تساؤلات الحلقة:
. لماذا لا ينزل الله عقوبات بالظالمين كعقوبات
الأمم السابقة؟
. متى توقفت العقوبات السماوية العامة؟ وما هو
البديل لها؟
. لماذا شرع القتال في الإسلام؟
. هل تقاتل الملائكة مع أهل الحق؟
أهلا بكم، أنا معكم باسم الجمل في حلقة جديدة من برنامج
"مفاهيم". ونلتقي الدكتور يوسف أبو عواد، وكان الحديث في الحلقات
السابقة عن النشوء وتطور الإنسان على الأرض والخلق. الآن نريد أن نتحدث حول
العقوبات التي كانت تُفرض على الشعوب أو الأمم السابقة والتي أبيدت من السماء. هل
توقف تدخل الإله في العقوبات على البشر وتُرك الناس إلى مصيرهم يحددوه وفق معارفهم
الدنيوية؟ خاصة أنه حاليًا صار فيه ضمن الأحداث التي تدور حاليًا، إنه بعض الناس
يقول: أين التدخل الإلهي في إنقاذ الخلق؟ هل توقف تدخل الإله في الخلق؟
هل توقف تدخل الإله في الخلق؟
يوسف: هذه العقوبات التي
نزلت على قوم نوح الطوفان، وعاد، وثمود..
باسم: وعاد الأولى وعاد
الثانية.
يوسف: ولوط، خاصة أنه في
سورة فصلت يقول: "فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ
صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ". فيتساءل الناس: هل المقصود إنه يأتي الأمر
بالطريقة هذه؟ يعني التي هي الصواعق والعذاب المجتث الذي.. "فَقُطِعَ دَابِرُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا". الآية مثلًا تقول لك: "فَقُطِعَ دَابِرُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا"..
باسم: لم يبق منهم أحد.
يوسف: أيوه.. "إِنَّكَ
إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا".
في الحقيقة، الجواب الأولي.. سنستعرض هذا طبعًا بالأدلة النصية الواضحة، لن يتدخل
الله بالطريقة التي كان فيها تدخل، طبعًا ضمن السنن الأولى، لأنه ببساطة البشر
أصبحوا أكثر تطورًا وأكثر تحضرًا وأكثر قدرة على أنه يكون للصواب مجال أن ينتشر.
يعني لاحظ في عهد نوح عليه السلام عدد قليل جدًا في 950 سنة من الدعوة، ثم في عهد
الرسل اللاحقين أيضًا ما يشبه هذا. يعني كان الذين ينجيهم الله قليلين جدًا، لكن
نلاحظ أن القرآن الكريم يربط بين العقوبات السابقة وبين الذين عاندوا الرسالة
وناكفوا الحق في عهد الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. يقول مثلًا: "وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ
وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ" * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ
بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا
أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ ظَلَمُوا..". فمثلًا نجد في الحديث العام: "وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ
وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ". يعني هنا نقطة مهمة أصلاً، إن
العقوبة المجتثة التي كانت تصيب الأمم السابقة لم تكن تأتي مرة واحدة، كان يصيبهم
العذاب الأدنى قبل العذاب الأكبر لعلهم يرجعون. "وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ
فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ.."، مثلًا، "لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ". فيقول: "فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا
تَضَرَّعُوا". يعني لو أنهم خضعوا لشريعة الله وسنة الله، سنن الله الكونية
التي كانوا يعاكسونها، لانتهى الأمر. "فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ
فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا
عَنْهُمْ..". لاحظ قوله: "كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا". معناها يكون فيه نوع من العذاب الأدنى قد أصابهم،
لكنهم استفادوا من هذا العذاب.
باسم: ارتدعوا.
يوسف: ارتدعوا، فكُشف عنهم
العذاب وأنجاهم الله من أن تصيبهم العقوبة التي كانت تصيب الأقوام السابقة. لكن
إذا حصل استيآس الرسل، بمعنى إنه لا فائدة من الأقوام، هذا معناها حتى إذا استيئس
الرسل، أنه سعوا في كل سبيل، أن القوم يسيروا وفق الشريعة المنزلة..
كيف كان يتم العقاب؟
باسم: سؤال يتبادر لذهني
في تلك اللحظات الزمنية، مثلًا، والموغلة في القدم، التدخل يعني هل كان فيه رقابة
دائمة على سلوك البشر، مثلًا، أم أن سلوك البشر كان يستدعي تفعيل بعض القوانين أو
أن القوانين السنن التي كانت تأبى السلوك البشري، وبالتالي هي كانت تتفعل من
ذاتها؟ مثلًا، يعني كيف كان يتم العقاب؟ البعض كان يطلب، مثلًا، يدعو الله أن
يتدخل، مثلًا، وأن القوانين ذاتها هي كانت تفرز ظروفًا تؤدي إلى العقاب.
يوسف: وحتى قضية يدعو،
كلمة يدعو، كلمة لها دلالتها التي معظم الناس لا يعرفها. لكن القضية هناك سُنة
ربانية كونية أن فساد البشر الذي ترك لهم أن يفسدوا فيه يقف عند حد معين، إذا وصل
إلى هذا الحد، ينبغي أن يتوقف هذا الفساد. لكن في تلك الحقب القديمة الموغلة في
القدم، لم يكن هناك جزء من البشر يكفي لأن يناكف الجزء الذي اختار طريق الشر، يعني
كانت الغالبية الساحقة تختار طريقة معاكسة السنن. فالسنة، تفعيل السنة الكونية
التي هي إيقاف الفساد عند حد معين، لم يكن يتسنى أن تُفعل إلا بأحداث طبيعية مثل
الخسف والريح وإلى آخره. لكن ما حصل بعد ذلك إنه أصبح العنصر البشري أكثر قدرة على
التجريد وأكثر قدرة على.. أو يعني اختيارًا لتقبل الرسائل للسماء والعودة إلى
الفطرة الأصلية تدريجيا. فصار يتشكل عدد أكبر من الأتباع للرسل. هذا العدد صار
بإمكانه، دون أن تحصل كارثة طبيعية تعم القرية أو تعم المدينة، صار بإمكانه أن
يحصل بينه وبين العدو تدافع. يعني وصلنا إلى مرحلة أنه قدرة أهل الحق على الوقوف
في وجه أهل الباطل دون أن يكون هناك تدخل بأحداث طبيعية، وكله يجري وفق قانون، كما
قلنا، القانون العام هو أنه الفساد له حد لا يسمح أن يصل إلى أعلى من هذا الحد.
