ناقشَ د.يوسف أبو عواد، أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، خلال لقائه د.باسم الجمل، عبر برنامج "مفاهيم"، مفاهيم مهمة يحتاج الناس إلى إلقاء الضوء عليها لسانياً، كمفهوم الله والرب والربوبية والعبادات؛ فهذه المفاهيم ما زال الناس يحسون أنهم في حيرة منها، وما المقصود لسانياً بلفظ الجلالة "الله" في القرآن مثلاً؟
مركزية كلمة (لا إله إلا الله) في القرآن الكريم
وقال د.يوسف أبو عواد، أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "في الحقيقة حتى نصل إلى التفسير اللساني للفظ الجلالة الله؛ لا بد أولاً أن نبدأ من مركزية كلمة (لا إله إلا الله) في القرآن الكريم. بمعنى هل كلمة لا إله إلا الله فعلاً في القرآن فكرة مركزية، وبناء عليها أعتبر أنه سينقسم الناس بناء عليها إلى طوائف؛ منها ما تستحق الثواب، ومنها ما تستحق العقاب، فإذا كان الأمر كذلك فهذا يستدعي بالضرورة الحتمية أن نفكك مفهوم كلمة الإله، ومفهوم أيضاً لفظ الجلالة (الله)؛ لذلك يعني نحن نجد أن القرآن الكريم ركز على فكرة لا إله إلا الله، فقال مثلاً (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ). يعني تقابل الكلمة بالاستكبار؛ كأنهم مصرون على فكرة الآلهة الأخرى أو متكبرون.. الفكرة التي لديهم مسبقاً وهي فكرة الإيمان بآلهة أخرى. في أسلوب أمر مباشر موجه لصاحب الرسالة، قال (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ). وهذا، فاعلم أنه، فيه أسلوب أمر وأسلوب تأكيد؛ معناها ستكون قضية مركزية جداً".
لا إله إلا الله.. فكرة مشتركة بين الكتب السماوية
وأضاف د.يوسف أبو عواد: "أيضاً في سورة آل عمران، ونحن نعلم أن سورة آل عمران من الدراسة النصية اللسانية التي نتتبع فيها سياق السورة وسياق الآيات، فيها محاورة كبيرة جداً مع أهل الكتاب. نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى، صدر السورة بقوله (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ). ثم بعد ذلك لما ذكر الكتب يعني حتى يشير إلى أنها هذه فكرة لا إله إلا الله فكرة مشتركة بين الكتب السماوية، قال (نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّورَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ مِن قَبلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلۡفُرقَانَ) إلى أن قال (يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ).
شَهِدَ اللَّهُ.. ما معنى أن يشهد إله لنفسه بأنه لا إله إلا هو؟
وتابع أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "بالمناسبة هذه السورة أيضاً، سورة آل عمران، هي التي ذكر فيها قوله (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ). وسيكون لنا وقفة مطولة مع قوله (شهد الله)؛ يعني ما القيمة المنطقية أصلاً لمثل هذه الشهادة؟ يعني قد يقول لك ما معنى أن يشهد إله لنفسه بأنه لا إله الا هو؟ يعني أين القيمة المنطقية الموجودة في هذه الشهادة، فكرة أو فهم هذه الفكرة سينبني على تحليل مفهوم كلمة رب، ومفهوم كلمة الله، ومفهوم كلمة إله، وهذا ما سنصل إليه، يعني نتفق مبدئياً أن فكرة لا إله إلا الله فكرة مركزية في النص القرآني، وأن القرآن الكريم ذكرها بشكل واضح تماماً".
وقال د.يوسف أبو عواد رداً على "قبل ما نبدأ بالتفسير، يعني أنت ذكرت أن التركيز على مركزية لا إله إلا الله، صيغت أو قيلت في مواجهة أهل الكتاب": "قيلت في المحاورات مع أهل الكتاب، كما قيلت أيضاً في محاورات النبي، عليه الصلاة والسلام، مع المشركين".
انحراف عن المعنى انعكس سلوكياً
وأجاب أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، عن سؤال "هل يعني أن أهل الكتاب لم يكن عندهم وضوح لمركزية لا إله إلا الله، مثلاً، رغم أنه أنزل عليهم كتباً أو أوتوا كتباً؟"، قائلاً: "هي ستكون بالضرورة قد وضحت في الكتب؛ ولكن من الواضح أنه حصل انحراف عن المعنى؛ عن معنى لا إله إلا الله، هذا الانحراف انعكس سلوكياً. سنثبت هذا أيضاً بالتفصيل. لكن أنا سأزيدك من الشعر أبياتاً؛ لاحظ أن مثلاً في سورة الأعراف هناك تسلسل في ذكر الأنبياء (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، الآن هذه الجملة لم تكن فقط موجهة من نوح إلى قومه، وإنما لما أكمل وإلى عاد، طبعاً تقدير الكلام هو ..قال (لقد أرسلنا نوحاً). (وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا)؛ أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً، ماذا قال؟ (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ)، (وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا). ماذا قال؟ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. (وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ). هذا الأمر تكرر أيضاً في سورة هود. هذه الآيات تلح إلحاحاً بالغاً أن كل نبي كان أساس دعوته التي جاء بها حين يخاطب قومه إنه يقول لهم لا إله غيره، اعبدوا الله ما لكم من إله غيره".
أهمية التحليل المفاهيمي لكلمات "الإله" و"الرب" و"الله"
وأضاف د.يوسف أبو عواد: "إذن هي فكرة مركزية في جميع الأديان وفي جميع دعوات الرسل وفي مخاطبة أهل الكتاب وفي مخاطبة النبي محمد للعرب؛ مشركيهم وغير مشركيهم، هي فكرة مركزية، ومن هنا ظهرت أهمية التحليل المفاهيمي لكلمة الإله وكلمة الرب وكلمة الله؛ حتى نرجع بعد ذلك لنفهم هذه الآية (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ)؛ كيف تدل دلالة منطقية فعلاً على أنه لا إله إلا هو؟".
وتابع أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، رداً على "هذا يعني أن الأمم السابقة التي يعني أرسل إليها الأنبياء لتحديد أو دفعهم للإيمان بإله واحد؛ لأنها كانت بتعدد، يعني كانت هناك آلهات كثيرة متعددة يؤمن بها الإنسان، وكان يصعب على الإنسان هناك يؤمن بإله واحد، يعني مركزية الوحدة الإلهية كانت مهمة مثلاً في حياة الناس لهذه الدرجة أنه يصير تدخل إلهي لتحديد الوحدانية والإله": "طيب لنفهم هذا، نلاحظ نحن في ذكر القرآن الكريم لقصة موسى وفرعون، لم يذكر مثلاً لم يقل وإلى قوم فرعون، موسى، أن قال اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، لم يأتِ السياق بهذه الطريقة.. جاء السياق بطريقة محاورة حصلت فقال فرعون لموسى (وَمَا رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنۡ حَوۡلَهُ أَلَا تَسۡتَمِعُونَ). إلى أن (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)؛ معناها نحن وصلنا في عهد فرعون إلى أن رجلاً عادياً رآه الناس قد ولد، ويعلمون أنه سيموت. (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)؛ بل وواجه بهذا الملأ فقال (يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، والناس سكوت، ولذلك قالت آية أخرى عنه في سورة الزخرف (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ)، إذن هنا فيه نوع من الاستخفاف بالعقول؛ لدرجة وصلت إلى أن بشراً عادياً يزعم لنفسه أنه إله، وليس فقط انحرافاً إلى آلهة مجسدة أو غيرها من الأفكار التي سنذكر تفاصيلها الدقيقة، هذه مرحلة فيها تبجح شديد واستخفاف كبير، وحتى العقول وصلت إلى الحضيض، يعني فعلياً وصلت إلى الحضيض، فاحتاج الأمر قطعاً إلى أن يتم تعديل هذا الانحراف السلوكي في مسيرة حياة البشر..".
تفسير معنى كلمة الرب
وأضاف د.يوسف أبو عواد: "فمن هنا يمكننا أن ننطلق إلى تفسير معنى كلمة الرب أولاً؛ لماذا؟ لأن هذا تدرج، سيفهم المتابعون سر هذا التدرج، كلمة رب أصلاً ترد في بداية القرآن الكريم في قوله تعالى (الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ). فهذه فيها أصلاً تعريف بأن الله هو رب العالمين. طيب، رب من ناحية لسانية، ما معنى كلمة رب؟ رب الشيء يعني في الأصل أنه تولد الشيء عنه، ثم أحاطه بالعناية والرعاية. لذلك نحن نجد من هذا المشتق أو هذا الجذر الثنائي تولد منه كلمة ربا، يعني ربا معناها نما، ومنه جاءت الربوة والرابية والربا أيضاً، ويُقال أنا أربأ بك عن هذا، ومعناها أرتفع وأرتقي بك عن هذا الأمر.
