مقدمة
باسم: أنا
قرأت لك مجموعة من الأبحاث تتعلق بفهم الكثير من الألفاظ وبعض الآيات. لفت انتباهي
مثلًا مفهوم الدعاء، وأحسستُ أنه فعلًا هناك شيء جديد في بحث جديد.
كمال: فرقٌ
مضمونه أنّ الأمر لا يعمل. ناس تدعو والاستجابة غائبة، فيجب أن نطرح السؤال: ما هو
الدعاء؟
باسم: "ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ". هل هذا مثلًا "ادعوني" يعني اقعد على الكرسي
أو احضر مسبحة واطلب من الله شيئًا، فبالتالي سيستجيب لك وأنت جالس على الكرسي؟
كمال: في
القرآن الكريم هناك الدعوة والدعاء. الدعوة ارتبطت دائمًا بالإجابة، قوله تعالى:
"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ". لم يقل أُجِيبُ دعاء الدَّاعِي، فالدعوة غير
الدعاء. كما قال ابن فارس في مقاييسه: إمالة الشيء. لاحظ أنه في الدعوة قال:
"أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ"، يعني: لم يشترط شرطًا غير
أن تدعو، ولكن أن تدعو دعوة لا أن تدعو دعاء. حين يقول ربنا: "ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ"، أكيد أنه يقصد أنه يجب أن ندعوه كما يريد هو، لا كما
نريد نحن. يجب أن ندعوه كما يريد هو، فتكون الاستجابة. ونحن اعتمدنا على التفاسير
التراثية والفقهية التي تقول: إن الدعاء هو رفع الأيدي إلى السماء.
من الهندسة إلى اللغة
باسم: أهلًا
بكم، أنا معكم باسم الجمل في حلقة جديدة من برنامج "مجتمع". في حلقة
اليوم، نلتقي بالباحث والكاتب المغربي كمال الغازي. أستاذ كمال، أهلًا وسهلًا بك.
كمال: أهلًا
وسهلًا، أستاذ باسم.
باسم: حياك
الله.
كمال: أهلًا
سيدي.
باسم: أأنت
مهندس؟
كمال: نعم،
مهندس معماري.
باسم: مهندس
معماري، حسنًا، ما الذي دفعك أو قادك إلى البحث والكتابة؟
كمال: نعم،
القصة بدأت بشغف باللغة والتاريخ والأدب عمومًا منذ مراحل الدراسة المبكرة. حتى
الجو العائلي، الجو الأسري، كان جوًّا محافظاً ومتدينًا. كانت مواضيع الأدب
والتاريخ دائمًا دارجة. وهذا الشغف بالعربية والتاريخ والأدب عمومًا بقي مستمرًا،
حتى مع تحول الدراسة إلى ميادين علمية. لأني كنت تقريبًا سأتخصص في الرياضيات بعد
الدراسة في الثانوية. ولكن، بعد ذلك ذهبت لدراسة المعمار وأصبحت مهندسًا معماريًا.
وبقي هذا الشغف بالعربية والآداب والتاريخ عمومًا. ومع الوقت، بدأت تظهر كتابات
وآراء جديدة حول القراءة الحديثة أو المعاصرة للقرآن لكريم. حتى أنا، بصراحة، قبل
أن أكتشف شحرور، كنت من المتابعين لبرنامج العلّامة العراقي فاضل صالح: "لمسات
بيانية".
باسم: فاضل
صالح السامرائي رحمه الله.
باسم: لغوي.
كمال: لغوي
بحت، من منطلق لغوي، لساني بحت. ثم بعد ذلك، تطور الأمر إلى أن وعيت وفهمت أن الأمر
أخطر من مجرد معانٍ لغوية، خصوصًا فيما يتعلق بالقرآن. لأن المفردات كما نفهمها
اليوم، أو كما ترسخت في أذهاننا، هي مفردات حفظناها وعرفناها من التراث، ولكن، لم نكن
دائمًا -عن نفسي أتحدث- موافقين على معانيها وعلى مراميها. فالأمر تطور شيئًا فشيئًا
إلى البحث في القرآن، في مفردات القرآن، خصوصًا مع ظهور بحوثات المرحوم شحرور،
وكذلك برنامج فاضل صالح السامرائي "لمسات بيانية"، وباحثين آخرين. لأن
الأمر، كما قلت، في القرآن هو أكثر من مجرد معنى لغوي، لأنه يمس عقيدتنا وإيماننا
وتراثنا الديني عمومًا.
باسم: يظل
السؤال موجودًا كالتالي: أنت مهندس، وهذا يسأله الكل. أنت مهندس تخصصك ليس قراءة
النص، أو أنت لست متخصصًا مثلًا في قراءة الشريعة، وكتب الشريعة، وإلى آخره. ما
الذي دفعك أيضًا؟ صحيح أنه كان اهتمام البيت والثقافة والدين، هذا ديننا في
النهاية، وقرآننا في النهاية، بالتالي، يجب أن نقرأ فيه. هل كان الدافع مثلًا: أنا
مكلف بتدبر هذا النص كفرد، بمعزل عما يفكر المجموع؟
كمال: نعم،
هو كما قلت، وكما أسلفت، هناك الكثير من المعاني القرآنية والموروثات التراثية
التي تبدو غير منطقية بالنسبة للتفاسير الموجودة والتي نَدْرسها ونُدرّسها للناس
عمومًا. فهذا التعارض الذي يبدو من قراءة القرآن ومقارنته بالواقع هو الذي دفعني
إلى البحث، ومحاولة التدبّر اعتمادًا على أمور، ومسائل ذاتية في البحث لغوية، ولسانية،
ومنطقية. قلت: إنني مهندس معماري، فما العلاقة بينهما؟ العقلية الهندسية عمومًا هي
عقلية تميل إلى التحليل وإلى عقلنة الأشياء. نحن في عملنا، أصلًا، مهنة المهندس المعماري
هي تحويل معطيات..
باسم: إلى
واقع.
كمال: إلى
واقع، تحويل المعطيات وترجمتها إلى واقع.
باسم: واقع
جمالي.
كمال: نعم،
إلى واقع جمالي، وحتى واقع عملي، لأنه حينما يأتي عندك زبون ويقول لك: "أنا
أريد كذا وكذا وكذا"، هو في نهاية الأمر، كلام، وأنت تحول هذا الكلام إلى
واقع عملي وجمالي بالطبع. فالتحليل، وتفكيك المعلومات وتفكيك المعطيات من أجل
بلورتها إلى واقع هو في صميم عمل المهندس المعماري. ولذلك، دراستي في البداية لم
تكن دراسة، لم أكن أبحث كما أبحث اليوم في القرآن. كنت أقرأه كما يقرأه الناس،
وأقرأه في رمضان، وفي غير رمضان. ولكن، مع القراءة المستمرة، ومع الاطلاع على
أفكار وكتب وأبحاث أخرى، فهمت أن الأمر بالتحليل والمقارنة والبحث كثير من
المفردات يمكن أن يتغير معناها بالكامل، أو أن يتم تصويب معناها المتوارث على
الأقل.
