• Facebook
  • instagram
  • X
  • youtube
  • tiktok
  • apple podcast
  • google podcast
  • spotify

العولمة والعرب | د. وحيد عبد المجيد

للإستماع




تحدَّثَ الدكتور وحيد عبد المجيد، الباحث والمفكر المصري، خلال لقائه د.باسم الجمل، عبر برنامج "مجتمع"، عن العولمة والثقافات المجتمعية وتأثيرها على الهويات عند العرب؛ وكيف يمكن أن ننظر أن هناك تأثيراً لفلسفة العولمة الحديثة مع المجتمعات العربية أو ما يمكن أن يؤثر على الهوية الثقافية عند العرب؟


العولمة.. النسخة الأحدث في تطور الحضارة الغربية

قال الدكتور وحيد عبد المجيد، الباحث والمفكر المصري: "الحقيقة موضوع العولمة من أكثر الموضوعات التي تثير خلافاً في فهمها وتفسيرها وتحليل ما أدَّت وتؤدي إليه؛ لكن في رؤيتي للعولمة أنظر إليها بوصفها النسخة الأحدث في تطور الحضارة الغربية. العولمة هي عملية تطور تاريخي ظهرت نتيجة مقدمات وتراكمات معظمها تكنولوجي أكثر منه فكري؛ تحولات تكنولوجية كبيرة أتاحت تقريب العالم، العالم أصبح قريباً من بعضه من خلال وسائل تواصل حديثة متجددة طول الوقت، وتتجدد كل يوم تقريباً، وأصبح العالم يوصف بأنه قرية صغيرة؛ يستطيع كل شخص أن يعرف ما يحدث في العالم في اللحظة نفسها. واقترن هذا بتطورات اقتصادية وتجارية ثقافية طبعاً بالتأكيد".


العولمة أسهمت في إحياء الخصوصيات الثقافية

وأضاف الدكتور وحيد عبد المجيد: "في البداية؛ بدا للوهلة الأولى -عشرون عاماً مثلاً- أن العولمة يمكن أن تجتاح الخصوصيات الثقافية؛ أنها تؤثر عليها وربما تقضي عليها، لكن الذي حدث هو العكس. إن العولمة أسهمت في إحياء الخصوصيات الثقافية، في دعمها من حيث لم يرد أحد، لا مَن أنتجوا العولمة في سياق تطورهم يعني ولا مَن تأثروا بالعولمة؛ فدي عملية طبيعية. إنه الفكرة الأساسية فيها أنه كلما ازدادت معرفتك بالآخرين أصبحت معرفتك بنفسك أكبر وأقوى، فعندما عرفت الآخر أكثر انتبهت إلى ما يميزك عنه، وما ربما غاب عن ذهنك في وقت سابق، في إطار هذا التمايز، والخصوصيات الثقافية في ما بينها تمايزات واختلافات، الخصوصية الثقافية تضعف عندما يقل شعور الشخص بما يميزه وما يختلف فيه عن الآخر".


وتابع الباحث والمفكر المصري: "العولمة أسهمت في أن أعرف نفسي وأعرف خصوصيتي وأعرف ثقافتي أكثر.. أسهمت من حيث التكنولوجيا التي أتاحتها، من حيث التواصل الذي أصبح من أسهل ما يكون، ومن حيث التحدي الذي مثلته أيضاً أنها أحيت وعمَّقت الخصوصيات الثقافية".


تأثير العولمة على الإعلام والمجتمعات العربية

قال د.وحيد عبد المجيد: "في ما يتعلق بالجانب التكنولوجي هناك تبعية للغرب على المستوى التكنولوجي، سابقة حتى على هذه النسخة من العولمة؛ لكن على مستوى الثقافة، على مستوى الشعور بالخصوصية، على مستوى الشعور بأنني مسلم وعربي، هذا زاد؛ لكن على مستوى استخدام الأدوات والآلات، طبعاً هذا.. لكن حتى استخدام الأدوات والآلات هو لدينا ظاهر وواضح، والتقليد في أوساط العرب بصفة خاصة؛ لكن في أوساط أخرى في الشرق، الوضع اختلف.. يعني في الصين الآن قلّ اعتمادهم على الأدوات التكنولوجية الغربية، ينتجون ويطورون أدواتهم الخاصة المرتبطة بخصوصيتهم. والروس في سبيلهم إلى هذا؛ نتيجة الحصار المرتبط بحرب أوكرانيا. والإيرانيون يفعلون الشيء نفسه؛ نتيجة الحصار المفروض عليهم، ولأنهم بدؤوا في هذا حتى قبل الحصار؛ لأنهم منذ البداية كانوا أكثر إدراكاً من العرب لخطورة الانسياق الكامل وراء الغرب، في كل أدوات الحياة، في كل أشكال الحياة وأنماط الحياة".


الشعور بالخصوصية والعدوان الهمجي على غزة

وأضاف الباحث والمفكر : "مشكلة العرب أنهم ما زالوا بعيدين نسبياً على هذا المستوى؛ لكن شعور كثير من العرب الآن بخصوصيتهم، أتكلم على مستوى المجتمعات، على مستوى الشعوب، لا أتحدث عن مستوى النظم والحكومات.. الشعور بالخصوصية ازداد، هذا نلمسه في مجتمعي، وأعتقد أنه ملموس في مجتمعات أخرى، حتى قبل أن يظهر بشكل أكثر وضوحاً من خلال رد الفعل على العدوان الهمجي على غزة".