طيب لاحظ أيضاً كلمة (ربت) تُستخدم كثيراً في الفسحة ربتَ مثلاً على رأس اليتيم؛ بمعنى يعني أحاط يده برأس اليتيم حتى يشعره بالعناية واللطف والحنان.. هذه نقطة مهمة، طيب والربح أيضاً هو نمو، نوع من النمو. والربد هو المكان الذي يزرع فيثمر، ولذلك يسمى مربداً أيضاً، وكل ما تولد عن هذا الجذر الثنائي حتى كلمة الربط، وهو الربط أصلاً؛ تستخدم الربط أنت مع الخيل أو مع الدواب أو كذا، من باب نوع من الرعاية لهذه الخيل أو الدواب التي ترعاها؛ فكل ما يتولد عن هذا الجذر يدل على أن الرب هو الذي ينتج أو يخلق شيئاً ما ثم يتعهده بالرعاية؛ فهذا لو تتبعنا الكلمة بالمفهوم اللساني العربي الآن، لو تتبعناها في نص القرآن أو في نصوص القرآن، حتى نتأكد هل الفهم الذي فهمناه كرَّسه القرآن الكريم تكريساً حقيقياً وواقعياً، لاحظ عندما قال تعالى إن ربكم هذا إن معناها تعريف الآن إن ربكم سيعرف لك ما معنى كلمة رب (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النهار)، هذا تدبير خلق السماوات والأرض في ستة أيام، هذا خلق الآن، (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ)، حركة الأفلاك، هذا أيضاً تدبير".
أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ
وتابع أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "ثم قال لك موضحاً (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)؛ معناها كلمة الرب تشمل معنيَين اثنَين؛ المعنى الأول هو الخلق، والمعنى الثاني الأمر الذي به هذا الخلق، في آية أخرى قال (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ). في آية ثالثة يصرح حتى لا يشعر الناس أنهم خارج الموضوع، وأنه تكلم عن السماوات والأرض، فقال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، و(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا).. أيضاً (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم) في مطلع سورة النساء (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ)، ثم قال الحمد لله رب العالمين..
إذن الآن نحن نفهم أن كلمة رب معناها خالق الأمر في الكون وفي الوجود، وفي الخلق يشمل هذا جميع المخلوقات؛ لكن هنا وقفة مهمة جداً مع كلمة العالمين، لأن سورة الفاتحة الذي يتدبرها وَفق اللسان العربي المبين ويتعمق فيها، يجد أنها تختزل وتختصر جميع المعاني المذكورة في القرآن الكريم؛ فهو لما استخدم كلمة العالمين لاحظ اللفتة اللسانية العجيبة في كلمة العالمين. لما تذهب إلى كتب النحو يقولون لك العالمين ملحق بجمع المذكر السالم؛ يعني مثل معلم ومعلمون.. هذا معروف لعامة الناس؛ عالم وعالمين.. كلمة عالم ليست ذكراً عاقلاً، الأصل في اللسان العربي أن لا تجمع جمع مذكر سالم، لأن جمع المذكر السالم يختص أصلاً بالذكر العاقل، فيقال مثلاً: عارف عارفون، وزاهد زاهدون، ومتعلم متعلمون.. وهكذا. ما دلالة جمعها بهذه الطريقة جمع المذكر أو الإلحاق بجمع المذكر السالم؟ أولاً مفردها عالم".
التحليل اللساني المفهومي لكلمة "عالم"
واستكمل د.يوسف أبو عواد: "ما التحليل اللساني المفهومي لكلمة عالم؟ عالم ترجع إلى الأصل (علم). الأصل المحسوس لكلمة (علم). الأقدم الذي نعرفه في رصدنا للكلمات العربية هو الجبل العظيم. ولذلك كانوا يقولون عن الأمر المشهور (أشهر من نار على علم)، ثم أصبحت تطلق على العلم الذي يرفرف ويرمز للدولة أو غيرها، ثم أصبحت تطلق على العالم لسعة معلوماته كأنه جبل، ولشهرته بين الناس وهكذا، لكن كلمة عالم ليست علم، لاحظ إضافة الألف إلى الكلمة (عالم) معناها أنها أصبحت تشمل مجموعة كبيرة من الأشياء التي بينها ترابط تماماً كترابط أجزاء الجبل بعضها ببعض، فالعالم هو مجموعة من الأشياء المترابطة التي يربط بينها يعني رابط أصلي وأساسي، لكن هو لم يقل لك رب، قال لك رب العالمين، طب الآن في علم الفيزياء الحديث يقولون لك يحتمل أن يكون هناك ما يُسمى تعدد الأكوان؛ وهذا يعني، بعضهم يقول إنه اقترب أن يكون مرحلة نظرية. لكن لِمَ؟ هل كلمة العالمين لو كان هذا، هل إضافة القرآن لرب العالمين ستشمل إضافته لرب هذه العوالم التي ستكتشف ويبقى هذا يعني يبقى نسبة القرآن لرب العالمين شاملة وجود هذه الكلمة يدل على أنها ستشمل جميع العوالم؛ لكن سنرجع فنقول لماذا جمعها جمع مذكر سالم؟ لأن أرقى عالم من العوالم التي نعرفها، هو عالم البشر وأكثر من تجبر وسيطر وأنشأ الحروب وعاند وتجبر هم البشر عبر التاريخ، ذكور البشر، هذا حقيقة عبر التاريخ.. الذي تسبب في المآسي والقتل والتجبر والتسلط والاستضعاف والإهانة هم ذكور البشر، فحتى لا يظن ذكور البشر أنهم ليسوا مشمولين بهذه الربوبية، جاء بالصيغة التي هي في الأصل تخصهم وإن كانت قد ضمت غيرهم. هذا بُعد لساني عربي للكلمة. كيف يمكن لك أن تأتي ببديل لها في أي لسان من ألسنة العالم اليوم؟ طيب هذا موضوع الرب. الآن إذا أردنا أن نذهب إلى تفسير كلمة إله وَفق نفس هذه المنهجية؛ منهجية اللسان العربي المبين..".
ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ.. يقصد الملك لا الرب
وقال أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، رداً على "فيه داخل النص تتكرر لفظة الرب؛ رب البيت، رب العمل، وفيه تخصيصات أنه لا توحي، وكان هو الرب هو الله، كيف يتم التعامل معها لسانياً؟": "هل هو كما قُلنا إذا فهمنا أنه أصل كلمة رب؛ هو الذي أنشأ شيئاً ثم دبره، فلا بأس في استخدامها بخصوص معين؛ بالإضافة معناها ستضع مضافاً إليه يحدد ما الذي تقصده. لذلك نحن حتى في سورة يوسف، (قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) كان يقصد الملك ولم يقصد الرب؛ يعني هو يقصد الملك الذي يربيه فيرعاه ويرعى شؤونه. ولذلك لا حرج في استخدام هذه الكلمة مع إضافتها إلى البيت أو الأسرة أو غير ذلك.
والمفهوم اللساني للكلمة يتسع أن تضاف إلى هذا؛ لكن مثلاً في سورة قريش لما نجد (فَليعبدوا رب هذا البيت)، يعني هو هنا خصص لأنه يريد أن يشير إشارة إلى أن هذا البيت الذي أتاكم منه الأمن من الخوف والشبع من الجوع؛ حيث وجدتم الطعام هذا ليس بجهدكم أنتم ولا مثلاً يعني حداقتكم؛ إنما هو بتدبير رب العالمين، يعني هذا أراد أن يلفتهم إلى قضية خاصة هنا".
