• Facebook
  • instagram
  • X
  • youtube
  • tiktok
  • apple podcast
  • google podcast
  • spotify

مفهوم العبادة والأمة الواحدة | د. يوسف أبو عواد

للإستماع




ناقشَ الدكتور يوسف أبو عواد، المختص في الدراسات اللسانية العربية، خلال لقائه الدكتور باسم الجمل، عبر برنامج "مفاهيم"، مفاهيم "العبادات" و"الله" و"الرب" و"الرحمن"، وَفق آليات اللسان العربي المبين، وكيف عبدت الأقوامُ اللهَ وَفق هذا النسق؟


مفهوم العبادة

قال الدكتور يوسف أبو عواد، المختص في الدراسات اللسانية العربية: "(العبادة) كانت وقت ما كانوا أمةً واحدةً كما قُلنا سابقاً، ثم حصلت الانحرافات التي عبَّر عنها الرُّسل بدعوتهم، لما قالوا (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ)، ذكرنا أن قوم نوح انحرفوا حين (اتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا). وذكرنا عن قوم عاد أنهم كانوا يبنون بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، ويتخذون مصانع بغرض الخلود، وإذا بطشتم بطشتم جبارين. حتى قوم عاد يعني للتصريح بالمعنى المباشر للعبادة الذي ذكرناه، لما قُلنا (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ) وهو يعني اتبع.. هو قال لهم (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ). لما ذكر عقوبتهم قال (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ).

إذن هناك اتباع لغير الله، اتباع لكل جبار عنيد؛ هذا الاتباع مخالف لاتباع الله؛ باعتباره رباً للأرض والسماوات". 


"وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ".. هل كانت هناك ديكتاتوريات شديدة؟

وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "هل يُفهم من جبار عنيد أن هناك فعلاً كانت فيه ديكتاتوريات مثلاً شديدة في هذا الوقت؟"، قائلاً: "قطعاً.. كان علية القوم يستخدمون أسلوبَ الجبر؛ معناها الإكراه على الشيء، والعناد معناه التصلب على الموقف، حتى وإن ظهر الحق في خلافه، ما هو كل هذا الذي تتحدث عنه الآيات في قوم نوح، كما ذكرنا (وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا)، وأيضاً قوم عاد الذين هم قوم النبي هود، يكرس فكرة أن هناك علية يملكون رأس المال، يملكون السيطرة، وهناك أتباع لهذه العلية، أتباع طبعاً في غير الحق؛ معناها، وهذا الاتباع يعني كأنه حوَّل الناس إلى عُمي لا يستخدمون السمع ولا يستخدمون العقل. هذا الاتباع، جاء نبيهم فقال لهم (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ). ارجعوا إلى الفطرة البشرية الطبيعية.. لأنها هي التي ستعيد لكم استقرار المجتمع وسعادته ورقيه ونموه وتطوره". 


ما المقصود بالجبر في (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)؟ 

وأضاف المختص في الدراسات اللسانية العربية، رداً على "ما المقصود بالجبر في (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)؟ الذي كان يتبع مثلاً في أنظمة الحكم، يعني إن جاز لنا إسقاط هذا المفهوم، أن تلك المجتمعات كانت أنظمة كاملة متكاملة من الحكم، وهناك كان فيه جبار، يعني يجبر الناسَ على عبء، على شكل ما من العبادة؟ ولو بِدنا نحاول نسقط أيضاً مفهوم الآية على المجتمعات الحالية، يعني مثلاً في أنظمة الحكم القائمة في المجتمعات الآن؟": "هناك شكلان في حق قوم عاد ذكرهما النص؛ الشكل الأول هو البناء كما قُلنا، والشكل الثاني هو الصناعة. الآن أنت إذا أردت أن تعرف هذا المعيار انظر إلى أي بناء يُبنى في المجتمع؛ هل يبنى عبثاً بغرض العبث ولَّا يبنى بما فيه خدمة لمصلحة الناس وتطورهم ورقيهم ونمائهم، هذه واحدة. النقطة الثانية انظر إلى المصانع، يعني الصناعات معناها كل شيء، بعد ذلك طبعاً يتحول إلى تجارة، ويتحول إلى أسواق كاملة.. هل هذه المصانع تحقق الطموح والأنانية والانتهازية لمجموعة صغيرة من الأفراد على حساب بقية المجتمع؟ ولَّا فعلياً تحقق التطور للمجتمع؟ لكل مَن يسعى إليه، ولكل مَن يستحقه، لأنه هو قال (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ)، (وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)، وجود مثل هذه المصانع هو في الحقيقة لا يكرس إلا غرضاً واحداً، أن يخلد أصحابها ويفنى مَن سواهم. هذا قطعاً هو ما كان صنيع قوم عاد، حين عبدوا غير الله، وأيضاً وجود البناء العبثي الذي يستهلك مالَ الناس بغرض العبث فقط، مجرد الزخرفة والبهرجة.. والكذا، حتى لو أصبغ عليه أنه هذا لخدمة الله أو خدمة دين الله، وأيضاً من باب اتخاذ بناء الآيات في كل ريع بغرض العبث".


السر في صلاحية القرآن لكل زمان ومكان

وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "يعني دعوة نوح ودعوة هود لقوميهما ما زالت قائمة، في حال تكرار نفس السلوك البشري، هم يعالجان سلوكاً بشرياً قائماً لم يختفِ؟"، قائلاً: "وهذا السر في صلاحية القرآن إذا فُهم بالطريقة الصحيحة لكل زمان ومكان. الآن لاحظ هذه المفاهيم التي تدل عليها قصص الأنبياء، هي موجودة الآن، وموجودة في عصور سابقة، وستظل موجودة طالما ظل هناك اتباع لهذه المنهجيات. هذا هو الصراع أصلاً بين الأنبياء وأتباع الأنبياء، الذي يذكره القرآن الكريم. ولكن ما ركز عليه الأنبياء أنه لماذا اتبعوا من لم يزده...؟ لماذا اتبعتموهم يعني؟ لماذا تركتم الانصياع للقانون الكوني الصحيح الذي فيه سعادتكم واتبعتم هؤلاء الذين استخفوا بكم، (وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا) وقال (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)، يعني طيب هو جبار عنيد، أنت لماذا تتبعه؟!".


وعي الناس وإشكالية اتباع الجبار العنيد

وتابع المختص في الدراسات اللسانية العربية، رداً على "وهذا دليل أن هناك وعياً لدى الناس في اتباعهم هذا الجبار، يعني هذا السلوك؟": "أي نعم، هو أيضاً هناك صناعة للوعي الذي سيجعل الناس يتبعون هذا الجبار العنيد، يرفعون من قيمته، منزه عن العيوب، منزه عن كذا، وانتهى الأمر.. وبالتالي سيحيد بالمجتمع حيداً كاملاً عن مسيرة الإصلاح ويذهب به إلى الانهيار". 


