• Facebook
  • instagram
  • X
  • youtube
  • tiktok
  • apple podcast
  • google podcast
  • spotify

مرحلة البرزخ وما بعد الموت | د. يوسف أبو عواد

للإستماع





ناقشَ د.يوسف أبو عواد، أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، خلال لقائه د.باسم الجمل، عبر برنامج "مفاهيم"، مفاهيم "الموت" والفرق بين "ميت" و"موتى" و"أموات".. إلخ، ومركزية فكرة فهم العلاقة بين النفس والجسد، وتأثيراتها وتداعياتها على تغيير سلوك الإنسان تجاه ذاته وجسده وجسمه وبيئته التي يعيش فيها، وما بعد الوفاة أو الموت؛ حيث هناك ما يُسمى في اللفظ القرآني أو في النص القرآني "البرزخ" و"العذاب" و"النعيم"، وهل هناك حقاً عذاب ونعيم؟ وكيف يكون؟ وما علاقة القبر أو البرزخ أو حياة البرزخ بدفن الإنسان؟ وهل الجسد الذي يُدفن في القبر ويهترئ ويُفنى له علاقة في المرحلة القادمة ما بعد البرزخ أو ما بعد البعث؟ وكيف يكون إذا كانت هناك علاقة؟ وما سيكون دور النفس في البعث؟

 

بعد التوفي.. مرحلة أخرى تنتقل إليها النفس

وقال د.يوسف أبو عواد، أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين: "نحن في الحلقة الماضية أثبتنا أن الجسد يوصف بأنه ميت ومنقطع الصلة تماماً عن كل شكل من أشكال الوعي، وأنه هو ما يبعث ويصبح عظاماً ورفاتاً، وفي الحقيقة يعني الواقع يشهد بهذا، يعنى تلمس أنني أذهب فأبحث عن أثر للنعيم والعذاب على الجسد، هو في الحقيقة فكرة سطحية جداً، وفكرة حسية إلى أبعد الحدود؛ لا تتفق مع القرآن ولا تتفق مع الواقع، لكن القرآن الكريم فرَّق النفس ووصفها بأنها تتوفى، والتوفي معناه استكمال، يعني هناك مرحلة أخرى تنتقل إليها النفس، فلما نجد قوله تعالى (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)؛ فقوله (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) هذا الكلام فيه احتمالان؛ الآن هل يقول هذه الكلمة في لحظة النزع مثلاً أو في لحظة الاحتضار، ولا يقولها بعد مفارقة النفس للجسد مفارقة نهائية لا عودة بعدها؟ لأنه مفارقة النفس طبعاً منها ما يكون بسبب النوم؛ (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)؛ والتي تمت في منامها، لكن التي تنام ترجع إلى الجسد، (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ)، لاحظ كيف يمسكها ليس تفنى، ليس تبلى، هكذا، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى؛ فإذن النفس هي في حالة توفي الجسد هل يقول هذا الآن (رَبِّ ارْجِعُونِ)، في حالة الاحتضار، ولَّا بعد إذا أثبتنا بالأدلة اللسانية أنه هذا الكلام بعد الانفصال التام والنهائي للنفس عن الجسد؟.. إذن سنثبت أن هناك وعياً يبقى موجوداً للنفس حتى بعد مفارقتها الجسد".

 

"قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ".. إشكالية انقطاع النفس عن الجسد

وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "وهنا يصبح الجسد غير ذي صلة بالموضوع؟"، قائلاً: "طبعاً؛ الجسد غير ذي صلة، اتفقنا على هذه النقطة؛ الجسد لا صلة له بهذا الأمر، فقالوا (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) لما قال (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ).. نفهم أن هذا الكلام بعد الموت؛ لأنه ترك أشياء خلفه، ثم قال (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا)؛ آه يعني إذن لا رجعة بعد ذلك، معناها الكلام قطعاً سيكون بعد المفارقة؛ لأنه لو لم يكن قبل المفارقة هو أصلاً لم يمُت حتى يقال له كلا، وهو قال رَبِّ ارْجِعُونِ ما قال مثلاً رب أمهلني، يعني لو كان ما زالت النفس متصلة بالجسد حتى في لحظة الاحتضار، لن تكون الكلمة المناسبة لسانياً (ارجعون) ارجع يعني تحتاج إلى أن تعيد اتصال النفس بالجسد وَفق ما شرحنا؛ لكن (أمهلني) معناها أعطني وقتاً حتى أعيد أو أصلح أشياء معينة كنت قد أفسدتها، وأيضاً لما قال له (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا) معناها لن ترجع، ولما قال (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)؛ أثبت بالدليل الثالث يعني ثلاثة أدلة، كلمة (ارجعون) وكلمة (كلا) وكلمة (برزخ)، تدل على أن الكلام الذي تذكره الآية هنا هو كلام بعد المفارقة التامة، طب وجود كلام وحوار بعد المفارقة التامة بين العبد وربه ألا يدل على أنه الوعي، وعي النفس موجود؟ هذا يتفق تماماً مع المعنى اللساني لكلمة (يموت) التي ذكرناها، وهو أنها النفس تنقطع من ناحية اتصالها بالجسد، تنقطع عن الجسد؛ لكن ليس معناها أنها تفقد وعيها".


