ناقشَ الدكتور يوسف أبو عواد، أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، خلال لقائه د.باسم الجمل، عبر برنامج "مفاهيم"، مفهومَ الخلق وَفق مفاهيم وأُسس اللسان العربي المبين، والعلاقةَ بين خلق النفس والروح، وبين خلق الجسد والإنسان والبشر..
الروح ومكونات الإنسان
وقال الدكتور يوسف أبو عواد، أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "في البداية ذكرنا في الحلقة الماضية معاني الجسد والنفس والجسم.. إلى آخره. وذكرنا أيضاً أن الروح هي من أمر الله. الآن السؤال المطروح طبعاً ما العلاقة بين الروح ومكونات الإنسان التي ذكرناها سابقاً في النص القرآني؟ في سورة السجدة نجد أن الله، تبارك وتعالى، يقول (ٱلَّذِي أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلقَ ٱلإِنسَٰنِ مِن طِين ثُمَّ جَعَلَ نَسلَهُۥ مِن سُلَٰلَة مِّن مَّاء مَّهِين).. هذا الكلام يتحدث عن الجزء المادي من الإنسان.. وطبعاً يختلف عن خلق النفس؛ هذا الذي أصّلناه أصلاً في الحلقة السابقة".
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا
وأضاف د.يوسف أبو عواد، رداً على "تم خلق النفس ضمن مرحلة ما، وبعدين جاءت مرحلة يعني في ما بعد، وربما جاءت أو بانفصال يعني أو بانفصال بتزامن مختلف، جاء خلق الإنسان، وخلق الجسد قبل أو البشر يعني": "الجسد، البشر، سندقق في هذا.. هو فيه تساهل طبعاً في استخدام الكلمات؛ لكن القرآن ليس عنده أي تساهل أبداً. قال (ثم سواه).. كلمة (سواه) هذه تذكرنا بما قُلناه في الحلقة السابقة من النفس، من فكرة النفس. يعني (سواه) معناها بث فيه النفس؛ لأنه هي التي وصفها بالتسوية لما قال (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) المرحلة الثالثة، ونفخ فيه من روحه".
3 مراحل
وتابع أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "إذن الآن نستنتج أن الموضوع ثلاث مراحل؛ كل مرحلة منفصلة عن الأخرى.. الأولى الخلق المادي الذي بدأ من طين، ثم تحول إلى سلالة من ماء مهين في مراحل التكاثر اللاحقة. والمرحلة الثانية هي النفس التي يعني ذكرتها الآية من خلال كلمة (سواها). والمرحلة الثالثة هي نفخ فيه من روحه. طيب، ماذا سنفهم الآن من نفخ فيه من روحه إذا كنا قد عرفنا أن الروح هي من أمر الله؟ اقتران النفس التي تملك الإرادة وهي نفس خاصة بالإنسان، بخلاف سائر الكائنات أو الحيوانات؛ بحيث تتمكن فعلاً من أن تتحكم بهذا الجسد، وتختار إما الخير وإما الشر، هذا يحتاج إلى أمر مختلف عن الكائنات والمخلوقات السابقة، حتى يسير بطريقة منضبطة. فكانت له روح مختلفة؛ هذا معنى (ونفخ فيه من روحه)؛ يعني أعطاه الأمر الذي يهيئه للاتصال بين النفس والجسد، ويمكِّن النفس من أن تقوم بدورها الذي أُنشئت له، ويمكن الجسد أيضاً أن يتساوق معها ويسير معها وَفق نظام دقيق ومحكم".
القدرة على الاختيار
وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "هل يمكن استنتاج نتيجة هذا القول؛ أنه في مرحلة ما تم خلق النفس وتم خلق الجسد، وتزاوجت النفس مع الجسد؛ لكن لم تكن فيها روح، فأحداث الروح أو نفخ الروح في الإنسان أو ربما البشر.. نقله إلى مرحلة أخرى من الوعي أو من القدرة على التمييز أو على الاختيار مثلاً؟"، قائلاً: "بالضبط؛ هي القدرة على الاختيار، هذه هي. الروح الخاصة التي احتاج إليها الإنسان ليتميز عما قبله أو ما سبقه من الكائنات هي هذه الروح التي وفَّرت الأمر الذي يفعل قدرة النفس على الاختيار على الجسد، حيث تصبح فاعلة، يعني كما يقال كانت في حالة غير تنشيط، غير نشطة، نفخ الروح فيها، حولها إلى الحالة النشطة التي يظهر بناء عليها تصرفات الإنسان اللاحق".
لفظة "النفخ" ونظرية الخلق السائدة
وأضاف أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، رداً على "طب لو بِدنا يعني نضع لفظة النفخ ضمن المفهوم اللساني، كيف يمكن فهمها لأنه في الثقافة الشعبية السائدة، عادة ثقافة كثير من الشعوب، حيث نظرية الخلق التي ذكرت في الأسفار اليهودية والتي تغلغلت في الكثير من الثقافات، على أن الله سبحانه وتعالى أحضر مجموعة، شوية تراب، ماء، عجنها، ونفخ فيها؛ فإذا به إنسان تركه حتى يجف، ونفخ فيه من روحه، فتحرك، وخلق من ضلعه حواء.. هذه نظرية الخلق السائدة في الكثير أو في مستويات مختلفة في الذهنية المجتمعية، الآن وَفق ما نتحدث وكأننا نتحدث عن نظرية خلق أخرى، نظرية خلق مفصلة تبدو فيها منطقية ومعقلية، ضمن يعني نظرية خلق جديد مثلاً.. كيف يمكن الفهم؟ لفظة النفخ هنا وتمييزها عن النفخ المادي الذي فهمه العامة".
الاتصال بين النفس والجسد.. في وجود الروح
وتابع د.يوسف أبو عواد: "طبعاً المقصود ليس نفخ الماء، هذا النفخ المادي صورة حسية بسيطة جدًّا، وليست تشكل لامتداد المفهوم الذي تشير إليه الآية أبداً؛ لأنه النفخ ورد في القرآن الكريم في موضوع الروح، وورد أيضاً في موضوع (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ)؛ فنفهم من هذا طبعاً إضافة إلى الفهم الصوتي الذي شرحناه، لما شرحنا مفردة النفس؛ أن النفخ يدل على إحداث أمر يؤدي إلى انتشار؛ لكن وجود حرف الخاء هنا يدل على أمرَين، يدل أولاً على قوة، وثانياً يدل على أنه الموضوع سيشمل قدراً كبيراً جداً من الأفراد اللاحقين؛ لأنه قال (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ). هنا لما قال ونفخ فيه من روحه؛ هذا النفخ في الروح خلاص امتد إلى كل مَن سيأتي بعد ذلك من البشر المتناسلين؛ طبعاً متناسلون جسداً ونفساً؛ نحن فهمنا الآن أن التناسل لا يكون فقط على مستوى الجسد؛ إنما التناسل على مستوى النفس وعلى مستوى الجسد، بانفصال، ثم يحدث بعد ذلك الاتصال بين النفس والجسد في وجود الروح التي تتيح هذا الاتصال وتتيح للنفس أن تتحكم بالجسد وأن تختار وأن تخالف سُنة الله في الكون. يمكن؛ وهذا الذي تعجبته الملائكة لما قالت (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)، في هذه اللحظة التي ميزت الإنسان عن سائر المخلوقات، وهذا أيضاً تكرر في قوله تعالى (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)؛ يعني يشير إلى أن الأمر بالسجود الذي جاء للملائكة لم يأتِ للجسد، لم يأتِ للنفس أيضاً، وإنما جاء بعدما جاءت المرحلة الثالثة والأخيرة التي ربطت النفس بالجسد، فأتاحت عملية التفعيل لقدرات النفس الكامنة التي وضعت فيها، فصار الإنسان قادراً على الاختيار، وميَّزه ذلك عن الملائكة؛ لأن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، يعني خلاص يمثلون، يعني يظهر أثر الملائكة من خلال السُّنن والقوانين الكونية المتسقة التي لا تتخلف أبداً؛ لكن البشر كان الأمر مختلفاً، وهو على فكرة مرحلة أعلى، بلا شك أنها أعلى في الخلق؛ لأنه المخلوق الآن أصبحت عنده إرادة، فأمر الملائكة بأن يسجدوا للبشر، هذا السجود فيه دليل على رفعة، يعني مرحلة خلق البشر، عن الملائكة من جهة، وفيه أيضاً أن الملائكة باعتبارها سيظهر أثرها من خلال السُّنن والقوانين ستكون خاضعة لما ينتج عن إرادة الإنسان؛ لأنه تنفيذ إرادة الإنسان بعد ذلك بالخير أو الشر، تحتاج إلى أن تكمل في جوانب لا تصلها قدرات الإنسان.
الإنسان يختار؛ لأن تكملة الأمر بما يتفق مع السنن ستكمله الملائكة، فيتجسد من خلال سنن كونية، نحن لا نرى؛ ولكن نرى الأثر من خلال قانون كوني وضع سيفاً على عنق بحق أو بغير حق، سيقطع الرأس، سيموت الإنسان الذي وضع على عنقه السيف. طيب هذا مخالف للسُّنة الأصلية الطبيعية للخلق، الذي أوجده الله، يعني للقدر. فحصل هنا قضاء الآن؛ ولكن هذا القضاء ليس متساوقاً أو متسقاً مع فكرة القدر الكلي التي هي بناء وأحكام وإتقان وخير، لكن الإنسان زُوِّد بهذه القدرة وأمرت الملائكة أن تكون مسخرة، فتسير وَفق هذه القدرة لتحقيق غاية الاختبار".