أهمية العقل التحليلي: من المخول بفهم النص؟
باسم: هل
العقل التحليلي مجهز أكثر لقراءة القرآن أو لتدبر القرآن من العقل الآبائي، مثلًا،
أو العقل الكلي؟
كمال: أنا
أرى أن القرآن يخاطب العقل كثيرًا. في القرآن نجد آيات كثيرة تقول: "أفلا
يعقلون؟"، "أفلا يتدبرون؟"، ويتحدث عن قلوب لا تعقل ولا تفقه. وفي
آخر الأمر، يخاطب العقول. فكان بالضرورة، وكان لزامًا أن نشغّل هذه العقول، وأن
نحاول أن نفهم الرسالة الإلهية، التي هي رسالة الخاتم التي نؤمن بها، ولا نناقش في
ذلك. نحن نناقش في المعاني المتوارثة التي غالبًا ما تكون معاكسة للواقع، أو حتى
للمنطق في بعض الأحيان.
باسم: من
المخول بفهم النص؟ من المخول بتدبر النص؟ واضح أنه لدينا عقل جمعي يتحكم بهذا
المفهوم. هل أنا كفرد مضطر لأن آخذ بالعقل الجمعي وألتزم به، نتيجة وجود مؤسسة ما
تتولى التفكير والتدبر، وتعطينا النتيجة على شكل فتوى أو على شكل اقتراح أو على
شكل تشريع؟ هل هذا دوري أنا كفرد، أن آخذ من الآخرين ما يفكرون به، وألتزم بما
يقولون؟
كمال: لا،
هو انطلاقاً من الآية التي تأمر الناس بالتدبر، والتي تقول: " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" فهذا أمر للجميع. كل إنسان
عليه أن يتدبر القرآن، وأن يحاول أن يفهم معانيه. وأنا أرى حقيقةً وأظن أن الله
سيحاسبنا على محاولتنا وسعينا إلى فهم رسالته. قد نصيب وقد نخطئ، ولكن هذا لا يمنعنا
من محاولة الفهم والتدبر.
دلالات الحروف في اللسان العربي
باسم: المستويات
المعرفية التي عند الناس غير متساوية؛ فمستواك المعرفي غير مستواي أنا، غير مستوى فلانٍ
من الناس. وبالتالي، لنفرض أنّه ترك المجال لكل فرد أن يتدبر النص على هواه. هل
سنصل إلى نتيجة سلوكية ضابطة للمجتمع؟
كمال: هنا
يجب الحديث عن المنهج؛ لابد عند تدبر القرآن أن يكون هناك منهج. لأنه دون منهج،
كما تفضلت، ستصبح المعاني بلا نهاية. فأنا أرى أنه حتى هذه الساعة، من الممكن أن
تظهر مناهج أخرى أفضل لاحقاً، لكن حتى هذه الساعة، المنهج اللساني اللغوي الذي
يربط معنى المفردة بمعناها المفهومي. لأن القرآن، كما نعلم، نزل بلسان عربي مبين،
واللسان العربي هو لسان مفاهيمي، لأن كل كلمة في القرآن لها مفهوم مجرد غير متصل
بالمعنى الذي أُخذ من بعد، والذي يتم تطبيقها به. فهو معنى مجرد. فحتى حين يقول:
لسان عربيّ مبين، فعربي لا تعني مفصح، لأنه قال بعدها "مبين"، وإلا صارت
"مبين" حشوًا. فلسان عربي يعني لسان أصيل. فنحن نعلم أن الإنسان تعلم
الكلام بمحاكاته للطبيعة. فحين يقول: "لسان عربي"، فهو اللسان الذي لم
تشُبْهُ شائبة، والذي يحاكي الطبيعة والظواهر الفيزيائية كما هي، دون أن تتدخل
الثقافة أو المجتمع أو البيئة. هذا هو في رأيي في معنى "لسان عربي
مبين".
باسم: يعني:
عربي، حسب فهمك، مطابقة الفكرة للواقع، مثلًا، أو اللفظ للواقع، أو المعنى للواقع؟
كمال: أو
الصوت للظاهرة.
باسم: أو
الصوت للظاهرة.
كمال: الإنسان
حين يسمع ظاهرة فيزيائية أو ظاهرة طبيعية، مثلًا، صوت الريح أو صوت حفيف الأشجار،
ويحاول أن يحاكي هذه الظواهر بأصوات يستطيعها هو. هناك إشارات ودلائل على ذلك. من الممكن
أن نذكر، مثلًا، حرف الباء؛ أنا اطلعت على كتاب ابن سينا الذي يتحدث فيه عن كيفية
إخراج الحروف، هو بصراحة كتاب شيّق، يصف فيه كيفية إخراج جميع أنواع الحروف اعتمادًا
على الحنجرة والأحبال الصوتية واللسان وتجويف الفم، وكذا.
باسم: ابن
سينا كتبه في القرن الثاني عشر.
كمال: نعم،
كتب هذا الموضوع. فمثلًا، لنأخذ حرف الباء. نحن لكي ننطق حرف الباء، نقوم بجمع
الهواء في تجويف الفم وندفعه بشدة إلى الخارج.
باسم: ب.
كمال: نعم،
ب. فلاحظ، مثلًا، أننا نستعمل كلمة "بوم"، يتعلق الأمر بانفجار أو بصوت
قوي، وهذه الكلمة تُتداول وتستعمل، فيما أظن، في جميع اللغات. حتى في الفرنسية
يقولون "La Boum" للأمر الذي أحدث فوضى أو ضجة فبوم،
لماذا نقول بوم؟ لماذا لا نقول خوم، مثلًا، أو كوم؟ لماذا نستعمل حرف الباء؟ فحرف
الباء هو تعبير ومحاكاة للانفجار، لأنه جمع الهواء في الفم، ثم دفعه بقوة إلى
الخارج. فأنت إذا لاحظت حين تقول ب، أنت كما أنك تحدث انفجارًا صغيرًا على مستوى
الفم، بحبسك للهواء..
باسم: هل
يعني ذلك أنّ ابن سينا اعتبر أن الألفاظ الصوتية أو الألفاظ التي يطلقها الإنسان
هي انعكاس لواقع أصلي موجود؟
كمال: لا،
هو فقط عمل تحليلًا في كتابه.
باسم: هو
عمل تحليلًا.
كمال: عمل
تحليلًا لكل صوت كيف يتم إصداره. وأعطى أمثلة على الحركات أو الأصوات التي نسمعها
في الطبيعة، أنها تقارب الحروف. مثلًا، التصفيق باليد يقارب حرف الطاء، أو أمور
أخرى كهذه. هو لم يتناول في كتابه قضية أن هذه الحروف هي محاكاة لأصوات في
الطبيعة. هو، إذا أردت، فعلى العكس، حلل كيف يتم إصدار الأصوات، ثم قال بعد ذلك:
إن هذه الأصوات التي تُسمع في الطبيعة وتوجد في الطبيعة تقارب هذه الحروف، مثلًا،
حرف الباء أو حرف الطاء.
