ناقشَ الدكتور يوسف أبو عواد، أستاذ اللغة العربية والمختص في اللسان العربي المبين، خلال لقائه د.باسم الجمل، في حلقة جديدة بالموسم الجديد من برنامج "مفاهيم"، مفاهيم وأسس اللسان العربي المبين، واستخدام آلية اللسان العربي المبين في فهم آيات القرآن الكريم؛ حيث محاولة إثبات أن فعلاً آلية اللسان العربي المبين قادرة وتمكن أيَّ شخص يستخدمها في فهم آيات النص القرآني.. وبدأ بالمسميات أو الألفاظ المسماة الخاصة مثلاً بأعضاء الجسم في القرآن الكريم.
المسميات أو الألفاظ الخاصة بأعضاء الجسم في القرآن الكريم
وأجاب الدكتور يوسف أبو عواد، أستاذ اللغة العربية والمختص في اللسان العربي المبين، عن سؤال "نبدأ بالمسميات أو الألفاظ المسماة الخاصة مثلاً بأعضاء الجسم في القرآن الكريم؛ شكل يد، عين، قلب، عقل، جسم، جسد.. هذه الألفاظ عند تطبيق آلية اللسان العربي المبين؛ هل نخرج بمفاهيم مختلفة عما هو سائد عند العامة حول هذه المفاهيم، أم أنها تتطابق بما يفهمه الناس عن معنى الجسد ومعنى الجسم ومعنى اليد ومعنى الرجل ومعنى العين ومعنى القلب ومعنى الدماغ أو معنى العقل في النص القرآني؟"، قائلاً: "في الحقيقة سأبدأ من حيث انتهيت في سؤالك، وأعود إلى بداية السؤال شيئاً فشيئاً.
المشكلة في المفاهيم التي تكونت لدى عوام الناس عن موضوع مثلاً يتعلق بالجسد والجسم والبدن أو النفس والروح؛ فيها تداخل كبير. التداخل هذا نتج عن المرويات التي لا يتحرى فيها دقة النقل على مستوى اللفظ كما هي الحال في النص القرآني".
منهج التدبر.. التمسك بالنص القرآني بالمقام الأول
وأضاف د.يوسف أبو عواد: "نحن لو رجعنا إلى النص القرآني؛ فحللنا الكلمات وَفق المنهج اللساني الذي يبدأ بالمستوى الصوتي ثم يتدرج إلى المستوى الصرفي والنحوي والدلالي، وأيضاً استخدمنا منهجَ التدبر الذي أرشد إليه القرآن، فجمعنا كل ما يتعلق بالمفردة؛ سنلاحظ عالياً جداً من الدقة والتناسق الذي يتجلى فيه معنى قوله تعالى، (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)؛ ولذلك نحن حسسنا بشكل كبير على التمسك بالنص القرآني بالمقام الأول والخروج بالمنظومة المفاهمية والمنظومة الحياتية بدءاً من الإنسان نفسه، أن يفهم الإنسان ذاته ثم بعد ذلك يمكن لنا بسهولة أن نعرف ما الصحيح وما غير الصحيح مما تنقل من الروايات والتراث وغيره".
الفرق بين (جسد) و(جسم)
وتابع أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "فقضية أن يفهم الإنسان ذاته؛ القرآن الكريم يعبر تعبيرات دقيقة جداً عن مكونات جسم الإنسان.. يعني كلمة (جسد) مثلاً نحن لو لاحظنا أو جمعنا الآيات التي تتحدث عن الجسد، سنلاحظ أنها تعطي معنًى مبدئياً أولاً؛ ولكنه متناسق. و(جسد) هي الفرق بين جسد وجسم، إذا لاحظنا أو أردنا أن ندرس من الناحية الصوتية مثلاً، هناك اختلاف في حرف الدال إلى حرف الميم. الآن حرف الدال كما تعلم فيه نوع من الشدة، فيه نوع من الجفاف؛ ولذلك هو من الحروف المقلقلة ومن الحروف الشديدة في اللسان العربي. فكلمة (جسد) لما نرى مثل قوله تعالى (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ)، هذا العجل لم يكن فيه حياة، هو مجرد جسد ليس فيه مظهر من مظاهر الحياة؛ يعني لم تدخله الحياة؛ فسماه النص جسداً. وأكد هذا في قوله (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا)؛ يعني كلمة (جسد) وردت أربع مرات في نص القرآن، من أوله لآخره لم ترد إلا أربع مرات؛ الأولى التي ذكرتها والثانية (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا)".
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ
واستطرد د.يوسف أبو عواد: "الآن الثالثة وردت في سياق آخر (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا). كان الكلام طبعاً على الأنبياء، هذا في بداية سورة الأنبياء. (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ)، لا يُسمى جسداً إلا إذا كان ليس فيه مظهر أكل الطعام، والأكل الذي هو الغذاء أحد أهم مظاهر الحياة المشتركة بين الكائنات الحية.. لذلك هو قال الأنبياء ليسوا جسداً لا يأكلون الطعام؛ ولكنهم في الوقت نفسه ليسوا خالدين. (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ). إذن من صفات الجسد يعني على فكرة في النحو العربي يقولون لك الجمل بعد النكرات صفات، يعني كلمة جسد جاءت منونةً؛ معناها ليس فيها للتعريف وللتبسيط على المشاهدين. الآن الذي تلاها (جسداً لا يأكلون الطعام)، هذه صفة للجسد، معناه سنفهم أن من طبيعة الجسد، أنه لا يأكل الطعام. إذن هو ليس فيه حياة؛ ولكن قال بعد ذلك (وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ).
طيب، وفي آية أخرى (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا)؛ إذن الجسد هنا، طبعاً الآية هنا ليست واضحة كل الوضوح؛ لكن من فهمنا للآيات الثلاث السابقة نستطيع أن نستنتج أن الجسد المذكور هنا هو شيء ليس فيه حياة. إنما هو شكل فقط، شكل يحاكي مظهر الحي من ناحية الشكل. لكنه ليس فيه مظهر من مظاهر الحياة. فهذا المصطلح الأول ووجوده في القرآن الكريم الذي هو مصطلح الجسد؛ لكن إذا انتقلنا إلى موضوع الجسم نلاحظ أن الجسم حين يتحدث عنه القرآن، قد بثت فيه الحياة؛ فلا يسمى جسماً، وهناك فرق صوتي كما قُلنا بين الدال والميم.. يعني حرف (الميم) الذي هو موجود في كلمة (أم) التي تدل على الأمومة، فيه من الليونة واللطافة ما ليس أبداً في حرف الدال، فكأنه بثت الحياة في الكلمة لما تحول الصوت من حرف الدال إلى حرف الميم".
الجسم ودخول مظاهر الحياة
وأضاف أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "ولذلك في سياق سورة البقرة (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا) إلى أن قال (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)؛ هو يتحدث عن حي؛ الذي هو طالوت، (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا). فـ(قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ). إذا الجسم الآن دخلت فيه مظاهر الحياة. وقال أيضاً في سورة (المنافقون) (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ).. إذن فيه حركة الحياة وفيه مظاهر الحياة؛ لاحظ الدقة المتناهية في النص. طيب، هل وردت كلمة جسم أو أجسام في القرآن الكريم في غير هذين الموضعَين؟ لا. انتهى".
"جسد" و"جسم".. الافتراق بين صوتَي "الدال" و"الميم"
وقال د.يوسف أبو عواد، رداً على "ربما استخدام الجذر الثنائي من اللفظة؛ التي هي (جس)، للتأكد هل هناك فيه حياة بالشيء أو عدمه؟": "إشارة ممتازة جداً، أنه الـ(جس) لأنه هناك اشتراك في الشكل الخارجي، ما حسم أن هذا الشكل الخارجي فيه حياة وهذا ليس فيه.. ظهور صوت (الدال) أو (الميم)... الافتراق بين صوتَي الدال والميم في الكلمتَين جعلك تعرف أن هذا جسد ليس فيه حياة؛ لكنه يشبه شكل الأحياء، والآخر فيه مظهر الحياة. أما الـ(جس) الذي ذكرته، فنحن نحتاج إليه حقاً لنميز؛ نبدأ به، فإن لم نجد الحياة اتبعنا بصوت الدال، فصار جسداً. إن وجدنا الحياة اتبعنا بصوت الميم فصار جسماً... طبعاً أنت إذا ذهبت إلى الروايات وكتب التراث لن تجد هذا التفريق. يعني؛ لذلك نحن نحث الناس على أن يكون المبتدأ والمنطلق دائماً في تشكيل المفاهيم كاملةً التي سنفهم فيها بعد ذلك كل ما يتعلق بالدين والحياة، يجب أن يكون النص القرآني وَفق هذه المنهجية التي هي منهجية اللسان العربي المبين، لكل تفاصيله من المستوى الصوتي إلى ما بعد ذلك من المستويات".