اجتناب عبادة غير الله

وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "هل المقصود بجبار عنيد، أنه نمط سلوكي أم نظام حكم أم شخص ما؟"، قائلاً: "إذا جئنا إلى التحليل اللساني المباشر..كلمة (كل) إذا أُضيف إليها شيء، فإنها تفيد العموم المطلق، هو لم يحدد أصلاً شخصاً، ولاحظ أن سياقات الآيات لا تذكر مكاناً ولا زماناً؛ لأنها تريد أن تحدث تركيزاً مطلقاً على القيم السلوكية التي تتضمنها الآيات، حتى العبادات الطقسية الشعائرية، لماذا لم تذكرها؟ معناها يعني أكيد كانت موجودة؛ لكن هي ليست المقصود في نهاية المطاف. هي ذكرت الثمرة النهائية الآن. ما فائدة أن تكون هناك عبادة طقسية لم يترتب عليها سلوك؟ التمعن في أحداث قصص الأنبياء يعطيك سلوكيات حاربها الأنبياء، يفسر لك معنى دعوة النبي لقومه (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) بطريقة واضحة جداً؟ لا يمكن أن يطلق العبارة ثم بعد ذلك يأتيك بحيثيات فعلها القوم ولا تكون تفسيراً لهذه العبارة، فما ذكر هنا هو قطعاً تفسير لما دعا النبي إلى اجتنابه من عبادة غير الله". 


وأضاف د.يوسف أبو عواد: "سهل جداً أن تقرأ ما يدور حالياً وتسقط عليه مقاصد الآية..

كل السهولة؛ سهل جداً تماماً إلى أبعد الدرجات يعني؛ المصانع التي تصنع أسلحة نووية أو أسلحة كيماوية، أسلحة تبيد البشر، لا تفرق بين محارب وغير محارب، هل هذه المصانع صنعت للإعمار يعني؟ وإن أخذت اسم المصانع والعمارات وأعلى درجات الإعمار وأحدث أنواع الأجهزة وأرقى عقول العلماء، هي صنعت للإعمار في الحقيقة ولَّا صنعت لتخليد مَن هو قائم عليها؟ وإن كان هو لن يخلد، لكن هذه الفكر التي تسيطر على دماغه؛ يقوم بكل ما يقوم به وكأنه سيخلد. ماذا سيتولد عن هذا الفكر؟ سيتولد هذا النوع من المصانع، والمشكلة الأكبر في أنه يجد مَن يتبعه معرضاً عن منهج الله أو معرضاً عن السير وَفق قوانين الله". 


قصص الأنبياء في فهم معنى العبادة

وتابع أستاذ اللغة العربية رداً على سؤال "لماذا كان الصعب على من سبق وتصدى لقراءة النص أو فهم النص، كان من الصعوبة عليه أن يفهم دلالات هذه الآية ومقاصد الآية، ويتم دعمها على السلوك العام في المجتمعات؟ لماذا حصرها في زاوية عبادة قصيرة جداً، عبادة طقسية؟: "الآن أنت إذا ذهبت تريد أن تقرأ النص القرآني والمكتبة الإسلامية مملوءة بالكتب التي تقول لك باب العبادات؛ إذا فتحت هذا الباب ستجد أحكام المياه وأحكام الصلاة وأحكام الزكاة والحج.. انتهى. ثم بعد ذلك يتحولون إلى ما يسمونه المعاملات أو غيرها. ما الصورة التي انطبعت في ذهنك عن العبادة؟ طقسية. إذن لمَّا السورة هذه شبع بها دماغك لأنها كانت تُقال في كل المحافل والمناسبات والدروس.. وإلى آخره، وهذا تقسيم، هل هو قرآني؟ القرآن هو أمام الناس، هل هذا التقسيم وتسمية هذه الأشياء بأنها عبادات وعجز غيرها وكأنه لا يمت للعبادات، هذا تقسيم قرآني ولَّا مخالف للقرآن؟ قطعاً هو مخالف لما نراه الآن من سيرنا مع قصص الأنبياء في فهم معنى العبادة التي جاء الأنبياء لإعادتها لأن تكون لله".


قصص الأنبياء وإشكالية اعتبار الناس منها

وأضاف د. يوسف أبو عواد: "قصص الأنبياء صار الناس يقرؤونها وكأنها إما لقوم مضوا وإما أنها تتعلق فقط بأنه عوض عن أن تسجد وتضع جبهتك لله، تضع جبهتك أمام صنم، انتهى، هذا هو الشرك، هذا هو الكفر. وإن الله يغضب من هذا، وكأن الله في الذهن التقليدي هو يعني كأنه فعلاً إنسان يغضب ويشعر أنه فقد قيمته، ويشعر أن الناس سخروا به، وبالتالي يعذب الناسَ في النار بس لهذا السبب.. الله أجل من هذا، لا يمكن أن يكون الله يعذب لأنه أصلاً لا يضره فعل الناس ولا يؤثر فيه".


المعنى الكبير لكلمة "عبرة"

وأجاب د. يوسف أبو عواد عن سؤال "هل قصد بكلمة عبرة للناس، أن عبرة تتعظ منها، ولَّا عبرة بمعنى أن تستخدم نفس التجربة أو تقيس أن تصبح معياراً في الحكم على الأشياء التي أنت تمارسها؟، قائلاً: "قصد منها قطعاً أن لا تقف بها عند حدها؛ وإنما أعبر بها إلى ما لا نهاية، إلى نهاية حياة البشر. هذا المعنى الكبير لكلمة عبرة. ما معنى كلمة عبرة؟ أي أعبر بها، أجعلها منارة تعبر بها طريقك وأنت تسير بالحياة. لم توضع عبثاً، ولم تكرر، القصص حين كررت.. لاحظ لما نحن في سورة الأعراف لم يكن قد ذكر مَن يتتبع سياق قصص الأنبياء في سورة الأعراف، هو كان في بداية القصة أقول (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ)، ثم يذكر إهلاك القوم؛ كأنه يثير لك التساؤلات. يحفزك أن تستمر مع النص القرآني. الآن تحفز عقلك؛ إذا ذهبت إلى سورة هود ثم بعدها إلى سورة الشعراء، ستبدأ تجد تفاصيل الدعوة التي يعني لماذا الأمر بالعبادة لله وترك عبادة ما سواه ثم العقوبة في النص، فيه شيء في الوسط ما هو تحفز عقلك الآن، أصبحت جاهزاً لتلقي المعلومة، شرحها لك في سورة هود، ثم شرحها لك في سورة الشعراء بطريقة أكثر تفصيلاً. فطيب التكرار هذا من غير أن يذهب فيذكر قصص أنبياء آخرين، لماذا؟ لأنه عابر للمكان والزمان، ولأنه كاف، ولأنه محيط بالصور؛ صور الطغيان أو صور اتباع غير الله التي انحرف بها البشر، لما اختلفوا حين كانوا أمةً واحدةً، ثم بدأ الاختلاف بإحداث منهجيات طبعاً مخالفة لمنهجيات..". 