باسم: إذن،
هو قريب من النظرية التي تقول: إن الأصوات التي يطلقها الإنسان هي محاكاة للطبيعة.
كمال: هو
لم يقل ذلك في كتابه.
باسم: هو
لم يقل ذلك.
كمال: هو
حلل كيف يتم إصدار الأصوات. ولكن هناك دلائل كثيرة تشير إلى أن الحروف أو الأصوات
أو الكلمات في اللسان العربي هي في الأصل محاكاة للطبيعة. وأعطيت مثالًا بحرف
الباء، ويمكن أن نعطي أمثلة أخرى، بحروف أخرى تحمل معنى أو دلالة.
باسم: هل
استخدام لفظة "باب"، مثلا، يعني ضغط هواء وفتح و إغلاق؟
كمال: ممكن.
الباء حرف فيه شيء من القوة، وتجمع الطاقة. فممكن أن نطرح السؤال: لماذا سُمي الباب
بابًا؟ لماذا تم استعمال حرف الباء؟ لماذا لم يتم استخدام حروف أخرى؟ نحن، مثلًا، في
الدارجة المغربية نقول للصبي إذا أردنا أن نخيفه: "ادّ". نستعمل حرف
الدال فقط. لماذا لا نستعمل حروفاً أخرى؟
باسم: هو
التلويح بالقوة، أو بالشدة.
كمال: نعم،
لأن حرف الدال يحمل قوة، ويحمل شدة. منه "دفع" مثلًا، الفعل "دفع"
وكثير من الأفعال الأخرى التي تبتدئ بحرف الدال تحمل معاني القوة والشدة. فنحن
نستعمل حرف الـ"ادّ" لإخافة الطفل حتى يستكين. فهذا يعني أن للحروف
دلالة وأن لها معاني.
باسم: إذن،
هل شكل صياغة الحروف هو ترميز لشكل الصوت، مثلًا، أو لشكل...؟
كمال: لا،
تشكيل أو رسم الحروف لا علاقة له بالأصوات. التشكيل يمكن أن يكون اعتباطيًا، ويمكن
أن يكون متفقاً عليه. ونحن نتحدث عن اللسان العربي المبين، فالصوت هو في الأصل
محاكاة للطبيعة، ومحاكاة لظواهر الطبيعة. فالحرف يحمل في طياته معنى. وأنت تلاحظ،
مثلًا، حرف الحاء، نجده في الحب والحنان والحرية.
باسم: والحرارة.
كمال: والحرارة،
والكثير من ذلك. فالأمر له علاقة بالمعنى الذي يحمله هذا الصوت. لأنه في النهاية،
الحروف هي أصوات، والإنسان عندما أراد أن يتعلم النطق والكلام في البداية، هو حاكى
الطبيعة وحاكى الأصوات التي يسمعها في الطبيعة، واختار حروفاً معينة للدلالة على
تركيب كلمات معينة أو للدلالة على ظواهر معينة. لم يكن ذلك اعتباطًا، وإنما
لإحساسه بهذه الحروف وبالطاقة التي قد توجد فيها.
باسم: وأنت
تتحدث الآن، خطر في بالي ما يلي: لو نأتي للملحن الذي يلحن كلمات أغنية، كيف
يستطيع هذا الملحن نقل الكلام على شكل موجات تصدر عن أوتار لتصبح موسيقى؟ لو كان
الكلام اعتباطيًا، هل ممكن للموسيقى أن تنسجم مع الكلام، مثلًا، وكأن النوتة تعطي
معنى الكلمة المستخدمة؟
كمال: ممكن.
هناك مثال آخر يمكن أن نقارن، مثلًا، كلمات عربية انتقلت إلى لغات أخرى، وحافظت
على نفس المعنى؛ مثلًا، الكلمة الإنجليزية "Door"، التي
هي قريبة من الكلمة العربية "دار، يدور"، "Door" هي
الباب، والباب "يدور" "دوار". ونجدها في الروسية أيضًا يقولون
(дверь، dver، دفيير)، فهم لا ينطقون الواو. فهذه الأمور ليست اعتباطية حتى
نقول إن اللغة اعتباط. هذه الأمور تعني أن للمسميات دلالة أصلية.
هل اللغة العربية اعتباطية؟
باسم: على
أي أساس اعتمد علماء اللسانيات في اعتبار أن اللغة بشكل عام هي لغة اعتباطية؟ هل
اللغة العربية، مثلًا، أو هل اللسان العربي اعتباطي؟
كمال: أنا
أرى أنه ليس اعتباطيًا أبدًا. نحن نتحدث عن اللسان العربي، وهو لسان المفاهيم. لا
نتحدث عن اللغة العربية. فاللسان العربي حين ندرس أو نبحث في القرآن، وندرس
المفردات، نجد أن كلماتها تحمل دلالة أصيلة. ولذلك، البحث في القرآن، والتدبر في
القرآن يجب أن يكون اتباعًا لهذا المنهج، وأن يكون السبيل إليه انطلاقًا من هذا
المعنى. أن الكلمات القرآنية هي كلمات مفاهيمية، وأنها قد تكون في بعض الأحيان
بعيدة كل البعد عن المصاديق، لأن المصاديق تتغير بتغير البيئة والجغرافية
والثقافة. فلذلك يجب دائمًا إرجاع المفردات القرآنية إلى معناها العربي، أي إلى
معناها الأصلي، إلى المعنى المفهومي المجرد. وهذا يوسع آفاق البحث والتدبر ويوسع
آفاق الفهم.
باسم: أنت
ذكرت أنه يجب أن يتوفر منهاج في قراءة النص القرآني أو منهاج لقراءة أي نص.أنت لا
يمكن أن تقرأ أي نص إلا إذا كان لديك آلية خاصة بك. وبالذات قراءة القرآن الكريم، إنه
بالضرورة أن تكون هناك منهجية أو آلية واضحة. مَن المكلف بصياغة هذه الآلية؟ أو لماذا
لم تكن هذه الآلية موجودة؟ أنت ذكرت آلية اللسان، أو آلية اعتبار أن اللفظ القرآني
هو لفظ مفهومي مجرد عن المعنى إلا في سياقه، إلا إذا أخذ سياقًا. لماذا لم يفطن
الآخرون إلى هذه الآلية وتطويرها؟ وأنت ذكرت أن ابن سينا وضع كتابًا أساسًا، وأنه
أشار إلى هذا الموضوع. حتى ابن جني أيضًا يُقال: إنه أشار إلى هذه النظرية أو إلى
شكل من أشكال الآلية التي يجب اتخاذها أو اتباعها في فهم النص.
