الماسوريون
يُرجِع ليمان عمليّة تزوير أسماء الأماكن في التَّوراة بخاصَّة وفي التناخ بعامَّة إلى الماسوريين أو أصحاب الماسورة وهم مجموعة من اللغويين والنُّحاة اليهود الذين دوَّنوا -على الأرجح من القرن الثامن إلى القرن العاشر- طريقة قراءة التناخ كما تناقلوها وفق زعمهم من التراث اليهوديّ القديم، وتعني الماسورة (מסורת =ماسوريت) مجموعة من العلامات والملاحظات المصاحِبة لنصّ التناخ، والغرض منها هو الحفاظ على نص الماسورة (=نص للتناخ مجموع ومضبوط بعد مقارنة نسخ عديدة) ضدَّ أخطاء النَّسخ. كان أهارون بن موشيه، المعروف بالعربية باسم "أبي سعيد"، عاش في النصف الأول من القرن العاشر زعيم إحدى أكثر مدارس تدوين التناخ مسؤوليّةً عن تحريف أسماء الأماكن.
أكَّد ليمان أنَّ الماسوريين زعموا أنَّ لديهم معرفة تراثيَّة بالنُّطق الصحيح للحروف الساكنة، لكن الأبحاث الحديثة خلصت إلى أنَّهم اعتمدوا أكثر على النُّطق الآرامي بدلاً من معرفة حقيقيّة بالألفاظ العبريّة القديمة. وارتأى أنَّ العبريَّة التوراتيَّة هي لغة اصطناعية لم يتم التحدُث بها أبدًا، لأنَّها في جوهرها مزيج من حروف عبريَّة قديمة من القرن السادس إلى الخامس قبل الميلاد، وحروف آرامية من القرن الثامن إلى التاسع الميلادي. ومفرداتها قليلة، وتمثِّل ربما خُمس اللغة المنطوقة الأصليَّة. ولها وظائف لاهوتيّة-تاريخيّة محدودة تتعلق حتمًا بالهجرة والدِّين والحكومة والحرب والقانون، ويصعب التأكد من بعض قضايا النحو فيها بسبب نقص المواد. وقد سيطرت مدرسة طبريا التابعة لمدرسة أهارون بن أشير على تلاوة العهد القديم. وكان الماسوريون بوجه عامّ ينفذّون جدول أعمال على المستوى اللاهوتيّ-السياسيّ. زعموا أنّهم "شعب الله المختار"، ولديهم "أرض موعودة"، وتوقعوا مجيء مسيح الحرب المُنتقِم، ورغبوا في إعادة تأسيس ثيوقراطية (=حكومة كهنوتيّة) في "أورشليم". وكانت خططهم لا تقوم على دفع اليهود للالتزام بالتوراة فقط، لأنَّ هذه الخطط ستكون من دون معنى ما لم تكن لديهم رؤية للمستقبل، فالالتزام بالتوراة ليس كافيًا؛ بل يجب على اليهود استعادة "أرض الميعاد"، لأنَّ وجودهم سيكون بلا قيمة من دون القيام بذلك. بالنسبة لهم، كانت العودة إلى الأرض الموعودة أمرًا إلهيًا.
رجَّح ليمان أنَّ اليهود أقاموا ثيوقراطية فعلًا في أورشليم نحو 400 قبل الميلاد، وحكموا لاحقًا مملكتهم المستقلة. ولكن وفق ليمان ليس صحيحًا على الإطلاق أنَّ هذه الـ"أورشليم" التي بناها سليمان هي نفسها القدس عاصمة فلسطين.
التلاعب بنطق وكتابة أسماء الأماكن
أكَّد ليمان أنَّ الماسوريين تعمّدوا نطق ألفاظ نصوص التناخ وفقًا لسيناريو أنَّ القدس الفلسطينية كانت "أورشليم" التي بناها سليمان على نحو جعل من فلسطين الأرض الموعودة.