باسم: التدخل في فرض
العقاب كان يفرضه نوع السلوك، ولّا الرؤية أن هذا السلوك سيقود إلى نتيجة سيئة وبالتالي
صار فكرة التدخل؟ يعني السلوك البشري كان يقود البشر إلى.. زي ما يسموها الحائط،
وبالتالي سيتدخل القانون الطبيعي؟ يعني التدخل العقابي أو نوع العقاب يعتمد على
نوع السلوك؟ لأنه افتراض أن هناك تدخل إلهي مباشر، هي هذه وكأنه صار فيه كسر لعنق
أو لي أعناق السنن، واللي لا يمكن أن يحدث. إذن، من الذي كان يحدد نوع العقاب؟ هل
السلوك البشري نفسه، أم أن تصور المآلات التي ستقود إليها هذه السلوكيات كانت
تستدعي التدخل لمنع الوصول لهذه المآلات؟
يوسف: والله الربط بين
العقوبة والسلوك البشري بمعنى مثلًا إنه التوغل في تصرف أو سلوك سلبي يفسد الأرض،
نتيجته الطبيعية.. يعني مثلًا تقول إنه قوم نوح كانوا قومًا أهل زراعة، وكانوا في
النهاية أهل طغيان، فالإهمال طبيعي ممكن فساد في الحياة الزراعية الطبيعية أدت في
نهاية المطاف إلى إحداث طوفان، يعني إذا كان هذا هو القصد، ففي الحقيقة من الصعب
الجزم بمثل هذا الموضوع، يحتاج إلى إعادة دراسة وربط بين العقوبات. أنه عاد، لماذا
مثلًا ريح صرصر عاتية، ثمود، لماذا أخذوا بالصيحة؟ يعني قوم لوط، لماذا "فَجَعَلْنَا
عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ"؟
من الصعب أنه نقول والله، السلوك ولّد اختلال طبيعي، فصار وفق هذا الاختلال
الطبيعي إنه النتيجة الطبيعية أن يحدث انهيار. مثلًا، يعني هذا معناه مثلًا إنه
كما أنه فرضًا بناؤون يعملون في البناء، فصار عندهم إهمال تدريجي في تموين البناء
بالأسمنت والحديد اللازم، فالنتيجة الطبيعية أن تنهار الأبنية وتنهار المدينة التي
مثلًا يقوم عليها هؤلاء المهندسون. يعني هذا ما تقصده من إنه السنة الطبيعية بسبب
الانحراف سيكون هناك قانون داخل الطبيعة نفسها يؤدي إلى الانهيار..
باسم: هذا ما قصدت، لكن
الآيات توحي أنه فرضنا، أرسلنا. يعني فيه في مبادرة أو فيه مبادرة إلهية، بغض
النظر عن مستوياتها، لفرض العقاب نتيجة السلوك. يعني كان سؤالي كالتالي: هل السلوك
الذي يحدد نوع العقاب ويستدعيه؟ أم أن هناك رؤى مسبقة ترى أن هذا السلوك سيقوده
إلى مآلات محددة، وبالتالي يستدعي التدخل قبل الوصول إلى المآلات؟
يوسف: نعم، هو ما يظهر من
النص أنه التدخل يكون قبل الوصول إلى المآلات. لأنه ما حصل بعد ذلك مما سنذكره،
إنه تحولت السنة إلى التدافع، يدل على إنه لا ينتظر أن تحصل مآلات طبيعية في
الموضوع. هو الموضوع صراع بين البشر، بعضهم اختار الخير وبعضهم اختار الشر، لكن لا
يوجد من أهل الخير ما يمكن أن يوقف الشر. ما فيه.. عدد قليل جدًا، فلا يُسمح للشر
أن يتمادى حتى يُفسد الطبيعة. من الصعب جدًا إنه نربط بين السلوك وأنه أدى إلى
نتيجة طبيعية بحدوث الـ.. يعني الخسف أو حدوث الريح أو إلى آخره.
القرآن يربط بين العقوبات السابقة وبين عهد النبوة، فيقول مثلًا: "قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ
لِلْمُتَّقِينَ". معناها السير في الأرض والنظر في تاريخ الأقوام والقرى
السابقة والآثار التي بالفعل لم يبق لها دابر، لدرجة أنك تحتار كيف تشكلت أصلاً
هذه القرى وهذه المدن وهذه الحضارات. يعني يكون من الصعب جدًا الوصول وفك الرموز إنه
أين كانت مظاهر الحضارة، فتشعر أنه قُطع دابر القوم الذين ظلموا. يقول هو: "هَذَا
بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ". ويقول مثلًا في
سورة التوبة: "..كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ..". يعني إن لم تستجيبوا
سيكون مصيركم "كالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً
وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ
فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ". ثم يقول: "أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ
وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ".
طبعًا هنا معنى هذه الجملة أنه ليس المقصود أنه الله لما.. أنه تدخل مباشر من الله،
هي فيه قانون إنه إذا وصل هذا الحد من الفساد، لابد أن يصبح ما يوقفه. لابد أن
ينتج في كون الله ما يوقف هذا الفساد. الآن إذا كان هناك من البشر من يمكن أن يفعل
من هذا، لن يكون هناك تدخل طبيعي. وهذا لم يكن يحصل في الأمم السابقة. لكن بعد
ذلك، كما سنرى الآن، من بعد غرق فرعون ومن معه من الملأ والقوم، لا، تغير الموضوع
في نصوص القرآن حين نرصده بالترتيب التاريخي الذي يرد في القرآن الكريم نفسه.
باسم: يعني بعد موسى توقف
التدخل المباشر الإلهي، مثلًا..
يوسف: أي نعم.
باسم: في تحديد مسارات
التاريخ؟
يوسف: بالضبط. تدخل، لا
أقول تدخل التوقف الإلهي. أقول توقف دخول الكوارث الطبيعية كمُوقِف للفساد. لأنه
الفساد لابد أن يقف عند حد ما. هل ما يوقفه هو أحداث طبيعية تجري في الكون وفق سنة
كبرى أصلاً موضوعة في الكتاب الأول، ولا على أيدي بشر؟ الآن موسى عليه السلام يظهر
أنه كان فيه عدد آمنوا معه، لكن كانت قوة فرعون والملأ أكبر بكثير منهم. فكانت آخر
مرة يحصل فيها حدث طبيعي يوقف الفساد الشديد الذي كان فرعون وملأه، يعني يحدثونه
ولا يمكن إيقافه، كان هو الغرق. بعد ذلك نلاحظ نحن في السياق القرآني أن موسى عليه
السلام يقول: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ.." "يَا قَوْمِ
ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا
تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ". يعني معناها
طبعًا هنا المقصود دخول إصلاح، ".. ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ
الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ..". وليس كتبها. لاحظ، التي كتب الله لكم
الدخول الآن، يعني مش المقصود كتب لكم الأرض باسمكم. لأ، هناك شكل من الفساد في
هذا المكان وظلم وتجبر. فطُلب منهم أن يدخلوا لنشر الصلاح الذي كان آتياً مع موسى
ومن آمن به. قال لهم: ".. ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ
اللَّهُ لَكُمْ.." دخولها. لاحظ، لو كان يريد كتبها لكم إنه باسمكم، زي
الطابو، الآن كان قال: "التي كتبها الله لكم"، لكن هو قال كتب الله لكم
دخولها. " وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ..". كانوا قالوا: "إِنَّ
فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا".
إلى أن قالوا: ".. فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا
قَاعِدُونَ". مع أنه كان يعني لاحظ الفترة الانتقالية، "قَالَ رَجُلَانِ
مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ
الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ". يعني إنه هناك ضمان
بالانتصار إذا دخلتم فقط، يعني تشجعوا بالدخول، فستكونون غالبين. لكن قالوا لا، "..
لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ
فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ". طيب، إذن هم رفضوا موضوع القتال.
هنا بدأ الأمر. ثم نلاحظ إنه السياق القرآني في مكان آخر في سورة البقرة يقول:
"أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى..".