كلمة "بدن" لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة
وأضاف أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "الآن كلمة (بدن) لم ترد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة؛ وهي (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً)، ومعروف أن هذه الآية جاءت في سياق قصة فرعون لما أغرقه الله. الآن قال له اليوم ننجيك ببدنك، ونحن نعرف أنه حين نجا لم يكن حياً، خرج منه مظهر، فإذن الجسم خرج منه مظهر الحياة وأصبح جثة، يُسمى في هذه الحالة بدناً، هذا هو الاصطلاح القرآني. طبعاً هناك كلمة أخرى في سورة الحج (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم)؛ هذه ليست من نفس كلمة (بدن) المذكورة هنا، إنما هي تتعلق بالبُدنَ. وهذا نوع من التطور المفهومي للكلمة؛ لأنه البُدن المذكورة في الآية هي ما هو كبير من الأنعام مثل البقر والإبل.
فالآن نحن نعرف أن جثة الإنسان إذا مات تزداد أو تنتفخ؛ يعني يكبر حجمها. ولذلك أصبح يقال مثلاً هذا إنسان بدين، ولذلك سُميت البقرة أو سُميت الناقة بدنة، من ناحية اتساع المفهوم، وهذا أيضاً من المظاهر الجميلة والرائعة أن المفهوم لا يقف عند مسماه الأول المحسوس، وإنما يمتد يأخذ المعنى الذي يوحي به هذا المحسوس أو المعنى الأبرز فيه، ثم يمتد بعد ذلك امتداداً ربما لا تكون له نهاية".
"فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ".. البدن سليم من ناحية المظهر الخارجي
وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "عودة على (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ)؛ هل تعطي انطباعاً أن الرجلَ كان حياً وأُنجي بالبدن؟ أم أنه كان ميتاً وأُنجي، يعني كيف يمكن أن نفهم؟"، قائلاً: "هي تعطي انطباعاً أنه مات بسبب الغرق في البحر، لكن نجا بدنه؛ بحيث إنه يبقى البدن يعني ليست فيه إصابات أو مثلاً قطع من بعض أجزاء الجسم أو إلى آخره.. هذا معنى ننجيك، يعني نترك البدن سليماً من ناحية المظهر الخارجي؛ لكن طبعاً ليس فيه مظهر للحياة قطعاً، خرجت منه مظاهر الحياة".
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً.. هل المقصود جثة فرعون وتحنيطها وتخليدها؟
وأضاف أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، رداً على "لماذا قال (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً)؟ يعني هناك مَن يعتقد أن أحد ملوك مصر القدماء أنه هو المقصود فيه بهذا الفرعون، تنجيته ببدنه يعني جثته ما زالت موجودة وتحنيطها وتخليدها بهذا الشكل، أنه يعني هذا المقصود بالآية الكريمة، هل هذا صحيح؟": "إسقاطه ناحية تاريخية، ليس مبحثها لسانياً في الحقيقة، وهي فرع عن الموضوع، ونحن اتفقنا أن القرآن الكريم يركز على الفكرة وليس على الشخص أو المكان أو الزمان؛ يعني الفكرة الجوهرية في نهاية المطاف أن فرعون سلوك، ما السلوك الذي فعله؟ ما النتيجة النهائية؟ لكن أنا ما أفهمه من الآية أن البدن تم الحفاظ عليه محنطاً، ويبقى فكرة أنه محنط نعم، يبدو أنه حفظ أو يسر الله من الفكر والثقافة ما يحافظ على وجود البدن بعد الوفاة حتى يظل آية ".
وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "هل لو الآية قالت فاليوم ننجيك لتكون آية للعالمين، تفهم على عكس (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً)؟"، قائلاً: "نعم، لو قال (فاليوم ننجيك) معناها لن يموت، يعني لن تخرج منه الحياة أو مظهر الحياة، سيبقى حياً؛ لكن لما قال (ننجيك ببدنك) معناها نجا بدنه فقط من أن يصيبه أي شكل من أشكال الضرر، حتى يبقى سليماً، ويبقى بدنه طبعاً إلى فترات؛ لتكون لمَن خلفك آية. وكلمة (لمن خلفك) كلمة ممتدة، يعني لا يقتصر الموضوع على مَن هو في زمنه أصلاً، مَن في زمنه هو رأى الآية مباشرة. إنما يجب أن يكون هناك امتداد، ليأتي الخلف هو على الأقل أجيال، يعني أجيالاً لاحقة، حتى تسمى خلفاً، لأنه كلمة (خلف) اصطلاح أيضاً".
لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً
وأضاف أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، رداً على "لو افترضنا أن المقصود بالآية ليس أحد ملوك مصر القدماء.. فكيف يكون (نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) كيف يكون آيةً وهو غير معروف، والناس لم تعرف ما هو البدن؟ يعني كيف بِده يكون هذا الشخص اللي هو فرعون تم تنجيته ببدنه ليكون آيةً للعالمين، اعتبار أن العالمين مقصود في البشر بشكل عام أو على مدار الحياة.. كيف يكون إذا لم يكن هذا هو مثلاً شخصاً مجسداً أو يعني محنطاً، أن يكون غيره مقصوداً بأن البدن ما زال هو آية للعالمين؟ يعني كيف يكون آية للعالمين وهو مش معروف؟": "يعني هو ليس معروفاً من مجموعة أبدان موجودة مثلاً.. والله هذا أنا أعتقد أنه ينبغي أن يعول فيه على التناقل المتواتر من الناس، ليه؟ لأنه قال لتكون لمَن خلفك، معناها هنا اتكاء على الخلف الذين سيأتون بعده".
وتابع د.يوسف أبو عواد: "يعني يُفهم أن يكون لمَن خلفه وليس للناس كلهم.. فهو ما قال للعالمين، هو قال لمَن خلفك، لتكون لمَن خلفك، فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية، فقط، مش للعالمين.. وكان معروف أنه هذه هي شخصيته؛ لأنه سيرى الوجه، يعرف أنه هذا فعلاً، هذا الرجل الذي هو فرعون وكان كذا وكذا، وها هو ذا جثته موجودة؛ ولكن ذهبت سطوته وذهبت حياته يعني".
الفرق بين النفس والروح.. الإشكال كبير جداً
واستطرد أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "الآن ننتقل إلى كلمة (النفس)، وهنا طبعاً يعني الإشكال كبير جداً عند معظم الناس؛ يعني معظم الذين يبحثون في الموضوع حتى على مستوى أُممي، هذا على مستوى عالمي. ما الفرق بين النفس والروح؟ يعني يتحدث فيه علماء النفس ويتحدث فيه الباباوات ويتحدث فيه علماء الدين الإسلامي.. وغيرهم، والناس، فيه في إشكال، وفي الحقيقة هو له انعكاس قطعاً على العلوم التي تتعلق به؛ لأنه إذا أنا فهمت الفرق بين الروح والجسد، سأعرف كل جزء من مكونات الإنسان، ما الطريقة للتعامل معه؟ يعني إذا نحن فهمنا أن الجسم هو شيء مادي في نهاية المطاف؛ ولكن فيه مظهر الحياء، إذن الآن سأتعامل مع الجسم إذا حصل فيه خلل على أنها مشكلة تحتاج إلى علاج يتعلق بدراسة الجسم نفسه.. هذا هو؛ لكن النفس، ما النفس في القرآن؟ وهل هي بمعنى الروح أم هناك فارق بين الروح والنفس؟ وهل هذا الفارق مجرد فلسفة، ولّا هناك أدلة واضحة جداً وَفق الدراسة اللسانية والتدبرية في القرآن الكريم، تدل على فارق بين النفس والروح شاسع واضح وضوح الشمس.
في الحقيقة كلمة (نفس) هي مرتبطة أصلاً بما يستخدمه الناس اليوم من كلمة نفس. والنفس هو أهم مظاهر الحياة كما هو معروف. يعني إذا رأيت جسداً حتى ورأيت جسماً ستجد الفرق الأوضح بينهما؛ النفس. فلماذا ربط اللسان العربي بين كلمتَي نَفْس ونَفَس؟ هذا الربط فيه إشارة بالغة إلى أن النَّفس هذه هي التي بعثت الحياة في الجسد، فحولته إلى جسم؛ لأنه نحن اتفقنا أنه هو في البداية كان جسداً، بعدين حلَّت فيه الحياة، فأصبح جسماً، ما الشيء الذي حوله من جسد إلى جسم؟ الشيء هو النفس".
هل الخلق المادي سبق إدخال النفس أم العكس؟
وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "يعني (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ).. فالخلق كان من النفس، وهل النفس كانت في مرحلة مادية مثلاً وإن ألبست جسماً مادياً؟ يعني هل الخلق المادي سبق إدخال النفس أم النفس سبقته، ومن ثمَّ ألبست الجسم المادي؟"، قائلاً: "من الناحية التاريخية مَن الذي سبق الآخر في الخلق؟ ليس هناك شيء قاطع؛ إلا أنني أعتقد وأميل إلى أن المادي وجد أولاً ثم وجد فيه النفس، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء.. إيحاؤها؛ أي أصلاً ليس مادياً، هو إيحاء معنوي؛ لأن كلمة رجال لا تطابق كلمة ذكور، رجال مشتقة من الرجل في العربية، خلق منها زوجها، المشكلة الاعتقاد الدارج عند الناس أن آدم خلق كجسم، ثم بعد ذلك خلقت حواء، هذا في الدارج من ضلع آدم.. وإلى آخره، وهم يربطون الموضوع بموضوع الجسد.. (هذه نظرية الخلق الموجودة في الأسفار اليهودية، ضعها على جنب؛ الآن نظرية الخلق الموجودة في القرآن نفسه يعني الآية الأولى من سورة النساء، هي تحدد مسار خلق النفس، كيف بدأت؟).. لكن هي تعزل موضوعاً عن الجانب المادي، الجانب المادي له سياقات أخرى في القرآن الكريم، أوضحت كيف أنشئ جسم الإنسان. وسنأتيها أصلاً حينما نفرق بين كلمة (بشر) وكلمة (إنسان). فالقرآن يعزل تماماً، يعني لما قال (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ)، هنا الحديث عن الجانب المادي، أما (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) هذا حديث عن جانب معنوي؛ هو فوق مستوى المادة، هذا جانب معنوي وليس مادياً".