قام الماسوريون تحديدًا من مدرسة طبريا بمطابقة المواقع الجغرافية المذكورة في التوراة مع رؤيتهم الكهنوتيّة لأرض الميعاد. ذكر النصّ الأصلي للتوراة أن إبراهيم جاء من آر R، واستقرت سفينة نوح على أرض جافة في جبل ررت rrt وعبر يشوع " هـ-يردن h-yrdn" للوصول إلى الأرض الموعودة. ولقد وضع الماسوريون حروف العلة في هذه الكلمات لتطابق أسماء الأماكن التي يعرفونها. قرروا أن إبراهيم جاء من أور Ur في بلاد ما بين النهرين بدلًا من آر R، وأن سفينة نوح استقرت على جبل آراراط بدلًا من ررت rrt ، وأن يشوع عبر نهر الأُردن Jordan بدلًا من ه-يردن h-yrdn. يشير النصّ الأصليّ للتوراة أنَّ أول موطن لإبراهيم هو "آر R " الذي ينطق في أماكن أخرى على أنه "عير Ir " بمعنى مدينة كما في مدينة داود أو عير داود، وترد بالعبرية עיר דוד أما بالنسبة لكون آراراط مكان استقرار سفينة نوح، فمن المرجح أن rrt تعني مكانًا مرتفعًا (كما في الكلمة العربية " herrat= حرَّات") أكثر من كونها جبلاً في تركيا بالقرب من المكان الذي قام فيه الماسوريون بتحرير النسخة النهائية من التناخ. وفعلًا أصاب ليمان في هذه المقاربة، إذ إنَّ الحَرَّة ظاهرة جغرافية يكتسي فيها سطح الأرض بالصخور النارية والطفح البركاني لتشكِّل مرتفعًا، وهناك مثلًا حرَّة خيبر وهي عبارة عن حقل بركاني يقع في شمال المدينة المنورة. كما أنَّ "هـ-يردن" التي نطقها الماسوريون لتعني الأردن، لم يُشَرْ إليها أبدًا على أنها نهر في التوراة، ومن المرجَّح أنها تعني مرتفعًا أو منحدرًا، في حين أن الكلمتين "مصرم Msrm" و"كوس Kws=كوش"، اللتين تم تفسيرهما على أنهما تعنيان مصر وإثيوبيا/السودان، تشيران –في رأي ليمان-إلى مدينتين قديمتين بالقرب من اليمن.
أصل اللغة الكنعانية
نبَّه ليمان إلى أنَّ اللغة التي كانت تُتحدث في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية كانت قد حيّرت علماء أصول اللغات. ذلك أنَّ اللغة الغربية العربيَّة لها "تشابهات ومقارنات مفاجئة ... مع الكنعانيَّة." ولقد أخبرت كتب التراث العربيّ أنَّ العرب الغربيين هاجروا شمالًا من اليمن، وتميل إلى تصنيفهم مع اليمنيين. لذلك لا يبدو منطقيًّا أنَّ اللغة الكنعانية قد نشأت في فلسطين. إذ لا توجد دلائل أركيولوجيّة عن أنَّ عرب غرب شبه الجزيرة العربيّة قد نشأوا في الشَّمال وهاجروا جنوبًا، حاملين لغتهم الكنعانية معهم، من هنا يبدو أنَّ المرجَّح هو أنَّ اللغة الكنعانية تطورت في غرب شبه الجزيرة العربية وانتشرت شمالًا، تمامًا كما تؤكد نظريّة تاريخيّة حاسمة عند العرب وهي أنَّ سكان بلاد الشام العرب من أصول قبليّة يمنيّة. وهذا الاكتشاف لأصل اللغة الكنعانيّة يتطابق مع اكتشاف فاضل الربيعيّ للأصول اليمنيّة للشعب الكنعاني (انظرْ فاضل الربيعيّ، ورقة بحثية بعنوان "ضد ثقافة إعادة إنتاج الرواية التوراتية اللاهوتية الأوروبية" 2024/10/18:
https://www.mujtama.org/) وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ ليمان –كما هو ظاهر من مؤلَّفاته-لم يطلع على أعمال الربيعيّ، كما أنَّ هذا الأمر نفسه ينطبق على الربيعيّ، لكن المهم هو هذا الاتفاق عبر المصادفة البحتة بينهما في طريقة التفكير العامة بمعزل عن التفصيلات. وهذا يدلّ على وصولهما إلى الحقيقة نفسها، على نحوٍ يدعو إلى التأمُّل العميق في هذا الأمر.