وله.. إله.. ولع
وأضاف د.يوسف أبو عواد: "الآن أفضل سياق يمكن لنا أن نتتبعه لفهم كلمة الإله هو سياق ورد في سورة النمل؛ ولكن قبل أن أذهب إليه سنعرج على نشأة الكلمة أيضاً في اللسان العربي المبين. كلمة أله الشيء؛ يقولون هم في المعاجم بشكل مباشر معناها عبده. وهناك لفتة عند بعض اللسانيين العرب أن الهمزة هذه في الأصل هي واو. وطبعاً الهمزة لها قضية كبيرة في اللسان العربي؛ لأن قبيلة قريش لم تكن أصلاً تهمز. الهمز لم يكن موجوداً عندهم، هو دائماً ما يرجع إلى أحد حروف العلة المعروفة. يبدو أن هناك تعالقاً بين كلمة وله وإله، والوله هو التعلق بالشيء؛ لدرجة لا يمكنك الانفكاك عنه. ولذلك ربطوه أحياناً في بعض المعاني المتقدمة في الشعر بنوع من الجنون، يعني الحب الذي يصل إلى درجة الجنون، الوله يعني؛ يُقال حتى في العاميات (ولهان) في كذا، معناه متعلق فيه تعلقاً شديداً. طب والكلمات ماذا يعني هذا الجذر (الواو واللام)؟ هل تولد عنه أيضاً أشياء لها علاقة بالموضوع؟ كلمة (ولع) نحن أيضاً من الاستخدامات الشائعة خاصة في اللهجة التونسية؛ أنا مولع بكذا؛ معناها مولع به، يعني متعلق فيه تعلقاً شديداً.
طب أيضاً كلمة ولي، ما معنى ولي الشيء؟ تبعه، مش تقول أجب عن السؤال التالي. الأصل اللغوي لأن لها ولي، ولي يلي، معناها إيش؟ ثم تولد عنه، والواو أحياناً تتحول إلى تاء.. كثير من الكلمات في اللسان العربي. يعني مثل وصل واتصل، فمن السهل تحول الواو إلى تاء في التقلبات. فولي معناها تبع الشيء وخضع له؛ يعني صار يسير معه حيثما سار".
كلمة الإله.. التعلق بالشيء والتوجه له حيثما توجَّه
وتابع أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "إذن سنفهم أن كلمة الإله، معنى الإله أنك تتعلق بشيء فتتوجه له حيثما توجه. يعني أشار لك إلى اليمين ستذهب إلى اليمين بتسليم مطلق؛ ستصل إلى درجة أنك لا تفكر خلاص أنت حصلت أو وصلت إلى مرحلة الثقة المطلقة بهذا الذي أنت موله فيه أو متوله، فأنت تتبعه حيثما أشار لك. هذا هو أصل كلمة إله في اللسان العربي.
طيب لنذهب إلى سياق النص القرآني، لنرى هل يؤكد هذا المعنى أو لا يؤكده، في سورة النمل قال (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ)، الآن ماذا؟ قال (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُوونَ). لاحظ ماذا ذكر؟ خلق السماوات والأرض وإنشاء الحدائق ذات البهجة. ثم قال لهم بعد هذا، أتجعلون إلهاً مع الله؟ بل هم قوم يعدلون، معناها العدل هنا أن تجعل الله مساوياً لغيره.. مع أن غيره لا يساويه طبعاً. هنا فيه سؤال منطقي مُلح جداً يقول لك طب ما هو هذه أنت لما تقول إن خلق السماوات والأرض، وأنبت لكم حدائق ذات بهجة.. وإلى آخره؛ أنت تقول إن الله هو فعل ذلك، هذه دعوة النص، لم يقدم إثباتاً على هذه الدعوة حتى يقول بعد ذلك أإله مع الله..".
الكون يشير إلى خالق.. والقرآن يقول الخالق هو رب العالمين
وأضاف د.يوسف أبو عواد: "الآن من الكلام الذي ذكرناه سابقاً نحن أصلاً فهمنا أن رب العالمين هو ما أطلق عليه في القرآن الكريم مسمى لفظ الجلالة الله؛ فحيثما رأيت كلمة الله فإن التعريف المباشر لها أنه رب العالمين. وهذا ما بدأت به سورة الفاتحة. بسم الله الرحمن الرحيم، ستقول مَن هو الله؟ يقول لك في الآية التالية مباشرةً (الحمد لله رب العالمين)، فالآن يقول لك هذا الخلق كله منسوب إلى رب العالمين، إن كان هناك أحد آخر له دور في هذا الخلق أو رب غير الله الذي تسمى باسم الله، فليظهر نفسه، أين هو؟
طيب، إن أحد اعتقد بوجود رب للعالمين؛ ولكن اختلف في التسمية، هذا لا يوجد مشكلة معه، في الأخير التسمية قضية اصطلاحية؛ لكن الكون يشير إلى خالق، والقرآن يقول لك الخالق هذا هو رب العالمين، هو الله، الآن أنت إذا جعلت إلهاً غير الذي خلق، هذه الفكرة المركزية الآن، هذه هي الفكرة المركزية. أنت تقر أن الإله الذي تعبده ليس هو الذي خلق، إذن لماذا تجعله إلهاً؟ هذا السؤال الذي تطرحه آيات سورة النمل، ولذلك يسير السياق فيقول (أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَححْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). وهل فعل ذلك؟ سيقولون هم لا لم يفعل هذا، (أَمَّن يُجِيبُ ٱلمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ ٱلسُّوءَ وَيَجعَلُكُم خُلَفَاءَ ٱلأَرضِ أَءِلَٰه مَّعَ ٱللَّهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهدِيكُم فِي ظُلُمَٰتِ ٱلبَرِّ وَٱلبَحرِ).. إلى آخر السياق. الذي يثبت لنا أنهم فعلاً لم يكونوا يعتقدون أن الآلهة هذه التي يعبدونها لها دور في الخلق والتدبير، هو آيات واضحة الدلالة؛ مثلاً في (يونس) (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ)، نفس المضامين التي ذكرناها في سورة النمل. ويخرج الميت من الحي، ومَن يدبر الأمر، راح إلى التدبير؛ فسيقولون الله. إذن ما عندهم مشكلة في إثبات الله رباً للعالمين، فقال لهم قل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال، لماذا تؤلهون غيره؟".
وأجاب أستاذ اللغة العربية عن سؤال "هل المدلول اللفظي هو مدلول وجد إنسانياً في الوقت الذي بدأ فيه العقل البشري يفكر في كيفية نشوء الكون، وبالتالي بدأ هذا المدلول اللفظي يشير إلى معبود؟ يعني كيف تشكل المعنى من اللفظ لسانياً حتى الوصول إلى أنه الوله هو الله، أن هناك شيئاً معبوداً يجب على العقل البشري أن يتبعه؟"، قائلاً: "نعم؛ بعض اللغويين العرب يقولون إن الله أعرف المعارف هكذا، ونحن نعرف أن أداة التعريف المستخدمة في اللسان العربي وغيره من الألسنة المشابهة هي الألف واللام؛ بأشكالها المختلفة، يعني حتى كلمة آيل أو إيل هي في الحقيقة تشبه أداة التعريف الموجودة في العربية، فكأن الإنسان لما شعر أن أعرف ما يعرف خالق الكون خالق السماوات والأرض، هذا شعر به بطريقة التفكير البديهي الطبيعي، كما كرس هذا ابن طفيل في قصته حي بن يقظان المعروفة".
تشكُّل معنى الإله الأصلي
وأضاف د.يوسف أبو عواد رداً على "متى بدأ الإنسان يطلق هذا اللفظ ليأخذ هذا المعنى الذي كان في الذهن، يعني تشكل المعنى في الذهن البشري ومن ثمَّ الإنسان قام بإطلاق اللفظ عليه؟": "نعم، تشكل المعنى، معنى الإله الأصلي كما قلنا، ينبغي أن يكون هو الذي خلق السماوات والأرض، وأنت لاحظ صوت الألف الذي يدل الامتداد المطلق، ثم لاحظ صوت اللام الذي يدل على الاتصال المطلق أيضاً، فيتكون لديك يعني الصوت الذي هو صوت الألف واللام، الذي يدل على الامتداد والاتصال اللا متناهي، وكأنه بهذين الصوتين الإنسان حين تولد من عقل.. هذان الصوتان يشيران إلى المعنى، معنى الألوهية الذي أراد أن يعبر عنه، لكن من ناحية تاريخية هذا طبعاً يحتاج إلى بحث تاريخي نعتمد فيه على النقوش وغيرها من المقارنة بين اللغات..".
تأليه المشركين لآلهتهم هو اتباع
وتابع أبو عواد: "هو تولد اللفظ أصلاً بنفس المعنى في الألسنة البشرية المختلفة يدل على أن تولد اللفظ فيه جانب فطري أصلاً مفطور عليه الإنسان، هذا المقصود، والكلمة الموجودة في القرآن الكريم، إله، الله، قريبة جداً؛ يعني التعديل الموجود فيها يمكن هو الهاء، الهاء التي يعني سكينة في نهاية الكلمة. لأ هي بالعكس هي تعطي نوعاً من الهدوء والراحة، حتى تزيل أي نوع من أنواع الخوف؛ ولذلك قال بسم الله الرحمن الرحيم. لاحظ كيف انتقل من الهاء، ليذكر لك الرحمة باسمين متتاليَين.