انتقال وعي النفس إلى الفهم ومفهوم "البرزخ"

وأضاف أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين رداً على "يعني صيغتها مع رب العالمين تبقى قائمةً مثلاً؟": "وعيها أينعم؛ الوعي الموجود بالنفس، لكن الآن وعي لا يعتمد على الجسد، لا يعتمد على الحواس؛ إنما ينتقل إلى مرحلة الفهم، ولذلك قال في الآية الأخرى (فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)؛ يعني شديد الحدة، هنا الحديد ليس معناه معنى الحديد، إنما هي صفة مشبهة كما قُلنا حديد أو قد يُقال صيغة مبالغة؛ بأنه شديد الحدة، بمعنى أصبحت عندك البصيرة المطلقة، وكنت قبل ذلك تتوقف عند الحدود الحسية، الآن كشف لك الأمر الذي طلب منك أن تجاهد حتى تصل إليه قبل هذه اللحظة، فبقدر مجاهدتك في الحياة تكون النتيجة؛ لكن يبقى أن يُقال كلمة (برزخ) هذه يعني (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، كيف نفهم ما معنى كلمة (برزخ)؟ في الحقيقة وردت كلمة (برزخ) في سياق آخر في القرآن الكريم في قوله تعالى (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ)، فأيضاً قال (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا)، جعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً معناها (البرزخ) الذي نفهمه الآن ونراه في الواقع، حين يلتقي الماء العذب بالماء المالح، أماكن التقاء الماء العذب بالماء المالح، يحصل فيها حاجز مائي، هذا الحاجز المائي يختلط فيه الماء العذب بالماء المالح؛ لكن إلى جانب الماء العذب يعني يشكل حاجزاً بحيث لا يحدث تداخلاً كاملاً، لا يحصل تداخل كامل بين الماء العذب والماء المالح، يحدث فصل ناتج عن اندماج بين الأصلَين، يعني اندمج الأصل الأول، الشيء الأول مع الشيء الثاني؛ فشكَّلَ هذا الاندماج فاصلاً منع الاندماج المطلق والاندماج الكامل، الفاصل لم يأتِ من شيء خارجي؛ إنما الفاصل من نفس المكونَين اللذين يتكون منهما البحران، العذب والمالح، شكل (برزخ)، إذن نفهم من هذا أن البرزخ عبارة عن فاصل يتشكل بين شيئَين موجودَين أصلاً يمنع أحدهما أن يختلط بالآخر اختلاطاً كلياً، طيب ما هما الشيئان الموجودان أصلاً قبل أن يموت الإنسان؛ النفس والجسد، طبعاً يعملان وَفق نظام الروح؛ لكنَّ الشيئَين الموجودَين في عالم لخلق النفس والجسد".


حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ

وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "ألا يمكن فهم ذلك أنه المقصود فيها طرفا الحياة الدنيا وطرفا الحياة الآخرة؟"، قائلاً: "لأ؛ ما هو الكلام الآن يتحدث عن انفصال يتحدث عن فاصل بين شيئَين؛ يتحدث عن حالة الموت، ويتحدث عنهم يعني يقول (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، هؤلاء الذين تكلمت عنهم الآية، (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ)، فقال (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، وأيضاً نحن بيَّنا أن الآية تشير إلى أن الوعي يبقى مقترناً بالنفس في هذه الحالة؛ لكن هل هو وعي مطلق ولَّا هو نوع من الوعي يختلط فيه الوعي الذي كان موجوداً أثناء الحياة باللا وعي الذي يفترض أن لا يوجد أصلاً في حال الانفصال؟ فلذلك البرزخ يعني في التحليل الذي لعله أقرب أن يكون إلى الدقة، هو حالة تكون فيها النفس ليست هي بالوعي التام والمطلق والمستمر الذي كانت فيه في الحياة، ولكن أيضاً هي ليست في حالة عدم وعي مثلاً مثل الجسد الذي أصبح في حالة موت. إذن هي حالة يدخلها صاحب النفس هذه؛ ليست هي حالة النفس صاحبة الوعي الكامل وليست هي حالة الجسد المنقطع انقطاعاً تاماً، والذي أصبح ميتاً؛ فيكون هناك نوع وعي يمكن أن نسميه نوعاً من الوعي أو نوعاً من الحياة من باب تسهيل الفهم، يعني جعل هذا الذي خرجت نفسه يتكلم فيقول (رب ارجعون )".


وَمِن "وَرَائِهِم" بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ.. "ورائهم" إيحاء مادي أم معنوي؟

وأضاف د.يوسف أبو عواد رداً على "كلمة وراءهم في (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) يعني هو استخدم صيغة الجمع، وراء مَن؟ وراء الناس بشكل عام؟": "هو قال (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ)، إذن الأحد يعني هو يتكلم عن جمع من أول الآية؛ أحدهم يتكلم عن الضمير (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ).. و(ورائهم) في (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ) هي تعني إيحاء معنوي قطعاً؛ لأنها تشير إلى فترة زمنية اللي هي فترة البرزخ؛ ولكن يعني ليس شرطاً أيضاً أن تكون خاضعةً لبُعد الزمن، لأنه الآن أنت خرجت عن بُعد الزمان وبعد المكان، فهنا كلمة وراء هي معناها مفهومي كبير جداً؛ يعني ليس له في الحقيقة، يعني معناها الحسي مش موجود أصلاً؛ لأنه الوراء الحسي وراء إما مكاني وإما وراء زماني؛ لكن هنا نحن نتكلم عن حالة خرجنا فيها عن الحدود الزمانية والمكانية، لأنه أنت تتعامل مع النفس الآن. 