مَن سبق مَن؟
وقال أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "هو أهم شيء ما يمكن أن نجزم به من خلال تتبع النص القرآني؛ أن النفس لها طريقة في الخلق منفصلة تماماً، والجانب المادي الذي هو الجسد أيضاً له طريقة منفصلة تماماً، ثم حصل الإلباس بالاتصال بالروح. طبعاً سنذكر هذا بالتفصيل؛ لكن القرآن فصل هذا عن هذا، مَن في البداية صراحةً الله أعلم، بس يعني أعتقد أنه ليست هناك ثمرة مباشرة أنه مَن وجد أولا؛ إنما الأهم أنه خلق النفس المذكور في مطلع سورة النساء، هذا ليس هو أبداً خلق الجسد الذي يظنه الناس؛ إنما (اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)، الكلام هنا يتعلق على جانب معنوي، وسنثبت أن هذا هو جانب معنوي، وليس جانباً مادياً في ما نتلوه بعد ذلك من الآيات، ولاحظ أن كلمة نفس لها علاقة من ناحية صوتية مع كلمة (نفخ)، وكلمة (نفث) فهي تشير إلى شيء ليس مدركاً بالعين، ليس مسموعاً بالأذن؛ ولكن تشير إلى أن فيه دفعاً، فيه تحويلاً، فيه نقلاً من مرحلة إلى أخرى.
هذا ما يحصل في النفخ والنفث؛ لكن (السين) لها إيحاء أنه الموضوع فيه لطافة ودقة أكثر من الثاء والخاء؛ الحرفان اللذان يفيدان نوعاً من الانتشار، لكن (السين) فيه دقة ولطافة أكبر، فهو يحتاج إلى يعني مستوى أعلى من الخلق، حتى يتناسب هذا المخلوق مع الجسد، فيبث فيه الحياة".
وأضاف د.يوسف أبو عواد: "والجذر (نف)، (نف الشيء) أخرجه أو إيحاء بالإخراج.. بالضبط إيحاء بإخراج فيه انتشار؛ يعني حتى في (نفش) عندنا كلمة (نفش)، عندنا كلمة (نفث)، (نفخ)، (نفر)، (نفع)، (نفق).. (نفق) المعنى الأصلي للنفق أصلاً هو الخروج من مكان مغلق إلى مكان مفتوح، ولذلك النفقاء معروف عند العرب هو جحر الضب، هو يكون له فتحتان يدخل من إحداهما، فيلحقه ما يريد أن يفترسه، فالفتحة الأخرى بيكون هو غطاها بالعشب، فيخرج منها، ولا يدرك الحيوان المفترس أنه خرج، هو قطعاً أخذ من هذا المعنى المفاهيمي؛ لأنه هو يدخل في مكان تظن أنك أنه فيه، فإذا هو خارج من مكان آخر يعني؛ وهذا له تفصيل إن شاء الله، في حلقة منفصلة تتعلق بمصطلحات الإيمان والإسلام والنفاق والكفر.. وغيرها".
أَنشَأَكُم مِّن "نَّفْسٍ" وَاحِدَةٍ
وتابع أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "طيب الآن يعني حتى يلح القرآن أيضاً على (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ)؛ فأيضاً يقول لك إن الإنشاء الأول للأنفس كان يرجع إلى نفس واحدة. (مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ) (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ)؛ هذا على مستوى البعث؛ إذن نحن نفهم أن النفس خلقت، وأن النفس تُبعث. وسنأتي إلى تفصيل هذا أيضاً، وهذه المواصفات للنفس تشعرك تماماً أنها جانب معنوي منفصل تماماً عن الجسد. وأيضاً ليست هي الروح، كما سنذكر أيضاً لاحقاً".
إشكالية عدم إدراك الامتداد المفاهيمي للمفردة
واستكمل د.يوسف أبو عواد: "طيب القرآن الكريم يقرن بالنفس صفات مهمة جداً، وهذا جانب سلوكي، فأرجو التركيز من قِبل السادة والسيدات المتابعين والمتابعات.. يعني مثلاً الحياة والموت، هي صفات أضافها القرآن إلى النفس، ولم يضفها إلى الجسد، طبعاً ربما يقول قائل ما هو الآن النفس مقصود فيها الذات، يعني هكذا يقول بعض الناس. يعني النفس هي الذات؛ وهنا مشكلة في عدم إدراك الامتداد المفاهيمي للمفردة، وهو مشكلة في فهم جزء مهم من آلية اللسان العربي؛ لأنه صح النفس قد يطلق عليها الذات؛ ولكن هذا امتداد مفهومي، لكن أنا إذا قُلت مثلاً النفس، الله الذي يتوفى الأنفس حين موتها. قد يقول لي يعني المقصود يتوفى الذات، جميل؛ لكن لماذا أضاف فعل التوفي إلى النفس، وهي في الأصل كما أثبتنا جزء من الذات، وليس كل الذات؛ لأنه أصل تسلط الفعل الذي هو التوفي يكون على النفس، صح ينعكس على الذات في نهاية كلها على ذات الإنسان؛ ولكن مبدأ الفعل أو مربط الفرس في عملية التوفي، فهو لم يختر هذا الجزء من الإنسان أو من الذات الإنسانية، حتى يعني يلحق به الصفة أو يقرن به الصفة؛ إلا لأنه هو المحل الأصلي لهذه الصفة. فنجد أن الله، سبحانه وتعالى، قال (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ)؛ لاحظ إذن القتل يحدث للنفس، (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)، (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه)، (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا). طيب، سنأتي إلى النقطة الأخطر في الحقيقة..".
المقصود بقتل النفس.. الناحية المفاهيمية
وأجاب أستاذ اللغة العربية عن سؤال "هل المقصود بقتل النفس هو القتل المادي؟ يعني المقصود فيه قتل النفس، الجسد، الذي فيه النفس، أم قتل النفس كمفهوم غير مجسد؟ وإن كان مجسداً بس القتل للنفس، يعني، لا يعني قتل الجسد الذي هو حامل للنفس نفسها، يعني هو ممكن ندخل في موضوع القتل بمعنى لا يعني القتل المادي؟"، قائلاً: "هذه الناحية المفاهيمية؛ التي هي في قمة الجمال، والتي تجعل أفق القرآن الكريم ممتداً إلى كل الامتداد المكاني والزماني الذي عاشه البشر. يعني (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ). المعنى الأولي طبعاً الامتداد المفاهيمي الجميل في آلية اللسان العربي، انضباطها التام لامتداد المفاهيم، لا يعني إلغاء المعنى الأصلي والأولي، يعني.. الآن قتل النفس بمعنى أنك تحدث حدثاً في الجسم؛ بحيث يفقد القدرة على الاتصال بالنفس، مثل مثلاً قطع الرأس أو ضرب رصاصة في القلب أو غيرهما. يصبح الجسم غير قادر على الاتصال بالنفس؛ تنفصل النفس عن الجسد. الآن أنت قتلتها قتلاً تاماً. لكن هل كلمة قتل تقف عند هذا الحد، ولّا كما ذكرت، إذن النفس هذه بحاجة، هناك حاجيات. لما تجبر إنساناً على أن يعيش فقط على حاجات الجسد، يعني الحاجات الجسمية اللي هي مثلاً الطعام والشراب، وتجعله مشغولاً يعني طوال وقته وطوال حياته، أنت قتلت نفسه... يعني ما ميزه أصلاً هو عن الجثة الهامدة أو عن الجسد الذي لا يأكل الطعام؟ أن فيه نفساً. طب أين متطلبات النفس هذه؟ أسهمت في قتل هذه النفس، حتى لو بقي الجسم جسماً من الخارج؛ لكنه في الواقع يأخذ مفهومَ الجسد؛ لأنه أصبح كأنه جسم بلا حياء فقط، يأكل ليغذي الجسد، والجانب النفسي قتل من الإنسان، وهذا القتل النفسي للبشر كثير ومنتشر على مستوى العالم، وعلى مستوى فترات التاريخ؛ يعني على مستوى رأسي وعلى مستوى أفقي، ويظن الناس أنهم بمعزل عن معنى هذه الآية، ويظن مَن يحدث هذا يعني من المتجبرين والمتسلطين أنه بمعزل عن دلالة قتل النفس التي تذكره الآية عن بني إسرائيل (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)، لاحظ الجرم إلى أية درجة هو عظيم؛ لأنه أيضاً يتسلسل الأمر بصاحبه، أنه يبدأ بنفس ثم نفسَين ثم يهون عليه، يصبح لا قيمة له".