المجتمعات والبحث عن هويات صغيرة ضائعة

وتابع د.وحيد عبد المجيد رداً على "في الوقت الذي صار فيه ضعف المجتمعات بدأت هذه المجتمعات تبحث عن هويات صغيرة ضائعة في زوايا التاريخ؛ لاستنهاضها": "هذه ملاحظة مهمة جداً، وهذا جزء من أثر العولمة بالفعل، ويدعم المجادلة بأن العولمة من حيث لم يقصد أحد أحيت الخصوصيات الثقافية؛ سواء الحقيقية أو المتوهمة، بما فيها الهويات الصغيرة. هذه لحظة في التطور لا تقلقني؛ يعني أرى أنه هذا جزء من رد الفعل، وكلها يعني هويات صغيرة تعبر عن مجموعات محدودة للغاية، لا تمثل قلب المجتمعات العربية، قلب المجتمعات العربية، الإحياء الثقافي فيه هي الخصوصية الثقافية فيه إيجابي. وإحياء إيجابي في اتجاههم؛ لكن في محتواه يمكن أن نتحدث كثيراً عن يعني سلبياته أو عن مدى فهم كل شخص لهذه الخصوصية، مدى فهمنا للإسلام؛ لكن هناك إحياء للهوية الإسلامية، هناك إحياء للهوية العربية. نحن في مرحلة ارتباك؛ يعني المجتمعات العربية في مرحلة ارتباك على مختلف المستويات، ومن الطبيعي أن يكون هناك ارتباك أيضاً على مستوى الهويات. وباعتقد أنه هذه مرحلة سيكون لها ما بعدها؛ لكن المهم هو أنه استعادة الشعور بالهوية، بالخصوصية الثقافية، بما نختلف فيه عن الآخر الغربي".


الانبهار بالآخر الغربي بدأ يقل

وأضاف الباحث والمفكر المصري: "الانبهار بهذا الآخر الغربي قلّ؛ يعني عندما نقارن ما نحن فيه الآن بما كان منذ قرنَين من الزمن وأكثر؛ يعني منذ أن بدأ الاحتكاك المباشر مع الغرب في آخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، كان الانبهار بالغرب مهولاً.. يعني منذ كتابات رفاعة الطهطاوي مثلاً عندما ذهب إلى باريس وكان مبهوراً بالثقافة الفرنسية ونمط الحياة الفرنسي يعني، وكثيراً بعده يعني كان فيه عقود طويلة نشرت فيها كتب ومقالات تدور حول محور لماذا تقدموا ولماذا تخلفنا؟ وأصبح هذا النموذج الغربي هو القدوة. وينظر إلى التخلف والتقدم على أساسه، هذا أصبح هو المعيار، عشرات الكتب والمقالات ما بين يعني النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، بتدور حول هذا الموضوع، حول هذا السؤال".


ما ضرورة أن تكون للفرد هوية؟

وأجاب الباحث والمفكر  عن سؤال "ما ضرورة أن تكون للفرد هوية؟"، قائلاً: "هوية المجتمع مرتبطة بهوية الإنسان، والإنسان فاقد الهوية هو يفقد نفسه، يفقد إنسانيته، هو يصبح ترساً في آلة تدور ويديرها غيره. الشعور بالهوية هو ما يعطي الإنسان كيانه. الإنسان دون هوية هو ترس في عجلة، عجلة يقودها آخرون، يأخذونه هنا وهناك دون هوية، لا يوجد إنسان ولا يوجد عمل منتج ومفيد وتقدم حقيقي؛ لأن الشعور بالهوية هو الذي يعطيك حافزاً ودافعاً إلى أن تعمل من أجل تدعيم هذه الهوية على مختلف المستويات، إلى أن تنتج وتبدع وتبتكر، ويصبح لمجتمعك ولأمتك كيان في هذا العالم، وإلا لمَ تعيش أصلاً يعني؟!".


مناعة المجتمعات الداخلية تستطيع مقاومة المؤثر الخارجي

وأضاف د.وحيد عبد المجيد، رداً على سؤال "هل هناك نية سيئة تجاه أن يمنع هذا التجمع البشري في هذه المنطقة مَن تكون له هوية خاصة فيه؟": "بالتأكيد؛ يعني منذ المرحلة الاستعمارية، فهذا حدث؛ لكن هو في الحقيقة يعني أنا ممن يؤمنون بأن أي مؤثر خارجي لا يستطيع أن يفعل فعله إلا إذا كان هناك استعداد داخلي. يعني العامل الخارجي يؤثر بمقدار ما يكون الوضع الداخلي ضعيفاً غير قادر على المقاومة؛ مثل العدوى في البيولوجيا، يعني الفيروسات موجودة في الهواء طول الوقت ويمكن لشخصَين اثنين أن يوجدا في المكان نفسه، ويُصاب أحدهما بفيروس ولا يُصاب الثاني؛ لأنه الذي أُصيب مناعته الداخلية ضعيفة، مناعة جسمه ضعيفة. الجسم البشري هو مثل جسم المجتمع، المجتمع الذي لديه مناعة داخلية يستطيع أن يقاوم المؤثر الخارجي. عندما تضعف مناعة المجتمع يسهل التأثير فيه ويستطيع الآخر أن يعيد تشكيله.. من هنا كانت هناك عملية تغريب. يعني ما تفضلت به هو أحد تجليات عمليات التغريب التي حدثت، والتي قام بها غربيون، وقام بها وكلاء للغرب في مجتمعاتنا، وكانت مجتمعاتنا مناعتها ضعيفة؛ بحيث إنها لم تستطع أن تقاوم هذا في بعض المراحل. الآن أنا أعتقد أننا في استعادة هذه المناعة. في مرحلة اكتشاف هذا الغربي على حقيقتها؛ خصوصاً أنه ما كان باهراً فيه هو هذا الغربي نفسه، يدمّره".


الحضارة الغربية.. جانب منير وجانب مظلم

وتابع الباحث والمفكر المصري: "يعني أكثر ما كان باهراً لمثقفين عرب ومسلمين هو أفكار وقيم التنوير الغربي، عصر التنوير في القرن الثامن عشر وفي القرن السابع عشر والحريات، هذا يُداس عليه الآن في الغرب، يعني الغرب يقضي عليه بنفسه، وبالتالي يظهر على حقيقته، يظهر، يعني الحضارة الغربية مثل أي حضارة فيها جانب منير وجانب مظلم، الذي ظهر لنا في فترة طويلة في التاريخ هو الجانب المضيء أكثر من المظلم، حتى في ظل الاستعمار كنا ننظر إلى الجانب المضيء أو كان كثير من مثقفينا كان هناك مَن يدركون الجانب المظلم بالتأكيد؛ لكن كان هناك دور واضح لمن روَّجوا للجانب المضيء في الحضارة الغربية، الآن هذا الجانب المضيء هو نفسه بيظلم وتكشف حقيقته، وبالتالي نحن في مرحلة تحول تاريخي، هذه مرحلة بيُكتب فيها فصل جديد من فصول التاريخ".