لاحظ يعني هذه الحادثة وضعت خطًا فاصلاً بين الأحداث الكونية، اللي هي حادثة:
"ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ".
يعني خلاص، لن يكون هناك التدخل الذي حصل بحدث طبيعي بإغراق فرعون، لن يحدث
للجبارين الذين كانوا في هذه الأرض المقدسة. أنتم عليكم عبء الآن أن تواجهوا أهل
الشر الموجودين هناك. استمر الأمر طبعًا هم لم يدخلوا وكُتب عليهم التيه إلى آخره.
هذه قصة أخرى لا نريد الدخول حتى نركز على فكرة يعني العقوبات كيف تكون. "أَلَمْ
تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا
لِنَبِيٍّ لَهُمُ.."، إذن نبي من بعد موسى: ".. ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا
نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". تولدت فكرة الآن إيش؟ القتال في سبيل الله.
طيب هل الفكرة تولدت يعني بشرع فرضه الله، ولا بطلب من الناس أنفسهم؟ الآية تشير
أنهم هم الذين طلبوا هذا، رأوا أنهم كثرة وعندهم قدرة على هذا، وأنهم يتعرضون
للظلم. فلذلك قال لهم انتبهوا: "هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا". لذلك لاحظ كيف
تؤسس هذه الآيات الأولى التي تتحدث عن موضوع القتال. إنه القتال هو فقط دفاع عن
الحقوق الطبيعية البسيطة. أخرجوا من ماذا؟ من ديارهم وأبنائهم. يعني إيش فيه أشد
من هذا؟ أخرجوا من أوطانهم وحيل بينهم وبين أسرهم وأبنائهم. لذلك هم قالوا له: "..
ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، "فَلَمَّا
كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ". طبعًا
هذا السياق فيه ملاحظات كثيرة لابد أن ننتبه إليها. أنه أولًا، كما قلنا، هذا
الصراع نتج عن الظلم الذي هو الإخراج من الديار والأبناء. وأيضًا أنه هذا لم يُحسم
بعقوبة من السماء كما كان يحصل مع الأمم السابقة. ولم يحصل الإذن إلا لما طلب
الملأ من القوم هذا. فقالوا: "ابعث لنا ملكًا". وتأكد: "هَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا"؟ أيضًا
نلاحظ أنه حصل تلكؤ. قالوا أنى يكون... لما يعني اختار لهم ملكًا؟ قال: ".. إِنَّ
اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ
الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً
مِنَ الْمَالِ".
باسم: يعني طالوت جاءهم من
خارج من بني إسرائيل؟
يوسف: يبدو هذا، نعم.
ولذلك هم اعترضوا على الفكرة: "أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا
وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ". وطبعا هنا السياق يشير إلى أنه كيف
دخول فكرة التعنصر والتفرق بين أبناء أمة واحدة، حتى لو كانت مظلومة، كيف يجني
عليها حتى في ظل وجود صراع. فلذلك هم راحوا يفكرون بطريقة عنصرية إنه كيف يكون له
الملك علينا نحن كعرق أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال. لاحظ، شوف الربط
الأفكار نفسها التي كانت موجودة عند الأمم السابقة، مع أنه هؤلاء كانوا مؤمنين
بالنبي، يعني وقت تعرضوا للظلم، لكن الأفكار، الانحرافات السلوكية للبشرية كيف
تتوارث، ويكون من الصعب التخلص منها. يحتاج الأمر إلى مجاهدة كبيرة. وطبعا
بالمناسبة، مفهوم الجهاد في القرآن الكريم هو أحد صوره البسيطة القتال الذي قد يُفرض
على المؤمنين، لأن المجاهدة أكبر من هذا بكثير. يعني..
باسم: نعم.
يوسف: أينعم، فظهر التلكؤ.
ونلاحظ أيضًا أنه الأعداء كان عددهم أكثر عددًا وعدة منهم. يعني، لذلك قالوا:
"لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ
فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ". وهذا
الأمر ما سيكون سنة لله في حفظ الأرض من الفساد. ليه؟ لأنه في نهاية الآيات قال:
"وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ
وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ". ثم قال: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ". أيوه، إذن نفهم إنه
الدفع هذا الذي أحدثه الله بين الناس بعضهم ببعض هو البديل الحتمي بعد أن صار هناك
عدد أكبر يؤمنون بالرسل. البديل الحتمي للوقوف في وجه الظلم والفساد الذي يحدث في
الأرض هو هذا التدافع الذي يحصل بين أهل الحق وأهل الباطل. ولذلك قال:
"لَفَسَدَتِ الأَرْضُ"، اللي هو ما سألت عنه الملائكة في أول الأمر. هو
طبعًا يشير لك دائمًا إلى الهدف من كل هذا ومن كل الدين ومن كل الفطرة: صلاح الأرض
وإعمارها، وأن تسير وفق سنن الله. وهذه السنة فضل من الله على العالمين.
الحق في الأرض
باسم: إذا أردنا إسقاط
ذلك، هذا الفهم السائد حاليًا أن فلسطين أو أرض ما هي التي كتبها الله لقوم موسى،
على أساس أنه هي تم تخصيصها كأرض كقطعة ما لهذه المجموعة البشرية. وتم البناء
عليها الكثير من النظريات التي قادت للاستعمار و.. يعني إعادة فهم لفظة
"كتب" قد يساعد الناس أنه تفك الارتباط ما بين المفهوم التقليدي التراثي
حول أن الله خصص قطعة من الأرض لمجموعة بشرية ما، وبين أن الـ "كتب" هون
على شكل أو نقطة أخرى أنه حدد ظروف لهم للتدخل لمنع الفساد.
يوسف: هو في الحقيقة
"الكتب" كما شرحنا في مواطن كثيرة هو جمع مجموعة من الأسس والمبادئ التي
تنظم أمرًا أو فكرة متسقة واحدة. ففي ذلك الوقت، أنت تتحدث عن وجود جبارين يمارسون
أنواعًا، يعني شديدة من الفساد، وتتحدث عن وجود قوم هم أصلح منهم بكثير لأنهم
آمنوا بموسى واتبعوه. الآن النتيجة الطبيعية إنه يفترض أن ينهى الفساد هذا في
المكان الذي يُحدَث فيه الفساد. هذا مقتضى الكتاب، لأنه الكتاب أشار إليه موسى
عليه السلام حين خاطب قومه قال: "إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ". وقال في الآية الأخرى في سورة النور: " وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الْأَرْضِ". فالبقاء بأرض ما مرهون بالصلاح، بتحقيق سنن الله في الأرض. وهذا
لا يتوقف على دين. يعني الناس كثيرًا ما يربطون الموضوع والله، أنا ديني كذا، ولا
أنا ملتي كذا. لأ، الموضوع بقدر ما يكون عندك صلاح في إدارة أرض أو قطعة من الأرض
معينة، بقدر ما يستمر هذا الوجود المجتمعي في هذه الأرض ويثبت. وكل ما انحاز
السلوك البشري في هذا المكان إلى الفساد، معناه هذا سيؤدي بالنتيجة الحتمية إلى
خسارة الأرض. هذه سنة كونية واضحة كانت تحدث بأحداث طبيعية، وصارت تحدث بعد ذلك
وفق الكتاب الرباني الأول، ولكن تغيرت الوسيلة فقط.