السلوكيات.. المعنى العظيم للعبادة

وقال د.يوسف أبو عواد رداً على "إذن الآية بتقول (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أصبح معناها مختلفاً كلياً عما كان يدور في الذهن الجمعي الذي عند المسلمين أو عند العرب بشكل عام؟": "قطعاً العبادة معظم الناس الآن يفهم أنه (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، يتخيل أن الركعات الصلاة وأزيد من الصيام وأزيد من الكذا، والمشكلة يعتبر هذا النهاية في المطاف، وهذا في الحقيقة هو المقصود فيه تذكير الإنسان بربه؛ إنه أنت الآن صليت أو صُمت لمَن؟ صُمت لله، طب ممتاز.. لماذا تأخذ تعليمات وتوجيهات ومنهجيات ليست منهج الله؟ هذا المقصود العظيم؛ لكن هل العبادة معناها العظيم في القرآن هو الأشكال الطقوسية هذه؟ لا؛ معناها العظيم في القرآن هو هذا الذي ذكر في قصص الأنبياء، هو السلوكيات، هذا هو المعنى الكبير. معناها وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون؛ أي يتخذون سنن الله في الكون من غير ما طرأ عليها من تحريف شياطين الإنس والجن، يتخذونها سبيلاً للهداية وطرقاً لتعمير الأرض؛ لأنه ما معنى عبد؟ عبد، خضع، اتخذه، آمن به مساراً يسلكه في حياته، هذا معنى عبد، ما هو المسار الذي أنت مؤمن به وتسلكه في الحياة؟ ولهذا نسمِّي الشارع المعبَّد بالشارع المعبَّد؛ لأنه مسار محدد للسير عليه، مجهَّز لأن يوصلك إلى نقطة معينة.. فهذا هو. لكن أن تتخيل لو كان معنى الآية وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون؛ إنه والله العبادة الطقسية معناها يجب أن نلزم الصلاة أربعة وعشرين ساعة، والصيام وكذا؛ لأنه وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، يعني استثناء، يعني أي فعل أصلاً لو تتعمق في الآية باستخدام هذا الأسلوب الحصر، هذا يسمى في اللسان العربي، أنت تعرف أن حياة الإنس والجن كلها عبادة، طب هل يمكن أن يكون هذا إذا فسَّرناه بالمعنى الطقوسي؟ مستحيل، هي الحياة موجودة والحياة ما دام أنك حي معناها سلوكيات وأقوال تبدر منك هذه السلوكيات، هل تسير على طريق الله ولا تسير في اتجاه آخر من الاتجاهات التي ذكرت في قصص الأنبياء؟ بهذا تكون حققت معنى أنك فعلاً لم تخلق إلا للعبادة. وبقدر ما تحقق معنى العبادة بقدر ما تكون أقرب إلى السعادة الأبدية التي تحدَّثَ عنها القرآن بالنعيم المقيم والجنات، هذا طبعاً لم يقتصر على طبعاً، لاحظ قوم عاد في الأخير ماذا قالوا؟ لاحظ (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ)، عجيب؛ يعني أصبح توريث الخضوع والانصياع لهؤلاء المتجبرين والعنيدين ثقافةً بمرتبة خلق، يعني تربية، يعني تنقل من الأبناء للآباء، خلاص يربي الأبناء على هذا، وقالوا هذا خلق الأولين، وهم ماتوا على هذا، لن نعذب.. انتهى الموضوع، لن يكون هذا تعذيباً، ولكن هو كان في الأخير تعذيباً لهم، لأنه انهيار المجتمع هذا أول تعذيب أصلاً، ولذلك أهلكت هذه الأقوام، لم يبقَ فيها ذرة؛ لأن تعود مجتمعاً صالحاً يحقق مبدأ إعمار الأرض الذي قال الله عنه (أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)، لو ذهبنا إلى مدين طبعاً، عاد أيضاً، قالوا (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً).. هذا المبدأ موجود؛ لاحظ يعني من خلال الصناعات التي تخلد العبارة، تشرح لك تستكبر في الأرض بغير الحق، وقالوا مَن أشد منّا قوة.. يعني مبدأ القوة أنك بالسلاح تصل إلى شيء تريده، يعني تنسى جميع القيم، ما فيه قيم". 


فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً

وأضاف المختص في الدراسات اللسانية العربية رداً على "مثل ما يحدث حالياً؛ يعني بعض الدول تستبد بالآخرين، نتيجة امتلاكها القوة": "وبعدين، أنت لما تأتي إلى القيم التي هم أصلاً وافقوا عليها واتفقوا، ووصلنا إلى مرحلة أنها قيم إنسانية، والإنسان ارتقى إلى أعلى مرحلة في هذا العصر. لكن في لحظة معينة انتكس لما صار الأمر يتعلق بهم، مش من ناحية حق بيتعلق بهم، إنه الآن الأمر يمس طموحهم للخلود. عادوا إلى مبدأ القوة، قالوا من أشد منَّا قوةً؟ نحن بالقوة سنصل إلى ما نريد. انتهى، بكل تبجح هذا في نهاية المطاف يقال بالحرف، سنستخدم القوة شئت أم أبيت، انتهى الموضوع. طب والقيم ومواثيق حقوق الإنسان والعدل.. إلى آخره؟ لا قيمة. انتهى الموضوع؛ لأنه كما قُلنا المصانع أُنشأت بغرض الخلود أصلاً لمَّا أنشأت، الآن لو ذهبنا إلى مدين أيضاً، نبي الله شعيب قال لهم (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، وقال لهم لاحظ الآن، لاحظ القرآن الكريم، لا يترك لك مجالاً لأن تفهم فهماً خاطئاً، قال لهم (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا)، طيب هل ذم؟ هذا لا قال (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)، كان فسادهم من ناحية ثانية، يعني حتى لا يظن ظان أنه القرآن هذا ذم المصانع وذم البناء في قوم عاد، واحنا أوضحنا أصلاً ما هو مناط الذم جاء مباشرةً في قوم مدين، فقال (تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ)، هذه نعم امتن الله بها عليكم، اذكروها، هذا شيء جيد إنه لم تختلط بما اختلط به بناء قوم عاد وصناعتهم. لكن قال لهم (ولا تعثوا في الأرض مفسدين). إذن فسادهم كان في حركتهم وليس في بنائهم وصناعتهم. هل شرحت الآيات الأخرى هذا الفساد؟ نعم". 


تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا.. إشكالية بداية ظهور الملكية الفردية

وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "هل في (تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا) إشارة إلى بداية ظهور الملكية الفردية في المجتمعات؟"، قائلاً: "إذا رجعنا إلى قوم عاد، المصانع والريع؛ يعني هو نسب إلى الجماعة. قد يكون هنا المقصود أنه ظهور الملكية الفردية. ولكن لو لم تكن تاريخياً هي ظهور الملكية الفردية، فإن الآية فيها تشجيع لكل إنسان أن يصل إلى غاية ما يمكن أن يصل إليه من ناحية الإعمار؛ بشرط أن لا يفسد بغرض النية قبل كل شيء والغرض النهائي. والسلوك بعد ذلك الآن نحن سنرى في مدين هؤلاء، ماذا قال لهم؟ قال لهم نبيهم (وَلَا تُطِيعُواْ أَمرَ ٱلمُسرِفِينَ ٱلَّذِينَ يُفسِدُونَ فِي ٱلأَرضِ وَلَا يُصلِحُونَ). إذا تمام البناء بُني بطريقة صحيحة، وكان هناك عمل، وكان هناك إنجاز، وكل إنسان يسعى فيحصل على نتيجة سعيه؛ سواء كان ببناء بقصر، جزء من السهل، وهذا قد يكون أسهل، أو نحت جزء من الجبل، حتى الذي قد يحتاج إلى جهد أكبر؛ لكن كان هناك مسرفون يفسدون في الأرض ولا يصلحون".


وأضاف أستاذ اللغة العربية: "ما أول الفساد الذي ذكر؟ وكان في آية أخرى، طبعاً انتقل من آية لآية، كلها تتحدث عن نفس السياق. (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)، عن شعيب، ثم حرية الرأي هذه، هو الرجل صاحب فكرة لماذا تريد أن تصنع عصابة كاملة وتقتله وتوزع دمه بين القاتلين، حتى بعد ذلك تنتهي منه؟ وهو يعبر عن فكرة إذا كان لديك ما يرد على هذه الفكرة، فرد على الفكرة بالفكرة. لماذا ترد على الفكرة بالقتل؟ يمكن أن تقول هنا هذه بداية الانحراف عن السُّنة الأصلية الطبيعية التي هي حرية الرأي والتعبير، سُنة طبيعية خلقها الله فطرة في البشر، متى بدأ الانحراف عن هذه الفطرة في هذا السياق الذي ذكره القرآن (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)". 