الروح لا توصف بأية صفة شريرة في القرآن لأنها جزء من الأمر
وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "هل يمكن الاستنتاج، نتيجة هذا الوصف، أن الإنسان هو تآلف، أن الإنسان هو مكون من ثلاثة أشياء، أو البشر مكون من ثلاثة أشياء ( النفس والجسد والروح)؟"، قائلاً: "النفس والجسد يمكن أن أسميها أشياء؛ لكن الروح هي أمر، جزء من الأمر، هم والأمر شيء؛ ليس مثل الخلق، هو منفصل، الأمر هو يعني (خلينا نقول شيئين تم الاتحاد بينهما بواسطة الروح؛ يعني الروح شكلت العامل المساعد اللي صار فيه تفاعل ما بين النفس والجسد أو ممكن أن النفس تتفاعل مع الجسد وَفق مستوى معرفي ما في الروح) بالضبط هذا هو، وطبعاً الروح لا توصف أبداً بأية صفة شريرة في القرآن الكريم أبداً؛ هي لأنها جزء من الأمر. لاحظ (النفس) توصف بأنها لوامة، الروح لا توصف، ثم إنها لا تجمع، يوجد جمع لكلمة (روح) في التراث، هناك جمع كثير؛ لكن القرآن كتاب دقيق إلى أبعد الدرجات، لأنها أمر، يعني هو شيء واحد من ناحية الجنس، هو شيء واحد، هو أمر، هو يعني كأنه وحي، ولذلك وصف الوحي أصلاً بأنه روح. هو الوحي الذي به تتحرك المخلوقات بطريقة متجانسة، يعني نظام، هل النظام هو شيء ولَّا هو يعني ينظم حركة الأشياء؟".
مرحلة نفخ الروح.. الإنسان أصبح بشراً لا العكس
وأضاف أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، رداً على "هذه المرحلة التي صار فيها نفخ الروح، هل أصبح البشر إنساناً أم العكس؟": "في مرحلة نفخ الروح أصبح الإنسان بشراً وليس العكس.. وإذا تحدثت عن الإنسان وقرنت معه الروح؛ فإنه يسمى بشراً في هذه الحالة، وسنذكر هذا بأدلته التفصيلية في موضعه..
طيب؛ الآن هناك شيء عجيب، لما تحدث الله، سبحانه وتعالى، عن عيسى، عليه السلام، قال (فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)، وقال (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا)، لماذا هنا ذكر الروح ولم يذكر أحداً من أفراد البشر باستثناء الخلق الأول للإنسان، مع يعني قرن به موضوع نفخ الروح إلا عيسى، عليه السلام، في الخلق طبعاً أنا أقصد في مراحل الخلق؛ لماذا؟ هذا يثبت ما توصلنا إليه أن الروح هي من أمر الله، الآن عملية خلق عيسى، عليه السلام، لم تحدث وَفق الأمر الأول، الذي وجد به الإنسان؛ لأنه لا يوجد أب هنا في خلق عيسى. طيب؛ إذن هل هو يحتاج إلى أمر مختلف يخالف الأمر المعهود؟ نعم؛ لذلك كان له روح، شيء من أمر الله مختلف يتيح تكون أو تشكل عيسى، عليه السلام".
فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا
وتابع د.يوسف أبو عواد، رداً على "لأنه يقول (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) يعني كل الروح؟": "لا؛ هو هذا من باب يعني ما هو نحن قُلنا إن الكلمة قد تطلق فيقصد بها كل شيء أو بعض الشيء، جزء من الشيء. هذا أيضاً من الامتداد المفاهيمي، ليس شرطاً أن يكون كل الروح هم. لكن هو أرسلنا إليها روحاً فتمثل لها. لاحظ التمثُّل هنا، تمثل لها بشراً سوياً، وقال نفخنا فيها من روحنا. نحن قُلنا أحياناً يُسمى الملك النازل بأمر الله أو لا روحاً. وهنا سُمي الملك الذي جاء بأمر جديد سيتشكل بناء عليه خلق جديد سمي روحاً. وسُمِّي الأمر الذي أدى إلى تنفيذ هذا الخلق الجديد أيضاً سُمِّي روحاً، بهذه الطريقة تشكَّل، ولذلك تجد القرآن الكريم يقول )إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ( الآن قال آدم، خلقه من تراب؛ بس لم يقل عن عيسى خلقه من تراب، لكن الفكرة ثم قال له كن فيكون. هذه فكرة كُن فيكون، هي المقصود أنه روح. كما أن الله كان قادراً على أن يأمر بأمر يؤدي إلى نشوء آدم من تراب. إذن هو قادر أن يعني يأمر بأمر ينشئ فيه بشراً من أم فقط من غير أن يكون هناك أب. طبعاً الإمكانية الفيزيائية لوجود هذا لا العلم الحديث، ليس عنده شك في الموضوع أنه هذا من ناحية فيزيائية ممكن. لكن طبعاً هذه حتى من الناحية المادية القرآن شرح الموضوع بهذه الطريقة...".
وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ.. ما السر الذي ذكرت فيه روح القدس كمؤيد مع عيسى؟
واستكمل د.يوسف أبو عواد: "الآن لمّا أيضاً نلاحظ أن القرآن الكريم لمّا يتحدث عن عليه السلام؛ ليس فقط يقول إنه لما تحدث عن مريم قال ونفخ فيها من روحه، قال (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ). والناس يتساءلون كثيراً؛ يعني لماذا لم تذكر رح القدس من باب التأييد؟ روح القدس هكذا إلا مع عيسى، عليه السلام، ما السر؟ ما السبب الذي ذكرت فيه روح القدس كمؤيد مع عيسى، عليه السلام؟ (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا..)؛ لاحظ أنا هنا أؤكد أنه التخصيص لعيسى؛ يعني الآية هذه (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ). إذا الموضوع اختص به عيسى من بين الأنبياء.
ومن جمال القرآن وتناسقه وعدم اختلافه؛ سيشرح لك الموضوع، لا يتركه حتى يحصل فيه اختلاف. لاحظ في سورة المائدة قال (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ)؛ طيب لم يضع أي فاصل لساني بين الكلمتين، قال (إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا).. الكلام الذي حصل في المهد والمعجزات الخاصة التي حصلت لعيسى التي ذكرها السياق بعد ذلك؛ هي في الحقيقة مخالفة للسُّنة المعروفة الطبيعية التي يسير عليها الناس. يعني الطفل في المهد وَفق السنة الأولى لا يتكلم، أو أن تكلم، يتكلم بأصوات غير مفهومة؛ لكن أن يتكلم بكلام بليغ وهو الكلام الذي ذكر في سورة مريم. (فَأَشَارَت إِلَيهِ قَالُواْ كَيفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلمَهدِ صَبِيّا قَالَ إِنِّي عَبدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّا).. إلى آخره. هذا الكلام، السُّنة الكونية الطبيعية المعروفة لا تتيحه لطفل في هذا العمر، في المهد.. كيف تكلم؟ أُيِّد بروح القدس. ما معنى أُيِّدَ بروح القدس؟ بمعني أُوجِدَ له أمر مختلف عن الأمر العادي، يتيح له أن يتكلم في ذلك الوقت، وفي الحقيقة منشئ الأمر الذي يسير عليه الكون ليس عاجزاً أن ينشئ أمراً مختلفاً يسير عليه الكون بطريقة مختلفة".
مَن كَانَ فِي ٱلمَهدِ صَبِيّا.. كلمة "صبي" بين الأمر المتوارث والسياق القرآني
وأجاب أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين عن سؤال "كيف يُقال كيف نكلم من كان في المهد صبياً؟ طب هو في المهد ما كانش صبياً كان طفلاً؟"، قائلاً: "الآن الفهم لكلمة صبي، يعني جاءت من أمر متوارث؛ لكن الأصل أن نرجع لنفهم كلمة صبي، نفهمها من السياق القرآني. إذن هو السياق القرآني، الإطلاق الصحيح لكلمة صبي تبدأ من مرحلة المهد. هذا هو الصواب؛ بما أن القرآن جاء بها بصيغة الحال طبعاً، هذه في النحو العربي تسمى؛ يعني كان في المهد صبياً أو يعني كيف نكلم من كان في المهدي صبياً؟ نعم على صيغة الحال، يعني حاله أنه صبي. إذا كلمة (صبي) في الأصل ينبغي أن تطلق للطفل وهو في المهد وتمتد. الإطلاق الذي حصل بعد ذلك هذا ليس مشكلة القرآن. كما أن مثلاً أية قاعدة وضعها النحاة ووجدنا أن القرآن يختلف مثلاً في بعض النواهي عن هذه القاعدة؛ هذه ليست مشكلة القرآن، هذه مشكلة النحاة؛ لأن القرآن الكريم سابق على المعاجم وسابق على النحو وسابق على الصرف، وسابق على جميع علوم اللغة العربية التي نشأت بعد ذلك؛ فهو اللسان العربي المبين، وهو الذي منه أصلاً نستخرج..".
هل "الطفل" تعني "الصبي" أو العكس؟
وأضاف د.يوسف أبو عواد، رداً على "يعني لأنه في القرآن استخدم قيمة الطفل. يعني في القرآن لفظ الطفل مستخدم يعني.. فهل يقصد أن الطفل تعني الصبي، والصبي تعني الطفل؛ طالما استخدم اللفظتَين؟": "لا يمكن أن تعني كلمة كلمة أخرى؛ لكن هذا يحتاج إلى بحث سياقي منفصل عن مراحل حياة الإنسان؛ يعني هذا يكون له بحث منفصل، أنه كل مرحلة من المراحل؛ لأن القرآن ذكر الطفل وذكر الكهل وذكر الغلام وذكر الشيخ.. هذه كلها مراحل".