باسم: القصد من القول أن
المفهوم الشعبي الدارج لكلمة "كتب" أنه فرض لهم أو أنهم كتب صك..
يوسف: لا، لا.
باسم: بالملكية لهم..
يوسف: لا.
باسم: هذه المقصود فيها،
أنه هذه اللفظة التي سادت في المفهوم الشعبي العام إنه فهمت على أساس أن الله حدد
قطعة من الأرض وأعطاها لهاي المجموعة البشرية، ولكن المفهوم القرآني باللفظ
اللساني لكلمة "كتب" أنها هي التجميع أو توفر مجموعة من الشروط تستدعي
أن يتدخل الصالحين لمنع..
يوسف: أي نعم، توفرت ظروف
موضوعية معينة استدعت التدخل، وبعدين كما قلنا هو كتب الله لكم الدخول، وليس كتبها
لكم. ليس هناك شيء اسمه كتبها، ما فيه بالآية هو كتب الدخول، وهذا أصلاً تكليف،
يعني هذا ليس...
باسم: بالضبط بالضبط.
يوسف: إذا الناس أسقطوا
عليه فكرة إنه رجعوا لفكرة نحن أبناء الله وأحبائه وأن الله يعني بطريقة ما يفضل
عرق على عرق ويعطيهم أجزاء من الأرض وكأن الله يعني يشبهونه بإنسان وكمان هذا
الإنسان ليس محايدًا بين البشر يفضل بعضهم على بعض ويعطي هؤلاء، يُقطعهم قطعات من
الأرض كما كان يحصل في..
باسم: أستفسر لنقطة أخرى،
إنه بني إسرائيل تم إخراجهم من الأرض، هل الأرض المقدسة التي طلب منهم الدخول
إليها هي الأرض التي أُخرجوا منها مثلاً؟ ولماذا سماها مقدسة؟ يعني ما دلائل تقديس
قطعة ما من الأرض؟
يوسف: التقديس نحن شرحنا
ما هو معنى التقديس. معنى التقديس هو آلية التصحيح الذاتي، يعني قد يكون المعنى
إنه الأرض المقدسة هي أكثر بقعة يتم فيها إيقاف فساد معين عند حده، يحصل فيها
الصراع بين خلل وبين آلية تصحيح الخلل، فتكون بؤرة. لذلك يقول الكثير من الناس،
يعني في التاريخ، يعني الأرض المقدسة التي هي القدس اليوم وما حولها، صلاح المجتمع
الموجود هناك والنظام الموجود يشير إلى مدى الصلاح في العالم ومدى الفساد الموجود
هناك يشير إلى مدى الفساد في العالم، فكأنها بؤرة، يعني أو نقطة نظام وضعت ليكون
فيها في النهاية معترك، يعني معترك.. التقديس آلية تصحيح، يعني معناها فيه خطأ.
هذا هو فهي مقدسة يعني يحصل فيها تصحيح ما يحدث من أخطاء، هذا هو الذي يمكن أن
أفهمه من عبارة الأرض المقدسة.
باسم: يعني المكان المقدس
هو المكان الذي يعني تتهيأ فيه ظروف تفعيل الصلاح الدائم وأنه يكون معيارًا للصلاح
في الأرض مثلاً؟
يوسف: أينعم، تصويب ما حصل
من خطأ وفساد وإعادته إلى حاله الطبيعية، يكون بؤرة ومركز لهذا الأمر.
باسم: وهذا يستدعي أن تكون
هناك مجموعة بشرية مهيأة لأن تكون قادرة على فرض الصلاح.
يوسف: هو التعويل الآن على
المجموعات البشرية فقط. خلاص، هو انتهت قضية العقوبات السماوية لأنه فيه أعداد
كبيرة من أتباع الرسل، فالأمر معول عليهم يعني، إنه لا يتركوا الفساد يستشري بهذه
الطريقة كما حصل مع الملأ من بني إسرائيل لما طلبوا أنه، أخرجنا من ديارنا
وأبنائنا. يعني ونحن نرى هذا الآن، يعني أنت ترى في أرض فلسطين شو قضية أخرج الناس
من أرضهم وأخرجوا من أبنائهم. طبعًا باسم روايات في الأسفار وكذا، نحن في القرن
الحادي والعشرين ويقول لك في كتاب قبل ألفين وثلاثة آلاف سنة، ما أدري إيش، ويحتج
فيه، والأنظمة.. طب الأنظمة السياسية والقوانين العالمية الموجودة اليوم إنه كيف
تأتي إلى أرض لها أصحابها وكان فيها أصحاب وتأخذ الأرض من أهلها وتخرج أهلها منها
بحجة إنه والله عندي مستند أنا في سفر من الأسفار..
باسم: هو نفس اللي حدث في
أمريكا، قتل مئات الملايين، أكثر من مئة مليون شخص تحت حجج..
يوسف: أي نعم، فهو يشعرك
أنه يعني ستبقى هذه المنطقة بؤرة لحدوث الصراع الذي لابد في النهاية إنه يضع حد للفساد
الذي إن تُرك سيستشري فيهدم في الأرض، وهذا ليس مسموحًا، يعني.
باسم: طب سؤالي الآخر بس
لاستجلاء بعض الملاحظات حولها، إنه هل الأرض المقدسة هي بقعة جغرافية محددة؟ ولا
هناك أي بقعة تتوافر فيها بعض الشروط فتسمى مقدسة؟
يوسف: والله، البقعة التي
يوقف فيها الفساد أولاً بأول تسمى مُقدسة وفق التعبير القرآني، لكن مصطلح الأرض
المقدسة أنا أعتقد أنه يعول فيه على التوارث التاريخي والأجيال، يعني لأنه هذا
تقديس أرض فلسطين تحديدًا التي يتحدث عنها النص عمره بآلاف السنوات، يعني ليس فقط
بعمر الرسالة الخاتمة، لأ، هو عمره بآلاف السنوات، وهو أمر متوارث عبر أجيال
متطاولة. فيعني ممكن أن تسمي أي مكان يحصل فيه تطهير وتصويب ذاتي، تصحيح الأخطاء،
هذا مكان مقدس، ولكن نعم، ولكن كمصطلح الأرض المقدسة وبيت المقدس والقدس، هذا
مصطلح من وجهة نظري لا يمكن تغييره أبدًا، هو مصطلح معروف ومتوارث يعني.
كُتِب عليكم القتال
باسم: طب كنت تتحدث أنه
توقفت التداخلات السماوية في فرض عقوبات على السلوك البشري من بعد موسى، كيف توقف
وماذا استبدل؟ يعني كيف؟ يعني هل تم وضع معايير أخرى لحركة البشر ووقف التدافع
بينهم لأجل إصلاح الأرض مثلاً؟
يوسف: هو وقف التدافع إنه
البشر أنفسهم أحسوا بأنهم كثرة، فطلبوا، يعني قالوا: "ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا
نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، هم من طلبوا هذا بالمرة الأولى، يعني، فيعني
ووفق على هذا الطلب. فلما قال "كُتب عليكم"، أنت تلاحظ في القرآن كله لا
يرد ولا مرة واحدة "كَتَبَ الله عليكم القتال" أبدًا. لماذا؟ لماذا تأتي
بصيغة المبني بما لم يُسمّ فاعله، "كُتبَ عليكم القتال"، لأنه الظروف
المحيطة..