مَن هو ولي شعيب؟

وأجاب أستاذ اللغة العربية المختص في الدراسات اللسانية العربية، عن سؤال "مَن هو ولي شعيب؟"، قائلاً: "يعني مَن سيأتي يتلوه، يطالب بدمه، أو لماذا حصل معه كذا؟ ليه يستخدم لفظ الرهط مثلاً، مجموعة وفرقة؟ يعني الرهط هو العدد القليل؛ ولكن يعني يشعرك اللفظ بأن اجتماعهم لم يكن على حق يعني. الإيحاء الصوتي لكلمة تراه.. تشعرك بأنه هناك التكرار على حث العمل، ثم هناك اختفاء، ثم هناك عمل اندفاعي يشير إليه حرف الطاء؛ يعني لم يكن اجتماعهم بغرض نبيل، وإنما كان تجمعهم بغرض سيئ ومكر، وألحوا على هذا، ثم أيضاً قال لهم (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). لاحظ أوفوا المكيال؛ لأنه شرح لك ما هو الانحراف السلوكي الذي حصل، طب ما معنى أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين؟ الآن لاحظ الناس بتفسر الموضوع إنه ميزان ونقص في الميزان. كل شيء في الحياة ميزان.. أي عقد أنت تتعاقد بناء عليه لتقدم عملاً فتحصل مقابله على أجر؛ هذا ميزان، إذا أنقصت الخدمة التي أنت تعاهدت أن تقوم بها، فقد أخللت بالميزان ونقصته. إذا أنقص عليك الأجر أيضاً أخل بالميزان، إذا أعطاك أجراً لا يليق أصلاً ولا يؤهلك للحياة الكريمة في المجتمع الذي أنت تعيش فيه، حتى لو حصل بالاتفاق بين مجموعة مثلاً من أصحاب العمل، واستبدوا بالأمر؛ هذا ليس وفاء بالميزان، هذا نقص من الميزان، والميزان معناه كبير جداً، ولذلك ذكر في سورة الرحمن، وذكر في سورة الحديد، (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)؛ فالميزان هو النظام الذي يزن أي نوع من العلاقات فيها طرفان".


الخلل في الميزان.. خلل سلوكي

وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "يعني إذا راح تشتري من دكان شغلة ما، ورفع عليك السعر وأعطاك بضاعةً أقل من الميزان، معناه خلل في الميزان؟"، قائلاً: "قطعاً؛ هذا خلل سلوكي؛ يعني البناء نفسه ما فيه مشكلة بُني بطريقة جيدة والهدف نبيل؛ لكن انتقلنا إلى مرحلة السلوك، استخدام الأبنية واستخدام المصانع؛ أثناء السلوك حصل الاختلال في الموازين. هذا ما حصل عند قوم مدين. يعني تلاحظ التدرج الذي تتحدث عنه الآيات من قوم نوح إلى قوم عاد ثم ثمود ثم مدين. كيف أنها انتقلت من شيء إلى شيء؟ من الأبنية ثم إلى السلوك أثناء الأبنية، وقبل ذلك اللي هوّ التقديس للأشخاص عند قوم نوح؛ بسبب جاههم ومالهم وأنهم أصحاب رؤوس أموال، وأنهم عندهم جاه. يعني تدرج معك لجميع الصور التي تشاهدها من الانحرافات الموجودة في المجتمعات البشرية اليوم. والتي تؤدي في النهاية إلى القضاء أو إلى الحياة السيئة التي يعانيها المجتمع، هذه نتيجة طبيعية. يعني قديماً كان ربنا سبحانه وتعالى ينزل عقوبةً بنفسه، فينهي الأمر.. الآن ترك الأمر، إنه القوانين الكونية نفسها سُنن الله، ستجعل المجتمع يعاني ويتألم ويتعذب، بسبب هذا الانحراف".


حقاً يعبد الله في الأسواق.. كيف؟

وأضاف أستاذ اللغة العربية المختص في الدراسات اللسانية العربية: "كلمة الأسواق هي ترجع أصلاً إلى الساق، أي شيء فيه حركة لساق الإنسان، نوع من الحركة، هذا سوق. فحقاً يعبد الله في الأسواق. وإذا أردت أن تكشف عن العبادة الحقيقية لله اكشف عنها حين تتحرك السوق وتتداخل، يعني سوق الناس بعضها ببعض.. معاملاتهم، بيعهم وشراؤهم، علاقاتهم وتوظيفهم وأداؤهم العمل، وتقديمهم للأجر، وحصولهم على الأجر.. هذا كله ميزان. الآن عندنا سلوكيات كثيرة نراها اليوم في المجتمعات، شركات التأمين هي شركات التأمين التي عملت للتأمين على البيوت أو السيارات، الأصل أنها بنيت بطريقة نبيلة وهدف نبيل. يحقق مبدأ تكافلياً عظيماً في المجتمع، بس أنت لما يصير عندك حادث مثلاً في السيارة وتروح تريد أن تنتهز، تأخذ أكبر قدر من المال من شركة التأمين. بعدين بيجي يذهب ليسأل، يقولون له ما هو أصلاً التأمين كله على بعضه حرام، شوف الطريقة التراثية، وبعض الناس تأخذ أكبر ما تقدر، هؤلاء شغلهم كله شغل حرام. طيب، هذا ألا يتوافق مع ما نهى شعيب قومه عنه (وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ)، و(أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ).. فيه ميزان، لو أنت فعلت هذا وهذا فعل هذا، في النهاية ستنهار شركة التأمين، سينهار النظام التكافلي الذي كان يحميك ويحمي غيرك.. لاحظ كيف الموضوع هذا؟ شرعنت هذا السلوك، هذا قد يصدر السلوك؛ إنما من يشرعن هذا السلوك هو في الحقيقة يصنع منهجاً تأليهياً لغير الله؛ فيجعل الناس يعبدون غير الله على لسان شعيب، عليه السلام، وليس مجرد فلسفة تُقال. وأيضاً مما ذكره شعيب من السلوكيات (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا). وهذا معناه الوقوف عقبة في طريق الناس الطبيعية. إنسان يسعى؛ هذا المعنى العظيم، المعنى المباشر قد نجده في صورة الذي هو قاطع الطريق. أنت تقعد في الطريق توعد، معناها توعد من الوعيد وليس من الوعد. يعني فيه نوع من التهديد؛ وتصد عن سبيل الله، أنت بالتالي معناها ماذا تفعل؟ ما هو الصد عن سبيل الله هنا في هذه الحالة، الحالة الطبيعية سبيل الله. إنه لا تحصل على المال إلا بعمل أو جهد تقدمه فتأخذ مقابله، مالاً حلالاً صافياً. أنت الآن لما قعدت في الطريق فقطعت الطريق على الناس، فنهبت أموالهم، ماذا فعلت؟ هل غيرت الطريقة الربانية الطبيعية التي خلقها الله في الوجود ولَّا لا؟ هل صددت عن سبيل الله؟ هذا هو..".