الآن قال في الآية التالية أيضاً (قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ)، هنا نقطة مهمة، (قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ)، الآن لاحظ ماذا قال؟ (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ)، إيه المهم في هذه الجملة؟ إنه يشرح لك أن تأليه المشركين لآلهتهم هو اتباع، وهذا يؤكد ما قلناه من أن إله الشيء يعني وليه، يعني تابعه على ما يقول، يوجهه يميناً فيتجه يميناً، يوجهه شمالاً فيتجه شمالاً، هذا سياق سورة يونس. ثم قال طبعاً (وَمَا يَتَّبِعُ أَكثَرُهُم إِلَّا ظَنًّا)؛ معناها هل بنوا اعتقادهم هذا في الآلهة على حقيقة، على سبب منطقي علمي، على رسالة من نبي، على آية منزلة؟ لا، (وَمَا يَتَّبِعُ أَكثَرُهُم إِلَّا ظَنًّا إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغنِي مِنَ ٱلحَقِّ شَيـًٔا)".
تأليه الآلهة لم يكن لاعتقاد بأنها خلقت السماوات والأرض
وأضاف أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "أيضاً في سياق آخر يقول (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ)، يعني هذا معناه أنه يسألهم بما هم مقرون به أن المسبب الأول لنفع الناس أو ضررهم أو رافع الضر عنهم هو الله، طب لماذا اصطنعتم آلهة غيره؟ وهذا سياق ولئن سألتهم مَن خلق السماوات والأرض وسخر الشمس، كثير في القرآن الكريم، كله يكون الجواب في نهايته فسيقولون الله.. إذن نحن نصل إلى نقطة جوهرية، أن تأليه الآلهة لم يكن لاعتقاد بأنها خلقت السماوات والأرض، إنما هناك فكرة تولدت وانقدحت في ذهن البشر جعلتهم يصطنعون الآلهة، ما الفكرة التي تولدت في أذهان البشر فجعلتهم يصطنعون الآلهة؟".
قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ.. ما المقصود بالحق؟
وأجاب أبو عواد عن سؤال "قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ.. ما المقصود بالحق؟ ماذا قصد بلفظة الحق، أن الله الذي يهدي إليه، حتى يقتنع فيه البشر أنه هو الله؟"، قائلاً: "الحق هو في الحقيقة سيكون ما يناسب العدالة من الناحية اللسانية، كلمة الحق ستدل قطعاً على كل ما فيه إعطاء، كل شيء ما هو مناسب وملائم له، يعني مطابقة الدال بالمدلول، مطابقة الشيء لما يستحقه أو لما هو مهيأ له، هذا معنى الحق؛ ولذلك يعني الملاءمة المطلقة، هذا هو الحق، وهذا المعنى الكبير للعدالة؛ ولذلك قالوا لك العدل لا يستلزم المساواة دائماً، لأنه العدل أن تضع كل شيء في ما يناسبه، والحق سيكون عكسه الظلم، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وضع الشيء في غير مكانه الملائم له، هذا انحراف عن الحق في كل شيء في الحياة؛ بس مش مقصور في فكرة العدالة مثلاً؛ ليس مقصوداً هو ملاءمة؛ يعني ملاءمة ومناسبة بين الشيء وما قرن به أو علق به..
الآن فيه آية تقول (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا)، وهناك آيات أخرى تقول (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ). هذا التضاد سيفهمك أن عكس الحق، الباطل. ما معنى أن يكون الشيء بطل، هل بطل الشيء إنه لم يوجد من الأصل ولا وجد، ولكن حصل فيه ما أدى إلى عدم إثماره، عدم إخراجه نتائجه؟ هذا معناه أن الشيء بطل؛ فمعناها الحق هو يدلك على كل شيء فيه إعمار، كل شيء فيه بناء، كل شيء فيه تطور وتقدم للبشر".
الرب هو الله.. ادرس وتأمَّل بنفسك وتدبَّر
وأضاف أبو عواد: "(يعني يمكن تطبيق هذا المفهوم على الكثير من الأنشطة البشرية أو الجهد البشري في عمل أي شيء يقوم فيه إذا كان هو يقوم بعمل وَفق نظم محددة، اللي هي حق ستقود إلى نتائج مرجوة وَفق النتائج المقدمة) قطعاً؛ ولكن سيقول لك قائل الآن هل معنى هذا يعني أنتم تزعمون أن كل ما هو موجود الآن في علم الكيمياء والفيزياء وكذا الذي أثبتت التجارب العملية والمخبرية والدراسات الاستقرائية أن له نتائج مفيدة على مستوى البشر وإعمار الكون، أن هذا يعني وجد في القرآن؟ سنقول مباشرة في الجواب على هذا، إذا أنت لم تفهم ما قُلناه سابقاً بما أن القرآن الكريم ربط الحق بالله، ثم قال لك إن الله هو رب العالمين. هو ماذا يحيلك إلى ماذا؟ لتصل إلى الحق.. يحيلك إلى أن تدرس قوانين الخلق نفسها.. من غير أن يكون قد تدخل فيها البشر أو حرفوا أو زيفوا أو أضافوا أو أنقصوا، ادرس الشيء على طبيعته الأصلية ستصل إلى سبيل الحق. هذا هو، الآن لا تسلم عقلك لأحد يدخل وسيطاً بينك وبين الله، أو بينك وبين خلق الله وسنن الله الموجودة في الكون؛ فيقنعك أن هذا كذا، أنت ادرس وتأمل بنفسك وتدبر؛ ستفهم مفهوم الرب، ستعرف أن الرب هو الله، الرب مرتبط بالعالم.
تريد أن تصل إلى الحق الآن؛ عليك أن تدرس كل شيء وَفق سننه الموجودة في الكون، على عهدها الأول. وإلا كيف عرف البشر كيف ينتجون الماء، لو لم يدرسوا الأمر بطريقته الأولى؟ كانت الخرافات كثيرة جداً ولكن اهتدى البشر لمَّا درسوا السُّنة الكونية بطريقة حيادية من غير تأثيرات مسبقة أو خزعبلات أو خرافات كانت منتشرة وأساطير، ربما تكون ناتجة عن بقايا الديانات الأولى التي أبعدت الناس كثيراً عن التحضر والتطور وتحقيق رسالة الاستعمار الأولى؛ مما يؤكد أيضاً أن معنى الإله الذي يتخذ من دون الله هو اتباع شيء غير هدى الله، الذي هو يظهر في سنن الله في الكون، أن الله جل جلاله، قال (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا)، السياق هذا في قمة العجب، لماذا؟ لأنه قال بعدها (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ). هو لم يوظف حاسة السمع التي أعطيها ولم يوظف العقل الذي وهب له وسار على شيء يقلد هواه، هذا الهوى قد يكون أحياناً الهوى.. ليس شرطاً أن يكون حباً شهوانياً أو غريزياً، قد يكون هوى دينياً، قد يكون هوى اتباع، له طائفة، قد يكون اتباعاً لحزب معين، قد يكون اتباعاً لأقوال من غير التأكد من صحتها.. يعني كثير من الناس يفهم فكرة معينة، مثلاً فكرة القدر أو فكرة الرزق، بطريقة خاطئة، يدفعه هذا إلى التكاسل والجلوس والقعود عن العمل والنشاط، الآن هو في الحقيقة اتبع هواه؛ لأنه لم يوظف سمعه وعقله في تتبع سُنة الكون، كيف يأتي الرزق مثلاً أو كيف يحصل حدث معين للإنسان، إنما وجد شيئاً مريحاً في منطقة الراحة كما يُقال، فسار وراءه، فاتخذ إلهه هواه، هذا سيجعله متخلفاً عن الركب البشري الذي أراد الله له أن يكون في قمة الإعمار والإصلاح في الأرض..".