باسم: هي التي تحتم..
يوسف: طبيعية تحتم هذا
الأمر، ليست قضية إنه الله فرض عليكم هذا، بقدر ما هو كأنه يشير إلى أنه أنت،
يعني، في اتجاه واحد، يعني (وان باث) ما فيه مسار آخر، يعني فُرض عليك الأمر
فرضًا، مش إنه تُرك لاختيارك، هو صار في وجهك. ولذلك على فكرة كلمة قتال، كلمة
قاتل التي تستخدم في معظم آيات القرآن الكريم، باستثناء آية واحدة في سورة التوبة
لها قصة، لاحظ كلها قاتلوا، قاتلوا، قتال. الناس يقولون كيف؟ يعني فيه أمر
بالقتال، فيه أمر بالذهاب، لأ، هو قاتل أصلاً، مثل عامَل، يعني يأتي طالب مثلًا
يشكو معلمه إلى مدير المدرسة، يقول المعلم عاملني بطريقة سيئة، هذا حصل يعني، فكان
المدير نبيهًا جدًا، قال له: ماذا فعل المعلم؟ قال: عاملني بطريقة سيئة. قال: آه،
طب أنت عامل فعل رباعي، صح؟ قال: نعم. قال: يعني مش عمل معك سيئًا، عاملك؟ قال:
أيوة. قال: يعني إذن فيه منك مشاركة في الموضوع. ماذا فعلت حتى عاملك بطريقة سيئة؟
يعني لما تقول قتال، قاتل، إذن الطرف الآخر رافع السلاح، لا يمكن أن تسمي العملية
قتال أو قاتلوا إلا إذا كان الطرف الآخر يرفع سلاحًا أصلاً في وجهك. لذلك قال: "أُخْرِجْنَا
مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا"، منعوا بقوة السلاح من حقوقهم الطبيعية، لم
يقل: "اقتلوا أبدًا"، إلا في آية التوبة التي سيأتي لها مجالها ولها
أصلاً حدث مخصص، يعني تتحدث عنه. أما باقي آيات القرآن كلها تتحدث أصلاً عن قوم
يقاتلونكم، لذلك سنأتي فنقول: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ.."
رُفع السلاح في وجههم وأريد أن يخرجوا من أرضهم وأبنائهم وأموالهم، فيحرموا من
حقوقهم الطبيعية. طيب، يعني ماذا الآن إنسان يرفع السلاح في وجهه؟ ماذا تنتظر؟
يعني أن تتركه حتى يقتلك مثلاً؟
باسم: أُذِن لك بالقتال..
يوسف: البشر يعني، أنا لما
إنسان يرفع السلاح في وجهي يريد أن يأخذ حقي، خاصة الطبيعي، هذا ما فيه لا قانون
بشري ولا سلوك فطري طبيعي ولا شريعة من الشرائع تقول لك لا تدافع عن نفسك في مثل
هذه الحالة. هو شيء أصلاً، القانون القتال الذي يتحدث عنه القرآن هو شيء فطري
طبيعي جدًا، وليس هناك في القرآن الكريم كله شيء اسمه إنه والله جيش إسلامي يحمل
نفسه فيذهب إلى مدن ودول أخرى ويبدأ يفتح البلاد وكذا وهم في حالهم مسالمون. هذا
ليس موجودًا ولا أساس له في القرآن الكريم أبدًا. القضية هي قضية دفاع في وجه قوم
سلبوا الحقوق ورفعوا السلاح.
باسم: بدليل استخدام لفظ "كُتِبَ
عليكم"، اللي هي إنه هذا ظرف طبيعي عندما تتجمع مجموعة من الظروف تفرض عليك
المقاتلة، فعليك أن تقاتل.
يوسف: بالضبط، والقتال
وليس القتل. القتال يعني مادام فيه رفع سلاح ونهب للحقوق، بس إذا نزل السلاح
انتهى. لا يُسمح بعد ذلك لأنه قال: لاحظ حتى قاتلوا في سبيل الله الذين.. إيش؟
باسم: يقاتلونكم.
يوسف: طيب، يمكن واحد يقول
لا، الموضوع يعني مجازي، وقال: "ولا تعتدوا". هو لم يترك لك مجال. إذن
إذا قاتلت من لا يقاتل، يعني من لا يرفع السلاح، من لا يأخذ حقك، إذن أنت معتدي.
أي قتال لا يكون باسم الدفاع عن النفس لأجل حقوق سُلبت، في منطق القرآن الكريم هو
اعتداء، "والله لا يحب المعتدين". ففي عهد عيسى عليه السلام استمر
المبدأ. لاحظ القرآن الكريم يقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا
أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ
أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ". ماذا يقول بعد ذلك؟ "فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ..". أيوه، هو يشرح لك السبب
أنه ليش توقف التدخل الطبيعي، التدخل عبر الأحداث الطبيعية؟ لأنه فيه طائفة مؤمنة
تعادل طائفة كافرة. "فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ
فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ". التأييد هنا حاصل بماذا؟ يعني هل هو حاصل بالتدخل
الإلهي، ولا حاصل بقوة الإيمان؟ حاصل طبعًا بقوة الإيمان.
باسم: بقوة الإيمان.
يوسف: أي نعم، فهذا ما
يشير إلى الاستمرار.
الحواريون وبنو إسرائيل
باسم: خلِّني ممكن أسأل
سؤال قد يكون له شق تاريخي. يعني الكل القرآن يؤكد أن النبي عيسى أُرسل إلى بني
إسرائيل، "قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ.."،
معناته الحواريون، هل هم جزء من بني إسرائيل، ولا كانوا ناس آخرين غير من بني
إسرائيل؟ يعني هل بني إسرائيل هم الحواريون الذين قال لهم المسيح كونه أرسل إليهم؟
يوسف: والله فيما يحضرني
الآن ليس هناك رابط لفظي لساني يربط الحواريين ببني إسرائيل.
باسم: هل الحواريين هم عِرق
أو مجموعة بشرية بمواصفات مختلفة عن بني إسرائيل؟
يوسف: من ناحية المواصفات،
قطعًا بمواصفات مختلفة، لأنه الحواريين آمنوا بعيسى وصدقوا به، وقالوا نحن أنصار
الله. لكن هو في الآية، لاحظ في الآية يقول: "فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ"، إذن هم طائفة من بني إسرائيل.
باسم: إذن طائفة من بني
إسرائيل.
يوسف: أي نعم، هم طائفة من
بني إسرائيل. لكن القضية ما هي قضية عرق، هي قضية سلوك من بني إسرائيل، ولا من بني
من أي قوم من الأقوام..
باسم: لأ، بس هون المعنى
بالتحديد كونه يتحدث عن بني إسرائيل مجموعة بشرية محددة واضحة المعالم..
يوسف: أي نعم.
باسم: في ذلك الوقت،
والحواريين كونهم قال بعضهم، يعني وكأن الحواريين جزء من بني إسرائيل، لماذا صار
تصنيف آخر؟
يوسف: أعطوا مسمًى آخر.