كمال: الحقيقة
أن القرآن وتفاسير القرآن ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالشريعة والدين. يعني: أُضفيت
عليها هالة من التقديس لم يستطع المسلمون تجاوزها. فنحن دائمًا حين نقرأ القرآن أو
نريد أن نفهم آية من القرآن، العادة أن يرجع الإنسان إلى تفسير الطبري أو تفسير
القرطبي. ولكن حتى هنا، في هذا الرجوع إلى تفسير الطبري أو ابن كثير أو القرطبي،
تجد أن الطبري حين يتناول أيّة آية كيفما كانت في القرآن الكريم، قد يسرد عشرات
الأقوال؛ يقول: "قال فيها فلان، وقال فيها فلان، وقال فيها فلان"، ويسرد
مجموعة من الأقوال عن جماعة من الناس، أي أنّ الأمر كان فيه اختلاف منذ البدء.
باسم: وهذا
دليل على ضياع المنهجية وضياع الآلية.
كمال: نعم،
أن الأمر كان فيه اختلاف منذ البدء. وهو في النهاية يقول: "وأولى الأقوال
عندي بالصواب"، يعني: بالنهاية هو يقول رأيه في الموضوع. يقول: "أولى
الأقوال عندي بالصواب في هذه الآية هو كذا كذا". يعني هذا المعنى. بالنهاية،
حتى السلف، حتى المفسرون، كانوا يناقشون أقوال المفسرين الآخرين. ماذا قال فلان،
وماذا قال فلان، يناقشونه ويتبعون ما بدا لهم أنه الأولى بالصواب، كما يقول
الطبري. فالمنهاجية، لم تكن هناك منهاجية علمية ترجع بالنص القرآني أو بالمفردات
القرآنية إلى معناها الأصلي. نحن توارثنا التفاسير، وأخذناها كموروث ديني وتراثي،
ولا نجد دراسات أو بحوثًا تحاول أن تعيد النظر أو تطرح أسئلة أو تطرح إشكاليات
جديدة لإعادة قراءة النص القرآني، ما عدا ما في الآونة الأخيرة، طبعاً، وأنت تعرف
كتابات المرحوم شحرور الذي وضع منهجية لتدبر القرآن الكريم.
تأثير محمد شحرور
باسم: على
ذكر ما أنتجه وما قدمه المرحوم الدكتور محمد شحرور، ما مدى تأثيره في دفع الكثير؟
صار هناك تيار حول محمد شحرور، وتأثيره عند طبقة محددة أو واضحة من الناس، خاصة
طبقة الشباب، واضح. قليل من الكتّاب العرب أثروا في الناس كما أثر محمد شحرور. وهذه
ظاهرة يجب دراستها؛ لماذا أثر شحرور أكثر من غيره من كل الكتّاب الذين سبقوه؟
كمال: ممكن
أن الإجابة توجد في كتبه، لأنه دائمًا يقول: إنه يحترم المنطق، ويحترم عقول
القراء. فأظن أننا في العالم العربي وصلنا لمرحلة أننا نريد أن نفهم، ونريد أن
نعقل كل ما نسمع، وخصوصًا كلام ربنا والقرآن الكريم. المنهجية التي وضعها شحرور هي
منهجية عقلية ولسانية في نفس الوقت. والمقصد دائمًا فيما جاء به شحرور، وحتى في
التأويلات التي أتى بها، وبعضهم وافق عليها وبعضهم الآخر لم يوافق عليها، هي
بالنهاية تأويلات مقصدها هو إعلاء كرامة الإنسان. بالنهاية، هذا هو المقصد الذي
يجب أن يكون وراء دراسات القرآن والتأويلات. الآية الكريمة تقول: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي
آَدَمَ"، "وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ". فإذا كان هو
المقصد، فلا حرج ولا ضير من أن يحاول الإنسان تدبر القرآن بمنهجية جديدة وبآلية
جديدة إذا كان هذا هو المقصد.
باسم: لكن
محمد شحرور، هناك من يوجه انتقادًا له، ليس للمنهاج، إنما يوجه انتقادًا لبعض
النتائج التي وصل لها.
كمال: نعم،
قد نتفق معه فيما وصل له، وقد لا نتفق معه، لكن على الأقل هناك منهجية اليوم يمكن
من خلالها دراسة القرآن الكريم. يمكن تطويرها، يمكن العمل عليها، يمكن اتخاذها
كقاعدة. لكن، لا يعقل أن نستمر دائمًا في إعادة ما أنتجه السلف، كما قالها هو -رحمة
الله عليه-. هل لهم عقول ولنا عقول؟ خصوصًا وأن الكثير من الأمور لا تطابق الواقع
اليوم. هناك كثير من المسلّمات أو من التفسيرات التي نجدها في كتب السلف التي لا
توافق اليوم لا المنطق ولا الواقع.
باسم: لماذا
المؤسسات الرسمية التي تعتني بشؤون الدين أو شؤون التدين، كما أسميها، ما زالت مصرّة
على أن التراث الفقهي هو التراث الذي يصلح لأن يتسلح به الفرد المؤمن لفهم النص؟
كمال: أظن:
لأنه لم توجد منهجية جديدة لاعتمادها في هذه المناهج الدراسية، وفيما يتعلق
بالدراسة الدينية ودراسات الشريعة الإسلاميةـ، نحن نعلم أن المناهج التي توجد
اليوم هي مناهج قديمة، تعتمد على نقل ما قاله السلف وما قاله الفقهاء الذين سبقوهم،
على أنها أمور لا يمكن تجاوزها، يمكنك أن تختار بين قول فلان وقول فلان، ولكن، لا
يمكنك أن تأتي بقول جديد. هذا هو الإشكال، حتى ولو تعارض مع الواقع ومع المنطق.
وهذا الأمر أصبح الكثير من الشباب والباحثين يرون أن...
باسم: أصبح
منفرًا من الدين.
كمال: نعم،
هناك موجة إلحاد أو عزوف عن الدين أو رفض للمنظومة الدينية بكاملها؛ لأنها لا
تطابق الواقع ولا تطابق المنطق. فحبذا لو يتم انطلاقاً من منهجية علمية وعقلانية
محاولة عقلنة الآيات وعقلنة المفردات لنفهم رسالة الخاتم على أكمل وجه.
مفهوم شامل ومؤسس للسان العربي
باسم: يظل
السؤال: من الذي سيتولى ذلك؟
كمال: حبذا
لو تقوم به مؤسسات، لأن المجهودات الفردية لا تستطيعه. هذا عمل جبار، هذا عمل كبير،
ويحتاج دعمًا، سواء تنظيميًا أو فكريًا أو ماديًا، وتكاتف الجهود.
باسم: وهل
تعتقد أن وضع مفهوم شامل ومؤسس للسان العربي قد يكون هو البديل، أو يمكّن الآخرين
من اعتماد أن هذه الآلية هي الآلية الصالحة لفهم النصوص؟
كمال: نعم،
أنا أرى أن نقطة الانطلاق يجب أن تكون هي وضع أسس لفهم اللسان العربي. لأنه إذا
فهمنا اللسان العربي، وتاريخ اللسان العربي، وتطور اللسان العربي، فأكيد أننا
سنفهم القرآن الكريم، لأنه نزل بلسان عربي مبين. فنقطة البداية هي اللسان العربي.