تاريخ أوروبا وحكر العلم على الطبقات الغنية والمتنفذة
وأيَّد د.يوسف أبو عواد القولَ "إن هذا يبدو له حالياً يعني الكثير من الفلسفات المادية الموجودة حالياً في المجتمعات وبالذات في المجتمعات الأوروبية؛ هي عبارة عن محاولة، يعني النظام العالمي الحالي الجديد اللي هيحاول السيطرة على الإنسان بشكل عام وجعله مجرد يعني أدوات في ماكينة مجتمعية أو إنتاجية تخدم فقط نخبة ما في مجتمع ما؛ هي عبارة عن قتل الناس جمعاً"، قائلاً: "بالضبط، حتى كان هذا في تاريخ أوروبا، لما كان العلم حكراً على الطبقات الغنية والمتنفذة، ثم بعد ذلك حصلت الثورة الفرنسية وغيرها، وأصبح العلم متاحاً، لكن أصبح العلم متاحاً واقترنت به أمور كثيرة جداً من تلويث النفوس؛ يعني التلويث هذا الإعلامي الموجود في الدعاية والإعلان.. وإلى آخره، الذي يبدأ مع الطفل من سن صغيرة جداً. ففي الحقيقة يسلب منه نفسه ويحوله إلى أداة جسدية فقط مفرغة من معنى النفس".
تحويل الإنسان إلى أداة استهلاكية.. عملية قتل
وقال أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين رداً على "اللي يمكن التعبير عنه محاولة تحويل الإنسان إلى أداة استهلاكية؛ تستهلك بس، تأكل وتشرب وتنام، هذه تعتبر عملية قتل الناس جميعاً؟": "هذا الامتداد المفاهيمي للآية، إذا نحن فهمناها وَفق منهجية اللسان العربي المبين. وهذا على فكرة أنت لماذا لم يعني في سورة آل عمران، لماذا قال الله، عز وجل، عن القرآن (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه)؟ هذه الجملة مهمة جداً جداً، يعني حتى الناس أنه نحن ما نقوم به في الحقيقة هو من عمق وصلب المنهج الذي رسمه القرآن أصلاً لنفسه.. يعني هذا لا يعني أنه معنى الكلمة غير واضح والأساس الحسي للمعنى إنما الامتداد المفاهيمي، أنا الآن أعيش في القرن الحادي والعشرين، هل يمكن أن أدرك الامتداد المفاهيمي لمعنى هذه الآية مثلاً (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) إلى القرون التالية، ولا في كل قرن يظهر من التصرفات ما يمكن إسقاط المعنى المفاهيمي الممتد إلى ما لا نهاية.. لذلك قال لك الإحاطة بالتأويل، والتأويل معناه ما يصل إليه الأمر من (آل) (يؤول)، فحتى كلمة (تؤول) هذه مستخدمة في النهايات، في الرياضيات دائماً يقول لك النهاية مثلاً تؤول إلى كذا، هذا ما يوحي به قوله تعالى (وما يعلم تأويله إلا الله)، هذا ليس معناه أن الآية ليست مفهومة من ناحية مبدئية أو بداية الفهم أو حتى امتدادات كثيرة للفهم؛ ولكن هذا الفهم سيبقى ممتداً بامتداد الزمان وامتداد المكان، إذا أنا حجرت على معنى الآية وأنهيته وقُلت خلاص هذا هو معنى الآية، إذن أنت فرغت القرآن من كلمة تأويل، وحتى أنا وجهة نظري أن المفسرين القدماء الذين سموا كتبهم بالتأويل، في الحقيقة هذا خطأ، لا يمكن للإنسان أن يسمي فهمه وتدبره وتفسيره للقرآن تأويلاً".
وَنَفس وَمَا سَوَّىٰهَا فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَىٰهَا
وأضاف د.يوسف أبو عواد: "بعض الناس طبعاً قد يعارض ويقول لك أنت ممكن تصل بهذه الطريقة إلى تفاسير لا معنى وتفاسير باطنية، ونحن نقول له بكل بساطة نحن منضبطون في ما نفعل، فنحن نبتدئ دائماً من المعنى من الأصوات، نبتدأ، ثم المعنى الحسي المباشر للكلمة، وإذا امتددنا في الفهم لنصل إلى المعاني المفاهيمية المعنوية للآية، فنحن دائماً نأخذ بوصلة الأصلي، فلا نخرج عن الاتجاه الذي يوحي به المعنى الأصلي، نحن نتكلم في نفس الاتجاه الذي يوحي به المعنى الأصلي، فهذا ضابط يمنعنا أصلاً ويمنع غيرنا. يصل إلى مرحلة الشطط في لبس الكلمات القرآنية والمفاهيم القرآنية، ما لا يمكن أن تلبسه أصلاً. وهذا هو الضابط الذي نسلكه، ننضبط به. الآن النقطة المهمة، لاحظ في سورة الشمس، قال ربنا تبارك وتعالى (وَنَفس وَمَا سَوَّىٰهَا فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَىٰهَا).. هذه الآية في فهم النص في غاية الأهمية، لماذا؟ لأنه الآن هناك كثير من الأبحاث في علم الدماغ وعلم الأعصاب، تريد أن تصل إلى نتيجة أنه هل الإنسان مخير ولَّا الإنسان مسير؟ بس نحن قُلنا الآن لاحظ الأثر السلوكي لفهم مفردات القرآن، كيف سينعكس على الحياة وينعكس على كل جوانب الحياة؟ القرآن صريح جداً في أنه يقول لك الفجور والتقوى الخير والشر واليمين واليسار والنجد النافع والنجد الضار الذي هدي له الإنسان، لم يربط أصلاً بجزء مادي من الإنسان، يعني ادرس الدماغ كما شئت أنت في الحقيقة لن ترى إلا أموراً مادية. هذه الأمور المادية انعكاسها وأصلها ومصدرها ومولدها الأول هو النفس، وهذا أيضاً ينعكس تماماً على المشكلات السلوكية التي تحدث عند الناس والانحرافات النفسية والأمراض النفسية".
المرض النفسي يُعالج بطريقة إدراكية سلوكية
وتابع أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "لذلك يعني كنت قد قرأت تقريراً عن الأدوية التي تتعلق بالطب النفسي. هذا التقرير رصد مجموعة كبيرة من الأدوية وآثارها على مدى طويل؛ يعني على مدى سنوات طويلة على أجسام الناس، فكان لها آثار سلبية، لماذا؟ لأنه المرض النفسي إذا كان فعلاً أساسه من النفس، ينبغي أن يعالج بطريقة إدراكية سلوكية وليس بأدوية كيماوية؛ لأن الأدوية قد تسكن انعكاس المشكلة الذي يظهر في السلوك المادي العام. لكن إذا أنت عندك مشكلة سلوكية، كيف تعالجها؟ ينبغي أن تسبر أغوار النفس هذه، وتبحث بعمق. ما الذي ولَّد المشكلة في اللا مادي من الإنسان، فتعالجها. عند ذلك سيذهب المرض تماماً ولن تكون قد سكنت فقط أعراض هذا المرض. فلاحظ انعكاسَ هذه الآية (وَنَفس وَمَا سَوَّىٰهَا فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَىٰهَا)، وأيضاً في كلمة (سواها) إشارة إلى كل مَن يظن أن الإنسان مجبر على أمر، هي دافعية جداً للإنسان بأن نفسك فيها جانب الخير وجانب الشر على حد سواء، أنت مَن تملك يا صاحب النفس هذه، أنت من تملك أن تختار جانبَ الخير وجانبَ الشر؛ لأن الكلمة واضحة جداً، (وَنَفس وَمَا سَوَّىٰهَا فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَىٰهَا)، القرآن واضح في هذا وضوح الشمس".