باسم: مسمًى آخر.
يوسف: وحتى قال: لم يقولوا
نحن نصارى، قالوا أنصار، يعني حتى استخدموا كلمة أخرى.
باسم: بمعنى هل الحواريين
هي تسمية سلوكية مثلاً تميزهم عن الآخرين من بني إسرائيل؟
يوسف: والله شوف، كلمة..
إذا أردت التحليل اللساني للحواري فهو يرجع إلى الحور. الحور هو شدة البياض مع شدة
السواد، أو يعني شدة التمايز بين الأمرين بحيث لا يكون هناك أي نوع من الالتباس.
يعني كأن هؤلاء القوم لم يكن عندهم هم مجاملة، خلاص، هذا حق لابد أن يؤخذ وانتهى،
مفيش حل وسط، مفيش تلون، انتهى الموضوع. فهم مثلاً حصل عندهم تحور من حال كانوا
عليها إلى ما جاء به عيسى عليه السلام، وهذا التحور كان صارمًا، ما فيه أي نوع من
المجاملة، يعني إنه أقف حل وسط إنه أكون هنا مرة وهنا مرة أخرى. لا. هذا التحليل
اللساني، لكن لا يمكن الجزم إنه والله هذا التحليل اللساني هو سبب تسميتهم
بالحواريين، ولّا يرجعون إلى منطقة أصلاً تسميتها لها علاقة بالحور، ولا يرجعون
إلى مثلاً طائفة أو عائلة أو إلى آخره. إنما هو في النهاية..
باسم: هناك بعض المصادر
التاريخية تؤكد أو تشير إلى أنه الحواريين كانوا عبارة عن جزء من مملكة ما ممتدة
لفترة محددة، وربما منطقة حوران في سوريا جزء إلها، ولا هذا مجرد تداعي لفظي؟
يوسف: نعم، حوران، آه،
ممكن، ممكن يكون هذا. بالأخير التحديد الجغرافي أو حتى العرقي. القرآن لا يكترث
له. لو كان يكترث له لبينه بيانًا واضحًا، هو ينتبه للسلوك. يعني الحواريون هم
أنصار الله حقيقة، فأيدهم الله على عدوهم فأصبحوا ظاهرين. أيدهم.
باسم: أنصار الله ليسوا
نصارى.
يوسف: لا، القرآن دقيق لا
يمكن أن يستخدم كلمة بمعنى كلمة، "ولا الذين هادوا" معناها اليهود.
مستحيل، لأنه إن "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى
وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ..". لا يمكن أن تجد كلمة اليهود في سياق كهذا في القرآن،
تجد "الذين هادوا"، هناك فرق. لكن هذا له مكانه أيضًا يُشرح بتفصيل إن
شاء الله في موضعٍ آخر.
في أول الآيات التي طبعًا أولها من ناحية دلالة لسانية. يعني قد يقول لي
قائل: أنتم والله الآن اعتمدت.. كيف عرفت أنها أول آية شُرعت في القتال في الشريعة
الخاتمة؟ واضح جدًا في لفظ الآية: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ". وهذه
الآية في الحقيقة، أنا أستغرب من كل إنسان يتّهم الدين الإسلامي، وهو دين جميع
الأنبياء أصلاً، بأن فيه أي مسحة أو علاقة بأي تصرف إرهابي أو سلوك عدواني يوجد في
العالم، وأستغرب كيف تستطيع طائفة أن تنسب تصرفاتها إلى الإسلام، إذا فهموا هذه
الآية، الآية فيها شيء عجيب جدًا. "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ"
بماذا؟ لم تذكر ليش السبب؟ كأن النص يريد أن يُعرض عن الموضوع قدر الاستطاعة، هو
تقرير الكلام واضح. "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ" بالقتال دفاعًا عن
أنفسهم "بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا"، ممكن واحد يقول لي أذن لهم بأنهم ظلموا.
لأ، هذا سبب، هذه الباء سببية. يعني أُذن لهم بأمر ما. سبب الإذن ما هو؟ بأنهم
ظلموا. شرح لك في الآية التالية ما الظلم الذي تعرضوا له: "الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا
اللَّهُ". يعني لأنه تبنى فكرة معينة فأُخرج من دياره. لا هو أساء إلى الدار،
ولا إلى أهلها، ولا أخل بأمنها واستقرارها. أخرج من دياره فقط لأنه تبني فكرة
معينة. ثم لم يقف الأمر عند هذا، رُفع في وجهه سلاح وهُدد، فأُذن له بأن يقاتل من
يقاتله، كما قال في الآية الأخرى: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ".. فقط.
باسم: "وَلَا
تَعْتَدُوا".
يوسف: آه، والمطلوب أن
يسترد حقه، الدار والمال الذي أُخذ منه، بس، "وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ". طبعًا هذه إشارة إنه كان ممكن أن يكون هناك استمرار
للسنة الأولى، لكن قُطع هذا الأمر لوجود عدد كافي، من يكفي من المؤمنين لمجابهة
أعدائهم، وأحيل الأمر إليهم. وهذا فيه رفع أصلاً لمستوى المسئولية البشرية. يعني
المسئولية كانت تدريجية، أشعر البشر لكم الاختيار، لكم القدرة على الإحداث، على
القضاء، والآن أصبح لكم القدرة أنتم بأنفسكم دون فعل طبيعي يحدث بأن توقفوا الفساد
الذي تتعرضون أنتم له فيُعتدى عليكم. فإذن يلاحظ تشابه سبب الإذن هنا مع سبب الإذن
الذي ذكرناه في الحادث الأول، الذي هو: " أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ"، قالوا: "أُخْرِجْنَا مِنْ
دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا". فلاحظ التناسق.
باسم: يعني الإخراج من
البيوت بسبب أنهم قالوا، يعني بسبب الإيمان، كان هو هذه النقطة التي تستدعي أن يقف
الإنسان للدفاع عن ذاته أو أن يقاتل لأجلها.
يوسف: نعم، هو يأتي، يريد
أصبح عنده القدرة، يريد أن يسترد أرضه، داره التي أخذت منه وماله الذي سُحب منه.
الآن إذا قال لك: سلم وأرجع لك أرضك ومالك، لا يجوز. تخيل، لا يجوز أن تقاتله لأنه
لم يقاتلك، فضلاً عن أن تقتله. تخيل إلى أي درجة يعني الشريعة فيها مستوى عالي
جدًا من الرحمة والـ..، يعني الصبر إلى آخر لحظة. طيب، لكن إن قاتل ففعل المشاركة
التي ذكرناها، التي اقتضاها الفعل الرباعي، أنت تفعل ما تفعله دفاعًا عن نفسك
واسترجاعًا لحقك فقط إلى ذلك الحد بس، رجعت حقك، انتهى الموضوع. ما بعد ذلك اعتداء،
لا يوجد قتال في الإسلام بعد ذلك البتة أبدًا، ولا في آية، ولا يمكن يعني تتبع
القرآن كله من أوله إلى آخره. ولذلك يقول في الآية الأخرى: "كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ". يعني كما قلنا هو كُتب، هي
الظروف التي ألجأت الأمر حصل كرها ولم يحصل طوعًا. ظروف موضوعية طبيعية اقتضت أنه
مساره واحد، لم يبق غيره يعني، وإلا ممكن واحد يقول طب لو ترك مثلاً داره وماله،
أولاً، ما فيه بشر يرضى بهذا الإنسان بفطرته، لا يرضي هذا. ثانيًا، لو ترك هذا،
معناها خلاص، أنت تكرس فكرة الديكتاتورية بأسوأ صورها..
