب غرب شبه الجزيرة العربيّة وليس في فلسطين.


يقدّم ليمان دلائل حاسمة في رأيه على قيام هذه الممالك الغنيّة غرب شبه الجزيرة العربيَّة مثل مملكة داود وسليمان...، فقد احتوت شبه الجزيرة العربية على عدة طرق تجارية رئيسة، وفيها وليس في فلسطين تطورت المدن الكبيرة في الواحات وازدهرت بفرض الضرائب على قوافل الجِمال. ويُضاف إلى ذلك أنَّه كانت منطقة تِهامة الجبلية مغطاة بكثافة بأشجار الأرز العملاقة. ولكن تم قطع من العديد من هذه الأشجار الضخمة من أجل استخدام أخشابها في البناء أو صناعة السُّفن أو تحويلها إلى فحم لصهر الحديد، ويستند ليمان في هذا المقام إلى القرآن الكريم الذي يكشف أنَّ داود كان صانعًا عظيمًا للأسلحة: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [سورة سبأ: 10-11] وكما هو ظاهر السَّابِغاَت هي التَّوامُّ الكواملُ من الدُّروع، وعبارة " وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ" تعني أنَّ هناك أمرًا إلهيًّا لداود من أجل الالتزام بمعيار دقيق في صناعة الدّروع بحيث يحافظ على خفّة وزنها وحصانتها في الوقت نفسه، وهذا يدل في رأيه على أنَّ صناعة الحديد كانت صناعة مزدهرة في عهد داود وبعده في عهد ابنه سليمان، ولا يوجد بالتأكيد شيء في علم الآثار الفلسطيني لدعم وجود صناعة قديمة للحديد بهذا الحجم، رغم أنَّ بحث عالِم الآثار باتريك. إي. ماكغفرن وعنوانه "العصر البرونزي المتأخر والعصر الحديدي المبكر في وسط شرق الأردن، مشروع وادي البقعة the Baqʻah Valley ، 1977-1981" كَشَفَ عن مركز لصهر الحديد حيث استخدم العُمَّال غابات البلوط في وادي البقعة في الأردن، إلا أنَّ ماكغفرن أكّد أن هذا التطور لم يصل إلى المجتمعات غرب الأردن، أي إلى فلسطين.


ولم يكن ممكنًا –في رأي ليمان-ظهور ممالك غنيّة في فلسطين، فقد كشفت الأدلة الأثرية أن فلسطين في عصر سليمان كانت منطقة تنافست فيها زعامات محلية على السيادة في أرض تعاني من الجفاف وتتعرض بشكل متكرر لغارات القراصنة البحريين. وعلى النقيض من ذلك، كان في غرب شبه الجزيرة العربية جميع العناصر المرتبطة بازدهار ممالك مثل مملكة سليمان بوساطة السيطرة على طرق التجارة المربحة للغاية والواحات التي تطورت فيها المناطق الحضرية، حيث أدى تراكم الثروة من التجارة إلى ظهور طبقة بيروقراطية متعلمة وثقافة عالية في البلاط.