ونحن قُلنا دائماً جمال القرآن الكريم أنه لا بد أن تكون هناك آية في الكلمات المفهومية خاصة تعطيك المعنى الحسي الأوَّلي، ليه؟ حتى لما تنطلق إلى المعنى المفهومي يكون لك سمت، يعنى فيه ضابط، يعني مش تذهب إلى معانٍ باطنية وتخرج عن حدود المعاني، وبعدين ممكن بعد ذلك أن تركب على الكلمة أي معنى تريده، لأ؛ كيف تعرف أنك منضبط في الفهم؟ البعد المفهومي للفظة، تذهب إلى معناها الحسي، معناها الحسي ذكرته آية البحرين، الآن هنا لا يمكن أن يكون المعنى حسياً؛ لأنه حالة الوفاة وحالة النفس هي أصلاً حالة غير مادية، لذلك لا بد أن نذهب إلى المعنى المفهومي، تشكَّل لدينا معنى حسي لكلمة البرزخ، ما المعنى المفهومي الذي سيكون حالة من الفصل بين فترة الحياة العادية وفترة البعث؟ يختلط فيها الحياة المطلقة باللا حياة، إن صح التعبير، أو الوعي باللا وعي، فيكون هناك نوع من الوعي للنفس؛ ولكن ليس هو الوعي الكامل الذي يعود لها عند البعث ولا هو الوعي الذي كان أيضاً في فترة الحياة الدنيا، إنما هو خليط بين الأمرَين، وحاجز بين الأمرين أيضاً؛ لأنه فيه نقطة فاصلة حادة فصلت موت الإنسان، لحظة الموت طبعاً، وهناك نقطة فاصلة حادة وهي لحظة البعث".


إشكالية الإحساس بـ"البرزخ" وهل ستعيه النفس؟

وأجاب أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين عن سؤال "الإحساس بالبرزخ؛ هل النفس التي ستحس بالبرزخ أم أن البرزخ هو إخبار إلهي أن هناك سيكون برزخ بس هذه النفس نفسها لا تعيه؟ أم أن النفس ستعي البرزخ المذكور في النص؟"، قائلاً: "لأ، هو قطعاً النفس ستعي البرزخ الموجود والمذكور في النص؛ لأن هناك حواراً واعياً أو فيه نوع واعٍ، (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ)، وهناك أيضاً قوله تعالى (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ)، هذه الآية الآن التي سأذكرها، توضح وضوحاً تاماً أن كل ما يتعلق بما بعد الموت (البرزخ)، لا علاقة للجسد به، (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ)، طبعاً الآن يأمرونهم بإخراج نفوسهم من أجسادهم، طبعاً كما قُلنا الموضوع هو موضوع تنفيذي لسُنة كونية؛ يعني في إطار نفاذ السُّنة الكونية، ثم قال (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ)، طب الخطاب مع مَن؟ مع الأنفس؛ لأنه خلاص الجسد انقطعت صلة النفس به، فقال (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)؛ فالكلام والخطاب موجه مع النفس وقول الملائكة في هذا السياق (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) اليوم وليس يوم البعث؛ فيه الإشارة الأولى إلى أن هناك نوعاً من العذاب، وأقول نوعاً لماذا؟ لأنه قال اليوم تجزون عذاب الهون، وسأذكره بعد ذلك لاحقاً من آية أخرى تدل على أنه نوع من العذاب؛ لأنه هي أصلاً في حالة فيها اختلاط الوعي باللا وعي، اختلاط الحياة باللا حياة، وهي هذه الفترة البرزخية، يجعلهم يشعرون كأنه يشعر بمصيره؛ يعنى مثل الإنسان الذي يعلم أنه خلاص مصيره الذي تحتم هو كذا أو كذا، هو سيدخل مرحلة من العذاب؛ لكن يمكن أن نسميها عذاباً نفسياً بحتاً، يعني لأنه أصلاً الجسد في هذه الحالة ليس موجوداً، أنت أصبح عندك يقين وعرفت إلى أين أنت ذاهب، الحالة التي ستكون فيها النفس هذه ليست حالة العذاب الحسي المطلق، ولا أيضاً هي حالة العدمية التي لا تعرف فيها شيئاً ولا تشعر بشيء..".


عَذَابَ الْهُونِ

وتابع أبو عواد رداً على "(عَذَابَ الْهُونِ)؛ هل الهون يعني الهوان؟": "هو له علاقة بالهوان؛ ولكن أيضاً كلمة (هون) تشعر في أنه أخفض من العذاب الكامل الذي سيكون؛ لأن العذاب هناك الذي يحس فيه إحساساً كاملاً في لحظة البعث، ما هو الهوان طبعاً مش من هيِّن، (هيِّن) هذه فيها تحول صوتي صرفي؛ ولكن (الهون) أصلاً معناها من الذل، يعني ومَن يهن يسهل الهوان عليه، (ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ)؛ فالهوان معناه شكل من أشكال الذل والضعف الناتج عن إدراك الإنسان بندم شديد لما ضيعه وما فوته أثناء حياته؛ يعني فيشعر بحالة من الهوان يعني، فقال (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)؛ لذلك لم يشر إلى جانب حسي ملموس، لأنه ما فيه الجسد منفصل عن النفس؛ إنما الكلمات هذه تشير لك إلى أن الأمر نفسي في هذه الحالة، معناه نفسية يدخل فيها الإنسان إذا مات بهذه الطريقة، وأيضاً لما ذكر الله سبحانه وتعالى آل فرعون، قال بعد ذلك (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)، فشرح لك الموضوع؛ يعني سيدرك، هم أدركوا في هذه الفترة، آل فرعون، أن مصيرهم النار. طب قد يقول قائل لأ هذا يوم القيامة، لأ؛ لأنه قال (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)، هو قال (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)؛ فالمجازاة بعذاب الهون التي ذكر في آية سورة الأنعام توضح الآن أنه إدراك المصير، تعرض عليه النار، يعني عذابه غدواً وعشياً معناها يعني بشكل أنه مش مرة وانتهى، فيه استمرارية في الموضوع ما دام الإنسان في فترة البرزخ، فالآن اتضح الأمر بشكل يعني شبه كامل، أنه هناك وعي، نوع من الوعي؛ هذا النوع من الوعي سيشكل مرحلة برزخية بين انفصال النفس عن الجسد وعودتها للبعث، وهذا النوع فيه معاناة نفسية ناتجة عن إدراك المصير الذي هو العذاب، طبعاً في ما ذكر من الآيتين..".