وأجاب أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين عن سؤال "كيف يكون في المهد إذا فهم أماراتهم وتكون في السر في فهم لفظة المهد؟.. المهد لا يعني المكان اللي يعني بيوضع فيه الطفل الصغير، هيك حالة"، قائلاً: "هذا إذا قررت أن الصبي أنت أخذت معناه على أنه كبير، كما يقولون إنه يكون في عمر السبع سنوات تقريباً. معناها إذا أخذت كلمة الصبي أسست عليها أنه في عمر سبع سنوات ستقول إنه المهد ليس هو المقصود هنا"..
متى نسمِّي المولود طفلاً؟ ومتى نسميه صبياً؟
وقال أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، رداً على "متى نسمِّي المولود طفلاً؟ ومتى نسميه صبياً؟": "الآن، حسب اصطلاح القرآن، الصبي هو ولادته، لأنه واضح جداً من السياق، لماذا؟ الذي يلزمنا أحياناً السياق، يوضح لك المعنى المعجمي.. (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ). لاحظ (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ) وهذا الإتيان يستحيل أن تكون تركتهم سبع سنوات يعني؛ فـ(قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) أي عظيماً من المناهي.. (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)، (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)، والآيات تستخدم حرف الفاء، وحرف الفاء يدل على ترتيب وتعقيب؛ يعني لا يوجد فاصل زمني، متتالية الأحداث. (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)؛ فإذن الاستخدام الصحيح لكلمة (صبي) هو المولود في أول مراحل ولادته، بعد مرحلته أن يكون أو يُسمى صبياً. هذا ما يمكن أن نستنتجه. وعلى كل حال؛ سيوضح هذا بأدلته التفصيلية لما نتحدث عن مراحل حياة الإنسان، وكل مرحلة، وبالنسبة إلى الشائع لمفهوم (صبي) على أنه يعني يتعدى السنوات الثلاث فما فوق فهو مخالف للسان، للنشر القرآني.. تكتشف أشياء كثيرة وأنت تتأمل لسان القرآن، أنه حصل الاختلاف والمشكلة أنه شاع وانتشر يعني بطريقة عجيبة، وغفل عن النص يعني".
هل يمكن إطلاق لفظة الصبي على الأنثى؟
وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "هل يمكن إطلاق لفظة الصبي على الأنثى؟"، قائلاً: "والله حسب الآيات الواردة في القرآن، كلمة صبي لا يحضرني أنها أُطلقت على الأنثى في أي شيء يتعلق بالنص القرآني إذن؛ لكن هل هي أصلاً صفة، يعني عدم إطلاقها لا يعني عدم جواز إطلاقها أيضاً".
وأضاف أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، رداً على "ممكن الاستنتاج كالتالي؛ إذا اتفقنا وَفق النص القرآني لسانياً أن (الصبي) تعني الطفل الصغير، معناه الطفل يمكن (طفل) إطلاقها على الأنثى وعلى الذكر، أم الصبي هي حالة فقط للذكر؟": "والله قد يكون وقد لا يكون؛ لأنه الأصل أن الكلمة تؤنث في اللسان العربي بالتاء، بإضافة التاء؛ يعني بكلمة (صبية)، لكن أيضاً هذا يحتاج إلى مزيد من... (صبي ممكن هناك صبية صح؛ بس الصبية يعني لفظة (صبية) في الدارج، في الحديث، في اللغة الدارجة أو في الثقافة الدارجة، تلفظ على البنت اللي عمرها يتعدى 7 سنين أو 8 سنين، كلها (صبية) ما شاء الله).. هذا في الكلام الدارج، حتى (صبي) أنا أقول لك في كتب الفقه يقولون الصبي هو مَن بلغ سن التمييز، هكذا يسمونه صبياً يعني، ويسمون المرحلة التي قبلها غلاماً.. التسميات فيها تساهل، طيب تسمية النفس والروح كان فيها تساهل كبير، وتسمية الجسم والجسد؛ ولكن إذا أردت التسمية المنضبطة أنت ستبدأ فهمك من القرآن الكريم".
وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "هل يمكن القول مثلاً إن (الطفل) يُقصد بها الجنسَين؟"، قائلاً: "أي نعم؛ الأصل في اللفظ الذي يرد في حق الذكر ولا يرد، ما يعني ما يعادله للأنثى بطريقة مختلفة، أنه يؤنث بوسائل التأنيث المتاحة في اللسان العربي، وهي التاء أو الألف والهمزة أو الألف المقصورة، حسب المتعارف عليه في اللسان".
فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا.. المهد هو بداية النشوء
وأضاف أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، رداً على "لماذا اللفظ هنا دقَّق َ (فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)؟ هل يقصد بالمهد معنى يعني المكان الصغير..؟": "المهد هو البداية النشوء؛ هذا هو المهد، يعني أنت تقول مهَّدت يعني أسست له؛ فالمهد هو البداية، يعني أنه ما زال في بداية وجوده في الحياة، بداية ظهوره على الأرض. فإذن التأييد بروح القدس الذي ذكر في حق عيسى، عليه السلام؛ لأنه يعني جرى على لسانه في المهد وجرى على يدَيه من خوارق السُّنن الكونية ما لم يجرِ على يد غيره من الأنبياء؛ لأنه قال (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا). لاحظ هذا النفخ الذي يحول الطين إلى الطير، هو في الأصل ليس في قدرة البشر؛ لكن أُيِّدَ عيسى بالروح التي جعلته ينفخ في الطين فيكون طيراً. (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي). كل هذه أمور مخالفة؛ طبعاً كلها لها شرح، لكن في سياقها؛ لأنه حتى ألتزم بالموضوع قدر المستطاع. إنما كلها أمور مخالفة للسُّنن الطبيعية العادية. إذن هي بحاجة إلى أمر مختلف؛ لذلك أُيِّدَ عيسى، عليه السلام، بروح القدس، وهذا كله يدل على أن كلمة الروح متسقة تمامَ الاتساق في النص القرآني".
ما الذي حوَّلَ الطين إلى طير؟
وتابع أبو عواد رداً على "لا يمكن إسقاط على خلق من الطين على هيئة الطير بإذن الله فيصير طيراً؛ لا يمكن إسقاط المعجزة هنا، لأنه بتتدقق فيها مظبوط إنه فعلاً يمكن الخلق على هيئة للطيران، وجود الشيء على هيئة شيء لا يعني أنه أصبح مثله؟": "هذا مثل الجسد وجسده... لكنه قال سيخلق من الطين كهيئة الطير (تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي)، نحن لا نقول إن الموضوع هنا نفخ مادي؛ لكن تحول من هيئة الطير الذي هو طين إلى الطير الذي هو طير. ما الذي حوَّلَ الطين إلى طير؟ هناك أمر الآن، هناك روح دخلت الروح حتى يتحقق".
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
واستكمل أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "صحيح هو الروح قطعاً مستوى معرفي؛ لأنه في الآية الأخرى قال (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، نعم هي تأييد بمستوى معرفي. هذا المستوى المعرفي كان من نماذجه ما أيَّد به الأنبياء من الوحي الذي كان فيه صلاح البشر.. وكان منه ما أيَّد به عيسى الذي جعله يحول الطين إلى طير؛ فهو إذن مستوى معرفي".
روح القدس
وقال د.يوسف أبو عواد رداً على "بس هنا ربط الروح بالقدس، بمعنى أنه إعطاء معرفة، يعني فيها، أنا أفهم القدس؛ يعني معرفة مستمرة التوليد. يعني المعارف تبقى متوالدة من القدس؛ يعني فعاليتها دائمة، ولهذا وصف الله، سبحانه وتعالى، نفسه بالقدوس. يعني فاعلية العطاء الدائم أو الوجود الدائم أو الحركة الدائمة أو شيء دائماً متوالد معرف، ممكن تطلق عليه مقدساً ولَّا هذا الكتاب المقدس هو الكتاب الذي آثاره تبقى دائماً فاعلة ومنتجة؟": "صحيح؛ وهي كذلك، وروح الله على فكرة بشكل عام التي تتحول بعد ذلك إلى تقنيات أو مراحل تغير وجه الأرض وتغير حياة البشر. هي مبثوثة؛ لكن ارتقى إلى مستوى من الصفاء والنقاء والذهنية الصافية، ويعني تقلل من موضوع الانشغال بالحواس أو بموضوع الجسم، يعني كلما تقلل موضوع الجسم ارتقى ليتصل بهذه الأمور؛ فيظهر معه اكتشافات واختراعات تغير وجه الأرض.. (يعني هي من روح القدس) أي نعم؛ هي كلها من روح اللي هي نقية؛ معناها القدس، معناها هي كما قُلت تبقى نقية طاهرة، لا يمكن أن تشوبها شائبة؛ لأنه لا يصل إليها أصلاً إلا أهل النقاء والصفاء. لذلك هي تبقى في مرحلة نقاء غير ملوثة؛ إنما القضية مَن سيصل إليها ومَن لا يصل إليها، ومَن لا يصل إليها هذا هو؛ فالموضوع حتى تصل إليها تحتاج إلى قدر كبير من الطهارة والنقاء والمستوى العالي جداً من الأخلاق".