يجب أن نحدد معنى للسان العربي، مفهوم اللسان العربي. هل للكلمات معانٍ مفهومية؟
هل للحرف معنى طبيعي أصيل يحاكي الطبيعة؟ هذه الأمور إذا دخلت في منهاج متكامل،
يمكن أن تكون نقطة الانطلاق لدراسة القرآن الكريم وتدبره والبحث في آياته.
باسم: هناك
مجموعة من الكتّاب ممّن كتب عن الموضوع. أتذكر واحدًا اسمه عاصم المصري؟ توفي قبل
سنتين، كتب مجموعة من الكتب حول الموضوع. وهناك كاتب مهم جدًا أيضًا، أعتقد أنه هو
عالم سبيط النيلي، وهو باحث عراقي أيضًا توفي.
كمال: نعم،
للأسف هو غير معروف.
باسم: وغير
مقروء للأسف. وهو كتب كتابه "اللغة الموحدة"، وهو كتاب جميل جدًا، ويبدو لي أنه بذل جهدًا
في توضيح ماهية اللسان العربي المبين. هل تعتقد أن إحياء هذه الكتب، إحياء أفكار
هؤلاء الناس...؟
كمال: أكيد.
عالم سبيط النيلي وضع أسس فهم معاني الحروف، ودلالات الحروف قبل أن تجتمع الحروف
لتكوّن كلمات. وهذا هو الذي تحدثنا عنه في البداية. أن اللسان العربي هو لسان
طبيعي أصيل تحاكي حروفه الظواهر الفيزيائية والطبيعية. فعالم سبيط النيلي وضع
الأساس لهذا العلم، ولكنه للأسف لم ينتشر. وحتى المختصون في اللسانيات إما لم
يسمعوا به أو لم يقرأوا له. إنتاجه غير منتشر، غير مرئي وغير مسموع.
باسم: في
القرآن موجود منذ 1450 إلى 1470 سنة، والآيات واضحة فيه إنا أنزلناه "بِلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ مُبِينٍ"، إنا "أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا"، إلخ.
ألم ينتبه الناس إلى أنّ إنزاله: "بلسان عربي" يعني أن فيه منهجية، وأن
هذا لا علاقة له باللغة. هذا عبارة عن لسان أصيل. لماذا لم ينتبه القدماء أو السلف
لهذه الآية والاستنباط منها، إلى أن هناك آلية خاصة لقراءة النص؟
كمال: نعم،
تصعب الإجابة على هذا السؤال. ما السبب؟ لكن هناك إشارات، لأن السلف اعتبروا أن
"بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ" يعني بلسان العرب، يعني بلسان سكان الجزيرة
العربية. هذا هو المعنى السائد في كتب التراث.
باسم: صحيح.
ممكن.
كمال: نعم،
في نظرهم أن الأمر لا يستدعي البحث. "لسان عربي" يعني بلسان سكان
الجزيرة العربية الذين يتكلمون العربية. فهذا سبب من الأسباب. ولو أنهم اعتبروا أن
"بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ" يعني لسانًا أصيلًا، أو أنه يحاكي الظواهر
الطبيعية، أو أنه لسان مفاهيمي، وليس لسان مصاديق، كانت كثير من الأمور ستتغير
وكثير من المعاني ستتغير.
باسم: رغم
أنه أيضًا في المعاجم هناك إشارات تدل..
كمال: نعم،
هناك معاجم، مثلًا، معجم مقاييس اللغة لابن فارس. هو حين يأتي بأي جذر لغوي، فهو
لا يعطيك مرادفه. هذا أولًا، وهذه آفة أغلبية المعاجم، بدلًا من أن تعطيك معنى
الكلمة تعطيك مرادفاً لها.
باسم: أدخل
التماثل..
كمال: نعم،
فمقاييس اللغة من هذه الناحية هو أفيد وأنفع. لأنه يأتي بالجذر ثم يعطيك معنى
مفهوميًا. مثلًا، جذر "دعو". ابن فارس يقول: إن "دعو" هي "إمالة
الشيء إليك". الجذر من الدعاء، فهو لا يقول لك "دعو" يعني طلب الله
أو صلى أو تمنى أو...
باسم: هو
يعطيك جزءاً من المعنى نفسه.
كمال: يعطيك
"إمالة الشيء"، هذا معناه المجرد، هذا معناه المفهومي. فإمالة الشيء قد
تكون إمالة شخص، أنت تدعوه فهو يأتي إليك، أو إمالة فعل ما، أو إمالة قانون ما، أو
إمالة نتيجة ما أنت تسعى إليها. إذن فأنت تميلها إليك. من هذه الناحية، مقاييس
اللغة من أهم المعاجم.
إشكالية التفسير بالمعاجم
باسم: هل
تصلح المعاجم لتكون منطلقًا لقراءة اللفظ القرآني؟
كمال: مقاييس
اللغة ممكن، لكن المعاجم الأخرى فيها الكثير من المعاني المصداقية، إن صح التعبير.
باسم: المصداقية.
كمال: نعم،
كيف استعمل العرب المفردة؟
باسم: الذي
قد يكون اعتباطًا.
كمال: نعم،
مثلًا لسان العرب لابن منظور يعطيك المعاني المفردة كيف استعملها العرب، ويعطي عدة
أمثلة، بخلاف معجم مقاييس اللغة الذي يعطيك معنى مفاهيميًا. وهذا برأيي مهم جدًا،
لأنه إذا أرجعنا المفردة إلى معناها المفهومي، فنحن نوسّع آفاق الفهم. لأنه كلما
حصرت معنى الكلمة في مصداق معين، فأنت تلغي المصاديق الأخرى.
باسم: نعم،
وتلغي تاريخية استخدام اللفظ.
كمال: نعم،
أعطي مثالًا. حين تقول "نافذة"، فيتبادر إلى الذهن النافذة التي في
البيت. لكن "نافذة" يمكن أن تكون نافذة "Windows"، مثلًا،
أو نافذة في الكمبيوتر. يعني، النافذة هي كل شيء يمكنك أن تنفذ منه إلى عالم آخر،
أو إلى شيء آخر. هذا هو الفرق بين المعنى المفهومي والمصداق. فلسان القرآن، اللسان
العربي، هو لسان مفهومي مجرد. وإذا حشرناه في زاوية المصداق، فإننا نلغي المعاني
الأخرى التي يمكن أن نستشفها من المعنى المفهومي، وبالتالي يضيق الفهم ونُضيّق
الدائرة.