هل يوجد "نعيم" في الفترة البرزخية؟

واستكمل أبو عواد: "لكن يبقى السؤال، الناس يقولون دائماً أنتم تتحدثون فقط عن جانب المعاناة أو العذاب، طب هل أشار القرآن إلى أنه فيه نعيم فيه حياة، نعيم في الفترة البرزخية؟ هذه في الحقيقة من أعجب ما أنا أتعجبه؛ عدم التفات الناس إلى الآية الواضحة جداً التي تشير إلى هذا الموضوع، وهي قوله تعالى (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)، وممكن يكون قائل لأ هذا الثواب يوم القيامة، لأ؛ لأنه قال (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ)؛ يعني معناها اللحظة التي يذكرها عنهم الآن أنهم فرحون بما آتاهم، ما زال من خلفهم لم يمت ومعروف أن البعث والحشر ويوم القيامة الكلي لا يكون فيه إنسان ما زال في مرحلة الحياة وإنسان في مرحلة الموت؛ فإذن فرحهم بما أوتوا واستبشارهم بمَن خلفهم.. هذا كله فيه دليل على أن هذا يحصل في حياة البرزخ".


بَل أَحيَاءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ.. الموضوع نفسي معنوي

وأجاب أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، عن سؤال "ألا يعطي ذلك أن هناك مكاناً مادياً مثلاً للحياة؟"، قائلاً: "هي النفس ليست ذات طبيعة مادية حتى تحتاج إلى المكان المادي؛ هنا يطلب من الإنسان في تدبره للقرآن أن يرتقي إلى المستوى المفهومي، لا يربط الأمور بالموضوع المادي؛ الموضوع المادي هذا هو في الحقيقة أدنى درجات أصلاً، حتى هو أدنى درجات الوعي وأدنى درجات المتعة وأدنى درجات السمع والبصر والعقل.. إلى آخره، إنما هنا الموضوع نفسي معنوي، وطبعاً قوله تعالى (بل أحياء)؛ يعني وصفهم بكلمة أحياء وصفاً مطلقاً، هذا فيه يعني قد يقول قائل هاي أنت الآن قُلت هي نوع حياة، طبعاً هي ليست الحياة المطلقة؛ لأن هو القرآن نفسه أشار إلى أن الحياة المطلقة تحتاج إلى إعادة الاقتران بجسد يبعث من جديد؛ لكن بما أن هذا الشعور النفسي أقوى ما يكون لأنهم كانوا في أعلى الرتب فقال (أحياء) يعني في أعلى رتب، يعني حتى (البرزخ) الذي ذكرناه سيكون جزء منه أقرب منه إلى البحر العذب، وجزء منه أقرب إلى البحر المالح؛ فيعني حتى وعي النفس بفترة البرزخ قد يكون في أضعف ما يكون، وقد يكون قوياً جداً تجاه الشعور بالألم، وقد يكون قوياً جداً إلى أقرب ما يكون إلى الحياة المطلقة تجاه الشعور باللذة، فلما قال ربنا لمن قُتل في سبيل الله (بل أحياء عند ربهم يرزقون)؛ يعني هم في أعلى درجات الوعي المتاح في ذلك الوقت، في حالة انفصال النفس عن الجسد، فقال (بَل أَحيَاءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ)، وهذه الآية على فكرة تكررت في موضعَين من القرآن الكريم وليس في موضع واحد".

 

المعنى المادي والمعنى المعنوي

وأضاف أبو عواد رداً على "أيضاً هنا لفظة يعني توحي بالمعنيَين؛ المعنى المادي والمعنى المعنوي": "لأ؛ ما هو كلمة رب، هل هي لها معنى مادي ولَّا الله سبحانه وتعالى منزه أصلاً عن المادية؟ الذي أفهمه أنا من هذا أن الحياة التي كانوا يحيونها في الدنيا؛ خصوصاً أنهم قُتلوا ظلماً في سبيل مثلاً دفاع عن الحق أو الدفاع عن العدل.. وكذا ضد الظلم، هذه الدنيا اختلط فيها سنة الله النقية الصافية التي تضاف له باعتباره رباً للعالمين سبحانه وتعالى، بأفعال وأقضية البشر المعاكسة لسنن الله، فأصبحت الحياة غير نقية بسبب هذه التلويثات الشيطانية التي يفعلها أعداء سُنن الله، وهم نالوا من هذا الاختلاط أبشع صوره، فقتلوا بغير حق. الآن كان الصواب أو الجزاء من جنس العمل، أن يكونوا أقرب ما يكون إلى صفاء ونقاء سُنة الله الكونية، دون التدخل البشري هذا الذي أحدث فيه من النفس، ولذلك قال (أحياء عند ربهم) يعني هم في لذة السُّنن الكونية المتسقة التي لم يدخل فيها العنصر الشيطاني، هذه هي مجموع الآيات التي تشير في الحقيقة في القرآن الكريم إلى.. خلينا نحكي العذاب أو نوع العذاب ونوع النعيم النفسي الموجود؛ لكن لا علاقة له أبداً بالجانب المادي، ولذلك الناس يتساءلون كثيراً، يعني طيب الإنسان مثلاً نحن نقول فيه بعد الموت نعيم وفيه برزخ.. وكذا. طب الذي حرق والذي نسف والذي كذا أقول له ليست هذه مشكلتي، أنت فهمت الموضوع فهماً خاطئاً؛ بسبب أشياء منقولة يعني في الكتب وكذا، هذا ليس القرآن يعالج الموضوع بطريقة واضحة جداً ومتسقة وراقية، لا علاقة للموضوع أصلاً بالجسد؛ سواء الإنسان قُتل ولَّا حُرق ولا نسف، الموضوع موضوع نفسي".