أين البديل العربي في حال انهيار الثقافة الأوروبية؟

وأجاب د.وحيد عبد المجيد عن سؤال "كيف يمكن للعرب كمجتمعات -بغض النظر عن السياسات الموجودة أو عن الجغرافيا المحددة أو المحددات الجغرافية للمجتمعات العربية- كيف يمكن لهذا المجموع العربي الذي لا شك أنه متفق حول أصول كثيرة في ما بينهم؛ يعني فيه تآلف كثير حول الأصول المؤصلة للثقافة العربية، أن يستفيد مثلاً من عملية الانكشاف للثقافة الأوروبية التي وصفت بالتنوير؟ أن هذه الثقافة انكشفت وأصبحت توصف منها متوحشة، وبالتالي ما عاد فيه مجال للانبهار فيها. أين البديل بتاعنا؟ أين البديل العربي الذي يمكن أن يملأ هذا الفراغ الذي قد يحدث في ما لو تأكد الانكشاف، بس الانهيار لم يتأكد، انهيار الثقافة الأوروبية؟"، قائلاً: "هذا سؤال طبيعي، إنه سينشأ فراغ في لحظة ما لا نعرفها الآن، لا نستطيع تحديدها؛ لكن التاريخ يمضي باتجاهها، وهذا حدث، هذه هي سُنة التاريخ. إنه إمبراطوريات بتنشأ وتتوسع وتنهار.. يعني ما يحدث الآن هو ليس استثناء من التاريخ، ليس هناك أحد فوق التاريخ وفوق قوانين حركة التاريخ؛ أنه مَن يقوى يسود ويسيطر تصيبه غطرسة، يصيبه غرور ويندفع إلى أن يستنفد قدراته وينهار تدريجياً".


الحضارة الغربية تسير في مرحلة أفول.. الصينيون والإيرانيون بدؤوا تغيير بدائلهم

وأضاف الباحث والمفكر: "وأنا عندي يقين أن هذه الحضارة الغربية تسير يعني الآن في مرحلة أفول، وستصل إلى نهايتها في لحظة ما لا نستطيع تحديدها الآن؛ لكنها لن تكون بعيدة في اعتقادي.. وبالتالي هذا السؤال مهم جداً، أنه ما البديل الذي نستطيع أن نقدمه؟ خصوصاً أن غيرنا في الشرق هم ينبغي أن نكون معهم وينبغي أن يكونوا معنا، بدؤوا في تطوير بدائلهم.. الصينيون بدؤوا في هذا، والإيرانيون وهم أقرب لنا لأنهم مسلمون وجزء من حضارتنا الإسلامية بدأوا في هذا، والروس بدؤوا مؤخراً في هذا بعد أن حاولوا تغليب هويتهم رغم أن معظم روسيا جغرافياً في آسيا، إنما هم حاولوا أن يكونوا أوروبيين ثم اكتشفوا أو يكتشفون الآن أنه هذا كان وعياً زائفاً وأنهم يعودون إلى وعيهم الآن، وأن أوروبا التي حاولوا أن يكونوا جزءاً منها كشفت أمامهم أنها آلة حربية متوحشة تعمل بأوامر من وراء المحيط، وتابعة، ولا يشرف أحداً أن يكون جزءاً منها؛ فبدؤوا في تطوير بدائلهم.

علينا الآن أن نبدأ في تطوير البدائل الخاصة بنا، وهذا سيحتاج إلى وقت طويل، ولدينا هذا الوقت؛ لأن الحضارة الغربية لن تنهار بين ليلة وضحاها".


وعي الإدارات الرسمية في المجتمعات العربية

وأجاب د.وحيد عبد المجيد عن سؤال "الوعي بضرورة التحضير لشيء يملأ هذا الفراغ، هل هذا الوعي موجود عند الإدارات الرسمية في المجتمعات العربية؟"، قائلاً: "لا قولاً واحداً، لا. يعني هذه النقطة المهمة إذن في هذه المرحلة، ولهذا أقول إنه يعني لدينا وقت، لدينا وقت؛ لأنه لا شيء على حاله... مصالح وعدم الوعي وأنها ليست معنية وأن الموضوع ليس على جدول أعمالها؛ يعني هو مزيج من عوامل متعددة، وهذه الإدارات تعمل يومًا بيوم، ليست لديها مشروعات كبرى للمستقبل، قد يكون لديها بضع مشروعات اقتصادية صغيرة؛ لكن ليس لديها مشروعات حضارية، ليس لديها رؤى، وليست معنية بها؛ لأنها تعمل وَفق شبكات مصالح، شبكات المصالح تحتاج إلى ما يغذيها، لكنها ليست معنية عادةً بما هو أبعد".