ضياع المعاني الأصيلة للقرآن
باسم: ألا
تعتقد أنه من الأسباب أن اللفظ القرآني، كما يقول البعض، لم يكن سائدًا أو منتشرًا
عند المجتمعات العربية بشكل عام قبل نزول القرآن، وكون هذا اللفظ جديدًا، فإن
الناس في وقت ما لم يفهموه؟ هناك رأي يقول ذلك، معتبرين أن اللفظ القرآني لما جاء،
جاء وطغى على كل اللهجات التي كانت قائمة. وحتى حروف كانت تُكتب، ماتت. مات الحرف
المُسند، مات الزبور، مات الخط الإرمي، كل الحروف ماتت وساد حرف جديد.
كمال: نعم،
لا أظن أن القرآن حين نزل أن الناس لم تفهمه. أنا أظن أن الفترة ما بين نزول
القرآن وبين تدوين التفاسير هي فترة طويلة، هي التي، برأيي، جعلت الكثير من
المعاني تضيع. لأنه من غير المعقول أن يكون الرسول الأمين بلّغ رسالة ربه ولم يشرح
للناس معاني الكلمات والمفردات. ولكن الفترة ما بين نزول الوحي والتدوين، وبين
كتابة التفاسير، هي فترة ممتدة وطويلة. وفي الغالب، فإن الكثير من الأشياء ضاعت.
بدليل أنه حتى المفسرون، مثلًا، إذا رجعنا إلى الطبري والتفاسير، فهو يرجع إلى
أقوال الصحابة والتابعين، يستعين بهم لتفسير القرآن. فأكيد أن هذه الفترة هي التي
أدت إلى ضياع المعاني الأصيلة.
باسم: تقعيد
اللغة أو ضبطها ضمن معاجم ممكن هي التي ...
كمال: لا،
ممكن، لأنه حتى صدور تفاسير في مجتمعات معينة وثقافة معينة وبيئة معينة قد يطغى ذلك
على التفسير. هناك أمور كثيرة تؤثر على... كما قلنا، الفرق بين المفهوم والمصداق.
هناك أمور اجتماعية وثقافية وسياسية تؤثر على المعنى المفهومي للغة، وتُضيّق معناها
وتحصره في معنى واحد أو اثنين.
الفرق بين الدعوة والدعاء في القرآن
باسم: أنا
قرأت لك مجموعة من الأبحاث تتعلق بفهم الكثير من الألفاظ وبعض الآيات. لفت انتباهي
لك مفهوم الدعاء، وأحسست فعلًا وجود شيء جديد، بحث جديد.
كمال: حقيقة،
هو إشكالية عند مجتمعاتنا، المجتمعات العربية.
باسم: هي
إشكالية فعلًا. أحدهم يقول لك: "ادعوني"، انتهى، وجالس على كرسيّ:
"يا رب، أعطني كذا، يا رب كذا، يا رب انصرنا". هل هذا المقصود بالدعاء؟
كمال: لا،
والمفارقة أن الأمر لا يعمل. الناس تدعو والاستجابة غائبة. فيجب أن نطرح السؤال:
ما هو الدعاء؟
باسم: صحيح.
"ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ". هل هذا الأمر مثلًا "ادعوني"
يعني: اقعد على الكرسي، أو احضر مسبحة واطلب من الله شيئًا، فبالتالي سيستجيب لك
وأنت جالس على الكرسي؟
كمال: في
القرآن الكريم هناك الدعوة والدعاء. الدعوة ارتبطت دائمًا بالإجابة، كقوله تعالى:
"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ". لم يقل أُجِيبُ دعاء الدَّاعِ، قال أجيب دعوة، لاحظ
أنه قال دعوة، ولم يقل دعاء، فأنت حين ترسل دعوة إلى حضور حفل زفاف، فأنت لا تكتب
دعاء إلى حضور حفل الزفاف، تكتب دعوة.
باسم: أنت
تستميله..
كمال: نعم،
فالدعوة غير الدعاء. كما قال ابن فارس في مقاييسه: إمالة الشيء. فالدعوة هي دعوة
شخص إليك، هي إمالته إليك. لاحظ أنه في الدعوة قال: "أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ"، لم يشترط شرطًا غير أن تدعو، ولكن، أن تدعو دعوة،
لا أن تدعو دعاءً، لأن الحديث عن الدعوة: "أجيب دعوة...". يعني إذا دعوت
الله تعالى، فهو يجيب دعوتك. يكفي أن تدعوه، فهو يجيب. لكن في الدعاء قال: "وَقَالَ
رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ"، السؤال هو: حين تطلب من شخص ما أن
يفعل شيئًا، مثلًا، تقول له: "افعل كذا وكذا، وأنا سأدفع لك أو سأعطيك
أجرك"، فهل يجب أن يفعل ذلك الفعل أو ينجز ذلك العمل وفق شروطك أنت أو وفق
شروطه هو؟ أكيد وفق شروطك أنت، لأنك من سيدفع الأجر. فحين يقول ربنا: "ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ"، أكيد أنه يقصد أنه يجب أن ندعوه كما يريد هو، لا كما
نريد نحن. يجب أن ندعوه كما يريد هو، فتكون الاستجابة. ونحن اعتمدنا على التفاسير
التراثية والفقهية التي تقول إن الدعاء هو رفع الأيدي إلى السماء. لكن إذا بحثنا
وتدبرنا الآيات، فمشتقات الجذر "دعوة" وردت في مئتين وإحدى عشر آية.
فإذا تدبرنا هذه الآية، سنكتشف أن إجابة الدعوة هي، كما قلنا: إن الدعوة أو دعا هي
الإمالة. فالدعوة هي إمالة الشيء. قد يكون قانونًا، وقد يكون شخصًا. فمثلًا، حين
يقول ربنا: "أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ"، فالأمر يتعلق
هنا بالقوانين الإلهية التي هي متاحة للجميع.
باسم: بالقيم
التي يمتثل إليها.
كمال: نعم،
بمعنى أن أي شخص يريد أن يقوم بأي عمل، طبعاً، هذا العمل لكي ينجز يحتاج إلى
قوانين إلهية، سواء تعلق الأمر بالكيمياء أو بالفيزياء أو بالكهرباء أو بأي مجال
من المجالات البشرية، هناك دائمًا قوانين إلهية تحكمها. نحن، هذه القوانين لم
نخترعها، نحن اكتشفناها.
باسم: اكتشفناها،
صحيح.
كمال: هي
كانت هنا منذ بداية الخلق، وسابقة موجودة. علمنا بها أم لم نعلم. فدعوة الله هي
إمالة هذه القوانين، أي استحضارها. وهي متاحة للجميع، بدون فرق بين أبيض أو أسود
أو ملحد أو مؤمن. يعني، الجميع، كل الناس..
باسم: متاح
له أن يستعملها.
كمال: متاح
له أن يستعمل القوانين الإلهية في أي وقت شاء. ولذلك قال ربنا: "أُجِيبُ
دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ". أي أن استحضار هذه القوانين متاحة للجميع.