أهمية دراسة الظواهر الكونية
واستكمل أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "لذلك لماذا أقول لك إنه عجيب؟ لما تكمل السياق، يتحدث السياق بعد ذلك عن ظواهر كونية، (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) يحثك على أن تذهب فتدرس ظاهرة الظل، ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً، (ثُمَّ قَبَضنَٰهُ إِلَينَا قَبضًا يَسِيرًا وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ لِبَاسًا وَٱلنَّومَ سُبَاتًا وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُورًا)، يعني يحثك أيضاً على أن تدرس ظاهرة الليل، ظاهرة النوم التي هي ظاهرة مؤثرة جداً في حياة الإنسان، الآن كثير من الناس عنده مشكلة مع النوم، هذه المشكلة مع النوم تولدت من أنه مقتنع أنه والله قلة النوم عادي مش شيء طبيعي جداً، ولكن لما تدرس ظاهرة النوم دراسة حقيقية ودراسة طبية محكمة ورصينة وَفق السُّنة الأولى التي خلق الله البشر عليها، ستتغير حياتك، نفسياتك، نشاطك في اليوم التالي، رأساً على عقب؛ لأنك رجعت إلى فكرة توحيد الله رباً، وأخذت ما ستتبعه من الله من سُنن الله مباشرةً من غير أن تجعل هناك وسيطاً يضحك عليك باسم الدين أو غيره من المسميات. فهذا السياق لما يذكر الآيات الكونية مباشرة بعد ذلك، ينبه إلى هذه القضية تنبيهاً بالغاً".
الذي يتبع الهوى يبيع نفسه
وقال د.يوسف أبو عواد رداً على "الذي يتبع الهوى وكأنه الذي يتنازل عن استخدام أدوات المعرفة الطبيعية في الحياة": "نعم؛ هو في الحقيقة يبيع نفسه من غير أن يشعر. وقد يكون يوقع نفسه في أسوأ مسميات العبودية يعني إن صحّ التعبير، يعبد نفسه لغيره. والله لا يريد لك أن تكون هناك واسطة بينك وبينه، حتى إذا قرأت عن جهد سبق. هذا سواء أكان في علوم الدين أم في غيرها من العلوم، عليك أن تفعل بصرك وسمعك وعقلك في ما تقرأ".
العجاج أو الغبار المعرفي
وأجاب أبو عواد عن سؤال "لماذا القراءات التراثية القديمة مثلاً لم تدخل إلى عمق المعاني أو عمق معاني الألفاظ المفهومية التي في النص؟ يعني هل أنه سوء استخدام اللسان مثلاً أو لم تكن آلية اللسان واضحة لهؤلاء الناس مثلاً أو أن قدراتهم المعرفية في هذا الوقت كانت تعطيهم هذا المستوى من الفهم؟"، قائلاً: "المشكلة عندما يكون هناك عجاج معرفي؛ معناها العجاج أو الغبار المعرفي الذي يحيط بجوهر المعرفة، سيشغلك عن المعرفة نفسها، فيجعلك لا ترى. الآن هناك فكرة نقلت تاريخياً أن الشرك هو أصنام وحجارة صنعت، وهذه الحجارة عبدت، وبالتالي لا تعبد الحجارة. وأصبح الموضوع فقط، التصوير حرام والتماثيل حرام.. لاحظ ماذا أخذوا من فكرة العبادة، وأصبح الذين يعني لا علاقة لهم بالأصنام يظن نفسه فعل كل شيء إذا هو أدى العبادات الطقوسية بأشكالها، أنه صلى وصام وحج.. وإلى آخره، يظن نفسه وصل إلى القمة وحقق كل ما يراد منه، لأنه الفكرة بس أنهم كانوا يركعون ويسجدون للأصنام، أنا أركع وأسجد لله، انتهى.. أنا مختلف وانتهى، بل أنا أزيدك من الشعر بيتاً؛ لما أنت تسمع مثلاً وترى فهم الناس لرواية تقول مَن قال لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق، الآن سيفهم هو الموضوع بطريقة أنه كلمة أقولها هم قالوا لم يستجيبوا، فلم يقولوا لا إله إلا الله. والله لو علم العرب أن القضية كلمة تُقال لأسعدوا بها رسول الله، وهو لن يسعد بها أصلاً حتى لو قالوها بالألسنة من غير أن يكون هناك في الحقيقة استجابة حقيقية لمعنى الكلمة الذي نشرحه الآن، من قال أخذ الفكرة إنه قلها 100 مرة وانتهى، غفرت ذنوبك، وصل من الصلاة إلى الصلاة، وعدد معين وحركات معينة.. وهكذا يعني كأنها لعبة أطفال.. تسخيف لعقول الناس واستخفاف بالله جل جلاله، وهذا حاشا الله سبحانه وتعالى أن يكون بهذه الطريقة، وهو رب العالمين ورب الكون، مستحيل، هذا مستحيل..".
أين الفهم الحقيقي؟
وأضاف أستاذ اللغة العربية: "ولذلك يقول لك لماذا الأمة الإسلامية فيها مشكلة؟ يا أخي مشكلة جذرية في التعاملات، يعني هناك فقدان للأمانة، هناك جشع، هناك تحادق الناس بعضهم على بعض في أن ينهب كل ما في جيب أخيه، لا يوجد هناك صدق في الكلام، لا يوجد هناك وفاء بالوعود، لا يوجد للشخص الآخر، ويقول لك المشكلة لماذا؟ طيب نحن عندنا الدين الذي ينبغي أن يكون يجعلنا فيه أعلى القمم، أي دين الذي عندنا؟ هل الدين الذي فهم من المنبع الأصلي في المنهج الحقيقي لفهم القرآن الكريم؟ ولَّا هو تدين وأفكار طرأت وانتشرت وعمَّت فأفسدت عوضاً عن أن ينبغي أن يكون النص مصلحاً، وهو كذلك؛ لكن أين النص من الناس؟ وأين الفهم الحقيقي؟".
أخلاقياً.. نُصَنَّف في آخر الأمم
وأجاب أبو عواد عن سؤال "لماذا لم يكن هناك فهم دقيق وواضح لمقاصد النص؟"، قائلاً: "وهل كان يدرس النص وَفق آلية اللسان العربي المبين بطريقة نقية ومنقحة؟ كان هناك ما يحيط به، يعني أنت عندك كتلة هائلة من الروايات التاريخية، تقرأ الروايات، ثم تذهب إلى النص، الآن هل ستنظر إلى النص بعين اللسان العربي ولَّا بعين ما قرأت؟ بعين الرواية، هذا سيحرفك قطعاً عن المعنى الأصلي للنص. وهذا ما حدث فعلاً.. وهذا ما أنتج ما أنتجه مما حصل أصلاً في تاريخ الأمة وفترة التحجر الفكري وفترة التقليد الأعمى وإغلاق باب الاجتهاد وتراجع الأمة من جميع النواحي، وصولاً إلى المرحلة التي نعيشها اليوم. يعني أخلاقياً للأسف نصنف في آخر الأمم. طب كيف؟ فيه خطأ، هناك خطأ ينبغي أن نبحث ما هو الخطأ؟ الخطأ أهملنا النص الأصلي، وإن تعلقنا به بطريقة ألفاظ، كلما تقرأ حرفاً لك عشر حسنات.. هكذا يصورون لك أن كل حرف بعشر حسنات، أنت تقرأ وكأنك تجمع حسنات.
وعقلك بعيد تماماً عن تأمل النص وفهم معانيه التي ستتحول إلى سلوك بعد ذلك، فهذه المشكلة التي حصلت للأمة، فأنتجت ما أنتجت الآن".