المشكلة في فهم المتحدث باسم الدين للدين نفسه
واستكمل أستاذ اللغة العربية: "حتى آية الميثاق هكذا يسمونها طبعاً (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ). أنا أسميها آية الإشهاد؛ التزاماً بمنهجية اللسان؛ ليه؟ لأنه هو قال (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ). لاحظ (وأشهدهم على أنفسهم)، إذن الموضوع لما خاض المفسرون أن (من ظهورهم)، والظهر كيف يعني أصل الإنسان موجود في الظهر، وكذا الآية لما قالت لك (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ)؛ هي تتحدث عن البعد اللا مادي أصلاً. فقد شغلت نفسك بما ليس بشاغل وذهبت عن المعنى الذي تتكلم عنه الآية.. إذن ما معنى الإشهاد هذا؟ آية الإشهاد ما الذي تفيده؟ تفيد أن النفس في برمجتها الأولى فيها برنامج ونظام سيسهل عليها التعرف على رب العالمين؛ يعني نظرة بسيطة وتأمل بسيط في ما يحيط بالإنسان من الكون والسماء والأرض والموجودات سيجعله يهتدي إلى أن وراءه رباً عظيماً، بس هذا هو الإشهاد. وهذا يحصل عند كل إنسان بمجرد ما يتكامل ويصل إلى سن الرشد، أهم ما في الإنسان بعد أن يراهق طبعاً النفس وليس الجسد تبدأ الأسئلة الوجودية تطرح كذا، ونحن عندنا للأسف في العالم العربي والإسلامي هناك كبت لمثل هذه الأسئلة، يعني يقول له يذهب إلى الشيخ، حرام، هذا السؤال حرام، أنت تدخل تخلد فيه بالمقابل إذا جاء إنسان غير مسلم يريد أن يدخل في الإسلام، يعني يتيحون له أن يسأل، طيب ليه هذا الظلم؟ يعني ابن المنطقة التي أمتنا وبيئتنا أحق أن تتيح له إذا كنت لا تقدر على الإجابة هذه مشكلتك أنك لم تتمكن، هل تتوقع أن الله سيعطي ديناً لا يستطيع أن يدافع فيه عن الأسئلة التي تُطرح؟ المشكلة فيك أنت، فتكبت الناس، الأمر أنه لا يفهم يعشعش الأمر بعد ذلك، يتحول إلى سلوكيات، بعدين بيقول لك والله الشاب انحرف والأمة انحرفت، المشكلة إذن هي في فهم المتحدث باسم الدين أصلاً للدين نفسه، وإلا الدين واضح جداً وفيه إجابة واضحة للموضوع، والإشهاد هذا ليس على تفاصيل، والدين إنما هو فقط على فكرة واحدة؛ وهي الربوبية، يعني هي فكرة النفس مهيأة تماماً لأن تهتدي عليها بكل سهولة..".
بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ "بَصِيرَةٌ".. لماذا أنَّثَ "بصيرة"؟
وقال د.يوسف أبو عواد: "وأيضاً في سورة يوسف قال (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)، لاحظ طب هو الآن يتحدث عن جانب عميق جداً؛ يعني يتحدث عن جانب عميق (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي)؛ الذي هو جانب الهم أو التفكير في الموضوع أو كذا الذي يعني حصلت عليه المراودة، فهو يتحدث عما بداخله وهذا أمر ليس جسدياً، فنسبه إلى النفس، وهنا قال إن النفس لأمارة بالسوء، وهو أحد النفس التي ذكرت في القرآن، بل سأزيدك من الشعر بيتاً رائعاً جداً تنتظم به معنى ما نذكره، وهو قوله تعالى (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ "بَصِيرَةٌ")؛ (بصيرة) هذا فيه لفتة جميلة، تأنيث كلمة (بصيرة) لماذا قال بل الإنسان على علم المتوقع كما ذكرت.. بل الإنسان على نفسه بصيرة. لكن لما قال بل الإنسان على نفسه بصيرة، هذا يُسمى في اللسان العربي ظاهرة الانزياح أو العدول عما يتوقعه المتلقي، هذا العدول الذي يخالف فيه ما هو متوقع، يريد منك أن تنتبه إلى أمر في غاية الأهمية، فيخالف الأسلوب المعروف، وهذا يستخدمه الأذكياء في الخطابات السياسية والصحفية وغيرها.. أنت توقعت الإنسان؛ لأنه قال (بل الإنسان على نفسه بصيرة)، فأنَّث الكلمة، لماذا؟ حتى تعود إلى النفس وليس إلى الإنسان كله، وحتى يشعرك أن البصيرة المذكورة يعني كأنه المقصود أن النفس بصيرة على ذاتها، أن هي مسؤول عن قضية التبصر التي هي أنت تشعر بنفسك، ماذا تفعل؟ أنت تعاتب نفسك، أنت تؤنب، والله هنا أخطأت، هنا أصبت، هنا ظلمت، هنا عدلت كذا، مَن هو الذي يعطيك هذه المشاعر ويشكل الضمير والوازع والتبصر الموجود داخل الإنسان؟ فلا تبحث، لا تقول لي والله وجدنا في الدماغ جزءاً من الخلايا مسؤول أنه والله إذا حصل فيه مشكلة يصبح الإنسان عنيفاً ولا يصبح مالياً بالدماغ.
أنا إذا وجدت مشكلة في الدماغ؛ فهي مشكلة جسمية، عالجها لا بأس؛ لكن أصل وجذر الموضوع الذي هو موضوع التبصر والاختيار وتحديد الخير والشر ومحاسبة النفس بعده محاسبة الإنسان لما يعمل وما يقوم أصله يرجع إلى النفس".
كيف تصبح النفس بصيرةً على ذاتها من خلال الجسد؟
وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "كيف تصبح النفس بصيرة على ذاتها من خلال الجسد؟ هل هي متضمنة في الجسم؟ هل هي طاقة مثلاً أو إيحاء؟ هل هي فكرة أم جزء من الجسم؟"، قائلاً: "هي أصلاً ليست شكلاً مادياً، في تأملي للنص القرآني الذي أتبناه؛ أن إحلال النفس في الجسد موضعه القلب".
القلب مستقر النفس في جسم الإنسان
وأضاف أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، رداً على "هل القلب مقصود فيه بالمضخة أم العقل؟": "هذا ما ينهي إشكالاً كبيراً جداً في مصطلح كلمة القلب في القرآن الكريم؛ لأنه نحن نجد آيات واضحة، مثل قوله تعالى (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)، هنا الناس طبعاً المفسرون القدامى معذورون، ما عندهم أصلاً العلوم؛ لكن الآن الطب الحديث نزع القلبَ، كما ضخ هذا كاملاً وضع مكانه قلباً اصطناعياً كاملاً مش بطارية مقوية، لا عمليات زراعة القلب الاصطناعي كمضخ في جسد الإنسان، حصلت ونجحت ومَن زرع له القلب استيقظ وفهم وعقل وكذا.. فدخلنا في إشكال كبير ناتج؛ لو كنا أصلاً وظفنا آلية اللسان للتدبر هذه وفهمنا، لم ندخل في الإشكال؛ لأنه التوافق موجود، لماذا؟ لأنه في سورة الأحزاب يصف ربنا القلوبَ فيقول (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) يعني في حالة الخوف الشديد الذي يشعر فيه الإنسان بالاقتراب من الموت، يقول بلغت القلوب الحناجر، وكأنه يشير إلى حركة ستنتهي بالموت، إذن مستقر النفس في جسم الإنسان هو القلب، ومنه ينتشر أثرها على باقي المكونات".
لماذا لا يكون الدماغ هو موطن القلب؟
وتابع د.يوسف أبو عواد: "القلب المادي مستقر النفس المعنوي؛ يعني ما هو لازم يكون نوع من الاتصال بينهما، مش شرط اتصال مادي، ممكن اتصال عن طريق موجات أو طاقة أو.. إلى آخره، لماذا لا يكون الدماغ هو موطن القلب؟ لأنه الذي ذكره القرآن ونسب إليه العقل وأنب الإنسان عليه، فقال مثلاً (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ). الآيات في القرآن الكريم التي تضيف فكرة العقل والاختيار السليم أو غير السليم إلى القلب، كثيرة جداً؛ بحيث تصل إلى قناعة أن الجزء من الجسد الذي له علاقة بموضوع الاختيار هو القلب. طيب، كيف القلب المادي مضخة إذا هو يقصد ما حل في القلب من النفس؟
بحكم التدرب المستمر.. صدور العرب كانت دائماً بارزة إلى الأمام
وتابع أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "الرأس هو في أعلى الجسد، وله مسمى خاص مختلف تماماً عن مسمى الصدر؛ يعني هذه قضية ليس فيها اختلاف في اللسان العربي.. أنا أقول عما هو متواتر يعني، لا يمكن أن نقلب الموضوع؛ الرأس معروف ومميز عن الصدر، لكن تصدر فلان؛ يعني كان في المقدمة، لأن العرب كان من طبيعتهم وجزء مهم من حياتهم موضوع الاستعداد الدائم للقتال؛ فكانت صدور العرب دائماً بارزة إلى الأمام، بحكم التدرب المستمر، كما يحصل عند لاعبي كمال الأجسام وغيرهم، فيكون لافتاً للانتباه وأنت قادم بروز صدر هذا الإنسان العربي؛ لذلك قالوا عنه متصدراً، أما الرأس فهو جزء آخر من الإنسان، لكن لماذا أقول لك ليس الدماغ هو آلية تنفيذية يظهر عليه انعكاسات القرارات التي تتخذها النفس، القلب هو محل النفس، محل الاتصال؛ الذي تتصل به النفس بالجسد هو القلب ".
وأضاف د.يوسف أبو عواد، رداً على "إذن صار في استبدال للقلب؛ طب أين راحت النفس؟": "النفس بقيت؛ لأنه ليست القضية يعني في اللحم أو في خلايا اللحم. القضية أن هذا المكان هو يعني لعله كما قال ابن خلد، اجتهاده في الأخير أنه هذا أكثر جزء حار من جسم الإنسان، يعني أعلى جزء فيه حرارة في جسم الإنسان، هو هذه المضخة؛ لأنه يختزن فيها الدم، فيضغط، ثم بعد ذلك ينفث في باقي أجزاء الجسد، وقال النفس بما أن لها طبيعة غير مادية طبعاً هو كان يقول الروح للأسف هو كان يخلط بين مصطلح النفس والروح. قالوا لأنه لها طبيعة غير أو طبيعة طاقية، من المعروف أن الطبيعة الطاقية إذا أرادت أن تتصل بشيء غير طاقي أنسب مكان لاتصالها هو أكثر مكان فيه حرارة".