استعداد فطري عقلي لاستقبال قدسية الشيء "الروح"
وأضاف أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "الاستعداد الفطري العقلي؛ هل يأتي دون نقاء وصفاء، عبر التاريخ الناس هم يعني أحدثوا إحداثات كبيرة؛ سواء أكان على مستوى الأنبياء والوحي الذي أصلح الأمم أو كان على مستوى الاختراعات العلمية والاكتشافات.. وغيرها التي غيرت وجه الأرض، هم ناس كل مَن يتعامل معهم يقول لك إنهم من أصفى وأنقى الناس؛ يعني لا يمكن أن يعتدي على شيء ليس له، يضع كل شيء في معاييره الدقيقة. مستوى الأخلاق عنده درجته عالية جداً. عنده تجرد كبير من موضوع الماديات، فهيَّأه هذا إلى صفاء عقلي، يهيئه بعد ذلك لأن يتلقى هذه الروح أو يتصل بها؛ التي هي روح القدس أو أثر روح القدس.
والآن بقي هناك إشكال؛ قد يكون لقائل طب كلمة الروح وردت في سياق، دائماً أنا أطرح الإشكال قبل أن يُطرح من باب الصدق والحياد العلمي. قال (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ)... يقول لي طيب أنت الروح قُلت عنها أمر وأنها تسهل أو تيسر اقتران النفس بالجسد وإلى آخره، وما ذكرته. لكن هذه الآية كيف تفهم كلمة الروح فيها؟ تختلف عن كل ما ذكرت، الآية طبعاً سياقها يحتاج إلى انتباه؛ لأنه السياق هو ما يتيح لك إلى أي قدر تتسع بمفهوم الكلمة، وما الذي تأخذه من هذا المفهوم، قال لك لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، الآن هل السنة أو القانون الطبيعي الذي يسير عليه الناس هو المودة؟ مودتك لأبنائك وإخوانك وعشيرتك وآبائك كل عدم المودة. المودة بالتأكيد. طيب الآن لما يقول لك (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ)، يعني المودة في هذه الحالة لمَن حاد الله ورسوله، لا تكون موجودة عند المؤمن بالله واليوم الآخر. طيب، كيف استطاع أن يخالف سنة طبيعية قوية جداً تتجه بالبشر إلى المودة، في هذه الحالة لولا أنه كان له تأييد من أمر الله مختلف عن الأمر الطبيعي الموجود عند عامة الناس، فاحتاج إلى أمر يؤده حتى يقوى على عدم المودة هذه، لا تجد قوماً، طبعاً عدم المودة المقصود فيه ليس عدم المودة من ناحية الإحسان؛ إنما عدم المودة في المحادة لله ورسوله، وكلمة المحادة هنا طبعاً يعني صح أن الموضوع نوعاً ما خارج؛ لكن هو مهم أن يفهم، لا يفهم بالطريقة التي يظنها كثير من الناس محادة الله ورسوله، هو إنسان وضع حداً بينه وبين سُنة الله، ليس فقط خالفها إنما صار في اتجاه معاكس تماماً لسنن الله أو التي هي سُنن الله نفسها التي ذكرها الأنبياء، ذكروا بها.. (وبشكل مقصود) بالضبط؛ الآن فيه مشروع هادم، يهدم؛ كيف يحاد الله؟ هل هو يحاد الله كذا؟ تعالى الله عن هذا. محادة الله تكون بمحادة سُنن الله. يعني يفعل في الكون، في الوجود، في الأرض، أشياء تهدم عكس نظام الله مثلاً الذي خلق عليه الخلق؛ أنه هو نظام يعدل نفسه بنفسه، تحافظ الأرض على الطبيعة، يحصل تنقية طبيعية. الآن أنت عندما تستخدم الصناعة فرضاً يعني ومخلفات المصانع بطريقة يعني غوغائية وانفجارية كبيرة، تؤدي إلى إفساد نظام الأرض، إفساد النظام البيئي، هذا نوع من المحادة. طب قد يكون هذا المحاد أخاً لك أو ابناً أو هل تواده في هذا السياق؟ لأ؛ فهنا طبعاً الإنسان يحتاج فيها إلى أن يؤيد بروح من الله. وهذه الروح ستأتي في حال الإيمان الصادق. والإيمان طبعاً له مفهوم وقضية، يعني حلقة منفصلة سنشرحه فيها بالتفصيل. من الناحية اللسانية وبأسلوب التدبر نفسه الذي نعتمد عليه".
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ
وتابع د.يوسف أبو عواد: "قال (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ)؛ هذا يدل على أن إطلاق الروح كما قُلنا إنه يقصد به كل أمر يتعلق بتدبير الكون إجمالاً؛ ومن ضمنه روح الإنسان وروح عيسى، عليه السلام، والروح الذي يؤيد به. وقال (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)، طبعاً هذه الآية قد يكون من الصعب الوصول إلى تأويلها؛ لأن العروج عروج الملائكة، هو مفهوم عروج الروح هو يعني كأن المقصود به ظهور أثر الروح أو الأمر المنفذ خلال دورة من دورات الخلق؛ لكن يعني في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، هذا صراحةً أمر يعني يحتاج إلى مزيد من التدبر والبحث..".
هل الروح يتكلم؟
وتابع أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "ليس بالأمر السهل يوم يقوم الروح والملائكة صفاً، هذا وصف الله عز وجل في نهاية ما نتكلم عن الروح يوم القيامة، فقال (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا)، قد يقول قائل طب يعني الروح يتكلم؟ يرجع هو طبعاً إلى الفهم الحسي المحدود جداً للكلمات، مهم؛ لأنه كلمة (كلم) صح نحن نرى من مظهرها الحسي اللي هو إصدار الأصوات؛ لكن نحن نطلق أو يطلق في اللسان العربي على الجريح أيضاً كليم.. الكلم هو إحداث أثر في شيء. معناها الصوت، لماذا سُمِّي كلاماً؟ لأنه هو موجات تخترق الهواء، فتحدث أثراً يدرك من قِبل الشخص المقابل أو يدرك أثره من قِبل الشخص المقابل. طب لما يقول لك (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ)، ماذا تفهم؟ أنه في هذا اليوم تتعطل قدرات الملائكة المأمورة بها في تنفيذ السنن، تتعطل الروح التي هي أمر الله خلاص؛ لأنه تُبدل الأرض غير الأرض. فتحتاج إلى أمر جديد وتحتاج إلى سُنن جديدة تتناسب مع الحياة الأبدية التي سيأتي وقتها في ذلك الوقت، فيتوقف كل الروح وتتوقف كل الملائكة، وحتى في السياق لم يجمع كلمة الروح، فقال (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ)؛ مع أنه جمع الملائكة، وهذا تمييز هائل جداً في النص القرآني بين النفس والروح، شتان ما بين هذا وهذا.. اللي اختلطت ونقلت في الروايات وفي التراث كأنها شيء واحد".
واستطرد د.يوسف أبو عواد: "(وكأنها تعني الموت والحياة) بالضبط؛ ولكن في القرآن الأمر مختلف؛ وهذا طبعاً هو في الحقيقة يعني جريرة عدم الاستجابة لله سبحانه وتعالى، حين يأمرنا بالتمسك بهذا النص وجعله الأساس في فهم الحياة وفهم الشريعة وفهم الوجود.
وبهذا نكون قد استوعبنا كل ما يتعلق بالآيات التي ذكرت الروح في النص القرآني الحكيم".
"وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ".. مسميات الإنسان والبشر
وقال أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "الآن نعود إلى ما ذكر من مسميات الإنسان والبشر؛ حتى نثبت الإنسان لما نقول كلمة إنسان.. هذه المكونات التي ذكرناها، ما الذي يوجد من الإنسان فيها؟ إذا رجعنا إلى سورة السجدة التي ذكرناها نجد أن الله تبارك وتعالى قال (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ)، طيب إذا هو اسمه إنسان، لما يكون عبارة عن الجزء المادي. الجزء المادي منه قبل أن تنفخ فيه الروح، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ)، أيضاً هنا الكلام عن الطين، السلالة هذه طبعاً، هذه كلمة فيها مستوى عالٍ من الدقة القرآنية العجيبة. أنا أُريك كيف تسلسل المفهوم اللساني، يعني عجيب جداً في القرآن الكريم. يعني (سلالة) جذرها (سل)، طب (سل) مستخدمة الآن في العربية.. تسحب شيئاً من شيء، سل الخيط، من مثلاً سل الخيط من القماش بهدوء وبدقة، بالضبط العملية فيها دقة وفيها نظام وفيها أخذ لجزء من هذا الشيء يحمل يعني صفته، طيب السلالة الآن لو أنت مثلاً كنت في القرون الأولى أنت تعرف أن البشر تكاثرهم هو عبارة عن سلالة. لكن هل بقيت الكلمة صالحةً لما اكتشفنا المستوى الجيني والكروموسومات؟ أحسن وصف يمكن أن تصف فيه الكروموسوم أنه سلالة، ليه؟ لأنه أصلاً الكروموسوم هو عبارة عن خيط مزدوج يكتنز صفات الإنسان فينقلها إلى الآخر، هذه هي دقة القرآن".
السلالة تتسلل في الجيل الآخر
وأجاب أبو عواد عن سؤال "يعني السلالة تتسلل في الجيل الآخر؟"، قائلاً: "بالضبط؛ تتسلل كأنها خيط. سحب من الإنسان خيط من الذكر، خيط من الأنثى، اقترنا فكوَّنا إنساناً جديداً. لاحظ؛ لكنها تحوي النسق، يعني أنت لما تسحب خيطاً من نسيج صوف، هذا الخيط بيكون يحوي المنسوج الذي سحبته منه، فالسلالة هذه التي سحبت من الإنسان على شكل كروموس، حَوَتِ النسقَ الذي سيشكل البشر مرة أخرى بتنوع طبعاً، بالتنوع الذي يحدث نتيجة التلقيح بين السلالات".