آيتان يتداخل فيهما معنى "إله" مع "رب"
وأضاف د.يوسف أبو عواد: "هناك فكرة من باب الأمانة العلمية، هناك آيتان يتداخل فيهما معنى كلمة إله مع معنى كلمة رب؛ لماذا؟ من وجهة نظري هذا من قمة البلاغة القرآنية، الآية الأولى (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) سيقول قائل ما أنت قُلت إنه الإله هو ما تتبعه وليست له علاقة بموضوع أنه خلق ورزق، هو اتباع لشيء تجعله وسطاً، فتترك سنة الله رب العالمين عوضاً عن ذلك. صحيح؛ ولكن هذا لا يعني أنه لا يمكن أن نطلق على الرب اسم الإله، بل هو الأجدر أصلاً أن يكون هو الإله، بل هو الإله الوحيد الذي لا إله غيره، هذا هو الصحيح، فلما يقول لك إذن لذهب كل إله بما خلق، هو يبني عقلك؛ أنه لا يمكن أن يكون إلهاً إذا لم يكن خلق؛ فلا يمكن أن تأخذ منه التعليمات إذا لم يكن هو منشئها، فربط لك الموضوعين بطريقة باهرة، وفي آية أخرى قال (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا). هنا أيضاً سُمي الاتباع ربوبية، وهذا تداخل بين المصطلحَين، لماذا؟ لأنه يقول لك قد يصل بك الأمر إن بدأت في اتباع غير الله وسيطاً بينك وبين الله، أن يسخف عقلك لدرجة تحل عليه صفات الرب، فتزعم أنه يتحكم في القانون، بل هو الذي يحدد القانون، بل هو الوحيد الذي يعرف قوانين الحياة وسُننها، فتسلم له الوفاض، ليس فقط كإله ولكن كرب، وهذا إذا وصل بك الغلو في التأليه إلى هذه الدرجة، وهذه مشكلة كبيرة جداً، هذه النتيجة الحتمية أنت اتبعت بينك وبين الله، يتدرج بك الأمر وتزيد في تقديسه وتعظيمه وتفخيمه؛ حتى تعتقد أنه هو الوحيد الذي عنده العلم المطلق، لاحظ أن الأمر يعني لما تحدث عن الأحبار والرهبان؛ تحدث عن هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)، وأيضاً والذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله؛ هم وصلوا إلى مرحلة أن يقول لك هذا الكتاب المقدس لا يمكن أن تقرأه، حرام أن تقرأه أصلاً؛ يعني محرماً، طبعاً هناك من المسلمين مَن يريد إيصال المسلمين إلى هذا، يقول لك أنت حرام أن تقرأ النص، تفهمه لوحدك. لا أنت ستفهم فهماً خاطئاً. هذا أمر محرم".
ميَّزَ اللهُ نصَّ القرآن بحفظه
وتابع د.يوسف أبو عواد: "أنت عليك أن تأخذ الفهم ممن فهم وانتهى. هذه الفكرة، ولكن ميز الله نص القرآن بأن حفظه، لو لم يحفظ لصار التعميم المطلق.. هو سيجعلك تصل بمن تؤلهه إلى درجة أنك تظن أنه الرب الذي هو عنده سنن الخلق، يكتنز الأسرار العظمى، هو فاهم كل شيء، وأنت لا تفهم شيئاً. وعنده أيضاً سر التدبير وعنده سر فهم النصوص التي جاءت عن الله. هذه نهاية الألوهية، يعني هو كأن الله يقول لك في هاتين الآيتين نهاية الألوهية أن تصل بإلهك إلى الربوبية. وأيضاً الألوهية ليست مستحقة إلا للرب، فكيف تسميه إلهاً وهو لم يخلق؟ كيف تتخذه إلهاً وهو لم يخلق؟ هو بشر مثلك مثله له سمع كسمعك وعقل كعقلك، فحاكم ما يقوله إلى سمعك وبصرك وعقلك وفؤادك، وأعِد النظر وتأكد من الصحة، (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).. يعني آيات القرآن ما يدل على صدق المعاني التي نتكلم بها؛ أن بعضها يسند بعضاً بطريقة عجيبة تشكل لك بناء محكماً لا يمكن أن يختل، فأنت تصل إلى أن هذه النتائج قاطعة جداً لا يمكن أن يعني تكون فيها نسبة خطأ".
لماذا أرسل سبحانه وتعالى رسلاً لتعليم البشر؟
وأجاب أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، عن سؤال "لماذا صار فيه هناك حاجة إلى إرسال رسل؛ وخصوصاً هناك أيضاً، فحتى في آيات القرآن كان ملائكة رسول الله، ومن ثم صار بشراً رسلاً، لماذا سبحانه وتعالى أرسل رسلاً لتعليم البشر؟"، قائلاً: "السؤال هذا في قمة الجمال؛ لكن أنا أقول إذا أثبت لك قرآنياً أن الفطرة الأولى والبرنامج الأصلي للبشر هو توحيد الله رباً من غير حاجة إلى الرسل والأنبياء، هل ستشك بعد ذلك في صدق الفكرة التي طُرحت؟ هناك سياق عجيب في سورة البقرة يقول فيه الله سبحانه وتعالى (كان الناس أمة واحدة)، كلمة أمة في تحليلها اللساني. أما الشيء فهو معروف طبعاً كلمة الأم، كل الناس يعرفونها في جميع لغات العالم، يعني الإحاطة التي فيها احتضان والتفاف حول شيء وحماية له ورعاية. هي الأمومة، وكلمة الأمة معناها أن الناس متحدون تماماً على فكر واحد. هذا المعنى الذي نفهمه الآن؛ متحدون دون أدنى نوع من الاختلاف الذي سيشعرهم بالخوف، فيقول لك كان الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، سيقول قائل لا هذا قد بعث النبيين. هنا أقول ينبغي أن يدرس القرآن الكريم وَفق منهجية اللسان العربي؛ ليس فقط على مستوى الأصوات وتولد الكلمات، وإنما على مستوى تحليل النص. هل من طريقة العرب أن يزيدوا في الكلام ما لا داعي لزيادته، ولا كانوا أحب شيء الاختصار في الكلام والإيجاز؟
الآن لو أكملت الآية قال (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)، ماذا نفهم؟ أنه كان الناس أمة واحدة، عاشوا على هذا فترة، فاختلفوا.. طيب، أين كلمة فاختلفوا؟ هو ذكرها بعدين، ليش يكررها؟ (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ). تمام وضحت الصورة؟ قطعاً لا بد أن نقدر كلمة، ولكن الكلمة لم تذكر لئلا يكون هناك إطناب في الكلام لا داعي له، فقد فهمت بطريقة قاطعة مما بعد ذلك؛ لأنه قال لك (وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)، زاغوا عن منهج اعتبار الله رباً، إلهاً؛ معناها تؤخذ منه التعليمات وتفهم السنن من خلاله سبحانه، الفهم المباشر بدراسة الكون..".
مفهوم الأمة الواحدة
وأضاف د.يوسف أبو عواد: "إذن في هذه الفترة التي لم يبعث فيها الأنبياء، هل يقول أحد أو يجرؤ أن يقول أحد إن الناس في هذه الفترة سيذهبون إلى النار أو إلى الجحيم؟ ولا القرآن أصلاً في هذا يثني عليهم، سيقول لي قائل ولكن هناك اختلف المفسرون، كانوا أمة واحدة على التوحيد ولا الشرك؟ طيب ما رأيك أن نقطع دابر هذا الاختلاف بالقرآن الكريم نفسه، وباستخدام التماسك النسيجي في النص القرآني. هذه ليست الآية الوحيدة التي تحدثت عن اختلاف الناس في سورة الأنبياء (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْببُدُونِ)، إذا هو يفهمك ما مفهوم الأمة الواحدة، أنه عبادة رب العالمين وحده، الانصياع لقوانينه، البحث عن سننه، وتقطعوا أمرهم بينهم؛ يعني بعد ذلك رجعوا، فكل صار مصادر جديدة يتبعونها فيقدسونها ويأخذون أمرهم ونهيهم واعتقاداتهم من خلالهم. طب ماذا بعد ذلك؟ (فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ). عاد لك إلى الفكرة الأولى. ما هي؟ الإيمان بالله رباً، وبالتالي أنت تشعر بالأمن تجاه أن الصدق سيأتي من خلال دراسة التعلق بالله؛ ليس التعلق بذات، لا؛ التعلق يتجلى الله في خلقه وسننه والعمل الصالح، هذا الذي يفصل النزاع الذي حصل بين الناس، لاحظ بساطة الأمر".
البرنامج الأصلي للبشر متوافق فعلياً مع عبادة الله وحده رباً
وتابع أبو عواد: "سأزيدك سياقاً ثالثاً يدل أيضاً على الأمة الواحدة التي ذكرها القرآن في سورة البقرة، كانت على الحق وكانت على التوحيد، وأن هذه فطرة البشر، وأنه ضبطهم الأول. ولم يكونوا في هذه الفترة أصلاً بحاجة إلى الأنبياء (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، السياق ماذا يقول هنا؟ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً، ما معنى كلوا من الطيبات؟ المعنى اللساني والمفهوم الواسع لكلمة كل. الأكل ما هو؟ هو إدخال شيء على شيء يؤدي إلى تنميته وتغذيته؛ يعني يزيد فيه. طيب، الطيب معناها كل شيء معروف، الطيب؛ كل شيء ليس فيه خبث، يعني كلمة (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) معناها المعنى الواسع، غذوا سمعكم وبصركم وعقولكم، ثم في نهاية المطاف يُقال بطونكم، بما هو طيب، كيف يعرف أنه طيب؟ هل القرآن شرح الطيب والخبيث؟ لا، ليه؟ لأنه دراسة قوانين الكون كفيلة بوضوح جداً أن تدل إن كان هذا طيباً، وأن هذا خبيث.. كل هذا إلى من هو متخصص فيه في كل جانب من الجوانب، هل هذا الشيء طيب أن تغذي به سمعك أو بصرك أو عقلك أو بطنك بعد ذلك ولا لأ، ادرس هذا الدراسات العلمية متلاحقة ومتطورة..