الاعوجاج نهايته الدمار النهائي والمطلق

وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "ألا يمكن اعتبار الرشوة مثلاً جزءاً من الصد عن الطريق؟"، قائلاً: "كل عمل يضع لك عثرة في طريقك الطبيعية الحقة التي أنت تستحق بالوضع الطبيعي والفطري والحقوق البشرية الطبيعية أن تصل إليها، فوضع لك عثرة، فهو مشمول بهذا الكلام. فهو قعد بكل صراط يوعد الناس ويصدهم عن سبيل الله، ويبغيها عوجاً وتبغونها عوجاً، وتصدون عن سبيل الله من آمن به.. (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا). يعني أنا أسلك سبيلاً حسب ما أمرني الله في الكون؛ أن أعمل وأحصل على نتيجة عملي، (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم). هذا هو إيماني بالله. الآن أنت ماذا تفعل؟ تأتي فتنحرف بي، تريد أن تحول الطريق هذه إلى طريق عوجاء، ولذلك قال (وتبغونها عوجاً)؛ يريد للطريق أن تكون معوجة وليست الطريق المستقيمة التي أنشأ الله الكون والخلق بناء عليها. ويريد أن يجعل الطرق كلها معوجة، لذلك أصبح هذا اصطناعاً لإله جديد؛ لأنه صنع منهجياً، شرعن الموضوع، يعني صنع منهجية فصارت عوضاً عن أن تصل بالطريق المستقيم، لا بد من الاعوجاج. طب النتيجة بعد ذلك؟ يكون مثلاً صاحب تجارة كبيرة جداً مَن ليس بأهل للتجارة. أنا أستحق أن أدخل إلى الجامعة، وأنت وضعت عثرة أمامي. ما العثرة التي وضعتها؟ أن فلاناً لمعرفته بك أو لرئيس الجامعة أو لكذا، أخذ المقعد الجامعي. الآن النتيجة؟ النتيجة هذا أخذ شهادة طب مثلاً. أنا كنت مستحقاً أن آخذ شهادة الطب، هو أخذها وهو ليس مستحقاً، هناك إنسان مستحق للأمر فقدَه. هناك إنسان غير مستحق نالَه. الآن، ماذا سينتج عن ذلك؟ هناك مرضى يحتاجون إلى العلاج، هل سيعالجون بالطريقة الصحيحة؟ لاحظ انحراف المسار، نهاية الاعوجاج الدمار النهائي والمطلق، مع أنه كما قلنا البناء الأصلي كان نبيلاً ليس فيه إشكال؛ إنما حصل بعد ذلك في استخدام الأبنية والمصانع في...".


معنى العبادة والالتزام بالسلوك

وأجاب أستاذ اللغة العربية عن سؤال "إذن لهذا الآيات تشدد على أن معنى العبادة هو الالتزام بالسلوك المعبد أو بالسلوك المنوي اتباعه وَفق سُنن الله الطبيعية في الكون؟"، قائلاً: "ها هذا هو، وهذا هو.. إحنا قُلنا سورة الفاتحة تختزل كل هذه المعاني، لماذا (إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم)، ما معنى (اهدنا الصراط المستقيم)؟ يعني كيف سيهديك الله إلى الصراط المستقيم؟ الموضوع واضح. الكون مفتوح أمامك كله، كل شيء الوصول إليه بالطريقة المباشرة التي ليس فيها اعوجاج واضح جداً من خلال تتبعك قوانين الفيزياء والكيمياء والأحياء والمال والأعمال، وغيرها من الأمور التي تدرس، لما تدرس بطريقتها المنهجية البحتة، تفهمك السبب كذا، والنتيجة كذا، الآن لما تدخل يد اللوث التي تعيث فساداً يحصل هناك اعوجاج".


وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ

وأضاف د.يوسف أبو عواد رداً على "هل يمكن تعريف الصراط المستقيم بالبنود التسعة التي جاءت في الآية، (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)؟": "لم تفصل تفاصيل الصراط، يعني هناك تسعة بنود أو عشرة تقريباً (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). الآيات التي تُسمى آيات الوصايا العشر هي في الحقيقة ومثلها أيضاً في سورة الإسراء. ذكر الله، سبحانه وتعالى، آيات في سورة الإسراء أيضاً تعطيك المبادئ العامة للسلوكيات، للقيم البشرية في منظومة القيم. ومن أهم هذه المبادئ على فكرة هو (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا...)، ولا علمت ولم تعلم؛ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً؛ لأنه هون يخاطب به الأتباع. طبعاً هم الذين صنعوا من أنفسهم متبوعين وآلهة. هو لا يخاطبهم بهذا الخطاب؛ لأنه عارف نفسه منحرف، إنما يقول للأتباع أنت استيقظ على نفسك لما تسمع أو يطلب منك أحد أن تتبعه في طريق؛ فأنت محاسب، لأنك أعطيت السمع والبصر والفؤاد. ولم تستخدمه، فلا تقف ما ليس لك به علم. وقال في نهاية الوصايا (كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُۥ عِندَ رَبِّكَ مَكرُوهًا). ومثلها أيضاً ذكر في سورة الأنعام. طبعاً هذه تحتاج في بسطها إلى حلقات أخرى منفصلة؛ لكن يمكن أن يُقال إن هذا هو الصراط المستقيم بكل بساطة، الموضوع في القرآن الكريم ربنا، سبحانه وتعالى، قال (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)".


قوم لوط.. انحراف سلوكي واصطناع منهج

وتابع أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "الآن سنذهب إلى صنف آخر من الأقوام، وهو قوم لوط. من الملاحظ أن لوطاً، عليه السلام، لم يقل لقومه اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. وإنما جاءت سياقات النص القرآني (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ) إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء.. الآن الانحراف السلوكي واصطناع منهج الآن، وجود شخص يحصل عنده انحراف في العلاقة الجنسية؛ بحيث يصل إلى المثلية الجنسية، هذا السلوك قد يكون وجد كثيراً في تاريخ البشر. لكن هناك فرق كبير بين أن نتعامل معه على أنه ظاهرة غير طبيعية، نبحث لها عن علاج يعيدها إلى الجادة الطبيعية أو أن تكون سلوكاً متبعاً، وأن نشرعنها فتصبح سلوكاً متبعاً حتى يدخل فيها من لم يكن من أهلها أصلاً. يعني هل يعقل أن قوم لوط لنفترض أن هناك كانت مشكلة مثلاً جينية ولّا مشكلة في الطفولة ولّا.. إلى آخره، هل يُعقل أن المشكلة عمَّت القوم ولَّا الباقي تبعه؛ بسبب شرعنة الموضوع وتفتيح دعوة الناس إليه واصطناع صراط معوج يجذب الناس إليه، فأصبح الناس كلهم يسلكون هذا المسلك. حتى أصبح الإنسان الطبيعي كأنه غريب. طبعاً هناك لفتة في الآية، الآن إذا كان الذكور يأتون الذكور أين ستذهب النساء؟ تلقائياً إلى النساء، فهذا تكريس المثلية المطلقة.. طيب قال (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ). طبعاً كانت النتيجة أن الله أهلك قومه. لكن اللفتة المهمة جداً، لما تحدث ربنا عن قوم لوط، ماذا قال؟ فأخرجنا لما جاءت العقوبة، يعني قال (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، إذن يعني لم يقل حتى المؤمنين، قال المسلمين؛ اللي هو درجة أدنى، وسنشرح هذا في حلقات لاحقة.. لكن الشاهد الآن أن الآية تصف قوم لوط جميعاً بأنهم لم يكونوا مسلمين، إذن هم لم يعبدوا الله؛ لكن جاءك حتى يعطي تركيزاً كبيراً؛ لأنه هذا انحراف هائل جداً، وصول إلى مرحلة أنت تتلاعب ليس فقط في البناء وليس فقط في السلوك، وصلت إلى مرحلة تتلاعب في بنية البشر الداخلية أو التلاعب في جينات الإنسان والسعي إلى تغييرات جذرية ليس لغرض العلاج طبعاً والأمراض، إنما لغرض صناعة الإنسان الخارق أو الإنسان الذي ليس عنده مشاعر أو الإنسان، وهذا التلاعب قد يكون على مستوى الجينات بطريقة حيوية وقد يكون بطريقة سلوكية نفسية، مثلاً أنت حين تصنع جندياً تميت عنده جميع أشكال المشاعر الإنسانية، طبعاً تلاعبت بالضبط الأصلي لهذا الإنسان، ثم صنعت منهجاً لهذا التلاعب، إذن أنت وصلت إلى ما وصل إليه قوم لوط.. هل هذا إسلام وعبادة لله؟!".


أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين

وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "ما رأيك بالذي ينظر إلى فهم الآية من منظار لساني أوسع من مسألة اعتبار أن الرجال هم ذكور؟"، قائلاً: "هي كلمة الرجال قد يكون لها إطلاق؛ لكن لما قال لك في النص الآخر (أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ). ولما سماها فاحشةً أيضاً، تسمية الفاحشة بالقرآن متعلقة بالأمور الجنسية، فلما سماها فاحشة ولما فسَّر الرجال بالذكران، عرفنا أن المقصود هنا من الرجال هم الذكور، وإلا كلمة رجال لها إطلاقات، وقد تطلق على غير هذا المعنى، وكذلك كلمة النساء؛ لكن في هذا السياق ليس هذا هو المقصود. وحتى أيضاً في خطاب لوط لقومه (قَالَ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ).

لاحظ إلى أية درجة يريد أن يصرفهم؛ يعني مع أنهم يعني كما يُقال لا يزوجون يعني في عرف اليوم، لا يستحق مثل هذا أن يزوج؛ لكن لأنه هو يعرف نتيجة هذا الإنحراف الذي أصبح منهجاً وليس مجرد سلوك فردي". 


وتابع د.يوسف أبو عواد رداً على "يعني لمّا النبي يقدم بناته كبديل مثلاً، فما المقصود بالبنات، هل بناته بيولوجياً أم ماذا؟": "هو كونه من كبراء، هو يعني كأنه يقول لهم إنه ربما أن ما يعني ما يحول بينكم وبين أن تعودوا إلى الفطرة الطبيعية، إنه لن يقبل أحد أن يعطيكم بنات، فالبنات هؤلاء كلهن بناتي، وأنا أكفل لكم هذا الأمر، لكن عودوا، فلم يكن هناك استجابة في نهاية المطاف. أما إذا انتقلنا إلى قصة موسى ونحن ذكرنا أن فرعون وصل إلى مرحلة، لاحظ التأليه الآن؛ إما أن يكون يعني للمنهجية كان أو لسلوك معين أو لتصرف معين كما قُلنا في قوم لوط. لكن أن يصل البشر إلى مرحلة التصريح بأن شخصاً إله، إذن هذه قمة الشرك والبعد عن عبادة الله. فقال (يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي). طب ماذا ترتب على ذلك؟ (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ). هذا نهاية الفساد الذي استغربت منه الملائكة لما قالت (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)، (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً)، ركز على الفكرة، ما معنى (جعل أهلها شيعاً)؟ يعني يبث من الأفكار ما يجعل الناس يتحولون إلى أحزاب، إلى فرق، إلى شيع.


 هذا الذي فعله فرعون، ثم لما صاروا شيعاً، صار من السهل عليه يستضعف طائفة منهم. صار من السهل أن الطائفة الأخرى لا تتدخل. أنتم ترون أنه يستضعف طائفة منكم، يذبح أبناءهم. ما الذي سيحجزه عنكم بعد ذلك؟ لكن هم الذي منعهم أنه خلاص أنت مذهب كذا وأنا مذهب كذا، أنت فكر كذا وأنا فكر كذا، أنت.. وكأن الأمر لا علاقة له به، هذا الذي صنعه فرعون ليكرس فكرة ألوهيته أو تأليه نفسه. وهذا في قمة العنجهية وقمة الانحراف عن منهج الله. وفي الأخير قال (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي). ولذلك ليس من العجيب أن نجد القرآن الكريم يقول (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) ويقول (فَٱستَخَفَّ قَومَهُۥ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُم كَانُواْ قَوما فَٰسِقِينَ)، والفسق هو خروج عن المألوف في السلوك العام، خروج عن الفطرة الأصلية، (الفسق) على فكرة ترجع للأصل الجامد لكلمة الفستق المعروفة، الذي إذا أردنا أن نأكله يعني نضغط على القشر فيخرج الفستق من لبة الفستق من القشر. الآن أنت لما وضعك الله، سبحانه وتعالى، في النظام الأصلي للفطرة؛ إذا خرجت عن هذا النظام فهذا يسمى فسقاً، خرجت عن النظام الذي أنشأك الله بناء عليه".


المشركون وسلوكيات الانحراف

واستطرد أستاذ اللغة العربية: "طيب يبقى أن يُقال هل حصل شيء مثلاً مع نبي الله محمد، عليه السلام؟ قطعاً سيكون حصل مثله،. لأنه هو أصلاً جاء إلى قومه، فقال (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ)، كما قال سائر الأقوام. ما السلوكيات التي كانت عند المشركين التي فيها انحراف، والتي مثَّلت عبادة لغير الله عند العرب، عند مشركي العرب؟ لاحظ، (وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ)، سورة الأنعام التي سأذكر الآيات منها الآن بالمناسبة تتحدث عن شرك العرب تحديداً، لم يذكر فيها قصص الأنبياء أبداً؛ إنما ذُكرت أسماؤهم في إحدى صفحات السورة فقط، طيب (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ)، الآن الفكرة يقول لك الوأد الذي كان، وأد البنات.. وإلى آخره؛ هو في الحقيقة القرآن يشير إلى أن الوأد لم يكن فقط للبنات، هو كان بشكل عام للأولاد، لاحظ كلمة (أولاد) في النص القرآني تشمل ذكوراً وتشمل الإناث. لكن هو ماذا قال السياق؟ لاحظ السياق العجيب. (وكذلك زيَّن لكثير من المشركين قتل أولادهم، مَن الفاعل، مَن الذي زين؟ شركاؤهم. هل وصل موضوع التأليه إنه يأتي أحد يصنع هناك منهجية، يقنعك أن تقتل ولدك، فتستجيب له؟ إلى أية درجة يؤدي الانحراف عن فطرة الله وسنن الله والسير وراء منهج الله، بالإنسان إلى أين سيصل به في نهاية المطاف إلى أن يقتل ولده لإرضاء شركائه؟ طيب هل نحن وجدنا مثل هذا مثلاً عند بعض الطوائف وبسبب التعصب وكذا؟ قطعاً وجدنا صح، يعني هل حصل في التاريخ أن إنسان قتل ابنه فقط لخلاف ناتج عن..؟ أعطيك مثلاً (داعش)، هل ما كان الواحد منهم يصل إلى مرحلة مستعد أن يقتل أباه أو يقتل ابنه، لأنه خالفه؟ طيب في إيه هوّ خالفه؟ في جوهر، هو يعرف جوهر للدين، هو يعتبر مسائل الفروع التي أخذ فيها رأياً يعتبر جوهراً وركناً من أركان الدين، وإذا خالفته فيه من السهل جداً أن يعطيك حكم الكفر، وبالتالي يقتلك..".