هل المجتمعات العربية جاهزة لأن تكون بديلاً؟

وأجاب الباحث والمفكر المصري عن سؤال "هل المكون العربي في هذه الحضارة البشرية جاهز لأن يقدم بديلاً مثلاً، على طريقة (إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).. فحتى أنا أستطيع أن أتعارف مع الشعوب الأخرى أو مع الهويات الأخرى أو مع الثقافات الأخرى. لازم يكون عندي أنا مكون أصيل وثابت وواضح؛ لأقدمه للناس على أساس أتعارف معهم من خلاله، هل هذا موجود عند العرب مثلاً حالياً؟ هل المجتمعات العربية جاهزة لأن تكون بديلاً مثلاً؟"، قائلاً: "حالياً ليس موجوداً؛ هو سؤال البديل، من أهم الأسئلة في الحقيقة؛ لأنه ما دام الحضارة الغربية تسير في طريق الأفول، وهو ما يبدو الآن أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، التنوير بأفكاره وقيمه وأخلاقه وصل إلى نهاية مأساوية؛ فالمتوقع أن يتسارع هذا الأفول ويقود في النهاية إلى انهيار، إلى ذبول بشكل ما مثل ما ذبلت إمبراطوريات وحضارات كثيرة عبر التاريخ، وهذه هي سُنة التاريخ، يعني ما يحدث الآن ليس استثناء من التاريخ، التاريخ شهد إمبراطوريات كثيرة تضخَّمت وتمددت وتوسعت ثم انهارت في النهاية، وهذا هو ما سيحدث للحضارة الغربية أو ما بدأ يحدث لنكون أكثر دقة، هو ما بدأ يحدث فعلاً، وتسير في هذا الاتجاه، كم سيستغرق هذا من الوقت؟ يصعب تحديده؛ لكن في اعتقادي أنه لن يطول.. المدى الزمني لوصول هذه العملية إلى نهايتها. ومن هنا أهمية أن يكون هناك بديل؛ لأنه في هذه الحالة سيكون هناك فراغ، لأن الغرب نجح في أن يملأ العالم بحضارته، واستغل أفول حضارات أخرى. هذا قانون طبيعي أيضاً في حركة التاريخ، فوجود بديل أو الشروع في تكوينه مسألة بالغة الأهمية، ولدينا الأساس لها، غيرنا في الشرق وهم ولا بد أن نكون قريبين منهم، ولا بد أن يكونوا قريبين منا.. في الصين بدؤوا في تكوين البديل الثقافي والحضاري الخاص بهم، اعتماداً على حضارتهم وعلى خصوصياتهم الثقافية، والإيرانيون وهم أقرب إلينا بالتأكيد؛ لأنهم مسلمون وجزء من الحضارة الإسلامية، جزء كبير وجوهري من الحضارة الإسلامية، شرعوا في أن يفعلوا هذا رغم الحصار المفروض عليهم، وحتى قبل الحصار كانت لديهم رؤية لخصوصيتهم الثقافية أكثر من العرب للأسف، والروس بدؤوا في هذا مضطرين بعد الحصار الذي فرض عليهم بسبب الحرب في أوكرانيا، وبدؤوا يكتشفون خطأهم عندما حاولوا لفترة طويلة أن يكونوا أوروبيين رغم أن الجزء الأكبر من روسيا يقع في آسيا. الجزء الأوروبي هو جزء صغير؛ لكن الثقافة الأوروبية طغت في روسيا، إلى أن بدؤوا يكتشفون حقيقتها، يكتشفون هذه الأوروبا المتوحشة الهمجية، التي تعمل تحت إمرة متوحش أكبر وتحت حمايته من وراء المحيط..

اكتشفوا أن هذه هي أوروبا التي حاولوا أن يكونوا جزءاً منها، وأن يندمجوا فيها، فبدؤوا يستعيدون خصوصيتهم الثقافية السلافية والأرثوذكسية. نحن لدينا خصوصية أسبق من روسيا بكثير. روسيا بلد يعتبر جديداً مقارنةً ببلادنا العربية والإسلامية، وحضارتنا أقدم وأكثر رسوخاً وأقوى في أصولها، وفي قيمها وفي أخلاقها وفي أفكارها وكانت هي أساس جوهري أقام عليه الغرب حضارته، فكيف لنا أن نهمل هذه الحضارة بأصولها التي لولاها ما كانت هناك حضارة غربية، وهنا مهم جداً أن نتعاون مع الإيرانيين؛ يعني سيأتي وقت ملائم لهذا، هذا الوقت ليس ملائماً بعد للمضي في هذا الاتجاه. العرب لم يدخلوا التاريخ بعد مقولة إن العرب خرجوا من التاريخ، وإن كان فيها شيء من التعبير الأدبي، إنما فيها شيء من الحقيقة، ربما ردة فعل الشعوب العربية على العدوان الهمجي في غزة بداية لاكتشاف أنه لا بد أن يكون لدينا يعني بديل عن هذا الانقياد للغرب، والتبعية لهذا الغرب، فأعتقد أنه يعني قد لا يطول الوقت قبل أن يبدأ في بلورة بديل إسلامي عربي، يعتمد على أصولنا الحضارية والثقافية".


هل العرب جاهزون ليقدموا البديل؟

وأضاف د.وحيد عبد المجيد، مجيباً عن سؤال "هل العرب جاهزون ليقدموا لهذا البديل؟"، قائلاً: "في اللحظة الراهنة لا أستطيع القول إن العربَ جاهزون؛ لكن الجهوزية تحدث تدريجياً، وأحياناً تحتاج إلى صدمات.. أوروبا مضت في هذا الاتجاه بفعل صدمات الحروب الدينية؛ يعني التنوير كان في أصله وجوهره هو الرد على الحروب الدينية التي اجتاحت أوروبا لفترة طويلة، ولذلك كانت القيمة الأولى في أفكار التنوير هي التسامح والتعدد. وكان التعدد الثقافي قبل التعدد السياسي؛ أن هناك تعدداً وهناك تنوعاً، وأن الكاثوليك والبروتستانت هما جزآن في هذه المجتمعات لا ينبغي أن يتقاتلا، ينبغي أن يتعارفا، وهنا استمد؛ سواء بشكل واع أو غير واع بعضَ هذه الأفكار من حضارتنا، يعني هو التسامح والتعدد.. هو يقوم على التعارف، أنا لكي أتسامح أو لا أتسامح معك لا بد أن أعرفك، يعني إحدى مشكلاتنا أنه أو من أكبر مشكلاتنا أنه بلادنا حكمت بطريقة تمنع التعارف بين مواطنيها أو رعاياها؛ بمعنى أدق في كثير من الأحوال نتيجة القهر، القهر يمنع التعارف؛ لأنه يمنع الناس من أن يتحدثوا مع بعضهم بشكل آمن وبشكل حر.. لا يعرفون بعضهم؛ وبالتالي عندما لا أعرفك أكون صورة نمطية عنك يعني، أتصورك كما يأتي في ذهني وأصدق ما يُقال عنك، وينقل كلام من شخص إلى آخر، ويتحول إلى صورة نمطية؛ فأتصور الآخر العربي أنه عدو أو كأنه مختلف، وقد يكون عدواً وأخشاه، وحصلت عملية تغذية لهذه الصور النمطية؛ لكي ينشغل الناس ببعضهم البعض بدلاً من أن يهتموا بشأنهم العام وبالمشكلات الناتجة عن الطريقة التي تدار بها بلادهم، فيظل مَن يديرون هذه البلاد آمنين على عروشهم وسلطاتهم، فحصلت وكانت هناك تغذية لهذا التباعد، أن الناس يتحدثون في الرياضة، في كرة القدم، يهتمون بهذه الأمور؛ لكن لا يتحدثون في القضايا الجوهرية.