أقول لك أكثر من هذا، رفع مستوى الصوت يعني الآن في منبهات وضعوها في الساعات والهواتف تنبهك أنه رفع مستوى الصوت هذا مؤذٍ للأذن، الآن توقفت عنه الدراسات، أثبتت لك بالاستقراء أن الناس الذين يرفعون مستوى الصوت باستمرار يفقدون السمع أو يضعف سمعهم بشكل كبير، معناها أنت الآن تدخل تطعم أذنك ما ليس طيباً متوافقاً، ما ليس طيباً. يعني هذا الذي أراده الله (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا)، ثم قال لهم إن هذه أمتكم أمة واحدة، هذه هي الأمة الواحدة التي يتحدث عنها القرآن، انظر إلى بساطة الموضوع، وانظر إلى تعقيد التشتيت الذي ستدخل فيه إذا أتيت لتفهم الدين من غير هذا المنطلق. ستجد في كل شيء، اختلفوا في كذا، واختلفوا قالوا كذا، لن تصل إلى نتيجة. إذن هذه الآيات تثبت أن البرنامج الأصلي للبشر هو فعلياً متوافق مع عبادة الله وحده رباً، ولم يبعث الرسل إلا بعد ذلك.. وعلى فكرة أول الرسل هو نوح، يعني آدم لم يكن رسولاً. طب الفترة بين آدم ونوح، كان البشر فيها على الفترة الأولى، كانوا أمة واحدة، ومدحهم القرآن. هذه اقتتال ابنَي آدم قصة عارضة؛ لكن هل استمر؟ هذا شيء، ولّا انتهى في مكانه الذي يشير إليه القرآن؟ إنه انتهى الحدث في لحظته، وانتهى؛ لأنه لم يبعث رسلاً، ثم الاقتتال، هذا سلوك؛ لكن الانحراف، هذا لا يعني أنه لم يكن هناك، قد يكون هناك انحرافات سلوكية؛ لكن ليست منهجية".
واستكمل أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "لم يولد منهج يشرع الانحراف، أنا أقول لك مثالاً الآن، إبليس مشكلته وَفق فهم النص فهماً دقيقاً، هل مشكلته أنه لم يسجد سلوكياً ولّا شرع منهجاً آخر لعدم السجود؟ هو شرع منهجاً آخر لعدم السجود، ليس هو المنهج الذي أراده الله، هذا هو الإجابة عن السؤال".
المعنى اللساني لكلمة "العبادة"
وأجاب أبو عواد عن سؤال "ما المعنى اللساني لكلمة العبادة؟"، قائلاً: "ممتاز؛ هو أصلاً نحن مضطرون إلى أن نعود إلى كلمة العبادة؛ لأنه لاحظنا أن الأنبياء جميعهم ربطوا بين الإله والعبادة. الآن نحن ذكرنا في ما سبق أن جميع الأنبياء خاطبوا أقوامهم، فقالوا (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، فقارنوا مفهوم العبادة بمفهوم أنه لا إله غيره. هذا ذكر في قصة نوح كما قُلنا وذكر في قصة عاد وثمود ومدين. طيب لنقف مع قوم نوح مثلاً، قوم نوح (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)، لاحظ ماذا نفهم من هذه الجملة، هو قال لهم (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ)، الآن لزاماً يعني وبحسب تكامل النص القرآني الذي قال لك الله عنه (ما فرط في الكتاب من شيء)، سيشرح لك القرآن كيف عبد قوم نوح غير الله، طب كيف شرح القرآن الكريم هذا؟ لما قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ، قال وما علمي بما كانوا يعملون، ثم طلبوا منه أن يطرد هؤلاء المؤمنين ليؤمنوا، فقال لهم (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ ٱلمُؤمِنِينَ إِن أَنَا إِلَّا نَذِير مُّبِين)، هل تشعر بسلوك فيه انحراف عن الوضع الأصلي للبشر؟ إنه لا يصح أن يتعالى أحد على أحد، ولَّا ليس هناك انحراف؟ هناك انحراف سلوكي".
سورة نوح تعالج الموضوع بطريقة عميقة جداً
وأضاف د.يوسف أبو عواد: "طيب، سنذهب إلى سورة نوح نفسها التي تعالج الموضوع بطريقة عميقة جداً؛ التي قال فيها (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا)، ماذا قال لهم لما ذكر؟ عاد لهم لينبههم إلى الخلق. (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا)، هل ما تؤهلونه وتتبعونه يزعم أنه الذي خلق؟ لا. (أَلَمۡ تَرَوۡاْ كَيۡفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبۡعَ سَمَٰوَٰت طِبَاقا وَجَعَلَ ٱلۡقَمَرَ فِيهِنَّ نُورا وَجَعَلَ ٱلشَّمۡسَ سِرَاجا وَٱللَّهُ أَنۢبَتَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ نَبَاتا ثُمَّ يُعِيدُكُمۡ فِيهَا وَيُخۡرِجُكُمۡ إِخۡرَاجا وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ بِسَاطا لِّتَسۡلُكُواْ مِنۡهَا سُبُلا). لاحظ؛ أحاط بالموضوع كاملاً. ثم قال لهم مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا؟ وَقَدۡ خَلَقَكُمۡ أَطۡوَارًا. إذن هم لم يكونوا الله، طيب شو يعني لا يوقرون الله؟ يعني لا يأبهون بسُنن الله التي لفتهم نوح، عليه السلام، إليها. سيقول لي قائل أنت تتفلسف، وسأقول له أكمل الآية، ماذا قال نوح؟ (قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا)، لاحظ الاتباع، اتبعوا مَن؟ لم يزده ماله وولده إلا خساراً. إذن اتضحت عبادة قوم نوح التي تحدث عنها القرآن، هناك أقوام لهم مال كثير ولهم جاه كثير. هؤلاء الأقوام وضعوا أنفسهم على أنهم مَن ينبغي أن يتبعوا منهم ما يزعمون أنه حق ويترك تتبع سنن الله في الكون الذي سيؤدي إلى استمرار إعمار الأرض التي أراد الله أن يكون، فاعتبر رب العالمين هذا عبادة لغيره، فأرسل نوحاً ليوقفهم عن هذا الانحراف، واتبعوا مَن لم يزده ماله.. الآن سيقول لي لا ما هم عبدوا أصناماً. آخر شيء ذكر لك (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا). أصلاً هل هي أصنام هذه ولّا أسماء؟ أسماء السدنة الذين ذكرهم اتبعوا مَن لم يجده ماله وولده إلا خساراً. وهم سيموتون قطعاً ويكون لهم ورثة بعد ذلك، وسيجعل للسدنة تماثيل، وسيذكرون، وأن هذا منهجهم، وهذا منهج آبائنا وأجدادنا، ولا ينبغي أن نحيد عنه".
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ
وتابع أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "هذا في ما يتعلق بنوح، عليه السلام. طيب )وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ( في سورة الشعراء (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ). ثم ماذا قال لهم؟ (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ)، الآن يقول لي قائل ما علاقة هذا؟ هو الذي سيفسر لك لماذا قال لهم (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ)، سيشرح كيف عبدوا غير الله؟ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ؟ يعني هم كانوا يبنون لكن هل بناؤهم كان لغرض خدمة البشر والرقي بهم ولّا عبث ورفاهية لا معنى لها، وليست فيها خدمة اجتماعية؛ وإنما خدمة لمصالح شخصية، وإلا لو كانت فيها خدمة اجتماعية لا يمكن أن يسميها عبثاً".