لكن الدعاء شيء آخر؛ فإذا كانت الدعوة هي إمالة القوانين واستحضارها، فالدعاء هو
إمالة النتيجة. فلكي تُميل النتيجة وتحصل على النتيجة، يلزمك أن يكون عندك علم
بهذه القوانين، وأن تعرف كيف تُفعّلها. ولذلك، فاستجابة الدعاء متعلقة بالإنسان.
كلما زاد علمه، زادت معرفته بهذه القوانين، وعرف كيف يطبقها، فكانت إمالة النتائج
وكانت الاستجابة. بخلاف الدعوة التي يقول فيها ربنا: "أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ". لا، القوانين متاحة للجميع. فنحن حين نريد أن نقوم
بأي عمل كان، حين نستحضر هذه القوانين، فإننا كأننا ندعو الله دعوة إلينا، لأننا
نستحضره.
باسم: أنت
تستحضر قوانين الله.
كمال: نعم،
أنت تستحضر القوانين الإلهية، فأنت تدعوه، هذه دعوة. ولذلك، فهو قال سبحانه: "فَإِنِّي
قَرِيبٌ أُجِيبُ...". لاحظ أنه: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ...". هو يقول لك: أنا قريب، "أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ"، لأنه سميع بصير، دائمًا حاضر معنا.
باسم: إذن
القرب هنا لا يعني القرب التجسيدي.
كمال: لا،
لا.
باسم: هو
قرب بوجود القوانين الكونية.
كمال: نعم،
هذا هو معنى القرب، فقوانينه متاحة للجميع، وهذا هو معنى إجابة الدعوة. لكن، لاحظ
أنه في الدعوة يستعمل "الإجابة"، وفي الدعاء يستعمل لفظ
"الاستجابة"، لأن الدعاء أرقى مرتبة وأصعب في المنال.
باسم: نعم،
صحيح، فيه شُغل، فيه فعل.
كمال: نعم.
في القرآن الكريم، الإجابة دائمًا مرتبطة بالدعوة، والاستجابة دائمًا مرتبطة
بالدعاء. لأن الدعاء يحتاج للجهد، ويحتاج للعمل، ويحتاج إلى معرفة القوانين وكيف
تعمل. فالدعاء إذن هو إمالة النتيجة لكي تميل إليك. لاحظ أننا دائمًا نبقى في
المعنى المفهومي؛ فـ"دعا" جذر دعوة هو إمالة الشيء. نحن قلنا إن الدعوة
هي إمالة القوانين، والدعاء هو إمالة النتيجة إليك. فإذا عرفنا كيف نُفعّل
القوانين وكان لنا علم بها...
باسم: معناه
أن مستوى حياة الناس يتغير كليًا.
كمال: نعم،
فلاحظ أنت الفرق بين أن يكون الأمر في أذهاننا هو رفع الأكف إلى السماء، وبين أن
يكون الأمر هو علم ومعرفة بالقوانين وكيف تعمل.
باسم: وتشغيل
الأكف لتحقيق الإنجاز.
كمال: وتفعيلها
وتشغيلها، نعم. سيختلف الأمر كثيرًا في أذهاننا وفي واقعنا أيضًا.
باسم: انظر،
الخلل في فهم هذا المفهوم اللفظي أدى إلى كسل مجتمعات كاملة.
كمال: نعم،
نعم. والأمثلة بالعشرات. نحن ندعو وندعو على الأعداء، وندعو الله أن يرزقنا كذا. جميل،
كل هذا جميل.
باسم: ندعو
على الأعداء وهم يتقدمون، ونحن نتخلف.
كمال: نعم،
نعم. ذلك لأننا ندعو بالكلام، ولا ندعو بالعمل. فالدعاء هو عمل. هناك آيات كثيرة،
إذا تأملتها وتدبرتها، سيتبين لك أن الدعاء هو عمل. هناك آية في القرآن الكريم تعطي
مثلًا، هذه الآية هي التي جعلتني أفكر في الفرق بين الدعوة والدعاء، لأن هذه الآية
وردت فيها مفردة "دعوة" ومفردة "دعاء".
باسم: في
نفس الآية؟
كمال: نعم.
وهذا يعني أن المعنيين مختلفان. يقول فيها ربنا: "لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا
كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ
وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ". لاحظ أن الإنسان يريد أن
يشرب، فيضع يده في الماء وينتظر أن يصعد الماء إلى فمه. يمكن أن تضع يدك في الماء
وتطلب ما شاء لك الله أن تطلب، وتدعو ما شاء الله لك أن تدعو.
باسم: ولكن
الماء لن...
كمال: لن
يصعد الماء. لن يخرق الماء قانون الجاذبية ويصعد إلى فمك. فهذا المثال دقيق، يجب
أن تغرف الماء وترفع الماء إلى فمك لكي تستطيع أن تشرب. حين تغرف الماء إلى فمك فأنت
هنا تقاوم قانون الجاذبية، لكن إذا وضعت يديك في الماء وانتظرت أن يصعد الماء إلى
فمك..
باسم: فلن
يصعد.
كمال: تنتظر
السراب. لذلك قال ربنا في آخر الآية: "وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا
فِي ضَلَالٍ". أي أنك يمكن أن تضع يدك في الماء وتنتظر ما شاء لك أن تنتظر
دون أية نتيجة. فالدعوة اعتمادا على هذا المفهوم الذي قلنا إنه إمالة الشيء، دعوة
الله هي إمالة القوانين الإلهية، ودعاؤه هو إمالة النتيجة لتفعيل هذه القوانين عن
علم وعن دراية وعن معرفة.
ما معنى الزنى في القرآن؟
باسم: أهذه
المفاهيم غائبة عن ذهن كل الذين اشتغلوا في قراءة القرآن أو في تفسيره القرآن؟
كمال: هذا
يعيدنا إلى نقطة البداية.
باسم: أنها
أثرت على سلوك كل المجتمعات.
كمال: نعم..
باسم: جعلت
المجتمعات مستكينة، تنتظر شخصًا يرفع يديه، حتى المطر صرنا نطلبه برفع اليدين.
كمال: نعم،
هذا يبين لك خطر الفهم الذي يعتمد على المعنى المصداقي وليس على المعنى المفهومي. فيمكن
أن يذهب بنا إلى معانٍ بعيدة جدًا عن المعنى الأصلي، ولن تكون هناك نتيجة.
باسم: كما
أنه لفت انتباهي البحث الذي كتبته عن الزنا والإفك.
كمال: نعم،
مرة أخرى، ترسخ في الأذهان أن الزنا هو المعاشرة الجنسية، لكن هذا المعنى وهذا الفهم
يطرح إشكالات وأسئلة كثيرة. مثلًا، لماذا الزنا وضع على قائمة في بداية سورة النور،
وضع على قائمة ظواهر اجتماعية كلها متعلقة بالكذب والإفك والرمي بالبهتان؟ أنا
ربطت الآية بسياقها.