نفي عذاب القبر بالمعنى الحسي

وتابع أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، رداً على "طبعاً هذه فكرة تنفي كل ما قيل عما يُسمى عذاب القبر، وكل الأدبيات التي تراكمت على مدار السنين ومئات السنين وعشرات القرون؛ أن هناك عذابَ القبر وكذا، وتم بناء صرح ضخم من الخيالات ومن هذا الأدب المخيف": "أينعم؛ هو قطعاً أنها تنفيه بالمعنى الحسي الذي يعرفه الناس، إنه يأتي مثلاً ملكان يجلسان للإنسان في القبر كلهم، انتظروا مثلاً أنه جلسته في القبر وكذا.. القرآن الكريم يعني ينفي هذه الصورة نفياً باتاً، والموضوع فقط العذاب والنعيم يتعلق بالنفس، والجسد لا علاقة له بهذا الموضوع، الجسد مصيره أن يصبح عظاماً ورفاتاً، وهو كأي شيء آخر يتقلب ويتحول من شؤون الخلق من شكل إلى شكل آخر يعني، ونحن قُلنا إنه ما يعرف الإنسان ليس الجسد أصلاً حتى تكون هذه الأحداث كلها للجسد، ما يعرف الإنسان هو نفسه بها، يعرف ذاته".


مفهوم القبر في فترة البرزخ

وقال د.يوسف أبو عواد: "طيب ربما يقول بعض الناس كيف يعني يحاسب الله الإنسان إذا كان هناك نوع من العذاب والنعيم؟ كيف يحاسب أو كيف يعذب قبل أن يحاسب؟ يعني يقولون لا عذاب قبل الحساب، هل هذه الفكرة صحيحة؟ يعني يعترض فيها على ما ذكرناه من العذاب والنعيم النفسي؛ لأنه فيه ناس المشكلة أحياناً ردة الفعل على بعض الخرافات التي انتشرت ووجدت، يعني في الكتب أنه بينفي الموضوع نفياً قاطعاً؛ فأنت بعد ذلك إذا قرأت القرآن بطريقة حيادية وطريقة منصفة تجد أن هذا النفي غير صحيح، فأحياناً الفعل، يؤدي الفعل السيئ إلى ردة فعل سيئة، فبعض الناس احتج بأنه قال مستحيل أن يكون هناك أي شكل من أشكال الوعي أو النعيم أو العذاب في القبر أو بعد الموت، يعني مفهوم القبر في فترة البرزخ، لماذا قال؟ لأنه لا عذاب قبل الحساب، المشكلة هذا الذي قال هذا القول؛ يقيس رب العالمين على البشر، هذا لا عذاب قبل الحساب، يُقال في سلوك البشر بعضهم مع بعض، في المحاكم البشرية؛ لكن أنا سأثبت لك من القرآن الكريم أن هناك عذاباً قبل الحساب الذي تتخيله أنت؛ لأن الموضوع كله، موضوع الحساب أصلاً، الله سبحانه وتعالى بيده الكون وكل سُننه الكونية، يعني لما قال لك مثلاً (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، طب ما هو إذن الآية واضحة جداً، إلى أنه يُسمي هذا عذاباً، إلى أن ما يصيب الكفار أو المعادين للدين إلى آخره، بأنه عذاب، وقال هذا ليس هو العذاب الأكبر؛ إنما هو عذاب أدنى. إذن فيه إذاقة للعذاب ولا ما فيه، هذا أول شيء، وأيضاً في قوله (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ)؛ هذا في شأن آل فرعون، طيب مش قال (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ)، وقال في سورة الزخرف (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ)، طيب؛ هو عاقب آل فرعون قبل أن يأتي يوم القيامة ويأتي الحساب الذي تذكره وغيره، بل كل ما ذكر من الآيات التي عوقبت فيها الأمم السابقة أيضاً هي عبارة عن عذاب، وهذا حصل قبل ما يذكر من حساب العذاب أو الثواب، والعقاب هو ضمن السنن الكونية؛ هو موجود وليس مقروناً فقط بيوم القيامة".


وأجاب د.يوسف أبو عواد عن سؤال "يعني المقصود في الآية الأولى أن (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، يرجعون عن ماذا؟ يرجعون عن الأخطاء بتاعتهم؟ عن السلوكيات الخاطئة؟ معناها يعني ذلك أنه هذه الآية تنطبق على مجموعة بشرية ما في الحياة الدنيا يعني مش بعد الموت؟"، قائلاً: "قطعاً في الحياة الدنيا، هذا معناه أن هناك إشارات كثيرة تأتي بإنسان كلما يخالف سنن الله سبحانه وتعالى ويخالف آيات الله التي ذكرها في القرآن وفي ما سبقه أصلاً من الكتب".