 في فترة سابقة يعني، هذه الانتكاسة الحقيقة عمرها ليس طويلاً، يعني خذ مثلاً قضية السُّنة والشيعة، يعني حتى منتصف القرن العشرين لم تكن ذات بال، يعني في البلاد التي يوجد فيها عدد كبير من السُّنة والشيعة كانت العلاقات طبيعية جداً، وكان هناك تزاوج ومساهرة".


تجزئة الهويات العربية.. الحقبة الاستعمارية وإعادة رسم الحدود بطريقة عشوائية

وقال الباحث والمفكر المصري: "وبالتأكيد الحقبة الاستعمارية أحدثت آثاراً سلبية بأشكال متعددة؛ منها هذا الأثر، يعني إعادة رسم الحدود بطريقة عشوائية، بالقلم والمسطرة؛ دون مراعاة التركيبات الديموغرافية السكانية والاجتماعية... أسهم في خلق هذه الحالة؛ لكن كان ممكناً معالجتهم لو أن بلداننا حكمت حكماً رشيداً بعد الحقبة الاستعمارية، لأمكن معالجة آثار الحقبة الاستعمارية في ما يتعلق بموضوع التقسيم والحدود وغيره من الآثار الثقافية المباشرة التغريبية، يعني.. لكن ما حدث هو العكس؛ أنه الروح الوثابة التي كانت موجودة خلال فترات مواجهة الاستعمار ومقاومة الاستعمار خمدت في جانب منها بشكل طبيعي، لم يعد هناك استثمار، وأخمدت بشكل عمدي من أجل إبقاء هذه المجتمعات تحت سيطرة الحكومات التي وصلت إلى السلطة بعد الحقبة الاستعمارية، ولم يبذل أي جهد؛ بل على العكس وضعت حواجز إضافية؛ يعني القيود على الحريات، حرية التعبير وحرية التفكير وحرية الإبداع والابتكار؛ أسهمت في خلق حالة من التباعد بين المواطنين، لأنه لكي نعرف بعضنا البعض لا بد أن تكون لدينا حرية تعبير، لا نخشى الحديث، ومن خلال الحديث نتعارف، ومن خلال الحوار يفهم كل منا الآخر وندرك في النهاية أننا أمة واحدة، أننا جزء من أمة واحدة. وأنه ما بيننا من خلافات هذا أمر طبيعي. بين السُّني والشيعي، بين العرب والكردي، بين العربي والأمازيغي، يعني هذا تنوع طبيعي يمكن أن يجعل المجتمع مثل بستان فيه ورود وزهور مختلفة الألوان والروائح؛ تعطي هذا البستان رونقه. لكن عندما يغيب هذا التعارف فبدلاً من أن يكون بستاناً تتحول إلى غابة، كل منا يخشى الآخر نتيجة أنه يتصور أنه يريد إيذاءه أو يريد أن بفرض عليه شيئاً هو لا يعرفه أصلاً".


المجتمعات العربية وإشكالية الوصول إلى رؤية موحدة

وأجاب د.وحيد عبد المجيد عن سؤال "كيف يمكن الوصول إلى، ليس هوية جامعة، إنما تفاهم جامع لهذه التجمعات العربية التي هي تتشابه في الكثير في السلوكيات، حتى بالمفاهيم المعرفية أن ترتقي بنفسها، وصولاً إلى أن تكون أداة فاعلة في الحضارة، بس يعني مش مطلوب منها لا تندمج ولا تتوحد؟ كيف نصل إلى رؤية موحدة أن نكون جميعنا مشاركين في صياغة أو في المساهمة في صياغة مستوى معرفي ما للمجتمعات الأخرى يعني؟ هل سيكون هناك دور للدين مثلاً؟ وبأي فهم وبأية طريقة؟ وكيف سيكون دور الدين في توحيد المفاهيم مثلاً؛ باعتبار أن غالبية هذه المجتمعات تؤمن بنفس النمط أو تؤمن بنفس الأسس المعرفية والنظم الأخلاقية الموجودة في الدين؛ سواء أكانت مسيحية أم حتى إسلامية أم حتى يهوداً؟ يعني حتى اليهود اللي عايشين بالمجتمعات العربية نفس القيم موحدة، أية نظرة أو أي مستوى من مستويات التدين نحتاج إليها نحن؛ حتى نردف هذه الرؤية الجامعة، أن نكون جزءاً من الحضارة البشرية؟"، قائلاً: "الدين دائماً هو مكون رئيسي في ثقافة وحضارة أية أمة؛ لكن البداية ليست بالوصول إلى هذا الفهم للدين؛ لأنه لكي نصل إليه نحتاج إلى مقومات. من هذه المقومات لا بد أن تكون لدينا حرية تفكير وتعبير. ولا بد أن تكون لدينا حرية حوار، وإذا كانت الحكومات لا ترغب في هذا، فعلى الأقل تدع فرصة للمجتمعات، يعني في مرحلة من المراحل في بداية الاستقلال في العالم العربي كانت الحكومات يعني ليست راغبة في بناء صيغة للتعاون تتجاوز جامعة الدول العربية، التي ثبت أنها مثل عدمها؛ لكن كانت المجتمعات نشطة، كانت هناك اتحادات ونقابات، يعني فيه مؤسسات مجتمعية متواصلة على المستوى العربي. يعني كان مثلاً هناك اتحاد المحامين العرب، كان يجمع فئة اجتماعية مهمة جداً، واتحاد الصحفيين العرب، واتحاد المهندسين العرب. هذه الاتحادات كانت الجامعات العربية في التواصل بينها؛ كان عددها أقل، لكنها كانت أكثر فاعلية في التعليم والعلم وفي المجتمع. كان التواصل بينها كبيراً وقوياً. كانت جامعة القاهرة فيها طلاب من معظم البلدان العربية، وكان هذا يتيح فرصة للتعارف والتواصل، وكان هذا حال بعض الجامعات العربية الأخرى، حتى الجامعة الأمريكية في بيروت رغم أنها أمريكية؛ فإن طلابها كلهم من العرب، وكان فيها طلاب عرب من مختلف البلدان العربية، وأسهمت في بلورة أفكار كثيرة وتصورات وبدائلها.. كل هذا ضمر الآن، لا بد أن تكون هناك فرصة للمجتمعات، يعني مساحة من الحرية للحوار والتواصل في المجتمعات العربية، تكون بداية إلى أن يأذن الله بتغيير يتيح وجود حكومات عربية، وطبع هذا الموضوع على جدول أعمالها، وتدرك أن هذا في مصلحة كل البلدان العربية وفي مصلحة هذه الحكومات نفسها، عندما تدرك هذا عندها سيكون لدينا حوار أفضل ومناخ لحوار حقيقي".