التركيز على السلوكيات

وأضاف د.يوسف أبو عواد: "هو اصطنع لنفسه شريكاً؛ لم يصل إلى المنهج الرباني، لم يتعامل مع الحياة والكون بالمنهج الرباني الأصلي، واصطنع لنفس شريكاً، فقدسه، فأوحى له أن يصل إلى مرحلة أن يقتل أباه ويقتل ابنه.. (لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ). أيضاً من الأمثلة التي ذكرها القرآن عن نتيجة شرك المشركين. طبعاً أنا لماذا أركز؟ هناك نقطة مهمة يعني لماذا أركز على أن أذكر السلوكيات؟ لأنه أريد أن أعالج فكرة من إلغاء يعني هي الغاية في السلبية في فهم الناس. يظنون أنه غضب الله حين عبد غيره، يعني هذا العقل الباطني حتى لو لم يصرحوا بالكلام. إنه كأن الله غضب يعني زعل وتأثَّر وكيف تسجد لغيره؟! لا هو يعطيك النتائج، يقول لك لاحظ عبدَ غيري، ماذا يحصل؟ أنا سأعطيك ماذا يحصل؟ الغضب ليس يعني، حاشا لله، أن يكون أن الغضب هو نتيجة تأثر الغضب هو لكم. إنما يغضب لكم وإنما يرضى لكم. بس هذا هو، ولذلك قال (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)؛ معناها لماذا رضي الشكر؟ هل رضيه لأنه له انتفع به ولّا؟ للناس أكيد؛ لأنه أن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر. مش ولا يرضى لنفسه، نفسه لا تتأثر جلَّ في علاه؛ لا يرضى لعباده.. وإن تشكروا يَرْضَهُ لكم. فقال (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ). ولذلك قال لهم في سورة يونس (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)، يعني التحليل والتحريم؛ زيادة على ما حرم الله، وهو تدخل في شؤون الله، والآيات تركز على فكرة التحريم طبعاً لأنها أشنع، فالأصل في الكون الحلال. الحل؛ لأن الله امتن به على الناس، لا يحرم إلا ما حرمه الله، هذا التوسع في التحريم الذي نتج عن تقديس لأشياء معينة عند المشركين جعلها تحرم على الأطفال شيئاً وعلى النساء شيئاً وفي الأنعام ومن الأنعام، وتحرم نفسها من النعم..".


وتابع المختص في الدراسات اللسانية العربية: "لاحظ كيف يذكرها باسم الأنعام؟ لأنه يقول لك نعم حرمت نفسك منها فقط؛ لأنك اتخذت شريكاً مع الله، ثم قال لهم في طريقة وعظية، يعني حتى توقظ ما بقي من مشاعر ومن وجود للإنسان (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ)، فالناس فكروا التحريم، والله احتياطك شيء جيد يعني".


قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا "أَوْلادَهُمْ" سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ

وناقشَ د.يوسف أبو عواد "قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ"، قائلاً: "استخدم الأولاد في بداية السياق، (وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ)، واستخدم الأبناء هنا حتى يشير لك إلى أنه هنا الابن يعني من صلبه أصلاً، يعني (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ)؛ معناها يعني هو من صلبه، إلى أي درجة وصل هذا الأمر. بعدين هو الآن في السياق الأخير هو في سياق الوعظ ومخاطبة ما بقي من إنسانية لديه. (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ)؛ يعني راجع نفسك ما الذي أوصلك إلى هذه المرحلة، أن تضحي بابنك يعني؛ لكن هل هناك إن كانت الظاهرة سائدة مثلاً أن العرب قتلوا أولادهم هي في عهد النبوة. قد يُقال أكثر من كونها سائدة، هي ممنهجة، بمعنى هناك منهاج.. هناك مَن يدعو وهناك مَن لم يبقَ عنده أدنى حد من السمع والبصر والعقل، فكان يطيعه ويسير وراءه في هذا. وهذا هو تأليه غير الله.  الدعاوى هذه كثيرة، يعني الآن أنت لا تجد إنساناً نصف راتبه بدل ما هذا نوع من القتل. والقتل قد لا يعني الذبح صح. ألا تجد أناساً بسبب هذا التقديس للبشر وجعلهم وسائط، يأتي نصف راتبه أول ما يقعد الراتب، يذهب فيضعه في عند الوالي الفلاني أو عند الصالح الفلاني أو عند آل البيت الفلاني أو عند كذا أو عند الشيخ الفلاني والحاجة الفلانية، وهو بأحوج يعني ما يكون إلى هذا المال، أين ذهبت أسرتك وأين ذهب أولادك؟ ولهذا قتل أبناءه أو أولاده؛ بمعنى إن حرمهم طبيعة الحياة. حرمهم طبيعة الحياة؛ لأنه اتبعَ زيّن له شريكه هذا الفعل، فاتبعه على غير منهج الله؛ هذا سلوك موجود، طبعاً موجود. للأسف حتى هذه السلوكيات يعني نجدها، يعني ممكن هذه السلوكيات التي ذكرتها في عهد العرب الذين بعث فيهم النبي محمد، عليه السلام، للأسف هي أكثر ما تكون في الأمة الإسلامية اليوم أو المنتسبة إلى دين الإسلام، وهذا عجيب، مع أن القرآن كان واضحاً تمام الوضوح في هذا".


الأنبياء كانوا ضروريِّين في الأمم

وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "هل يمكن أن يُعيدنا لهذا السبب أن الأنبياء كانوا ضروريين في الأمم؟"، قائلاً: "هو كما قُلنا في مقدمة الحلقتَين إنه البشر بفطرتهم الأصلية، الفطرة تدلهم على هذا المنهج أصلاً، كانوا أمةً واحدةً.. لكن لما استحدثت المنهجيات التي تصد عن العبادة الخالصة لله، فولدت جميع أشكال فساد المجتمعات التي حصلت والتي نراها ولا نزال نراها يعني. جاء الأنبياء ليحسموا هذا الخلاف؛ حتى لا تبقى حجة لإنسان، والله ما الناس مختلفون وأنا لم أعرف إلى أين أذهب. لأن الاختلاف يحدث ضوضاء، ويقضي أحياناً بدرجة معينة على الفطرة الأصلية للإنسان، لكن يقول قائل طب ما هو بعد ما نزل الكتاب برضه اختلف الناس، يعني سياق الآية لاحظ إنه (وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)، ثم قال (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ)؛ معناها هم اختلفوا حتى بعد نزول الكتب. فيقول يعني إذن الكتاب لم يحسم خلاف؛ لكن هو ماذا قال؟ (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)، يعني الآيات واضحة. طب واضحة كيف يعني؟ هل يقصد أنها واضحة من حيث إنه لغة مفهومة؟ لا. ينبغي أن يكون الوضوح في المعنى؛ يعني إلى أي لغة من لغات العالم ترجم هذا المعنى، سيكون واضحاً للجميع ما سر الوضوح؟ إنه يعيدك إلى محاكاة فطرتك الأصلية البشرية التي خلقت عليها. لذلك قال لاحظ (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)، من بعد ما جاءتهم البينات، شو سبب الاختلاف؟ بغياً بينهم، طيب إيه فائدة هذه الفكرة؟ فائدة صح، نزل الكتاب يحسم، وجاء الرُّسل ليحسموا...".