سُلَالَة مِّن طِين.. الطين تراب ومياه
وقال د.يوسف أبو عواد: "السلالة هي طبعاً الطين؛ التراب مع الماء، لأن القرآن ذكر التراب وذكر الماء وذكر الطين، فحسم الموضوع؛ لكن هل هو كما هو ولّا حصل عليه تعديل، بحيث يناسب ليكون الجسد.. (ويصبح التراب طيناً عندما يخلط بشيء آخر، ويخلط بالماء، يُسمى طيناً.. خلطة، مجموعة من العناصر الكيماوية بوجود عنصر مساعد للخلط اللي هو الماء، يتشكل إنسان، يتشكل جسد) أكيد، وكل عناصر جسم الإنسان موجودة الآن، معروفة".
الطين.. سبب التسمية
وتابع أستاذ اللغة العربية: "سمي التراب مع الماء طيناً؛ يعني هذا اللفظ الصوتي كأنه الشدة التي تحصل نتيجة اقتران الماء، يبدأ التراب يشتد نوعاً ما، فدخل حرف الطاء ليعطي موضوعاً للقوة؛ لكن ليست مطلقة، نعم الشدة ليست مطلقة؛ لذلك ناسب أن يقرأ معها الياء التي فيها امتداد الطين الذي تشعر به باللزوجة الموجودة فيه.. وأيضاً حرف النون... وقال أيضاً في آية (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ)، طيب الآن هنا قال (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ)، هذه (من) طبعاً فيها وقف مهم جداً؛ شو يعني من سلالة من طين؟ يعني من قبل السلالة ولا الطين؟ الطين. طبعاً السلالة من سلالة من طين. يعني أول شيء الطين ثم السلالة. (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ). أنا سألت هذا السؤال، لماذا؟ لأن الآية هنا، مَن الذي سبق الآخر؟ الصلصال ولَّا الحمأ المسنون؟ الحمأ المسنون. طيب.. طبعاً على فكرة ذكر التراب يعني (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ)، لم تذكر مع الإنسان، ذُكرت مع البشر فقط؛ يعني لم يذكر لما ذكر الإنسان في القرآن الكريم من أوله إلى آخره، لم تذكر كلمة التراب؛ وإنما ذكرت في سياق الحديث عن البشر. الآن هنا قال الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ، المرحلة معناها أن الطين تحول إلى حمأ مسنون. وهذه المرحلة تحول بعد ذلك بعدها إلى صلصال".
حَمِئَة.. يُحْمَىٰ.. حَمَأ
وتابع أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "طيب شو يعني حمأ؟ كلمة حمأ وردت في سياق آخر في سورة الكهف، (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ)، وورد ما يشبهها في قوله تعالى (يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ)، عن الذهب والفضة، الذين يكنزون الذهب والفضة؛ قال (يوم يحمى عليها). يحمى قريبة جداً من حمأ؛ لكن الهمزة تعطيك نوعاً من النبر، النبر يعني فيه نوع من المفاجأة والظهور البارز يعني. فكأنها يعني فيها نوع من يعني حرارة إضافية، ولذلك قالوا الحمى هو الطين إذا سخن، قالوا هو الحمى؛ يعني السخونة الموجودة في النار الطبيعية أو في الماء الطبيعي، يطلق عليها فعل حمية. أما إذا كانت السخونة في الطين تُسمى حمأ، وسخونة الطين من الأصعب بمكان أن تهبط حرارة الطين إذا سخن، وليس مثل الماء. طبعاً الماء أسهل برودة إذا سخن من الطين، تبقى كلمة )مسنون( في هذا السياق كلمة غريبة لا تكاد تخرج من التفاسير بمعنى يريح قلبك، ما معنى مسنون؟ لكن لو رجعنا إلى فكرة اللسان العربي نفسها كلمة (سن) نحن نعرف السن، وهو جزء من أجزاء الإنسان.
لكن السن لا يوجد وحده، يوجد معه منظومة من الأسنان؛ فمنها امتد المعنى المفهومي لكلمة (سن) ليدل على الطريقة والمنهج المنتظم في فعل أمر ما؛ كانتظام الأسنان في فم الإنسان، فسمي هذا سنة، (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا).. وهكذا. طب يعني (مسنون) الآن ننتقل إلى المستوى الصرفي، الصرف العربي، مسنون على وزن مفعول؛ يعني أحدث فيه فعلاً جعله يكتنز طريقة وسنة، ما هو الفعل الذي أحدث، وهذه مرحلة مهمة جداً، كما ذكرت، ليس قضية اكتفاء بتراب خلط بماء وتحول إلى طين جف وأصبح سناً، فيه سر. الآن سر الخلق الذي أدخل على الموضوع ليجعله يتحول، فكلمة مسنون هذه تكتنز سراً كبيراً، أن سن ضمن طريقة تحولت بعد ذلك؛ هي التي تحولت إلى السلالة التي ظهرت عن طريق النطفة التي ذكرتها الآيات التالية... أرأيت مدى الدقة في التعبيرات القرآنية؟ فطبعاً الصلصال يأتي في مرحلة لاحقة، التي هي مرحلة.. طبعاً كلمة صلصال تدل على الجفاف؛ يعني من صوت الصاد الذي فيه رن يعني رنين؛ فتدل على الجفاف، و(الصل) أصلاً نوع من الحرارة؛ فهو قال لك (من صلصال من حمأ مسنون)؛ يعني هو الصلصال فيه يبس يشير إليه حرف الصاد؛ لكن فيه حرارة أيضاً. وقضية الحرارة مهمة جداً..".
قضية الحرارة في غاية الأهمية
وأضاف د.يوسف أبو عواد: "على فكرة الآن جميع الاكتشافات العلمية تدل على أن قضية الحرارة في غاية الأهمية لأية عملية تشكل أو تخلق في الكون. في غاية الأهمية؛ يعني التولد الذي يحدث للهيليوم في الشمس الآن، وهو أولى عمليات الخلق التي يتحول فيها الهيدروجين إلى هيليوم، يكون في جو من الحرارة هائل جداً جداً جداً، فالحرارة هذه تتيح دمج المكونات الأولى للكون بعضها ببعض؛ يعني إدخال الأسرار التي تجعل خلقاً يتحول فيصبح خلقاً آخر... (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ)؛ هنا ذكر النطفة أيضاً. لاحظ كلها جوانب مادية، (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ)، (فَليَنظُرِ ٱلإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِق). يعني الآيات يفسر بعضها بعضاً. الدفق هو التدافع الذي تشتد فيه كل دفعة عن الأخرى. هذا يسمى في اللغة دفقاً. وضوح دلالة الصوت على الكلمة واضح؛ فالنطف التي يتكون منها الإنسان سُميت في القرآن ماء وسُميت نطفة.. وسميت ماء دافقاً. وقال (خلق الإنسان من علق)، والعلق بمعناه ما يعلق، يعني ما يعلق بالرحم مما يتكون أصلاً من تلاقي النطفتَين يعلق بالرحم. وطبعاً هذه عملية أو لحظة تعلق النطفة بالرحم هي لحظة مفصلية. إذا لم تنغمس البويضة الملقحة في الرحم في بطانة الرحم، لا يحدث الحمل أصلاً؛ مستحيل".
أَلَم يَكُ نُطفَة مِّن مَّنِيّ يُمنَىٰ
وقال أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، رداً على "دكتور شحرور له مفهوم للعلق والعلاقة والجمع علاقات؛ أن الإنسان حيث البويضة والتفاعل ما بين البويضتَين؛ حتى كان من مجموعة من العمليات الكيماوية والعلاقات تسمى (علق)": "هذا صحيح تماماً الآن، أو يعني قدرة الحيوان المنوي على تلقيح البويضة ودخول كروموسومات الذكر على كروموسومات الأنثى، في هذا أكبر مظهر للعلق اللي هو تعالق أو مجموعة من العلاقات الكيماوية، حتى تنتج العلق نفسه، ثم تتبعه ضرورة تعلق أو تعانق البويضة المخصبة في بطانة الرحم؛ لأنه لو لم تنغمس في بطانة الرحم لا يمكن أن يكتمل الحمل.. (أَيَحسَبُ ٱلإِنسَٰنُ أَن يُترَكَ سُدًى أَلَم يَكُ نُطفَة)، قد يقول قال أنت ليه فسَّرت النطفة بالمني مثلاً أو بالبويضة؟ لأنه قال (أَلَم يَكُ نُطفَة مِّن مَّنِيّ يُمنَىٰ)؛ لكن هي نطفة لأنه بويضة. احنا قُلنا إنه (من) هنا معناها أن الثاني هو الأصل. نطفة من مني. طيب الآن العلم يقول لك إن المني هذا العرب كانوا يعتقدون قديماً أنه السائل المنوي كله يسهم في تشكيل الإنسان. والسوائل المهبلية التي تكون عند الأنثى لها دور؛ لكن لاحظ القرآن ودقته في التعبير، (أَلَم يَكُ نُطفَة مِّن مَّنِيّ)، ليس كل المني نطفة منه. لن يقول لك حيوان منوي واحد فقط من ملايين. الحيوانات المنوية هي التي تلقح، نطفة من مني يمنى.. لكن فيه سائل منوي وفيه نطفة واحدة هي التي خلق منها الإنسان.