"الخوارزميات" مستمدة من اسم العالم الإسلامي الخوارزمي

وأضاف د.وحيد عبد المجيد: "نحن الآن ليس لدينا حوار، لدينا سجالات واتهامات متبادلة وعنف لفظي متبادل، والحوار شيء آخر، الحوار يقوم على رغبة في الوصول إلى المشترك، وإعادة بلورة هذا المشترك. والمشترك بيننا كبير جداً وكثير جداً؛ لكن نحتاج إلى بلورته. والحديث عن بديل هنا يعني أن نعود إلى هذه الأصول، ونتفق على المشترك فيها، ونتفق على أنه لا بد أن نتحاور، لا بد أن تكون لدينا حرية حوار.. نتفق على المشترك فيها ونبني عليه في مختلف المجالات؛ بما في ذلك في مجال العلم. الحضارة الإسلامية لم تكن حضارة فكر وثقافة فقط؛ كانت حضارة علم، يعني المنجزات العلمية في الحضارة الإسلامية كانت أساساً كبيراً للتطور العلمي في الحضارة الغربية، يعني ما زال إنجاز عالم مثل الخوارزمي يذكر في العالم الآن. ويستخدم اسمه أصلاً في مجال الكمبيوتر؛ الخوارزميات هي مستمدة من اسم هذا العالم الإسلامي".


وأجاب الباحث والمفكر  عن سؤال "كيف نعمل على إنتاج ثقافة جديدة متجددة اعتماداً على الأصول الموجودة عندنا، مَن المؤهل للعمل؟"، قائلاً: "المؤهلون موجودون، وهناك أفكار موجودة، وأنا تابعت في منصتكم حوارات بالغة الأهمية في هذا المجال، وهناك آخرون كثيرون؛ لكن لا يوجد مناخ عام يسمح بتداول هذه الأفكار وإجراء حوارات في العمق حولها بحرية تضمن مشاركة بلا خوف؛ لأنه لا حوار يمكن أن ينتج في أجواء من الخوف؛ لا بد من تحرير المواطن العربي، لا بد أن يشعر بأنه حر، وأنه آمن. ويستطيع أن يفكر ويطرح أفكاره تدريجياً حتى تتحول السجالات أو الحوار السلبي إلى حوار إيجابي؛ كل منا يأخذ ويعطي، إلى أن نصل إلى هذا التبلور الذي نطمح إليه.. هذه عملية تاريخية لا تحدث في أيام ولا في أشهر؛ لكنها تحتاج إلى مقومات، أهمها وأساسها في اعتقادي هو المناخ العام الذي يسمح بحوار حر وآمن وعندها ستكون هناك بداية مختلفة.. أتفق مع حضرتك في أنه لدينا الأصول، ولدينا أصول تكفي لبدء حوار، والأفكار تطرح الآن؛ لكن لا يوجد حوار جاد حولها في هذه الأجواء.. دليل على هذا يعني لو أُتيحت فرصة لحوار بين هذه الأفكار وغيرها مما سيطرح عندما يشعر الناس أنهم آمنون ويستطيعون أن يفكروا ويتحدثوا ويعبروا ويتحاوروا بلا خوف، ستجد شيئاً مختلفاً".


المعرفة هي مصدر الثروة في هذا العصر

وأضاف د.وحيد عبد المجيد: "المعرفة هي مصدر الثروة في هذا العصر، دون معرفة لا يوجد اقتصاد ولا توجد حياة أساساً، يعني المجتمعات تستطيع إذا أُتيح لها هامش معقول من الحرية، بمعنى أنه إذا مؤسسة في المغرب أو في تونس أو في مصر أو في الأردن أو في أي أي بلد عربي، أرادت أن تنظم مؤتمراً عربياً واسعاً، يضم مفكرين ومثقفين من بلدان عربية مختلفة، أن تنظمه دون قيود.. كنا نتحدث عن الحدود، الآن في أي بلد عربي عندما تنظم مؤتمراً تدعو إليه مشاركين من بلدان أخرى، لا بد أن تأخذ أذونات على كل شخص، وهذا الشخص عليه ملاحظة، وهذا الشخص غير مرغوب فيه، وهذا الشخص كذا في البداية. يعني على الأقل هذا المستوى يعني لا أعتقد أنه على المستوى الثقافي والفكري هناك مَن يريد أن يصطدم بحكومات في أي بلد عربي، يعني مَن لديه اهتمام، وقضايا كبرى من هذا النوع، غير معني بأي صدام، هو معني بالمستقبل أكثر من الحاضر؛ هو معني بما ينبغي أن تكون عليه هذه الأمة في قادم الأيام وليس اليوم تحديداً.. إن هو يعرف حدود هذا اليوم، لكن حجم القيود أكبر".