 

العذاب التدريجي والعذاب الأكبر 

وأضاف أبو عواد رداً على "يكون العذاب بمعنى الخروج عن السنن؟": "يكون العذاب أيوة جريرة الخروج عن السنن، سيشعر بها كفرد ، ويشعر بها المجتمع الذي مثلاً يسكت أو يتفق على هذا الخروج عن السنن، يكون له جريرة سيئة يعني، وسلبية، فيشعر بها، ومع ذلك يصر ويتمادى؛ لكن إذا لفتته هذه العذابات التي تحصل وجعلته يعيد التفكير؛ هنا سيكون استفاد، هذه أصلاً فكرة في غاية العدالة، يعني أنه في النهاية الموضوع دائماً مخالفة مقترنة بالعذاب؛ لكنه تدريجي، ولا يحصل العذاب الأكبر إلا يوم القيامة، يعني بعد البعث، إنما العذاب التدريجي موجود، وأُصيبت الأمم السابقة به، وهذا موضوع يعني يحتاج إلى حلقة منفصلة طبعاً، ليه الأمم السابقة كان يأتيها عذاب يفنيها، خلاص فناء تاماً؛ ولكن أنا أقول لك حتى الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل حين ينال أهل الباطل منه، يعني ألم، فإن الله سمى هذا عذاباً؛ لأنه قال (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ)؛ فإذن ثم هذا الذي يحصل على أهل الباطل نتيجة لصراع أهل الحق معهم، سماه عذاباً، وهذا كله يحصل في الحياة وقبل الحساب؛ ولكن هم يحتجون قالوا (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) وقالوا (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، قالوا إنما هنا تفيد الحصر؛ فقالوا كيف يعني هذه الآية صريحة في أنه توفية الأجر إنما تكون يوم القيامة؛ لكن الفكرة، أين الفكرة في اللفظ المفهومي أو التحليل اللساني لكلمة (توفون)؛ نحن قُلنا (يوفي) معناها أكمل، أصلاً هذه الآية ستصبح دليلاً لمَن يتبنى فكرة أن العذاب والثواب هما فكرة مستمرة في الحياة وفي البرزخ ويوم القيامة، وهذا الأعدل أصلاً وهذا الأكثر تنبيهاً للبشر، على أنه السلوكيات هنا خاطئة، وقد لا يكون العذاب جسدياً؛ قد يكون العذاب نفسياً، لكن كلمة (توفون) يعني يكمل الموضوع؛ بحيث نصل إلى مرحلة العدالة المطلقة، هذا يحصل يوم القيامة، وقد كنت يعني في هذا إشارة مهمة الحقيقة، قرأت للدكتور مصطفى محمود، رحمه الله، كلاماً جميلاً، في غاية الجمال، عن موضوع العدل؛ يقول فيه إنه توفية الحساب أصلاً هي فكرة بشرية، يعني هي جزء من البرنامج الأصلي للبشر الذي يعني وجد معهم حين وجدوا؛ لأنه كيف أستدل على الموضوع؟ بطريقة رائعة جداً قال أنت حين تشعر بالعطش معناها فيه إشارة كونية في داخلك إلى أنه فيه ماء سيروي هذا العطش، أنت ما كنت عرفت للمرة الأولى التي عطشت فيها أنه هذا ماء؛ لكن في داخلك موجه في نظام التشغيل الأصلي أنه ابحث عن شيء يسد حاجة العطش، وإذا شعرت بالجوع أيضاً معناها فيه عندك في نظامك الأصلي فطرة مفطور أنت عليها؛ لأنه هناك ما سيسد الجوع الآن، هو قال شعور الإنسان بحاجته إلى العدل يقع الظلم كثيراً في الحياة؛ لكن الإنسان عنده هذا التعطش والجوع إلى العدل، وهذا التعطش والجوع لا يراه في فترة الحياة الدنيا، يكتمل أحياناً، يحصل بعض من العدل؛ لكن لا يراه مكتملاً، قال فهذا الاستدلال بالفطرة الطبيعية الأولى للإنسان، وشعورك بهذا العطش والجوع نحو العدل يدل على أنه قطعاً سيكون هناك ما يروي هذا العطش وهذا الجوع تجاه العدل بالضبط كما هناك ما يري العطش وما يسد الجوع".

 

مفهوم العذاب

وتابع د.يوسف أبو عواد: "هو قطعاً يعني يكون رجوعاً بالبشر من المستوى الذي كان ممكن وصل فيه إلى مستوى معين من الرفعة؛ يعني حتى الآن مثلاً في قوانين المرور إذا الإنسان خالف القانونَ أكثر من مرة؛ فيه مجموع نقاط إذا صارت تجبرك تعيد دراسة قوانين المرور، كأنك لم تدرسها؛ لأنه أنت لم تنتفع بها. طب هو رجعك إلى الخلف في مراحل تطورك البشري؛ بس ليه؟ السبب سلوك أنت الآن ستعاني في هذا ولَّا لم تعانِ، قطعاً ستعاني؛ فالعذاب قد يكون معناه أن يرجعك مراحل إلى الخلف في سلم الوعي والتطور والرقي البشري، الذي أريد لك أن تسمو تجاهه، فتعود لتعاني حتى ترجع إلى ما كنت عليه".


لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ

وأجاب أستاذ اللغة العربية عن سؤال "كيف يعني الناس تحس أن فيه عذاب وأن هذا عذاب من الله مثلاً؟"، قائلاً: "صحيح هو يحصل، حتى هي السُّنة تلقائية حتى لا تتدخل؛ هي نتيجة تلقائية ستحصل قطعاً؛ لكن ما يشير إليه القرآن في فكرة العذاب حتى (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، إلى أنه لا يوجد عذابات يعانيها البشر، إلا أن تكون ناتجة إما عن إنه هذا البشري نفسه معناها خالف أحد أوامر الله أو سُنن الله أو المجتمع؛ لأن المجتمع البشري لم يخلق منفصلاً، يعني مرات جريرة المخالفة الاجتماعية الكلية أو بعض طوائف المجتمع التي سكت عنها، سكتت عنها طوائف أخرى فتركتها تصل الجريرة، إلى باقي المجتمع، فقطعاً سيكون هذا العذاب الذي يعانيه البشر ناتجاً عن هذا؛ لكن قد يقول قائل ما هو القرآن الكريم قال (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ)؛ نعود فنقول له هذا الكلام ليس عن البشر هذا عن الإنسان، والإنسان نحن بيَّنا أنه يتحرك فقط بجانبه الحيواني؛ لكن إذا دخل الجانب البشري الرفيع ودخلت الروح؛ هذا الكبد لن يبقى له تأثير، إنما إذا عشت في الطريقة الحيوانية طبعاً ستعيش في الكبد الذي نتج عن أنك بقيت تسلك سلوكك".


إشكالية عذاب المجتمعات والأفراد بين الحياة والممات

وأضاف د.يوسف أبو عواد رداً على "هل يمكن استنتاج مثلاً هذه الفكرة؛ أن سلوك المجتمعات بشكل عام يقع عليها العذاب أثناء الحياة نفسها، يعني المجتمعات تحاسب في حياتها بينما الأفراد يحاسبون عند الممات؟": "حتى الأفراد؛ أفراد ومجتمعات، ولذلك القرآن الكريم يذكر إنما الحساب الفردي المنفصل اللي كل إنسان، ولذلك يقول (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)؛ يعني معناها هم أدخلوا في مجتمع وكان لتصرفاتهم لا بد أن يكون لها انعكاسات على المجتمع أحياناً بإلحاق أذى بمَن يستحق وأحياناً التصرف الاجتماعي أو التصرف الفرد الذي يتركه المجتمع ينعكس على المجتمع، ثم يخرج بعد ذلك من مرحلة المجتمع ويعود فرداً؛ فيُحاسب على ما لم يُحاسب عليه، إنما حتى على الفرد نفسه هناك نوع من النكد هذا، والكبد الذي يصيب الإنسان بقدر ما يخالف سُنة الله الكونية، والتي كرستها الآيات الشرعية المذكورة في القرآن الكريم، هذا لا بد أن يكون له انعكاس لو لم تره على الجسد سيكون قطعاً انعكاساً نفسياً، لذلك الإنسان نحن قُلنا كثيراً الإنسان متى ما تساوق مع سُنن الله الكونية إلى أعلى مستوى ممكن؛ سيكون في أعلى حالات الاستقرار، سيكون أبعد ما يكون من أن يحتاج إلى مخدرات ومسكرات ومغيبات للعقل؛ لأنه هو في أعلى حالات الرقي والسماء والاستقرار النفسي والعقلي، لا يحتاج إلى كل هذا، وكلما ابتعد صار في حاجة إلى أن يغيب أصلاً عن الحياة؛ لأنه طب ليه يغيب عن الحياة؟ هو لماذا يغيب عقله؟ هذا التغييب النفسي الذي يدخل نفسه فيه لو لم يكن هو في حالة من العذاب لما احتاج أصلاً إلى هذا التغييب، فيذهب فيشغل نفسه بمشاغل حتى يرتاح من العذاب الداخلي الذي يعيشه".


مسؤولية الإنسان عن سعادته أو تعاسته

وتابع أبو عواد رداً على "مسؤولية الإنسان سواء أكان فرداً أم جماعةً هي مسؤولية مباشرة عن نفسه وذاته والبيئة التي يعيش فيها؛ يعني سلوكه الخاص هو الذي يستدعي أن يكون سعيداً أو تعيساً": "بالضبط؛ وهذه هي الرسالة أصلاً التي يدل عليها القرآن من أوله إلى آخره، وهذا ما لمحناه، نحن درسنا مراحل البشر الآن من أولها إلى آخرها، وفي فترة الحياة وفترة الموت، وتتبعنا ماذا يقول القرآن من السعادة والشقاء والعذاب والنعيم، الذي لا يتوقف؛ هو لا يزاول ولا ينفصل عن حياة الناس، ومعه دائماً حتى يذكر، والمسؤولية الأولى والأخيرة ترجع إلى الإنسان (إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ)؛ فلا أدري في الحقيقة كيف ظن الإنسان بعد كل هذا، كيف غفل عن كل هذه النصوص القرآنية وأصبح ينتظر أنه يعنى ينتظر هيك تدخلاً مباشراً؟ هذا كأنه يشعر أنه يعني كلمة أبناء الله هذه وأحبائه تنعكس على بعض الناس؛ أنه يشعر والله أنه مفضل، فإن الله سيخرق له القوانين، سيغير له السنن، والله لا يحابي أحداً، هو قال لك هذا الكون وهذه هي السنن وهذه الآيات التي لم تنتبه أنت للسنن، فاقرأها ستعيد إرشادك إلى السنن، فسر معها ستعطيك النتائج، إذا لم تسر معها لن تحصل على النتائج، الموضوع أوضح صراحةً من أن يحتاج إلى توضيح، بس لولا الضوضاء الكثيرة والغبار الذي أثير حول العلم الصافي والعلم النقي...".