باسم: والاستكانة.
يوسف: يعني أنت خلاص ستسمح
لكل معتدي أن يتمادى في اعتدائه، فيسيطر ليس فقط على دارك، على أرضك، على عرضك،
على مالك، على كل شيء. هذا معناه، معنى أنك يعني تتوقف عنها.
باسم: ولهذا تشجعت حركة
الاستعمار الأوروبية عند الشعوب اللي هي توقفت عن قتالها.
يوسف: طبعًا، نفس الفكرة
هي. وكانت النتيجة ماذا؟ وبأمريكا الشمالية وبأستراليا وغيرها كانت من أجل إفناء
كامل لأبناء شعب إلى الموت. يعني يمكن واحد بالمئة من الشعوب الأصلية باقي الآن في
هذه الدول.
باسم: في أستراليا
وأمريكا.
يوسف: أي نعم، وقد لا تجد
أصلاً من السكان الأصليين أحدًا، يعني.
باسم: وهذا نتيجة أنهم
استنكفوا عن القتال مثلاً أو عن المقاتلة.
يوسف: لم يدافع عن أرضه
وحقه، يعني وممكن يكون إنه والله لم يكن عنده قدرة، ولكن الفكرة أعتقد إنه لم يكن
عنده الفكرة أصلاً، وليس القدرة. يعني لأنه لو ليس عنده القدرة وعنده الفكرة، لابد
أن تتحول الفكرة إلى قدرة يعني، وشعب فيتنام مثلاً مثال كبير على هذا، يعني. لكن
هو ما عنده هذه الفكرة أصلاً، ممكن قال لك خلاص، استكانة واستسلم وأكمل حياتك
طبيعي. هل يتوقف المعتدي؟ هل يقنع بشيء، ولّا يصل إلى أنه يفنيك، يستغلك كما فعل
فرعون؟
باسم: ووقائع التاريخ تثبت
ذلك إنه...
يوسف: أينعم، ما الذي
سيمنعه من الاستغلال إلى آخر رمق، ثم قتلك بعد ذلك يعني بدم بارد؟ ما الذي سيمنعه؟
لا شيء.
قواعد جديدة
أيضًا في سياق آية الحج الذي ذكرناه: "أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا.." "الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ". لاحظ
ماذا يقول: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ.."
وهنا لفتة مهمة جدًا: "لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ
وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا". يعني هو يشير ليس فقط
إلى الرسالة الخاتمة، لا، يشير إلى رمز كل الكتب والرسل الذين أرسلوا من قبل. إنه
لولا هذا التدافع لانتهت مظاهر الصلاح. لكن طبعًا لا يقصد كما يظن كثير من الناس
إنه صوامع وبيع وصلوات ومساجد هي فقط المكان الذي تؤدّى فيه العبادة الطقوسية.
مستحيل أن يكون هذا المقصود. المقصود كل بناء وكل نظام حكومي وكل نظام دولة يقوم
على الصلاح.
باسم: يعني كل أسس الحياة
للصلاح سيتم تدميرها.
يوسف: بالضبط. يعني أنت
تقول مثلاً منظومة حكومية متكاملة تقوم على الأخلاق الفاضلة، تقوم على الصدق، تقوم
على تكافؤ الفرص، على إعطاء الحقوق لأصحابها. هذه المنظومة هي ما قُصد الرمز له
بالصوامع والبيع والصلوات والمساجد التي يذكر فيها اسم الله كثيرًا. ويذكر فيها
اسم الله كما أثبتنا ذلك في حلقات سابقة، عكس تمامًا الفساد أو مناكفة الهدى الذي
يؤدي بالناس إلى الشقاء. ذكر اسم الله يعني الإصلاح في الأرض. بهذا الطريقة أنت
تتذكر الله، تتذكر سنته، تتذكر أمره، فتصلح في الأرض. فلولا هذا التدافع، معناها
سيسود العالم ديكتاتورية بأقسى وأبشع صورها. هذا هو. هذا التدافع هو الذي يمنع هذه
الديكتاتورية أن تتسلط وتسود كما حصل في الأقوام السابقة اللي ما كان فيها أصلاً
من يعترض، بالعكس كان الناس الذين في أسفل القوم يتبعون الملأ من القوم ويسلمون
لهم ولا يستجيبون لأنبيائهم.
وخُتم السياق.. بقوله: "وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ
لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ
أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ"، ألا تلاحظ الرابط الآن؟ معناها إنه
إذا حصل منهم التكذيب واستمروا على هذا، ستكون النتيجة الحتمية إنهم هم قوتهم،
باعتبار أنهم يعادون سنن الله، لابد أن تنتهي كما انتهت قوة قوم نوح وعاد وثمود
وإبراهيم، لكن ليس بحدث طبيعي، بهذا التدافع الذي يحصل بين أهل الحق وأهل الباطل.
باسم: يعني وضعت قواعد
جديدة للتدافع.
يوسف: بالضبط، وربط لك مع
القصص السابقة، قصص الأنبياء، حتى لا تقول الآن لماذا لا يتدخل الله فيفعل كذا
ويفعل كذا؟ لأنك لم تقرأ القرآن ولم تفهم رسالة القرآن، القرآن واضح جدًا في هذا
الموضوع. لم يقل: خلاص، قال لك: الآن انتهى الموضوع. والطريقة اختلف تطبيقها،
السنة الأولى مبدأها واحد: إيقاف الفساد عند حد معين حتى لا يتمكن من الأرض، لكن
الطريقة والإجراء اختلف الأسلوب فيه بسبب كثرة المؤمنين، وأصبح عندهم قدرة
ومسؤولية على تحمل العبء، وأيضًا تطور العقل البشري أصبح مهيئًا إنه يفهم، يحلل
بطريقة أكبر، يقبل الصواب، يعيد محاكمة الموروثات، يعيد محاكمة ما يعرض في
الإعلام، مثلاً. يعني لاحظ الآن المجتمعات أصبحت عندها وعي أعلى. بإمكانك أن
تقارن، أن تعرف الصواب من الخطأ، أن تعرف إنه هذا، مثلاً، الإعلام مأجور له رسالة
معينة، ولّا هو محايد ينقل الصورة بطريقة محايدة. فلما تمكّن البشر من هذه القدرة،
خلاص، لا داعي لتدخل الطبيعة. والنتيجة الحتمية إنه لابد أن تكون العاقبة كعاقبة
الأقوام السابقة، لكن عن طريق هذه السنة التي هي سنة التدافع.