يقول قائل، طيب ما فيه ذكر الآن للأنثى. والآية التي في سورة النساء -على فكرة سورة القيامة نهايتها التي ذكرت في هذه الآيات تليها مباشرة سورة النساء- (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا إِنَّا خَلَقنَا ٱلإِنسَٰنَ مِن نُّطفَةٍ أَمشَاج)؛ يعني حتى في ترتيب الآيات التي وضعتها متسلسلة، يعني كأنه يقول لك إياك أن تتسرع فتفهم أنه قصدنا مَن يمنع الذكر فقط. إنما قال نطفة أمشاج، والمشج يشبه المزج، ولكن المزج معناها تداخل يصعب فصله بعد ذلك أو يستحيل. أما المشج فهو تداخل يمكن أن تميز فيه ما جاء من هنا وما جاء من هنا. ولو سرنا مع الدلالة الصوتية للكلمة؛ كلمة (مشج) يعني من ناحية نحن ربطناها بـ(مزج) إذا غيرنا مكان الشين حرف الزاي، يؤدي إلى المزج. المزج تداخل لا تميز بعده. من جاء من هذا ومن جاء من هذا المشج تداخل يتسنى لك التمييز أنه والله لون العين جاء من الأنثى، وشكل الأنف جاء من الذكر.. وهكذا. طب و(المشج) مثلاً لو أنا غيرت حرف الجيم في نهاية الكلمة، شوف كيف تكتنز الكلمات العربية دلالات صوتية ومعنوية عجيبة جداً؟ إذا غيرت حرف الجيم إلى طاء يصبح (المشط)، والمشط هو معروف يعني لما يدخل المشط بين الشعر".
دقة النص القرآني في "أَلَم يَكُ نُطفَة مِّن مَّنِيّ يُمنَىٰ ثُمَّ كَانَ عَلَقَة"
وأضاف د.يوسف أبو عواد: "التداخل للترتيب ومرتب؛ لكن يمكن فصله. هذا يسمى مشط؛ يعني يدخل ويعود فينفصل، لا يمكن فصله يسمى مزج.. طيب إذا حصل تداخل لا يفصل، ولكن أميِّز ما جاء من هنا مما جاء من هنا، يُسمى مشج؛ لأن هذه الكلمة أيضاً يتوه فيها كثير من المفسرين بدرجة عالية جداً، لكن لو أنا أرجعتها إلى آلية اللسان العربي واستخدمت الدلالات الصوتية وما يشبهها من الجذر الثنائي، يتبين معنى الكلمة. حتى أصلاً في نهاية سورة القيامة، قال (أَلَم يَكُ نُطفَة مِّن مَّنِيّ يُمنَىٰ ثُمَّ كَانَ عَلَقَة)، وهذا ما ذكرناه وذكره الدكتور شحرور، رحمه الله، من التعالق بين الحيوان المنوي والبويضة، والتعلق بعد ذلك بالرحم. (ثُمَّ كَانَ عَلَقَة فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ فَجَعَلَ مِنهُ ٱلزَّوجَينِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ). ويقول قائل طب ما هو كلمة المني لا يمكن أن تسمي مثلاً أنت نطفة المرأة منياً، صحيح؛ لكن هذا أيضاً من دقة النص القرآني، لأنه الآن يقول لك المسؤول عن تحديد الذكر أو الأنثى، ليس نطفة المرأة ولا لها دخل أبداً.. هي تحمي الجينَين، يُسميان xx في علم الأحياء. إيه صح. نطفة الرجل التي توصف بالمني هي xy، فما يحدد هذا أصلاً، انتصار أصلاً. حتى انتصار للنساء في القرآن الكريم؛ أنه دائماً في الثقافة القديمة إلى حد قريب، كانوا يعني الأنثى تعاقب بأنها أنجبت إناثاً وهذا طبعاً فكر رجعي يرجع إلى فكر الجاهلية؛ ولكن حتى العلم القرآن كان انتصر منذ فترة طويلة، لكن حتى العلم الآن يقول لك الموضوع يرجع أصلاً إلى مني الرجل وليس إلى الأنثى".
الإنسان أقوى المخلوقات على الإطلاق
وتابع أبو عواد: "و(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أيضاً الكلام يتحدث عن الجانب المادي، نحن طبعاً نذكر أن هذه الآيات تشير الى أن الإنسان في القرآن الكريم يتحدث فيه القرآن عن الجانب المادي دون أن يذكر موضوع الروح، يعني الجانب المادي مع النفس، يعني الخلقي، الجانب الخلقي وليس جانب الأمر. جانب الأمر ليس موجوداً إذا تحدثت عن الإنسان. من هنا يقول بعض الناس لماذا يشن القرآن حملة على الإنسان، حملة شعواء؟ القرآن لا، هو يشن لك حملة شعواء أن تقف عن جانبك المادي الخلقي؛ لأنك ستكون في أرذل حالاتك، ستكون تشبه الأنعام؛ بل أضل كثيراً، القرآن يعرف أنك في كثير جداً من الحالات أو في كثير جداً من الوقت لا يعني الأثر الروحي يكون منخفضاً. فقال لك لما شرعنا الشرائع خففنا على الإنسان مراعاة لهذا الجانب المادي. هذا معناه خلق الإنسان ضعيفاً. بس إياك أن تظن أنك مع دخول الروح فيك ضعيف؛ بالعكس أنت أقوى المخلوقات على الإطلاق. إنما هنا الكلام عن الجانب المادي، الإنسان. قال (وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ). يقول لك أنا باتشتم، يعني أنا لا، هو يقول لك أنت إذا نحيت جانب الأمر الذي هو يعطيك التذكية فعلياً، ويعطيك السماء والارتفاع، ستكون ظلوماً كفاراً.. (وهذا الذي يقع عند الكثير من الناس لما يتخلى عن مجموعة من النظم القيمية في أي مجتمع) بالضبط؛ لما المجتمعات التي تحولت إلى ماديةـ أو المجموعات البشرية التي تحولت إلى مادية، أليست ظلومة وكفارة؟ أنت قُل لي يعني".
ما الظروف التي تدفع الإنسان إلى الطغيان؟
وأجاب أستاذ اللغة العربية عن سؤال "ما الظروف التي تدفع الإنسان إلى الطغيان؟"، قائلاً: "تمكُّن جميع الجوانب المادية؛ إذا تمكنت عند الإنسان وارتفعت أصبح فيها مستوى عالٍ، هذا يسمى غنى، لكن كله جانب مادي، إذا كان الإنسان بمعزل عن الروح يتحول هذا مباشرة.. وهو غنى وليس استغناء؛ الاستغناء أمر آخر، استغنى في اللسان أحياناً تطلق على السيرورة، تحول من شكل إلى آخر، ولكن هذه طريقة أعلى، أنت تقول (استشب الغلام) يعني صار شاباً، تحول إلى شاب. تقول مثلاً (استأسد القط) يعني تحول إلى حالة كأنه أسد، صار يعني.. هنا استغنى أيضاً من دلالتها ظن نفسه اغتنى؛ هو لم يغتني حقيقةً ولا يمكن، إنما حصل عنده الغرور، جعله يظن نفسه أنه اغتنى؛ لكن هو لم يغتنِ، لأنه الغنى الحقيقي ليس إلا لله. والله خلق البشر بعضهم مسخر لبعض وفي حاجة بعض. لكن هو ظن نفسه هكذا فطغى. هذا معنى الكلام، وهذا بمستواه الإنساني أيضاً، نكرر بمستواه..".
كيف أفعل الجانب الخيِّر من النفس؟
وأضاف د.يوسف أبو عواد: " (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ) أيضاً نفهم الآن (ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا) (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ)، هذا التنكر أنه لما تحتاج؛ سواء احتجت إلى رب العالمين لتدعوه أو احتجت الإنسان، فلما رأيت نفسك نجوت، تنكرت لمَن كان له عليك إحسان أو جميل، هذا صفة إنسانية. طيب، كيف منها؟ إذا لم تكن هناك التغذية الروحية التي تحصل بأمرين، لفت الناس دائماً إلى سُنن الله في الكون؛ لأن هذه هي رح الله في الكون. ثم لفتهم إلى أوامر أو شرائع الرسل والأنبياء في الكتب طبعاً.. الكتب الأصلية دون التشتيت الذي حصل، نشكل قاعدة كبرى، هكذا يعود الناس إلى الاتساق الطبيعي للإنسان، يتحول إلى مرحلة البشر التي سنذكرها لاحقاً. لاحظ (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ)، يعني اليأس، الكفر، القنوط، الإحباط، الاكتئاب، يقول لك والله عندي اكتئاب، ليه؟ هل تحتاج إلى حبات من الدواء؟ لن تزيل الاكتئاب، هذه ستسكن أثر الاكتئاب على الدماغ فقط. لكن إزالة الاكتئاب يجب أن تكون بارتقاء المستوى الروحي في الإنسان. تفعيل الدور الخيّر للنفس. كيف أفعل الجانب الخيِّر من النفس؟ بالعودة إلى الروح، قال (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ). طيب (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ)، اللحظة التي حمل الإنسانُ فيها الأمانة، هل كان فيها بشراً ولّا كان فيها إنساناً؟ في الحقيقة الجانب المادي هو الذي جعل الإنسان يوافق على فكرة حمل الأمانة؛ لذلك جاءت تكملة الآية (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)، لكن الله سبحانه وتعالى من باب العدل أيَّده بالروح؛ حتى يساعده في هذا الاختبار على أن يقطعه بنجاح، إنما لما تسمع أنه كان ظلوماً جهولاً بعد هذا يقصد أن الإنسان في لحظة موافقته على حمل الأمانة كان يغلب عليه الجانب المادي. طيب أنا حتى أنجو فأؤدي الأمانة على وجهها الصحيح. يجب أن أستعين بالجانب المعنوي؛ لأنه هو الإنقاذ للبشر. (وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ).. وهكذا".