المشكلة ليست في نقص مقدمي الأفكار بل التواصل

وأجاب الباحث والمفكر  عن سؤال "ألا يمكن تشكيل فئات ذات مستويات معرفية محددة لمحاورة السلطة بأنه نحن بِدنا نفكر بهذا الاتجاه، أعطونا، أين نختلف معكم وأين نلتقي، واسمحوا لنا، أعطونا هذا المجال من الحرية؟ احنا حابين نرضي في المجتمع، بتعارف أو بفكرة أو بإنتاج، تقديم معرفي مختلف؛ لننهض في المجتمع جماعةً سويةً، يعني هل إدارات المجتمع سترفض هذا النوع من العلاقة؟"، قائلاً: "مثلاً يعني ربما يختلف من إدارة إلى أخرى، وربما يختلف ما يمكن أن يُقال من جانب ممثلي هذه الإدارة عما يعني يمكن أن يحدث في الواقع عند الممارسة، يعني هو لو أننا نتحدث عن بديل عربي متكامل، لا بد أن تكون هناك حرية تنقل على الأقل للمثقفين والمفكرين، هذا أبسط شروط، مجرد الوصول إلى هذه النتيجة ستحدث أثراً؛ لكن لا أعرف هل يمكن الوصول إلى هذا أم لا، كل إدارة لديها قوائم حمراء وخضراء وصفراء، يعني لا أعرف إلى أي مدى يمكن أن تكون هناك مرونة في هذا المجال.. أتمنى وأرجو أن تحدث محاولة من هذا النوع، وأن تنجح يعني.. لكن دون هذه الشروط البسيطة؛ لا يمكن أن تكون هناك بداية، لأنه الأفكار، هناك أفكار موجودة وأفكار أخرى يمكن أن توجد. ولدينا مؤهلون. حضرتك يعني تعمل في هذا المجال، تطلع على أفكار كثيرة، وقابلت وحاورت أشخاصاً لديهم أفكار في هذا المجال، فالمشكلة عندنا ليست في نقص مَن يمكن أن يقدموا أفكاراً في هذا المجال، المشكلة في التواصل بينهم وإدارة حوار حر وبناء وتوفير المقومات اللازمة لهذا الحوار، لمجرد أن يلتقوا، يعني ليس معقولاً لكي يعقد لقاء من هذا النوع أن يبحثوا عن مكان آخر خارج العالم العربي".


كيف يصبح الوعي الفردي جمعياً ضمن مؤسسات المجتمعات؟

وأضاف د.وحيد عبد المجيد رداً على "كيف يصبح هذا الوعي الفردي وعياً جمعياً ضمن مؤسسات المجتمعات، هي تقود هذا الفعل؛ سواء بالتوافق مع إدارات المجتمع أو مع مثيلاتها في مجتمعات أخرى": "هذه مشكلة أخرى؛ يعني بالفعل لدينا أفراد يعني واعون، يعني بما ينبغي عمله، وأننا علينا أن نعد لبديل حضاري يلائم تاريخنا وحضاراتنا؛ لكن مؤسساتنا التي يمكن أن تسهم في مثل هذا العمل بالفعل هي ما زالت خاربة، لأسباب بعضها يتعلق بتكوينها، وبعضها يتعلق بالأفكار الغالبة فيها، وبعضها يتعلق أيضاً بالقيود المفروضة عليها.. دائماً أقول إن نقطة البداية هو تخفيف القيود؛ لكي نرى أين تكمن المشكلة تحديداً، يعني قد تكون مؤسسة تبدو لنا أنها غير واعية أو مغلقة مثلاً، لكن قد يكون هذا نوع من الآلية الدفاعية؛ لكي لا تخشى أن تدخل في صدام أو تخشى أن تُفرض عليها قيود إضافية، فلكي نختبر يعني مدى وعي هذه المؤسسات وجاهزيتها وقدرتها لا بد أن يكون هناك هامش أوسع نسبياً، يعني لا أحد يتطلع الآن في الظروف العربية الحالية إلى حريات واسعة؛ لكن على الأقل أن يكون هناك هامش معقول على المستوى الثقافي والفكري الذي لا يؤذي إدارات هذه البلدان في شيء، يعني نحن نتحدث في موضوع يتعلق بمستقبل هذه الأمة، موضوع حضاري وثقافي، لا نتحدث في تغيير سياسي ولا في عمل سياسي؛ وبالتالي لا بد أن يكون هناك وعي لدى هذه الإدارات بالفرق بين عمل ثقافي وفكري ضروري، لكي تكون لهذه البلدان ولهذه الأمة مكان في المستقبل، وبين عمل سياسي ربما تخشى منه، يعني هذا الوعي مطلوب أولاً عند هذه الإدارة، وعندها نستطيع أن نختبر مَن لديه وعي في مؤسساتنا ومثقفينا، ومن ليس لديه سيظهر وقتها بشكل أوضح يعني".


تجربة التنوير الأوروبي والطموح العربي

وتحدَّثَ الباحث والمفكر المصري عن تجربة التنوير الأوروبي في كل المجتمعات الأوروبية، وكثرة مراكز الأبحاث، ومراكز إعداد الرأي الكثيرة حتى في الجامعات التي تشكل مراكز أبحاث بحد ذاتها، والأبحاث المستقلة الأخرى، وعن طموحنا بأن يكون عندنا هذا المستوى، قائلاً: "طبعاً هذا طموح أعلى نسبياً يعني.. إنما أنا أتحدث عن الحد الأدنى من الطموح، حالياً يعني أقصى طموح هو أن تتاح مساحة كالتي أفرزت أفكاراً في منتصف القرن العشرين وما قبله؛ يعني في النصف الأول من القرن العشرين. يعني مثلاً فكرة العروبة، فكرة العروبة نتجت عن تفاعل مؤسسات وليس عن إدارات مجتمعات، كانت مجتمعاتنا تحت الاحتلال؛ لكن تفاعل مؤسسات مدنية ثقافية وفكرية أنتج فكرة العروبة، فكرة العروبة لأنه كان العرب موزعين ما بين فكرة الجامعة الإسلامية المرتبطة بالدولة العثمانية والحفاظ على تراث الدولة العثمانية، دي كانت فكرة في أوائل القرن العشرين؛ حتى بعد انهيار الدولة العثمانية وبين الانتماء الوطني إلى دولة واحدة، يعني مثلاً في مصر كان هناك اتجاه الجامعة الإسلامية، واتجاه مصر للمصريين لم يكن الاتجاه العروبي سائداً أو موجوداً أصلاً. إنما نتج عن مثل هذا التفاعل؛ تفاعل مؤسسات مصرية مع مؤسسات لبنانية مع مؤسسات أردنية مع مؤسسات سورية مع مؤسسات مغربية مع مؤسسات تونسية، سودانية حتى.. هذا التفاعل اللي هو كان بيحدث على مستوى مؤسسات بدءاً من الجامعات إلى الاتحادات، كانت الاتحادات تعمل بحرية أكثر مما هو موجود الآن، وتنشئ اتحادات في بلد عربي، وينضم إليها أعضاء من البلدان العربية الأخرى؛ لأن حرية التنقل كانت أسهل في ذلك الوقت، لم يكن هناك تشدد، ولم تكن هناك قوائم مانعة من دخول هذا البلد، والانتقال إلى هذا البلد؛ يعني هذا هو الحد الأدنى من الذي لا يهدد أحداً.