 

آلية قراءة النص لفهم مقاصد النصوص

وقال أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، رداً على "غياب آلية لقراءة النص جعلت العقل البشري الجمعي يغيب كلياً عن فهم المقاصد من النصوص": "نعم؛ لو أن الناس جمعوا نصوصَ القرآن الكريم وحللوا كلماتها وَفق اللسان العربي المبين؛ يعني استخدموا اللسان العربي المبين واستخدموا آلية التدبر التي يشير إليها القرآن؛ بحيث أن تصل من أوله إلى آخره، ثم تعود إلى أوله، لا تترك آية تتحدث عن الموضوع إلا وتجمعها، ثم تنظر فيها.. لأعطاهم هذا اتفاقاً كاملاً، لأنه (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)؛ لأزال عنهم كل ريب، لأن ذلك الكتاب لاريب فيه، ولما دخلوا في هذه الخلافات، المشكلة أنت في أية مسألة تبحث في أية مسألة تجد أقوالاً كثيرة جداً وآراء وأدلة وردوداً على الأدلة.. هل يُعقل أن يكون يعني الدين الذي أنزله الله لصالح البشرية بهذه الطريقة المشتتة؟ يعني أنا كإنسان بسيط أريد أن أصل يعني، طب إذا أنا يقول لك ما هو اسأل، طب ما هو كل عالم له رأي، يعني هوَّ ربنا طلب منك أن تتبعه ولا تتبع آراء بشرية واجتهادات بشرية؟ فالأمر صراحةً في غاية العجب يعني؛ لكن لا نملك إلا أن نقول نحن نسعى قدر المستطاع".


المجتمعات العربية تعيش وَفق آلية ما تم توارثه عن الأجداد

وتحدثَ د.يوسف أبو عواد عن المجتمعات العربية وأنها تعيش وَفق آلية ما تم توارثه عن الأجداد، قائلاً: "يعني (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)، لاحظ الآية (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ).. ماذا فعل الذين أوتوا الكتاب؟ تركوا الكتاب الأصلي وتفرقوا، وكانوا كل فريق له مذهب وكل فريق له طائفة، ويردون على بعضهم، وصاروا مسارهم حقاً؛ يعني ألم يأن للمجتمعات أن تنتبه لهذا فترجع إلى النص الواضح وضوح الشمس يعني وهو في متناول الجميع، ولا ينبغي أن يكون إلا هذا دين يخاطب به الله البشر، ينبغي أن يكون واضحاً للناس على حد سواء من ناحية المفاهيم الكبرى، هذه صح التعمق وإدراك الدلالات؛ يعني قد يحظى به بعض الناس، لكن المفهوم الكبير كل إنسان يعطي قدراً من الجهد، حداً أدنى من الجهد في النظر والتأمل في الكون أو في القرآن، سيصل إليه.. أقول لك حتى في ترجمة معاني القرآن، يعنى الموضوع لن يغيب لو ترجمته بأي مذهب، لن يستطيع المترجم أن يخفي هذه المعاني؛ لأن تكرارها في الآيات بطريقة أو بأخرى، بجانبها الحسي وجانبها المعنوي.. إلى آخره، يجعل فيه محفوظية لهذه المفاهيم وهذه المعاني، لذلك ماذا كان الحل؟ أنه ترك الكتاب، والذهاب إلى كتب أخرى، هذا الحل الذي كان حتى ...".


إشكالية صلة النص بحياة الناس

وقال أستاذ اللغة العربية المختص في اللسان العربي المبين، رداً على "الآلية الطرفية أو الآلية المتوارثة جعلت النص غير ذي صلة في حياة الناس": "بالضبط؛ هو كيف يبدأ فهم أية مسألة، فيبدأ من القرآن؛ يعني يا ريت لو أنه كانت البداية من القرآن، وأصلنا القرآن، سيكون التراث الذي عندنا كتاريخ أية أمة.. نحن عندنا آلية عميقة جداً، أن نعرف أن هذا مفيد وهذا غير مفيد، هذا نافع وهذا غير نافع، هذا صواب وهذا غير صواب.. لست بحاجة إلى مئات وآلاف المجلدات التي تملأ المكتبة، بِدِّي أعرف تفاصيل الصلاة؛ هناك خمسة عشر مجلداً، هناك مليون مسألة فيها خلاف، وهناك.. في الآخر هنا تايه، يعني مشكلة، يعني هل يعقل أنه دين يخاطب البشر؛ غنيهم وفقيرهم وعاقلهم، واختلاف مستوياتهم العلمية، ذكيهم وأقلهم ذكاء، بهذه الطريقة المعقدة جداً.. أين العمومية والعالمية في هذا الأسلوب؟ لو كان هذا؛ لكن حاشا لله، الموضوع في النص القرآني واضح وأوضح من هذا بكثير؛ لكن التمسك في النص (لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ).. هذا هو".


واختتم د.يوسف أبو عواد رداً على "يعني أنا حقيقةً فعلاً مركز؛ الإنسان لما ترى أن المجتمعات ما زالت تصر على استخدام آلية بالية؛ آلية لم تعد صالحةً أن تدلهم على طريق الصواب في حياتهم المجتمعية، وما زال الناس يعني عاجزين عن فهم مرامي الحياة الفردية، هو نفسه يعني أن الفرد عاجز نفسه ليحط خطاً لنفسه في الحياة؛ لأنه فيه تشويش غير عادي من الآليات المستخدمة حالياً في قراءة النص"، قائلاً: "نعم".