الوصية وتنكر الولد لوالدَيه
وتابع أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "الآن سننتقل إلى الآيات التي تتحدث عن البشر؛ لكن قبل هذا ألفت في النهاية إلى أن الوصية التي وردت في القرآن الكريم بالوالدين، لم ترد مقرونة بالبشر، وردت مقرونة بكلمة إنسان، والناس كثيراً ما يتساءلون، فيقولون لماذا لم ترد الوصية من الوالدين بالأولاد؟ الوصية أو يعني حنو الوالدين على الأولاد يكفي فيه مسمى الإنسان لأن يحدث؛ لأنه هي سُنة خلقية طبيعية موجودة في كل الحيوانات؛ فلا تحتاج إلى أمر، لكن تنكر الولد لوالدَيه يكون موجوداً، وهو في مستوى الإنسانية؛ لأن الولد إذا كبر وقوي عوده.. وكذا، من السهل جداً أن ينسى معروفَ الوالدَين ورعايتهما في الصغر.. لكن يحدث مع الإنسان وهو فقط في مرحلة الإنسان. إذا ارتقى لا يحدث هذا معه؛ فلذلك أصر فقال ينبه أنت أصلاً إذا كان عندك تقصير في جانب الوالدَين، فأنت عندك مشكلة كبيرة جداً في الارتقاء بإنسانيتك إلى المستوى الروحاني. لذلك قرنت فقط بكلمة إنسان. أيضا قال (أَم لِلإِنسَٰنِ مَا تَمَنَّىٰ) (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ) أيضاً هذا التمني، (إِنَّ ٱلإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ ٱلخَيرُ مَنُوعًا).. هذا أيضاً من صفات الإنسان.. والآن سننتقل كما قُلنا إلى كلمة البشر".
كُن روحانياً لا إنسانياً
وقال أبو عواد رداً على "قبل الانتقال إلى البشر؛ بمعنى أنه ما هو سائد حالياً بين الناس أنه كُن إنسانياً يعني ديني الإنسانية، أنا تعاملي الإنساني يعني وكأنه مفهوم خاطئ؟": "طبعاً يجب أن يستبدل هذا بكُن روحانياً وليس كن إنسانياً، إنسانياً يعني ستقف عند حاجتك المادية، ستكرس المادية التي طغت على العالم في العصر الذي نعيش فيه، هذا مفهوم القرآن الكريم، يدقق على دقة المفاهيم. يعني لما يقول لك (لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا).. طيب الكلمتان فيهما تقارب طبعاً وليس تطابقاً، لكن ليه يركز على قضية اللفظ؟ اللفظ فيه إيحاء للعقل، إيحاء للمعنى، تقول لي كن إنسانياً حتى لو ما أنا أقصد معنى آخر لا هو المعنى الذي سينغرث بطريقة لا واعية، أنه ركز على حاجاتك الذاتية، وهذا الذي يحصل الآن في النهاية".
"ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ".. البشر في القرآن الكريم
وأضاف أستاذ اللغة العربية: "تخيل أن استبدلنا بهذه الكلمة، كلمة روحاني. هل يكون لها أثر في العقل الباطني للإنسان وفي بناء شخصيته أحسن من كلمة الإنسان، ولَّا لا إذا أخذ الكلمة القرآنية كما هي؟ طيب البشر في القرآن الكريم؛ أولاً ذكر التراب مع البشر. (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ). طيب قد يقول قائل لماذا لم يذكر التراب مع الإنسان؟ مع أنه هو يتحدث عن الجانب المادي؛ ولكن ذكر مع البشر فقط. في الحقيقة التراب بما أنه البداية الأولى لتشكل خلق الإنسان؛ فكأنه يوحي أنه الصفاء الأول الذي وجد الإنسان أو كان ينبغي أن يكون الإنسان بناء عليه، هو مرتبط بالأخيرة له بالبشرية ما يدخل في الوسط، هي المرحلة الحيوانية للإنسان، عزلها عن قضية التراب كأنه يريد أن يربطك بنشأتك الأولى. فيقول (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)، كلما رجعت أبعدت نفسك عن أكبر قدر من التلويث، رجعت إلى طبيعتك البشرية.. (وإذ قال ربك للملائكة)، طبعاً يذكر الجانب المادي، لأنه البشر نحن قُلنا هو مش أنه مش إنسان، هو إنسان؛ ولكن إضافة فيه إضافة. ولذلك يقول إني خالق بشراً من طين وخالق بشراً من صلصال، فممكن ناس يقول لي هيَّ نفس الكلمات، قرنت بالبشر طيب، هذا وجه تشابه. ونحن لم نقل إن البشر ليس إنساناً، هو إنسان وزيادة، فالجانب المادي موجود في البشر".
البشر.. تزاوج النفس مع الجسد بوجود الروح
وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "يعني الإنسان هو يعني تزاوج النفس مع الجسد، والبشر هو تزاوج النفس مع الجسد بوجود الروح؟"، قائلاً: "بالضبط، هذا يسمى بشراً، ما الذي يثبت؟ يعني مجرد فلسفة؟ لا. سنذكر ما يثبت ذلك؛ لكن قبل هذا هناك لفتة مهمة؛ وهو الذي جعل من الماء بشراً (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا). التحليل اللساني لكلمتَي نسب وصهر الآن، النسب كما قُلنا في موضوع السلالة، هو ما يكون متصلاً بما تولد أو أُخذ منه، هذا يُسمى نسباً كنسبة كذا إلى كذا. أما الصهر فنحن نعرف الصهر، الصهر للمعادن مثلاً هو أنك تذيبها، فلو كانت مكونةً من أكثر من مكون يختلط وعاء واحد. فقد يقول قائل لا ما هو المعنى واضح أن البشر إما نسب ابن لأبيه وإما صهر اللي هو التزاوج. بس هو يقول لك (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ) مش فجعلهم. طيب الضمير جعله جاء ملاصقاً لكلمة بشر؛ لكن إفراد الضمير يشعرك بأنه في الأصل يعود على كلمة ماء. طبعاً سيعود على بشر ضمناً؛ بس هو أنه نسب وصهر معروف للمتكلمين. هل الماء نفسه الذي ذكرناه هو نسب وصهر؟ خروج الحيوان المنوي من الرجل نسب. خروج البويضة من الأنثى نسب. تعالق الحيوان المنوي بالبويضة يسمى تصاهراً؛ لأنه ينصهر فتتشكل النطفة الأمشاج. طيب، إفراد الضمير عوضاً عن أن يقول هو الذي جعل من الماء بشراً، هو الذي خلق من الماء بشراً فجعلهم؛ أليس يجعل لك الآية صالحة، لأن تخاطب بها أربعة عشر قرناً مما كان يعرف من النسب والصهر بالشكل العادي. لكن يمتد بك في المفهوم ليتوافق مع كل ما اكتشف في هذا الموضوع، هذا هو الامتداد المفهومي للكلمات وَفق فهمها باللسان العربي المبين، وهذا أثرها على فهم النص القرآني..".
وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ
وتابع أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "(قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ). الآن هي تتحدث عن مماسة البشر؛ هذا طبعاً فيه إيحاء بفكرة مهمة جداً، وهي أن البشر فيه محدودية يعني لا تفهم من البشر أنه حتى لو اقتنع فيك الروح أنه قدرتك نهائية، لأنه هي تقول إنه لن يحصل حتى يمسني بشر، ولم يمسسني بشر، أنَّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر؟ فـ(قال كذلك الله يخلق ما يشاء). وما يؤكد هذه المحدودية، قالت أنَّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر؟ (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)، يعني كأنه يقول البشر في النهاية هو محدود وليس شيئاً لا نهائياً وشيئاً محدوداً. لذلك لن يكون خالداً (أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)؛ لكن ما يدل قطعاً على أن البشر فيه مستوى الروح.. لاحظ (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ). إذن ذكر فكرة الوحي وفكرة أن يكلم الله البشر ويرسل رسولاً، قرنها بكلمة بشر ولّا إنسان؟ مستحيل وَفق تناسق واتفاق النص القرآني أن تذكر كلمة إنسان مع هذا المستوى الراقي من الوجود الإنساني الذي هو مستوى البشر. وأيضاً قال (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ)، فيتكلم الآن عن البشر بعد إيتاء الكتاب وبعد إيتاء الحكمة وبعد إيتاء النبوة، هذه مرحلة بشرية وليست مرحلة إنسانية".
"فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا".. القضية في عملية التفعيل
واستكمل أبو عواد: "وقال (فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)؛ لاحظ الآية تقول لك انتبه، الروح الآن مقترنة مع فكرة بشر تمثل لها بشراً؛ لأن الموضوع فيه موضوع روح، طيب.. (قَالَت إِنِّي أَعُوذُ بِٱلرَّحمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ).