فكرة تكليف الإنسان حصلت لوجود النفس
وتابع أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، رداً على "في الدماغ أكثر منطقة في الجسم تصرف طاقة، هذا ثابت علمياً"، قائلاً: "ليس صرفاً، في داخل القلب أعلى جزء يعني يحدث فيه ضغط هائل للدم، ثم بعد ذلك ينفث؛ لكن موضوع القلب على كل حال بالطريقة التدبرية، أيضاً موضوع القلب في القرآن الكريم، ونخرج فيه بنتيجة، طيب قال (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) أيضاً هذا فيه إثبات أن اللوم هذا من سلوكيات النفس الذي ذكرناه في ما يشبه هذا في الآية، وأيضاً قال (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً)، قد يقول قائل هذا الكلام يعود على الذات، نعود فنقول هو لم يصف به النفس إلا لأنه محلها الأصلي النفس، وعودته على الذات، يعني عودة انعكاسية، عودة تبعية وليست عودة أصيلة، ثم قال (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)؛ يعني فكرة التكليف للإنسان أنه مكلف وسيحاسب على تكليفه؛ إنما حصلت لوجود النفس، لأنه قال (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)؛ لا تكلف نفس إلا وسعها، وحتى التفكر لاحظ (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ)؛ إذن هذه المهارات العقلية العليا، التأمل والتفكر واللوم والاطمئنان.. وإلى آخره، وتأنيب الضمير والأمر بالسوء في بدايته الأولى، كلها يرجعها القرآن إلى النفس".
كيف تتبدى النفس في الجسد؟
وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "كيف تتبدى النفس في الجسد؟"، قائلاً: "مثل السوفت وير والهارد وير في أجهزة الكمبيوتر؛ هو في برنامج التشغيل يسمونها هذا البرمجة الأصلية للنفس، التي هي (وَنَفۡس وَمَا سَوَّىٰهَا فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا)، (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)، فهذا جزء أصيل من النفس؛ أنها تميز أنه هذا خير وتميز، وهذا شر، وتدرك ببساطة أن للخلق رباً. هذا برنامج تشغيل أصلي في الإنسان. ثم بعد ذلك حينما يعافر الإنسان الحياة والتصرفات والسلوكيات، يصبح هناك إما اطمئنان وإما لوم وإما أمر بالسوء وإما إيمان يوم (لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ)، لاحظ كيف حتى فكرة الإيمان، يعني يلصقها بالنفس أو يقرنها بالنفس، ما دور الجسد في الأخير؟ آلة تتحكم بها النفس. طيب وأيضاً الهوى، (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ)؛ لاحظ أن هوى الذي يجعل الإنسان ينحرف، أين مصدره؟ من النفس.. (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ)؛ الحسد مرض. هو مرض جسدي ولَّا نفسي؟ يعني ممكن يقول لك والله هذا شيء طبيعي في جسم الإنسان. لا هو مش شيء طبيعي، هو سلوك نفسي يحصل عند الإنسان؛ بسبب نوع من الانحراف النفسي، فمعالجته يجب أن تكون بطريقة نفسية، (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ)، السفه الذي يصيب الناس بعد ذلك، فينحط بهم إلى الحضيض، مصدره النفس ولّا الجسد؟ مصدره النفس. فطوعت له؛ لاحظ نفسه، هذا حتى عن ابن آدم، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ.. فقتله؛ مصدر الأمر الأول كما قُلنا في آية سابقة، في آية بني إسرائيل، النفس، حتى الشيء المخفي يضيفه القرآن إلى النفس، (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ)، الإكنان يعني إخفاء الأمر قبل أن يتحول إلى شكل يكون في النفس.
أعتقد أنه بهذا أخذنا قدراً مما يتعلق بالنفس؛ يعني صفات النفس المذكورة في القرآن الكريم، قدراً وافياً؛ لذلك لما يذكر القرآن قضية الحساب، هل يذكر الجسد أو الجسم يعني؟ شوف التناسق غير الطبيعي في الحقيقة؛ لأنه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً".
مَن يتحكم في النفس؟
وقال أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "قوة التناسق في النسيج القرآني بما يختلف عن أي كتاب آخر مهما كان هذا الكتاب. قال (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، إذن المحاسبة هذه لأن التوفية أرجعها إلى النفس. قد يشك أحد فيقول لي لا أنا ما زلت أشك أنه هو بيتكلم عن الذات. طيب؛ ما رأيك أن تقرأ هذه الآية؟ (يوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا).. يقول لي طب ما هو يعني مَن المتحكم في النفس؟ هو أنت، صاحب النفس هذه، أنت تتحكم في هذه النفس؛ يعني أنت، أنت هو نفسك. فأنت؛ تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما كسبت، وفي الحقيقة ما ألاحظه أنا في الآلية التدبرية بعد أن نبدأ في فهم الكلمة فهماً صوتياً ثم نتدرج، ثم نستخدم آلية التدبر في آيات القرآن الكريم التي تذكر المفردة، ألاحظ دائماً أنني أجد آية أسميها الآية الأم التي تحسم الموضوع حسماً لا جدال بعده. يعني الآية كررت الكلمة بثلاث مرات، بالتالي (يوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا) و(تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، فحسم لك الأمر وانتهى الموضوع.. طيب قد يقول قائل ما زال عندي شك، أقول له اقرأ قوله تعالى (حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيهِم سَمعُهُم وَأَبصَٰرُهُم وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِم لِمَ شَهِدتُّم عَلَينَا)، مَن القائل الآن؟ لاحظ كيف عزل القرآن الكريم لما يتحدث عن فكرة ستحصل أثناء الحساب. عزل مكونات الجسم عن النفس؛ حتى يصبح صراع الجسم يوم القيامة يتحدث مع النفس، ويقول لها أنت التي فعلتِ، فيشهد عليها لأنه هو أنا. مَن الذي تحكم به فدفعه أن يفعل هذا أو هذا؟ النفس. (وَقَالُواْ لِجُلُودِهِم لِمَ شَهِدتُّم عَلَينَا قَالُواْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيء). طبعاً لو لم يكن هناك امتداد مفاهيمي ولو لم نؤسس أصلاً لهذا الامتداد المفاهيمي، بيجي واحد يضحك ويقول كيف يعني جلد ينطق؟ طبعاً سيضحك؛ لأنه ليس عنده أفق في فهم امتداد يمكن اللسان العربي المبين وأثره في مد البصيرة للإنسان إلى أن يفهم المعنى باتساعه".
الفرق بين "نطق" و"قال".. إعجاز القرآن هو إعجاز في لسانه العربي المبين
وأضاف د.يوسف أبو عواد، رداً على "وهنا نلاحظ استخدام لفظة نطق، وليس حديثاً أو قولاً بمعنى أن الجلد فيه مختزن ميكانيكي لأحداث سيتم استنطاقه عند الحاجة": "الاختزان الميكانيكي الذي تتكلم عنه الآن هو مثبت في علم الأحياء بشكل قاطع، يقولون لك الذاكرة.. كانوا يقولون إنها جزء من الدماغ؛ لكن الآن قالوا كل جزء في جسم الإنسان له ذاكرة، فيها ذاكرة؛ فالذاكرة وهذا طبعاً يتوافق.. نحن كل أيضاً المعجز والعجيب في كلمات القرآن؛ أنها تعطيك مفردة تفهم على مر الأزمنة، يعني تكون مفهوم أربعة عشر قرناً فيأتي اكتشاف فتبقى الكلمة صالحة، هذا هو الصحيح، يعني عوضاً عن فكرة الإعجاز العلمي، وأصبح يعني التساهل فيها وكذا حتى جعلتها تكون باباً من أبواب السخرية، نحن نقول إعجاز القرآن هو إعجاز في لسانه العربي المبين، الكلمة نفسها صالحة تماماً أو اللفظة صالحة عبر أربعة عشر قرناً، لم يكن هذا يعرف فيها وما زالت صالحة حتى بعد كل ما حصل من اكتشافات بامتدادها المفهومي، ليس هناك أية إشكالية في صلاحيات الكلمة، (قَالُواْ أَنطَقَنَا)؛ كلمة نطق أنت سألت عن كلمة نطق صراحةً، لماذا مثلاً قال نطق ولم يقل تحدث أو تكلم أيضاً وفق اللسان العربي؟ ما الفرق بين نطق وقال؟ النطق هو لفظ فيه إحاطة ولذلك سموه علم المنطق؛ لأنه فيه قواعد صارمة جداً، يعطيك قاعدة تنهي الأمرَ فلا تستطيع أن تخرج عنه. سموه علم المنطق، ويرجع أصلاً إلى النطق؛ لكن هم يقصدون نوعاً من النطق والكلام، يضع حدوداً واضحة المعالم، فسمي علم المنطق. وسمي النطاق الذي هو الحزام الذي تلف به شيئاً ما نطاقاً وسميت المنطقة، منطقة، ويقول لك في النطاق الفلاني معناها له حدود واضحة المعالم، إذن هو الكلام هنا كلام يحصل لصاحب الناس، فلا يستطيع أن يملك حجة ليدافع؛ لأنه خلاص أُقيمت عليه الحجة الواضحة".