طيب، ولذلك قال: "وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ"، أيضًا
هذا في سياق، في تكملة السياق. يعني أن الطرف المعادي صاروا يقولون أنزل علينا
العذاب كما نزل على الأمم السابقة. فقال: "وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ"،
"وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ
أَخَذْتُهَا". لكن كما قلنا، لم يحصل الأخذ بهذه الطريقة. وفي سورة القمر
أيضًا نلاحظ إنه لما ذكر الأقوام في سورة القمر المتتالية: قوم نوح، قوم عاد،
وثمود، ولوط، وفرعون. "وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ"، وفي
النهاية " كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ
مُقْتَدِرٍ". لاحظ توقف السياق، كما قلت لك، والقرآن دقيق جدًا. آخر من يذكر
في العقوبات: "وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ"، يعني حتى ليس كل من عاش
في عهد موسى. لأ، انتهى الموضوع مع آل فرعون. ثم قال: "أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ
مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ
جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ". لم يقل ستنزل العقوبة كتلك التي
نزلت على فرعون وعاد وثمود. لأ، قال: "سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ".
تدخل الملائكة
باسم: يعني أعطاهم النتيجة
في الوقت الذي يتم فيه تطبيق أسس الصراع، مثلاً، أو أسس قيادة الإصلاح.
يوسف: مئة بالمئة. إذا حصل
الإيمان الحقيقي والاستسلام الحقيقي لسنن الله سبحانه وأوامره المتسقة مع السنن،
فلا شك في نهاية المطاف أن كفة الذي يسير في طريق الصلاح لابد أن تنتصر، وإن كانوا
أقل. لكن طبعًا لابد من وجود ضوابط معينة، هذه تكون لأهلها، وليست لنا من
المختصين. لابد في النهاية أن يكون الانتصار لأهل الصلاح، لأنه هو يسير مع اتجاه
التيار الكوني. الآخر يسير عكس التيار الكوني، وهذا السير عكس التيار سيجعله أصلاً
منهزم داخليًا. فهذا الانهيار الداخلي قد يعوض بعض الفرق الحاصل في العدد والعدة،
فيؤدي إلى الفئة القليلة تغلب فئة كثيرة.
طيب، يبقى أن يقال إنه بعض الناس يقول بس لا، هناك تدخل ملائكة. يعني
تدخل الملائكة..
باسم: أه، صحيح. نفس ما
حصل في معارك في التاريخ العربي القديم.
يوسف: وحتى الناس الآن
يقولون: يعني هل تنزل الملائكة، مثلاً، فتقاتل في صراع وإلى آخره؟ الجواب إنه تدخل
الملائكة ليس بالقتال. طبعًا ممكن الجواب صادم، لكن تعال نتتبع النص ونراه: "إِذْ
تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ". لكن ماذا قال؟ "وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ
إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ". يعني نزول الملائكة هدفه
تطمين نفسي فقط وليس قتال. ليه؟ لأنه أنت تقول إنه ألف ملك، ثم بعد ذلك: "وَلَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ"، "إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ
آَلَافٍ..". بعدين قال: "بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ..".
طيب، معناها إذا هم وصلوا إلى أعلى الدرجات التي ذكرتها الآية الأخيرة، خمسة آلاف
ملك سيكونون في معركة، خمسة آلاف ملك ينهون الأرض بأكملها، يعني بضربة واحدة حسب
قوة.. القوة الطاقية الموجودة لدى الملائكة، لكن لم يحصل قتال أبدًا في موضوع
الملائكة، هو الموضوع تعزيز نفسي.
طيب، يقول قائل: يعني هل الملائكة تُرى؟ الجواب: لا، هو شعور. شعور طاقي
ناتج عن قوة الإيمان بالفكرة، قوة الإيمان بالله، قوة الإيمان بسنن الله وأن
العاقبة للمتقين. هذه القوة هي التي تتجلى عند صاحبها، أثرها يظهر. فهذا هو
التأييد المذكور في الملائكة. لذلك قال: "إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ
أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ..". لما قال: " إِذْ يُوحِي رَبُّكَ
إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ..". ما المطلوب من الملائكة؟ "فَثَبِّتُوا
الَّذِينَ آَمَنُوا". طيب، يعني هناك قانون طبيعي إنه متى ما كان الإنسان
مؤمنًا حقًا بما هو عليه من المبدأ الفطري الرباني، السنن الكونية، سيحصل لديه
الثبات. هذا هو المقصود بالتعزيز بالملائكة، لأنه نحن قلنا ما هو مظهر الملائكة؟
السنن الكونية تشير لك الآية أن صاحب الحق المتماهي مع سنن الكون سيكون لديه قدر
كبير من الثبات. هذا الثبات سيكون عامل قوة وعامل نصر على الأعداء، وهي سنة كونية،
وليس شيء نبحث عنه إنه لابس أبيض وفرس، وهذه الخرافات التي...
باسم: وأجنحته ترفرف.
يوسف: أينعم، يتحدث عنها
الناس. لأ، قال: "فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا". بعض الناس يقول ليه هو
قال: "فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ"، هذا ليس الكلام موجهًا
للملائكة، هذا موجه للذين آمنوا: "فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ
وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ". وطبعا المقصود هنا الأعناق، ليس المقصود فقط معناها الحسي،
معناها الذي يصل...
باسم: مراكز قرار
القيادات.
يوسف: نقط التواصل التي
تحافظ على تماسك جيش العدو. إذا قطعت وانتهت، خلاص يتوقف القتال. لا يمكن أن يكون
إثخان بهذه الحالة إنه تمسك الجنود وتبدأ في القتل. هذا ليس موجودًا في دين الله.
باسم: إذن لهذا تستخدم
كلمة "فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ".
يوسف: فوق الأعناق، نعم. مش "اضربوا الأعناق". بالضبط، يعني يشير لك إنه اقطع حبال التواصل قدر المستطاع قبل أن تلجأ إلى قتل الأفراد. يعني أن تحاول أن تقطع أوصال الجيش ليستسلم، ليحاصر. لتكون يعني، وحدات الجيش التي مكونة منه أصبحت ضعيفة بحيث لا تستطيع المقاومة. فإن بقي القائد الذي، مثلاً، الجنود يشعرون بالقوة لوجوده، فقال: "اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ"، فقط يعني القائد الذي يعني هو السبب الرئيسي في قوة الفرقة التي هي معه. فهذا يعني ترشيد القتال الذي تطرحه آيات القرآن الكريم. لا يمكن أن تجد له مثيلًا في أي قانون بشري. فعلاً، ترشيد بطريقة هائلة جدًا. ولذلك، يعني أنت لما تنظر في الروايات المتعلقة بالسيرة، الأعداد التي حصلت في معارك قتلت ضئيلة جدًا. لا تصل، ربما لا تصل إلى 200 شخص في جميع ما يذكر في السيرة من معارك وأحداث. أين هذا ممّا تراه من أتباع الملل الأخرى أو المذاهب أو الفلسفات البشرية، أو حتى من يتسمى باسم الإسلام وهو بعيد كل البعد عن الإسلام، ممن يظن القتل غاية، ويظن أنه الغاية هو أن يموت، وليس الغاية هو أن يحيا في سبيل الله، وأنه القتل هو شيء عارض يعني يحصل للإنسان.
باسم: أخدنا الوقت، دكتور، ونستكفي بهذه الحلقة لنكمل بحلقة جديدة من برنامج مفاهيم. شكرًا على اللقاء، دكتور، ونلقاكم في حلقة جديدة من برنامج مفاهيم مع الدكتور يوسف أبو عواد.