لو توافرت هذه البداية ستكون لدينا فرصة لكي نضع أساساً يبنى عليه بعد ذلك؛ يعني هي المشكلة الأساسية في اعتقادي أننا نحتاج إلى نقطة البداية، يعني نطلق صافرة البداية، صافرة البداية بالتأكيد في ظروفنا الحالية ستكون محدودة متواضعة؛ لكنها بالغة الأهمية، لأنها ستضع أساساً يمكن البناء عليه بعد ذلك، والبناء عليه يعني سيكون أسهل من نقطة البداية، لأنه لدينا رصيد كبير، رصيد حضاري وثقافي نحتاج إلى تطويره".


إدارة المجتمع السياسي وفرض مساحة من الحرية

وتابع د.وحيد عبد المجيد: "لا بد من وجود هامش، وأقول هامش من الحرية لا أقول مساحة واسعة يرمح فيها الخيل؛ هامش في هذه المساحة، مساحة البحث في أصولنا وتطوير ما نحتاج إليه والسعي إلى تحقيق اتفاق عليه من خلال حوار بناء جاد وليس تلاسن ولا سجال، ولا كل منا يريد أن يغلب موقفه دون أن يسمع الآخر حتى.. حوار جاد نسمع فيه بعضنا البعض وننصت ويحاول كل منا أن يقنع الآخر ويقتنع بما يكون لديه من أفكار مقنعة بهذا، يعني هذا ما حدث في عصر التنوير، قيمة التنويريين الأوروبيين أنهم نجحوا في خلق هذا المناخ، بس كانت لديهم حرية التنقل، كان روسو يضطهد في فرنسا  إلى سويسرا، يضطهد في سويسرا فيذهب إلى إنجلترا.. كان التنقل سهلاً، وكان من السهل أن يلتقي المثقفون في أي بلد بلا قيود وبلا إذن، ولو قمعوا في بلد يذهبون إلى بلد آخر.. وهكذا. فكانت لديهم هذه الفرصة، ونجحوا فيها وبنوا عليها، صحيح أن ما بنوه يُهدم الآن بأيدي أحفادهم. وهذا يعني ربما يكون فيه خير للعالم؛ لكن المهم أن نجد نحن نقطة بداية، ليست مماثلة، لا شيء يماثل آخر، والتاريخ لا يعيد إنتاج نفسه، لكن نقطة بناء بداية مناسبة لنا وفقاً لظروفنا وأحوالنا الراهنة".


العلمانية في العالم العربي علمانية تغريبية "لا بشكل كلي"

وتحدث الباحث والمفكر المصري عن بداية النهضة العربية، بداية نشوء الدولة القطرية العربية والاصطدام الذي صار بين التيار الديني بشكل عام والتيار القومي أو بين العروبة والإسلام؛ بين العرب والإسلام، مختتماً بالإجابة عن سؤال "كيف السبيل أنك تقدم الأصول ضمن رؤية متوافقة وفهم واضح للجميع، أن الدين لا يعني كذا وكذا؛ يعني نبعد فهمنا للنص القرآني بعيداً عن الرؤى القديمة فيه، يعني نُحدث رؤية جديدة في فهم هذا النص، نحن بحاجة إلى آليات وطريقة موحدة أو طريقة متفق عليها لقراءته على الأقل، إذا كنا نريد أن نبعده عن التأثيرات السلبية في بعض القراءات؟": " بالطبع نحتاج إلى المناخ الملائم، ونحتاج إلى أن نبتعد عن المساحات السياسية، وأن نركز في المساحات الفكرية والثقافية، وحتى على مستوى المساحات السياسية؛ لدينا تجربة كانت ناجحة في فترة ما، يعني في التسعينيات أنشئ المؤتمر القومي العربي، وكان في بدايته فيه عقلاء حرصوا على إجراء حوار جاد، وترتب عليه أنه أسس بالتوازي معه ما أطلق عليه المؤتمر القومي الإسلامي، وأصبح فيه قوميون وإسلاميون يشاركون ويتحاورون؛ لكن للأسف انصب على قضايا سياسية وليس على القضايا الثقافية والفكرية التي تشكِّل أساسَ النهضة الحقيقية التي نرجوها؛ لكي نكون مؤهلين للعودة إلى التاريخ، ومع ذلك التناقض الذي حدث في مرحلة بين العروبة والإسلام ضمر إلى حد كبير الآن، الآن التناقض الأساسي هو بين الإسلام والعلمانية، والعلمانية بشكلها المطروح غالباً يعني لا أقول بشكل كلي في العالم العربي هي علمانية تغريبية، هي نقل لنموذج غربي كما هو دون مراعاة لأي اختلاف في الظروف؛ ولذلك فهي حالة فجة، لكن هي مصدر التناقض الرئيسي الآن، التناقض بين العروبة والإسلام قلَّ كثيراً جداً، التناقض الأكبر الآن والذي ينفخ فيه أحياناً ويصنع أحياناً بأيدٍ خارجية غربية وداخلية، هو تناقض إسلامي علماني، وفي غياب مناخ يسمح بحوار جاد في العمق في الفكر، وفي الثقافة، أصبح السجال كله سياسياً، وعندما يتطرق إلى مسائل الفكر والأصول يتطرق إليها بشكل سطحي للغاية؛ فنحن نحتاج إلى المناخ الملائم وإلى تحييد السياسة في هذا العمل.. أن هذا العمل عمل فكري".