انتشار اليهوديّة في فلسطين كان محدودًا
استند ليمان إلى حقائق أركيولوجيّة مفادها أنَّ انتشار اليهوديَّة كديانة شعبيّة في فلسطين كان قصيرًا، من نحو عام 152 ق.م إلى عام 135 م. وعليه، عندما تتم مقارنة طبيعة الدِّيانة اليهوديَّة التي ظهرت في فلسطين في هذه الحقبة مع المجتمعات اليهوديَّة في الحجاز الغربيّ واليمن الجنوبيّ العربيّ، يصبح من الصعب قبول النظريات التي تفيد بأنَّ اليهودية العربيَّة تم نشرها من قِبَلِ اليهود القادمين الفارِّين من فلسطين بسبب القمع الرومانيّ وفق النظريّة الشائعة بين المؤرِّخين، غربًل وشرقًا.
إنَّ ما يقف وراء معظم النظريات المتعلقة بأصول اليهود العرب هو التصوُّر المسبق بأنَّ فلسطين كانت الموقع الرئيس لأحداث التناخ. وهذا التصوّر كان مقبولًا بين علماء الآثار، نظرًا لأنَّ الدراسات الديموغرافية والمسوحات الأثرية الشاملة لم تكشف إلا منذ التسعينيات أن فلسطين القديمة لم يكن ممكنًا أن تدعم الثقافة والاقتصاد المتطورين لمملكتي يهوذا وإسرائيل القديمتين. وتبنّى ليمان فكرة أنَّ مكة كانت مُسْتَقرًّا للإسرائيليين في أزمنة تتفق مع أزمنة أنبياء بني إسرائيل، ولم يقبل ليمان أن يكون التأثير قد انتقل بسبب اليهود جنوبًا من فلسطين إلى مستوطنات الحجاز-تيماء وخيبر والمدينة المنورة-في حين يرجِّح أنَّ أنبياء بني إسرائيل من الممكن أنهم كانوا في منطقة مكة-المدينة منذ زمن النبي موسى وبسببهم تمَّ انتشار اليهوديّة في مناطق من شبه جزيرة العرب.
وجود اليهود في الجزيرة العربيّة
لقد أصبحت هذه المجموعات السكانية اليهودية في جنوب غرب شبه الجزيرة العربيّة محور الاهتمام عندما حلل المؤرخون أسباب صعود الإسلام في القرن السابع الميلادي. حققت المسيحية المونوفيزية والزرادُشتية الفارسية والجماعات الدينية الأخرى تقدمًا محدودًا في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، لكن يبدو أنَّ اليهودية كانت الأكثر انتشارًا، بدليل بلوغ اليهوديّة في مملكة حِمْير في اليمن أعلى ذرواتها، لكن مع ظهور النبي محمد كانت هناك مستوطنات يهوديَّة كبيرة في الحجاز في خط يمتد من فدك عبر تيماء وخيبر ويَثرب/المدينة المنورة ومكة والطائف. يُقدّر ليمان وفق معطياته أن نصف سكان هذه المدن كانوا يهودًا في بداية العصر الإسلامي، وكانت هناك أيضًا قبائل بدويَّة يهودية في الواحات المحيطة. ويشير ليمان إلى أنَّ قبيلتين من أكبر قبائل المدينة، وهما قبيلة بني النضير وقبيلة بني قريظة تنتميان إلى قبائل إسرائيل الكهنوتيَّة. كما ظل اليهود في منطقة تيماء-خيبر واليمن موجودين حتى نهاية القرن الثَّاني عشر الميلادي.