أصل التصرف من النفس
وتابع أستاذ اللغة العربية بشأن "النطق" و"القول": "أصل التصرف لم يكن من الجلد والسمع والبصر، من النفس. فهي نطقت باسم النفس، سيؤكد ما ذكرته الآية الأخرى التي تتحدث عن نفس الموضوع ولاحظ التوافق (يوم تشهد عليهم ألسنتهم)، يعني كأنها هي شهدت الأمر وليس مصدره الأصلي منها، هي شهدت ما حدث باعتبار أنها تابعة للنفس وليست هي أصيلة؛ فهي نطقت بما أحدثته النفس، وشهدت بما أحدثته النفس فيها؛ فقال (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). وإلا كيف صلحت شاهداً أصلاً؟! يعني كيف صلحت شاهداً إن لم تكن هي شيئاً آخر مختلفاً عن النفس؟ يعني أعتقد أنه هذا القدر ربما أكون استوعبت تقريباً كل الآيات التي تتحدث عن النفس في القرآن الكريم.
والآن بقي المكون الأخير من الناحية المعنوية، وهو الروح، قبل أن ننطلق إلى المسميات الاجتماعية للإنسان؛ هناك مكون على المستوى الفردي وهو الروح".
إشكالية خلط الروح بالنفس
وقال د.يوسف أبو عواد بشأن خلط الروح بالنفس واعتبارهما شيئاً واحداً: "حتى هذا وجد في بعض الروايات؛ فأناس كثيرون قالوا لي ما هو الروايات تقول إنه.. أقول له هذا أكبر، يعني هذا الآن أنا أثبت لك النص القرآني، أثبت لك الفرق، أن القرآن يفرق تفريقاً واضحاً جداً بين الأمرَين؛ أنه ليست هناك دقة في النقل كما هو موجود في القرآن، دائماً المصدر الأول الذي يجعلك تأخذ المنظومة المتكاملة والنظرة الكلية هو القرآن، بعد ذلك إذا فهمت أي شيء آخر في ضوء القرآن، لن يحصل لديك الاختلاف ولا التشتت.. (وبهذه الطريقة يمكن الحكم على مصداقية أي منقول إذا استخدم مفردة في غير مكانها، بالتأكيد ستكون هذه هي الرواية المنقولة)؛ أكيد منقولة، يكون هذا الشخص الذي نقل، مع الاحترام يعني، مهما كان عنده دقة بدقة النص القرآني الذي أنزله الله، مستحيل يعني أنت الآن تعارض، عندك تعارض بيننا، قل نقله بشر، وعندك الآن نص قرآني؛ فأنا إذن أثبت لك اختلاف الاستخدام، أعرف أن الناقل البشري حصل عنده نوع من الخطأ، هذا الذي يختلف فيه إذا ابتدأ من القرآن ودرسه دراسة كاملة وأعطاه كل حقه قدر المستطاع، لن يتوه بعد ذلك، لن يضيع في الاختلافات الحاصلة في الحديث والفقه وغيرها من الأمور؛ لأنه أسس قاعدة قوية جداً ستجعله دائماً محروساً من الضياع والتيه وأيضاً ترجع الأمة إلى وحدتها التي ذكرها القرآن دائماً، وليس إلى التفرق الذي نشهده الآن".
القرآن كمصحف موجود في كل السيارات.. أين الهجران؟
وأضاف أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، رداً على "بالضبط ما هو ناقش كله عن سوء فهم اللسان، عن سوء فهم اللفظ القرآني، فكيف تشكلوه؟ وعن عدم ربط الدال بالمدلول، عدم ربط المعنى بمدلولات الصوت": "تماماً؛ ولما تجد أن الله سبحانه وتعالى يقول، (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا). ثم القرآن كمصحف موجود في كل السيارات وكذا.. أين هجران القرآن الذي يتحدث عنه الرسول في هذه الآية؟ وفي الحقيقة أهمل لحساب غيره وجعل غيره في مقام أعلى منه، حتى لو لم يصرح بهذا؛ لكن هذا واقع وهذا الواقع ينبغي أن يعكس، فنبدأ بما بدأ الله به ثم بعد ذلك ننتقل إلى ما بعد ذلك من التراث والتاريخ، فننظر له بعين القرآن الذي فهمناه باللسان العربي وليس العكس، فالذي يحدث هو العكس للأسف".
ربط الروح بالأمر
وتابع د.يوسف أبو عواد: "طيب الآن نلاحظ أول ملاحظة في ما يتعلق بمفهوم الروح، أن القرآن الكريم يربط دائماً بالأمر، والأمر مذكور في آية أن الله، سبحانه وتعالى، قال (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)، جميل، نحن ذكرنا أن الجسد والجسم والنفس خلقت؛ سواء أكان منها ما كان منها مادياً.. ما كان منها مادياً بالنسبة إلى إدراكنا وحواسنا.. لأنه إحنا نقول يعني ليس معنى أنه غير مادي أنه ليس من الخلق؛ هو من الخلق، لكن ليس ضمن إدراك حواس الإنسان، فلما قال (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، ربط الروح بالأمر. طبعاً قد يقول قائل لماذا لم تبتدئ بآية (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).. أنا متعمداً لم أبدأ بها؛ لأن الصورة النمطية للأسف أن يحكم بما هو دارج ومتوارث على الآية. أريد في البداية أن أثبت أنه ليس صحيحاً؛ لأنهم لاحظوا كيف فهموا الآية (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)؛ يعني من غيب ربي، لا أدري كيف أصبح في ذهن الناس أنه يكون الروح من أمر ربي، يعني من معارفك. لأنه مثلاً في جملة مجاورة (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)؛ هذا ليس معناه وما أوتيت من العلم إلا قليلاً. أنه من غيب ربي. لذلك قال (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ). طب هذه مِن ماذا تفيد؟ إما أن يكون معناها بسبب الأمر تولدت الروح أو جزء من الأمر أصلاً".
"أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ".. الأمر تنفيذي
وأضاف أستاذ اللغة العربية: "وفي الحالتَين نحن نفهم أن الروح تتعلق بعالم الأمر أو بالجزء المتعلق بالأمر من صنع الله سبحانه وتعالى. (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)؛ فالأمر تنفيذي؛ ليس له مادي. ليس له جانب مادي يعني؛ هو شيء تنفيذي. فقال (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ). وطبعاً الروح معناها إذا حتى من الناحية الصوتية كلمة (روح) من أين جاءت؟ هي ما زالت تستخدم، أن تقول له رُوح معناها يعني انطلق، طريقك مفتوح، ومنها جاءت أيضاً من نفس الاشتقاق كلمة (ريح)، (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)".
الاستبدال زماني مكاني في حرف العلة بين (روح) و(ريح)
وقال د.يوسف أبو عواد بشأن أن الاستبدال في حرف العلة بين (روح) بالواو و(ريح) بالياء استبدال زماني مكاني: "نعم أنا أرى أن الـ(ريح) لما تحول الحرف إلى الياء طبعاً هو بسبب الكسرة؛ ولكن من ناحية صوتية ومن ناحية دلالية، نلاحظ أنه يدل على الانحسار، يعني الريح معناها (فتذهب ريحكم) هي شيء قد تكون له نهاية. الريح الذي هو الهواء المتحرك في مكان معين، يبدأ وينتهي. لكن (الروح) أكثر امتداداً وأكثر اتساعاً. ولما ذكر القرآن، لما استخدم حرف الياء، فقال (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ). هذه مصطلحات طبعاً، يعني الروح والريح والريحان هي أربعة مصطلحات وردت في القرآن الكريم، صحيح كلها من ناحية الأصل الثنائي والتحول يحصل في وسط الكلمة، الآن تعتمد على حرفَي الراء والحاء، والتي تشير إلى انتشار متسع فيه اتساع ومتكرر أيضاً، يعني لا يتوقف بسهولة، ولهذا نسمي راحة اليد؛ لأنه فيها امتداد كما ترون. الراح والراحة التي نعرفها الآن الروح، الروح في القرآن الكريم ليست هي الروح، لما قال يعقوب، عليه السلام (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ)، هذا موضع. والموضع الثاني؛ هما موضعان فقط وردت فيهما كلمة روح، في نهاية سورة الواقعة (فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ)، الروح هو زوال الكدر والتعب الذي يحيط بالذات الإنسانية فيحرمها من لذة الروح الطبيعية بوضعها الأصلي؛ يعني المكدرات والتعب والمعاناة والشقاء التي تحيط بالإنسان هذه إذا ذهبت يسمى ذهابها روحاً الآن يعني هذا كما يقال تخلية، الروح تشبه في طريقتها صياغة المصادر على وزن فعل، مثل (فهم وأكل وضرب وشرب) فزوال المكدرات التي لحقت بالإنسان يسمى هذا روحاً.. الآن حلول الروح بصفائها ونقائها الأول، هذه مرحلة علو قال (فروح وريحان)، طيب (ريحان) معناها هي نفس الريح التي ذكرناها أو يعني التي فيها نوع من المحدودية؛ لكن إضافة الألف والنون في اللسان العربي، بماذا تشعر؟ دائماً تفيد الامتدادَ والزيادة والاطلاق، (وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ)؛ يعني الاستمرار في الحياة، والحياة التي لها المعنى الحقيقي الذي لا يتوقف، هذا معنى كلمة حيوان؛ فإذن كلمة (ريحان) هي الامتداد الكبير للريح المحصور أصلاً، وبطبيعته محصور؛ فالريح هو كأنه يشير إلى الرائحة الزكية، وهي أحد أشكال النعم الكبيرة ومن أعلى الأمور التي هي قريبة جداً من الروح في جسم الإنسان.. موضوع الروائح لأنه يشبه موضوع الجمال. يعني هذا النوع من الإدراك ليست له علاقة بغريزة البقاء اللي هي ملتصقة تقريباً بالجسم. ويشبه أن لا تكون لها علاقة بالنفس، فقضية الروائح وقضية الجمال هي قريبة جداً من الجانب الروحي؛ ولذلك كانت من أعظم النعم التي ذكرتها هذه الآية عن المقربين عند الله في الجنة، إذا فرقنا بين الروح والروح الآن الروح كما قُلنا تقرن بالأمر. (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ)، كمان مرة (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ). (ويسألونك عن الروح)؛ الآن خلاص قل الروح من أمر ربي، معروف. يعني جزء من الأمر أو هي تأتي بسبب الأمر، أما أنها ملازمة للأمر يعني لزومية النتيجة للسبب أو أنها أصلاً جزء من أمر الله خافٍ".