البغي وإشكالية تولُّد الفرق بعد نزول الكتاب

وأضاف أستاذ اللغة العربية: "لكن تولَّد نوع آخر من الاتجاه الشيطاني، الذي يصد عن عبادة الله من الدين نفسه. وهو (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ)، (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)، (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ). يعني الفرق التي تتولد بعد نزول الكتاب ويبغي بعضها على بعض. والسبب الأصلي أصلاً لتولد الفرق هو البغي. هذه الفرق قطعاً ستبعدك عن منهج عبادة الله الصافي النقي التي ذكرناها في ما سبق، وبالتالي هذه الآيات لما نختم بها الكلام هي تحذر من نهج آخر يأتي باسم اتباع الكتاب. ولكن في الحقيقة هو مرجعه فرقة، مذهب، منهج جديد بخلاف الكتاب الذي أنزله الله. معناها يقول لك احذر أن تذهب فتعتصم بغير الكتاب مع إحدى الفرق التي تنتسب إلى الكتاب، وهذا أكبر دليل على أن البشر.. نحن نتكلم الآن عن الكتاب الذي لم يتعرض إلى أي شكل من التحريف، وهو محفوظ، وهو القرآن الكريم. بمجرد أن تترك القرآن فتذهب إلى كتب أخرى، ستقع في الاختلاف".


وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ

وتابع د.يوسف أبو عواد: "وأنا أقول لك، هل تقع في الاختلاف الآن؟ يعني اذهب مثلاً إلى كتب الحديث؛ أنت تقع في إجماع ولَّا فيه اختلاف؟ اختلاف. لا يوجد إجماع، ليس هناك اختلاف كبير بين السُّنة والشيعة.. هناك أحاديث للسُّنة مثلاً، هناك أحاديث للشيعة. ثانياً الأحاديث التي مثلاً صححت، صححها بعض العلماء. طب هم صححوها بإجماع ولَّا باختلاف؟ ما كل الرجال المذكورون؛ فيه منهم مَن اختلف فيه. هذا صادق ولَّا غير صادق؟ لاحظ اختلاف. الفهم من الأحاديث إذا جعلتها المصدر الأول طبعاً هل سيؤدي إلى اختلاف؟ قطعاً سيؤدي إلى الاختلاف. الفهم، كتب الفقه، مذاهب، طب أين أذهب أنا؟ أتوه في كل ما يتعلق بالدين. طب هذا الاختلاف، القرآن نصَّ على أنه انحراف ولَّا ما نص؟ بل هو انحراف يؤدي بالإنسان إلى أن لا يحقق مفهوم العبادة كما أراده الله. ويبدأ يقترب.. كلما اقترب من هذا الشيء اقتربَ من أن يعبد غير الله تدريجياً حتى يتعصب بعد ذلك للطائفة أو العرق أو للطائفة أو المذهب أو شيخ المذهب أو شيخ الطائفة، فيقدس أقواله ويبتعد. فيعود القرآن فيذكّرنا إلى أن المستعصم هو الكتاب، وقد أيضاً ذكر الله أن هذا حصل مع أهل الكتاب، ونحن كنا قد تطرقنا في اللقاء السابق إلى مدى المطابقة، بين ما نشأ في التراث الإسلامي وما نشأ عند اليهود وعند النصارى، الآيات التي تذكر هذا الأمر في بداية سورة البينة (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). لاحظ (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ). قد يقول قائل يعني البينة جعلتهم يتفرقون؟ لا هو يقصد أن يقول لك لا عذر في هذا التفرق. فالبينة بين أيديهم. فعاد فقال (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).. الآن بيجي إنسان ما زال يفهم بالفهم التراثي يقول يعني أن يصلوا، ما إحنا شرحنا في كل ما سبق شو معنى أن يعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، بعدين جاء إلى الأمور الطقوسية، ويقيموا الصلاة، ثم عاد ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيمة، انتهى. الموضوع بسيط جداً، لا يحتاج إلى أن نتفرق وأن نتشعب، وأن نحدث مذاهب، الموضوع موضوع سلوكي وليس موضوع تركيز على حذافير لا علاقة لها أصلاً بمفهوم العبادة الذي وضحه القرآن الكريم من خلال قصص الأنبياء توضيحاً بالغاً". 


الدين اتفاق لا اختلاف

وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "يعني الآية هذه تنفي وجود المذاهب، تنفي وجود الطوائف، تنفي وتعلي أن الإسلام أو أن الدين هو عبارة عن سلوك وَفق مثلاً سُنن كونية أو سُنن طبيعية أو سُنن فطرية؟"، قائلاً: "نعم، وهي أيضاً تشير إلى أن الدين اتفاق وليس اختلافاً؛ لأنه قال (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) وذم هذا، (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)".


ما المقصود بـ"زُبُرًا" في "فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا"؟

وأوضح أبو عواد المقصود بـ"زُبُرًا" في "فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ"، قائلاً: "عفواً هو ذكر مراحل للاختلاف؛ أولاها اختلفوا (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب) ثم قال (تقطعوا أمرهم بينهم) في آية أخرى، وفي آية ثالثة قال (فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً). هذه مراحل الاختلاف؛ يبدأ الأمر بأن يختلفوا، والله اختلفت وجهة نظري في هذا حديث صحيح، هذا ضعيف. هذه المسألة حرام، هذه حلال، هذه تبطل صلاة، هذه لا تبطل صلاة. بعدين هذا الاختلاف لن يقف عند هذا الحد، سيؤدي إلى التقطع. (وتقطعوا أمرهم) معناها ينفصل كل واحد، عن الانفصال الآن. طيب لما قال تقطعوا أمرهم بينهم، الزبرا هو القطع، الذي لا اتصال بعده.. مفيش أمل ترجع الوحدة. سيصل الأمر بالأمة إلى أن تتحول إلى فرق لا أمل أن تتوحد؛ لأنه غلت وتوغلت في قضية الاختلافات والتفرقات بالبعد عن الكتاب، ولا أدري إذا لم يكن هذا النص واضحاً فأي نص يمكن أن يوقف هذا الاختلاف والتفرق على المسائل التي أصلاً القرآن الكريم لم يعطِ لها بالاً أصلاً، وفرقت المسلمين اليوم بعضهم عن بعض، وحتى أتباع الديانات السماوية جميعاً وليس فقط المسلمين كما يعني..".


وأجاب المختص في الدراسات اللسانية العربية عن سؤال "هي الآية تنسي، تنفي وجود طوائف؟"، قائلاً: "تماماً؛ هي لا تنفي الوجود، الوجود موجود.. هي تنفي شرعية، تنفي صدق انتسابها للكتاب والرسول؛ لأن الكتاب موجود، خلاص عندك الكتاب. والرسول ليس موجوداً، ما هو الرسول رسالته موجودة. وليه سُمي رسولاً، لماذا؟ سُمي رسولاً بحكم الرسالة. هذا الجانب اللغوي، كيف أعرف الرسول؟ من الرسالة، هاهي الرسالة بين يديك في الكتاب".


المبدأ واحد.. معايير أخلاقية وسلوكية

واختتم د.يوسف أبو عواد رداً على "إذن هذا أيضاً يعزز الحيوية الدائمة في الفهم المتبدل أو المتغير أو المتطور بنفس النص؟"، قائلاً: "نعم؛ لأن المفهوم واحد، المبدأ واحد.. هي معايير أخلاقية ومعايير سلوكية. التطبيق يختلف باختلاف الزمان والمكان؛ لأنه إسقاط، ولكن الجوهر هو واحد، هذا ليس اختلافاً هذا تنوُّع".