أوضحَ ليمان وفقًا لمنظوره أنَّ القرآن الكريم يتميّز من الكتاب المقدّس العبريّ وحتى من الأناجيل في سرده لأخبار بني إسرائيل على نحو يتفق مع وجودهم التاريخيّ الحقيقيّ، فقصة يوسف أكثر تفصيلاً، والعذراء مريم هي شخصيَّة أقوى وأكثر إثارة للاهتمام مما تظهر عليه في الأناجيل، ولاحظ ليمان أنَّ ما ورد في القرآن الكريم عن بني إسرائيل غير مستمدّ من التراث اليهوديّ المحليّ، ولكن يكشف دلائل تعبِّر عن حقيقة بني إسرائيل، على أساس أنَّ النبيّ محمدًا نفسه لم يكن يخلق دينًا جديدًا، ولكن كان يطهِّر عقيدة إبراهيم وتحدَّث عن إبراهيم وموسى كما لو كانا جزءًا من التراث العربي. وبذا يكون ليمان قد ميّز بين بني إسرائيل واليهود داخل شبه الجزيرة العربيّة. ويُلاحَظ هنا أيضًا أن طرح ليمان يتفق مع الطَّرح الشهير للربيعي وهو أنَّ بني إسرائيل قبيلة عربيّة لا علاقة لها باليهود.
ركَّز ليمان على معلومات مهمة جدًا، فأكّد أنَّه كان في خيبر دائمًا عدد كبير من السُّكان الأفارقة. وتمَّ إرجاع ذلك إلى نظام العبوديَّة الذي كان سائدًا في تلك المنطقة، لكن يُرجِّح أكثر أنَّ المنطقة نفسها كانت مأهولة منذ العصور القديمة بشعب أفريقي. إذ إنَّ الكلمة العبرية المستخدمة للدلالة على الأفريقي والسَّامري هي نفسها –كوشي-لذا فإنَّ فكرة وجود نسبة عالية من اليهود الأفارقة في خيبر قد تدعم فكرة التأكيد على أنَّ يهود خيبر كانوا بقايا المملكة الشَّمالية (السامرة) لإسرائيل. أما المدينة إلى الجنوب التي كانت أيضًا مركزًا لليهود الحضريين والبدو، ولها أصل مصري قديم (يثرب) بمعنى أنّها كانت خاضعة لملوك مصر، مما قد يضيف قيمة إلى الحجة القائلة بأنَّ الأسرى العبرانيين كانوا في مستعمرة مصرية وليس في أفريقيا نفسها. وبرَّر ليمان ذلك بأنَّ المنطق الاقتصادي يشير إلى أنه من المرجح أن المصريين كانوا أكثر تركيزًا على السيطرة على طرق التجارة في الحجاز لضمان توجيه السلع الفاخرة نحو موانئ البحر الأحمر من أجل خدمة طيبة، لذلك أسسوا مستعمرة قديمة في يثرب.
الحقيقة أنَّ اللافت في هذا المقام هو أنَّ ليمان يتفق في مقولاته الرئيسة مع المدرسة العربية لنقد التَّاريخ التوراتيّ وإن كان هناك اختلافات في التفاصيل، هذه المدرسة التي وضع أسسها كمال الصليبيّ وكّرَّسها في الحياة الثقافيّة العربيّة مجموعة من المؤرخين وفي مقدمتهم فاضل الربيعيّ رغم الصعوبات والتحديات والعقبات، لكن يبدو أنَّ هذه المدرسة رغم كلّ شيء بدأت تتحوَّل إلى ظاهرة أكاديميّة عالميّة، لأنَّ ليمان نفسه يدرِّس أفكاره للطلاب في مختلف الجامعات التي يعمل فيها بصفتها اكتشافات تاريخيّة قد تغيّر التاريخ السائد. ولا شك في أنَّ هذا الرجل يستحقّ الثناء فقد قد قضى حياته يناضل ضدّ نظام الفصل العنصري في أفريقيا الجنوبيَّة، وها هو يكملها بكشف أكاذيب اليهود عن أرض ميعادهم. والأهم في هذا السياق أنَّ أفكار هذه المدرسة التجديديّة التي تعرَّض بسببها فاضل الربيعيّ تحديدًا لحملات نقديّة ممنهجة وغير منصفة بدأت الآن مع برنارد ليمان بالانتشار في الأوساط الأكاديميّة العالميّة. وسيستمر تيار هذه المدرسة ولن يتوقّف.