العلم جزء من الروح
وناقش د.يوسف أبو عواد آية (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)، قائلاً: "الآية تعني أن العلم له علاقة جداً بقضية الروح، هذا من جهة. وتعني أن إدراك الإنسان ماهيات الأشياء التي تحيط به محدودة. يعني الروح هي في جزء من العالم أو الوجود يخرج عن نطاق حواس الإنسان أو الآلات أصلاً التي يوظفها، لتنعكس على الحواس، يعني مثلاً الأشعة السينية نحن لا نراها الآن؛ ولكن هناك آلة تربط بين الأشعة السينية وبين العين، فتحولها إلى شكل يمكن رؤيته في نهاية المطاف؛ لكن الروح خارجة عن كل هذا، فهي خارج حدود العلم البشري؛ لأنه العلم البشري محدود بإطار الحواس، إطار النظر وإطار السمع وإطار الأجهزة التي صنعت لتربط مع الحواس؛ ولكن ليس معناه أنها غيب مطلق كما ظن الناس. وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا. قد يقول القائل طيب الآن أنت الآن (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ)؛ كيف تربط الآن يعني الروح، الآن تتحدث عن الوحي يعني؟ من الواضح وكذلك ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان. ولكن جعلناه نوراً، لاحظ كيف ربط روح، الروح في العالم اللا مادي تشبه النور، وهي النور طبعاً في العالم المادي، هو أغرب موجود من الموجودات التي أدركها البشر، وقد تحدث أينشتاين عن هذا في النظرية النسبية؛ أنه كل شيء يتغير نسبياً إذا سرت معه أو سرت عكسه إلا الضوء، يحافظ على سرعة ثابتة؛ سواء سرت معه في نفس الاتجاه أو سرت عكسه، فالنور هو أعجب ما هو موجود في عالم المادة".
الضوء والنور.. الامتداد المفاهيمي للكلمة
وأجاب أستاذ اللغة العربية المختص باللسان العربي المبين عن سؤال "هل الضوء هنا يقصد فيه النور؟"، قائلاً: "لا، هو النور في معناه الأصلي، في المعنى الحسي الأول، معنى الضوء.. طبعاً هناك فرق دلالي لكن هو يشبه معنى الضوء، لكن في امتداده المفهومي طبعاً لا يتوقف الموضوع عندنا؛ لأنه الضوء كاشف، أليس كذلك؟.. (تم الربط بين النور والضوء على اعتبار أن الضوء يمهد لك أن ترى الأشياء أو يعطيك الأداة التي ترى الأشياء فيها؛ وبالتالي النور هو هداية الفرد إلى الأشياء التي يريدها) صحيح؛ هذا هو الامتداد المفاهيمي الطبيعي للكلمة، ولذلك ربط الروح التي هي الوحي أو الكتاب (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا)؛ فقد يقول قائل طيب الروح يعني الآن ما علاقة الروح باعتبارها الكتاب بالأمر الذي تذكره؟ هو قال روحاً من أمرنا، الآن أنا أقول لك الأمر نوعان، هناك أمر يسير المخلوقات، وهناك أمر يطلب من الإنسان فقط من بين كل الكائنات أن يسير عليه. وهذا يتوافق مع ما ذكرنا من أن الإنسان هو الوحيد الذي أعطي الإرادة وحمل الأمانة، فصار عنده القدرة على أن يختار الخير ويختار الشر؛ لكن أعطي أمراً يدله على الصواب. باقي المخلوقات أعطيت أمراً فنفذت، وهذا معنى سجود المخلوقات وخضوعها وتسبيحها. في القرآن الكريم كله؛ يعني استجابة ولي الأمر، لكنها مضطرة، ليس لها إرادة أصلاً، هي ستستجيب يعني طوعاً وكرهاً، انتهى الموضوع.. ستستجيب، فإذن فهمنا لماذا تطلق الروح، وهذا تناسق وليس اختلافاً أصلاً. يعني إطلاق الروح على ملك الوحي أو إطلاقها على الوحي نفسه هو من التناسق، (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ)، معناها الأمر الذي يسير وفقه الخلق أو الأمر الذي نزل للأنبياء أيضاً تتحدث عنه الآية. وهذا على فكرة معناه ما تنزل الروح في ليلة القدر، يعني ليلة القدر هي طبعاً هذا مفهوم آخر لن أتطرق إليه الآن؛ لكن القدر هنا مرتبط بشكل كبير بموضوع الأمر، لأنه القدر هو الأوامر التي سارت عليها المخلوقات؛ ولكن لما فصل الإنسان في هذا قال له الروح التي تحركك أيها الإنسان ليست روحاً مجبرة، الآن أنت ستفهم أن الروح التي تنزل في ليلة القدر ليس فيها شيء يجبر الإنسان؛ لأن الإنسان، الروح التي أُعطيت أوامر نزلت في كتب، وجاءت على ألسنة الرسل، قد يختار هذا وقد يختار هذا، فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر، وفي النهاية سيحاسب على اختياراته هو الوحيد من بين المخلوقات، ميزت الروح أو الأمر الذي وجه إليه، فجعله مختاراً عن الأمر الذي وجه إلى سائر الكائنات أو حتى ألا ليست تحت سيطرة النفس".
هل ليلة القدر ليلة واحدة كونية؟
وأضاف د.يوسف أبو عواد، بشأن "يعطيك انطباعاً أن ليلة القدر هي ليلة واحدة كونية، تم إنزال فيها الروح من كل أمر، وبالتالي تم تزويد الكون بأوامر الله أو بنور الله أو عن طريق روح الله أو من رح الله"، قائلاً: "نعم، وما يحصل بعد ذلك هو ذكرى طبعاً لليلة، هو في ليلة واحدة؛ لأنه خلاص الروح هي أمر بث في الخلق وانتهى الموضوع. وانتهى بثه بالرسالة الخاتمة، وهي رسالة القرآن الكريم، فأصبحت ليلة القدر إذا تكررت في السنوات التالية هي ذكرى في الحقيقة (وكأنه إحياء عيد بث النظم والقيم في الكون)، بالضبط جميل؛ لكن قد يقول قائل طيب ما هم قالوا لي إنه الأقدار تنزل وكذا.. نحن قلنا القدر الذي نزل لك هو أمر يمكنك أن تفعل هكذا، أما الأمر الذي يتعلق مثلاً بحياتك أو موتك أو حركات أعضائك اللا إرادية وكذا، فهذا أصلاً نزل من الأمر الأول الذي سير المخلوقات؛ لكن تكلل الأمر وتوج في نهاية المطاف بالرسالة الخاتمة، في ليلة القدر، كما ذكرت.. طيب (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ)؛ الآن لما نتحدث عن القرآن الكريم، (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)، فقال بعد ذلك (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا).."
واختتم د.يوسف أبو عواد: "فهمنا الآن لماذا يوصف ملك الوحي؟ ما هو قال لك (ينزل الملائكة بالروح من أمره)، وقال هنا (قل نزله روح القدس من ربك بالحق)، (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا).. هذه ذكرناها أنها تشير إلى الوحي، الآن ما علاقة الروح بجسم الإنسان؟ إذا تم فهم هذا أو بمكونات الإنسان، ما العلاقة بين مكونات الإنسان؟ وما الفرق بينها وبين النفس؟ وقد يعني ذكرنا أن الإنسان خلق الجانب المادي منه منفصلاً عن الجانب المعنوي الذي هو النفس، فلما ذكر الله، سبحانه وتعالى، مراحل خلق الإنسان، قال ثم سواه، يعني وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نفسه من سلالة من ماء مهين، ثم سواه.. هذه سواه، إشارة إلى ماذا؟ التناسق العجيب وتماسك النسيج في القرآن، احنا قُلنا (ونفس وما سواها)".