المقصود بـ"البناء" في "أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ"
وأجاب أبو عواد عن سؤال "هل المقصود بالبناء هنا بناء حجر، بناء بيوت مثلاً، وبناء مثلاً نصب؟"، قائلاً: "هي كلمة بناء من الناحية اللسانية عامة؛ لكن الريع يقولون الراعي يعني أنت تقول الريع مثلاً في التجارة هو الذي يزيد على رأس المال؛ يعني الربح. هو يقصد أنه فيه تطاول في البناء بغض النظر هل هذا البناء حسي ولّا بناء في أي نوع من البناء؛ لكن المشكلة أن هذا التطاول هو ليس كل بناء تراه أنت معناه هذا فيه خدمة للمجتمع، قد يكون بناء لغرض شخصي، بالعكس يعيق ويفسد على المجتمع؛ يعني مثلاً لما تأخذ أماكن مهمة جداً وشوارع رئيسية، تصل مدينة بأخرى، فتجعل فيها بنايات كبيرة جداً لأغراض شخصية، أنت خدمتَ المجتمع؟ لها قيمة اجتماعية، هي فقط تكريس لمطامع يعني وأنانية شخصية عميقة جداً؟ (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ). طيب اتخاذ المصانع وحدها هكذا، وتتخذون مصانع، هذا مدح وليس ذماً. لكن لما صارت لعلكم تخلدون، صار هناك إشكال. ما معنى أن إنسان يتخذ مصنعاً بغرض أن يخلد؟ هل تظن أنه سيسعى في صناعته إلى مصلحة المجتمع ولّا سيسعى إلى مصلحة نفسه يعني؟".
المقصود بـ"مصانع" في "وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ"
وأضاف أستاذ اللغة العربية رداً على "هل المقصود بالمصنع هنا بمعنى مصنع، يعني مصنعاً مثلاً، معملاً، أو مصنعاً فيه معنى آخر؟": "المصنع هنا كل ما أن يصنع منه شيء، يعني توليد شيء من شيء، هذا المعنى. بغض النظر يعني هو بالمعنى الصناعة الحديثة أو لا، يعني البناء الذي ذكره في الآية الأولى؛ أنت تستخدم وحدات أساسية موجودة أصلاً في الطبيعة؛ لكن تركب بعضها على بعض. الصناعة تستخدم أشياء موجودة في الطبيعة تحولها إلى شكل آخر. والشكلان في الأصل، البناء والصناعة، هما من أشكال الإعمار. ولكن المشكلة ليست هكذا؛ المشكلة أنهم أخذوا الشكل، الإعمار، ولكن الجوهر والهدف الأصلي لم يتحقق. طيب هذا الذي شرحته، سورة الشعراء، عن قوم عاد. أليس هو ما ذكره (يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). كيف وصلوا إلى هذه المرحلة؟ مَن الذي يعني وضع لهم الاتجاه ليسيروا عليه فساروا. وطبعاً أن تتخيل الموضوع له أسياد، والأسياد لهم تبع؛ هناك قائمة كبيرة ومنظومة كاملة من الناس التي ستعمل، ستعمل لماذا؟ ليبنوا بكل ريع آية، ويتخذوا مصانع بغرض تخليد أنفسهم، تخليد وجودهم، تخليد أيضاً ما يتناسل عنهم، يشعر الإنسان هكذا..".
بناء المعابد.. لتخليد أشخاص أم للعبادات؟
وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "يعني مثلاً بناء المعابد بشكل عام في التاريخ، وحتى هناك معابد تاريخية ما زالت قائمة ضخمة؛ هل بنيت هذه لعبادة الله مثلاً أم بُنيت مثلاً لتخليد الفرد المسؤول عن البناية؟"، قائلاً: "والله الإشارات التاريخية في معظمها تدل على أنها بُنيت لتخليد أشخاص وليس لعبادات.. (إذن تدخل ضمن تصنيف وتتخذون من كل ريع آية)، تتخذون ممكن قد تدخل في هذا نعم؛ كل ريع آية تعبثون، لأن عبادة الله ليست محتاجة إلى أن تحصر أصلاً في حدود لا تقف على مكان أو زمان. الأرض كلها والوقت كله مكان للاتصال بالله وللصلاة له ولعبادته، تحصرها في المكان والزمان بهذه الطريقة، ثم ربطها بأشخاص معينين ورسوم معينة مرتبطة بفكر معين؛ هذا هو بداية الانحراف، هكذا يبدأ الانحراف".
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ
وأضاف أبو عواد: "هل تجد القرآن الكريم، نتحدث عن فكرة العبادة، حصرها في مكان أو زمان؟ بالتأكيد لا، أبداً. وهذا أمر يعني معروف، يعني بالبداهة عند المسلمين أنه ليس محصور العمر في مكان أو زمان، هذا هو الصحيح. لكن هل يمكن أن يكون هذا الانحراف الذي حصل عند قوم عاد حصل عندنا؟ طبعاً حصل. لمَّا أنت تبني بناء يكرس فكر طائفة معين ثم يحارب المذهب، يكون كل جهدك فقط مذهباً يحارب مذهباً وطائفة تحارب فكراً.. أين الجوهر الأصلي؟ هل هذا البناء الذي بني؟ ولذلك القرآن الكريم ذكر فكرة البناء إذا كان بهذه النية، (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وقال (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ). يعالج الفكرة أو الانحراف من بداية ظهوره الأولى. إذا شعرت أن هذا البناء الذي بني سينحرف بك عن فكرة توحيد الله رباً ويدخلك في التشتتات والتفرقات التي ذكرها القرآن بعد الأمة الواحدة، فتقطعوا أمرهم بينهم واختلفوا بينهم، إذا أنت بدأت تنحرف عن المنهجية الكبرى التي هي توحيد الله واتخاذه رباً".
سلوك قوم نوح والسلوك البشري الآن
وتابع د.يوسف أبو عواد رداً على "إذن نفس السلوك اللي كان متبعاً في قوم نوح ما زال قائماً في سلوك بشري قائم.. ما زال قائماً حتى الآن؟": "ما هو الناس يقولون لماذا ذكر القرآن أنبياء محصورين في المنطقة العربية؟ الآن أنا أقول أين ما يدل في الدراسة النصية للقرآن أنهم محصورون في المنطقة العربية؟ في الحقيقة الإنسان إذا تمعن يشعر أن الأنبياء الذين ورد ذكرهم هم قصص مختارة، لا يوجد في النص القرآني ما يدل على مكانهم، هذا كله كلام تاريخ وروايات.. وإلى آخره؛ لكن كل قصة فيها نوع من الانحراف عن الفكرة الجوهرية الأولى التي أرادها الله لإصلاح البشر، وأن يصلوا إلى الحياة السعيدة، كل قصة فيها فكرة، وهذه الفكرة عالمية تماماً إذا درستها بهذه الطريقة قارن، أنا أقول لك الآن يعني حتى المشاهدين سيدركون الفرق الهائل بين أن أنطلق من الدرس للنص القرآني دراسة لسانية، وبين أن أبدأ أقرأ مجموعة كبيرة من الروايات التاريخية لو أدخل إلى قصة نوح أو عاد. الذهن؛ ذهن الإنسان المتعلق بالتراث ماذا سيبدأ يتذكر؟ يتذكر قومه وبناء سفينة، وهذا قوم في وين؟ وين رسب فينا في جبل في تركيا ولَّا مش عارف، وقوم عاد مدينتهم كانت هنا ولَّا كانوا هنا ولّا في اليمن؟ ولّا لاحظ الآن أين الفكرة الجوهرية؟ أين راحت؟ ذهبت، انصرفت بسبب الغبار العجاج الذي قُلت عنه والضوضاء التي أحاطت بالموضوع، فصرفت الناس عن المعنى الجوهري الذي أريد له أن يفهم، وهذا أمر يحتاج أصلاً إلى مزيد من التعمق حتى كلمات نوح وكلمات عاد وهود وصالح ومدين لو درست، أنا في اعتقادي بتعمق لساني سيخرج منها بدلالات تشير إلى عالمية هذه الموضوعات التي ذكرها القرآن في أماكن متعددة في كل مكان يلقي الضوء على زاوية من زوايا الموضوع، ولم يذكر غيرها؛ لأنها كافية لو تمعنت بما فيها من انحرافات، خلاص هي تظهر لك كل انحرافات البشرية".
واختتم أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، رداً على "حقيقة هناك حتى فيه آراء ما زالت تتعامل مع هذه الأسماء على أساس أنها أسماء مفهومية خاصة؛ هي أسماء مفاهيم، أسماء.. حتى أسماء الأنبياء هي عبارة عن أسماء مفاهيم لبرامج محددة سلوكية تتعلق بالنبي ذاته": "هذا امتداد المعنى لا ينفي وجود الأصل، المعنى أو أصل الشخص والقوم؛ لكن هو امتداد المعنى الذي أراده القرآن حين أعرض عن ذكر التفاصيل المكانية والزمنية، لماذا؟ لماذا أعرض؟ لأنه يقول لك أنت خُذ امتداد المعنى، ما لك وللشخص وأين كان ومكانه وزمانه، هذا ليس قضية مهمة".