طيب، كيف كان الوهب؟ عن طريق فنفخنا فيها ونفخنا فيه، ورد في بعض اللفظ أي (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا)، فكانت القضية إذن عن طريق عملية التفعيل. تساؤل جميل؛ لكن القرآن يزيله. هذا الجميل لأنه يرد أصلاً بأذهان المتابعين والمتابعات الكرام. إنما القرآن يسد هذا الباب؛ لأن هذا الباب أنت تعرف عنه مشكلة كبيرة جداً بعد ذلك، في يعني تأليه عيسى، عليه السلام، فلا بد أن يكون هذا الباب مسدوداً، كيف حصل؟ أنه هل حصل أنه لما تمثل لها بشراً مسها كما كان يمكن أن يمسها بشر عادي؟ ولَّا حصل الأمر بالنفخ؟ لا هو حصل الأمر بالنفخ. والنفخ طبعاً، كما قُلنا، هو ليس شيئاً مادياً، وإنما هو شيء غير مادي, طيب قُلنا إن قدرة البشر محدودة، لما تحدث القرآن عن الإنذار بالقرآن، ماذا قال؟ نذيراً للبشر. ولما أنكروا القرآن قالوا إن هذا إلا قول البشر. طب قالوا، (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)، يريدون أن يقولوا إن فكرة القرآن محدودة، لأننا نعلم ليس لأن القرآن منتج بشري، إنما نحن نعلم أنه يعلمه بشر، فرد عليهم وهذا الرد مهم، وله علاقة كبيرة بالمفهوم الذي نحن نتبناه، قال (لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ). ما معنى هذا؟ لأن هذا يربط بين اللسان العربي والبشر في آية واحدة. هذا معناه أن اللسان الذي ستتدبره وتتأمله في القرآن إذا سرت معه ستعرف قطعاً أنه فوق مستوى البشر؛ لأن مستوى البشر محدود كما قُلنا، (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ)، ولما قالوا إن هذا إلا قول البشر، يعني هو شيء يصدر عن محدود. بعدين عرفوا أنه لا فيه شيء غير معقول، فقالوا يعلمه بشر. فقال الله رداً عليهم (لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ)؛ معناها اللسان العربي المبين، إذا سرت معه فككته، فهمت آليته، حللت الكلمات، سرت معها وَفق مستوياتها وتدبرت القرآن الذي جاء بها، ستدرك أنه فوق مستوى وقدرة البشر".
لم يمدح الإنسان في القرآن ولا في آية واحدة.. عكس البشر
وأضاف د.يوسف أبو عواد: "بهذه الطريقة نستنتج أنه المرحلة البشرية مرحلة أعلى من المرحلة الإنسانية، بالضبط؛ لأنه هي مرحلة.. وبالتالي وصف إنسان بالإنسان وكأنك أنت تذمه، أما أن تصفه بالبشر وكأنك أنت تعلي من مقامه.. وطبعاً حسب اللسان القرآني واللسان العربي الموجود في القرآن. لما تقول الإنسان؛ إنسان معناها تقول له أنت يعني تعيش فقط لأجل حياة بهيمية مثلاً.. لم يمدح الإنسان في القرآن الكريم ولا في آية واحدة، إما أن يكون الكلام عن الجانب المادي وإما يكون فيه صفة من صفات الذم. أما (البشر) فاقترن موضوعه بالروح، ففيه مدح، ولما ذكرت النبوة ذكرت مقترنةً بالبشر، مع ذلك ذكرت محدوديته. لذلك لما قالوا للرسول، عليه الصلاة والسلام، (وَقَالُواْ لَن نُّؤمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرضِ يَنبُوعًا أَو تَكُونَ لَكَ جَنَّة مِّن نَّخِيل وَعِنَب فَتُفَجِّرَ ٱلأَنهَٰرَ خِلَٰلَهَا تَفجِيرًا أَو تُسقِطَ ٱلسَّمَاءَ كَمَا زَعَمتَ عَلَينَا كِسَفًا أَو تَأتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلمَلَٰئِكَةِ قَبِيلًا أَو يَكُونَ لَكَ بَيت مِّن زُخرُفٍ أَو تَرقَىٰ فِي ٱلسَّمَاءِ وَلَن نُّؤمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَينَا كِتَٰبًا نَّقرَؤُهُۥ). ماذا قال؟ (قُل سُبحَانَ رَبِّي هَل كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا)؛ لأنه فكرة أنه الرسل بشر كانت حجة استخدمها الأقوام كثيراً في رد دعوة الرسل. قالوا مثلاً عن موسى وفرعون (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ)، يعني بشر ليه أنا يعلمه بشر أيضاً، (وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ). (قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا). لكن هنا لفتة لما قال يعني أعداء الرسل قالوا لهم إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا. ماذا كانت إجابة الرسل؟ (إِن نَّحنُ إِلَّا بَشَر مِّثلُكُم وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ). هذه الجملة لم تأتِ عبثاً؛ هذه تعيدنا إلى ما ذكرته قبل قليل من موضوع الارتقاء الإنساني الذي يصل إلى أعلى مراحل البشر، فيصير مهيئاً لتلقي الروح. نعم هو لم يتلقَّ وحيَ الأنبياء، نحن نعرف؛ لكن يتلقى ما يكون به تغيير نحو الأحسن، نحو إعمار الأرض، نحو إصلاح البشرية، الناس يظنون أن الرسل خلقهم الله، هو خلقهم مجهز ليكون رسولاً. طب ما هو الرسول محاسب، هو مثلك محاسب".
معنى "اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا"
وتابع أستاذ اللغة العربية: "بعدين القرآن قال لك (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا). إذن الرسالة هي أصلاً جاءت لأن هذا الرسول وصل إلى مرحلة عالية من الاستجابة لروح الله التي نفخت فيه، فصار مستحقاً لأن يتجلى على روح أخرى بها صلاح الناس. فلذلك قالوا (إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ). طبعاً قد يقول قائل لا ما هي الموضوع لكن الله يمن على مَن يشاء من عباده. هذا سنشير إليه في حلقات لاحقة عن الهداية والإضلال، كيف أن هذا المقصود منه فعلاً، الأمر يبدأ بفعل العبد نفسه، فيأتي فعل الله مترتباً على فعل العبد، حسب اختيار العبد. يأتي المن بناء على ما اختار العبد، وحتى كلمة عباد، (على مَن يشاء مِن عباده)، يدل على الانسياق والانسياب في موضوع العبودية التي تتمثل بالتماهي التام، والاستسلام المطلق لسنن الله في كونه، ولمنظومة الأخلاق التي وجدت في الفطرة البشرية الأولى".
وأضاف د.يوسف أبو عواد: "فهذه كانت طريقة الرسل، يعني قالوا لهم ليس مطلوب أصلاً أن يكون الرسول غير بشري؛ لأنه (قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا). بالعكس يجب أن يكون الرسول من الجنس نفسه؛ حتى تكون أفعاله تكرس الأقوال بها من خلال الرسالة، فيثبت للناس أنه أنا بشر مثلكم، وهذه الرسالة التي أحملها، وها أنا أول مَن أطبقها.
وبالمناسبة هذا هو مختصر أصلاً الهدي النبوي، يعني إن صح التعبير، أو السنة أو الحكمة التي ذكرت في آيات القرآن الكريم. ما الحكمة؟ لأنه يقولون لنا الحكمة هي يعني إحكام الشيء، وضعه مطابقاً للموضوع عليه. تمام هذه أصلاً معنى الحكمة، فلما يقول لك إن الرسول آتيناه الكتاب والحكمة، أنه الكتاب الذي يبلغه للناس أفعاله، هي كتاب فقط، وكل رحلة بحث علماء الحديث في الروايات الذي يمكن أن نخرج به مجمعاً عليه متفقاً عليه، الأحاديث والمرويات، ما هو دون ما ندخل في الاختلافات والتشتت، هو القرآن نفسه. يعني لو أردت أن أريح نفسي من رحلة البحث والاختلافات الكبيرة جداً، المعاني المتواترة كلها التي ثبت قطعاً بكثرة الروايات وأنها متواترة هي نص القرآن. لكن أنت إذا بدأت من النص سيكون لك الميزان القويم جداً الذي به ترى وتنظر وتحكم في الأشياء. فإذن هم أعطوا الأنبياء؛ أعطوا هذا لأنه عندهم يعني علو؛ لذلك استحقوا هذه المنة".
نحن أبناء الله ونحن الشعب المختار.. ادعاء كاذب
واختتم أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "فيه آية مهمة نختم بها وهي في غاية الأهمية. (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ)، لماذا؟ أنا أُصر في الحقيقة أن تكون هذه الخاتمة؛ لأن ما ذكرناه من السمو البشري الذي ينبغي للإنسان أن يسعى إليه لا يجوز أن يورث الإنسان فكر أنني أنا متميز عن غيري، وبالتالي مثلاً يحول هذا إلى تجارة، يأخذ ما في جيوب الناس، يتاجر بالدين، يتاجر بأنه منتسب أو أقرب أو أحب إلى الله أو أعلم بالله أو كذا، يتحول الأمر إلى تجارة وجمع أموال واستغلال لعوام الناس، وكذا.. كما يحصل كثيراً من تجار الدين، فقال لهم (بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ). إذن في تعامل البشر بعضهم مع بعض كلهم واحد، ولذلك لما كان الرسل يأتون إلى الناس يقولون لهم لا أسألكم عليه أجراً، لا أسألكم عليه مالاً، مع أنهم وصلوا إلى أعلى درجات السمو (يعني هذه آية تكذب الادعاء الكاذب أنه نحن أبناء الله، نحن الشعب المختار، نحن كذا، نحن...) هذه تقضي على كل الأشكال العنصرية التي يقوم بها إنسان لا بشر؛ البشر إذا وصل إلى مرحلة البشر لن يكون عنده أي شكل من أشكال العنصرية".