باسم: بسياقها؟
كمال: نعم،
"الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ
جَلْدَةٍ"، السياق هو رمي المحصنات، رمي الأزواج، ثم بعد ذلك يطرق إلى "إنَّ
الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ"، ثم بعد ذلك يتحدث عن
البهتان. تقريبًا الآيات الأولى-العشرون أو الخمس والعشرون من السورة كلها عن
الكذب والإفك والبهتان..
باسم: والكذب
على الآخرين.
كمال: والكذب
على الآخرين ورمي المحصنات ورمي الأزواج. ما الذي جمع الزنا بهذه المواضيع، بل
وجعلها على رأس سورة النور؟
باسم: لكن
لسانيًا، هل هناك أية مدلول للفظة "زنا" يدل على أن الممارسة الجنسية هي
المقصودة؟
كمال: لا.
باسم: هل
يوجد رابط؟
كمال: في
المعاجم، "الزناء" هو الذي يدلل على المعاشرة الجنسية. حتى حين تفتح
المعاجم وتجد استشهادات أربعة بالمعاجم بالشعر القديم، وشعر العرب، تجدهم يستعملون
مفردة "زناء". مثلًا، هناك بيت للفرزدق، وبيت آخر أظنه للأعشى، لا
يقولون كلمة "زنى" بل يستعملون كلمة "زناء"، من "زنأَ،
يزنأُ". فالزناء عند العرب هو الذي يدلل على العملية الجنسية، وليس
"الزنى" الذي ورد في محكم التنزيل. الزنى هو أقرب إلى "الزن"،
وهو الذي تشرحه الآية في سورة النور، التي تعاتب المؤمنين لأنهم نشروا الإفك، ففي
حادثة الإفك هناك مجموعة جاءت بالإفك، ولكن المؤمنين نشروا هذا الإفك، فهذه الآية
تعاتبهم.
باسم: لأنهم
ساهموا في نشر الإفك.
كمال: لأنهم
ساهموا في نشر الكذب، نعم. هذا هو الزنى، هو نشر الكذب دون تثبت ودون تحقق.
باسم: حسنًا،
هناك آية تقول: إن الزنى "كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا".
كمال: نعم،
هو فاحشة.
باسم: هل
الفاحشة هنا، مرتبطة في ذهن الناس بأن الفاحشة هي ممارسة الجنس؟
كمال: لا،
المعاشرة الجنسية مرتبطة بإتيان الفاحشة في القرآن الكريم. "وَاللَّاتِي
يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ"، "وَاللَّذَانِ
يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ". وعن قوم لوط، تقول الآية: "إِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ". فالمعاشرة الجنسية في محكم التنزيل عَبّر عنها
بإتيان الفاحشة، ولم يُعبر عنها بالزنى. الزنى هو مفهوم قريب من "الزن"،
فالزن هو الاتهام، اتهام الآخر، أما الزنى فهو نشر هذا الاتهام.
باسم: إن
الزنى "كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا". يعني هنا "فاحشة"...
كمال: الفاحشة
ليست بالضرورة أمرًا متعلقًا بالجنس. أعطيك مثالًا: "وَلا تَنْكِحُوا مَا
نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ..." "إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ
سَبِيلًا". هنا يتحدث عن النكاح بعقد، ولا يتحدث عن الزنى أو عن المعاشرة
الجنسية دون عقد. فهذا ليس زنى، ومع ذلك سمّاه فاحشة.
باسم: هل
الفاحشة تدخل في نطاق الظلم مثلًا، أو ممارسة الظلم؟
كمال: الفاحشة،
أرى أنها كل ما يمس المجتمع ويضر به.
باسم: لو
أردت تحليل كلمة "فحش" أو "فاحشة" لسانيًا، هل يمكن إعطاؤها
هذا المدلول الذي يمارس الغش والإساءة إلى المجتمع، ممارسة الفحش والإساءة إلى
المجتمع؟
كمال: أصل
المعنى هو الخروج عن المألوف، الفحش، الخروج عن العادة والخروج عن المألوف. حتى
يُقال: فلان ثراؤه فاحش، أي خارج عن العادة وخارج عن المألوف. فهي تأخذ معناها من
هذا المنطلق. أن كل ما يخرج عن العادة وكل ما يخرج عن المألوف هو من الفحش.
فالفاحشة، كما قلت لك، في الآية: "وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ"،
هنا لا يتحدث عن معاشرة جنسية دون عقد. هنا يتحدث عن نكاح بعقد، ومع ذلك سماه فاحشة.
فليست كل فاحشة مرتبطة بـ....
باسم: بممارسة
الجنس.
كمال: بالممارسة
الجنسية.
باسم: لأن
هناك من عرّف الفاحشة وأعطاها مدلولًا أوسع، وهو أن أي ممارسة للظلم بأي مستوى
يعتبر من الفاحشة.
كمال: ممكن،
نعم.
باسم: حسنًا،
عودة إلى قصة "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِئَةَ جَلْدَةٍ". من الذي يكتشفهم؟ من يحدد فلان وفلانة زناة؟
كمال: الدولة،
السلطة. لاحظ أنه لم يطلب أربعة شهود.
باسم: لا
يوجد أربعة شهود أصلًا.
كمال: لا،
طلب أربعة شهود في رمي المحصنات وفي رمي الأزواج. لكن في الزنى، لم يُطلب.
باسم: لا
يوجد أربعة شهود، صحيح.
كمال: كما
في السارق والسارقة، لم يطلب الشهود في السارق والسارقة، لأن هذه أمور تتولاها
السلطة. السلطة هي التي تتولى هذه الأمور وتحدد إن كان الشخص زانيًا أو لا. هناك
تحقيق وهناك تدقيق وهناك شرطة.
باسم: الآية
حددت إشكالية ما في المجتمع وتولت وضع العقوبة؟
كمال: ووضعت
المسؤولية على السلطة، على الدولة، بخلاف رمي المحصنة مثلا، فإذا لم يأت بأربعة
شهود فيتم جلده، لكن إذا أتى بأربعة شهود فهو يثبت تهمة رمي المحصنة، بخلاف الزنى،
لم تطلب الآية إحضار أربعة شهود.
باسم: أكيد.
كمال: لم
تطلب أربعة شهود.
باسم: رغم
أنه في فهم العامة بشكل عام يوجد أربعة شهود للزنى.
كمال: لا
يوجد هذا الطلب. هذا الطلب مختص برمي المحصنات وبرمي الأزواج.
باسم: هل
الزنى يدخل فيه ممارسة الدعاية والإعلام المغرض في المجتمعات؟
كمال: أكيد،
نعم، لاحظ سياق الآية في سورة النور مرتبط بسورة الأحزاب. وتدبر هاتين السورتين، أو
هذا المعنى بالضبط. معنى الزنى، يحل إشكالية لدى المفسرين، حيث اختلفوا في أي
السورتين سبقت: هل الأحزاب سبقت سورة النور، أم سورة النور سبقت سورة الأحزاب.
عندما تقاطع الآيات، ترى أنه في سورة الأحزاب يعاتب المرجفين والمنافقين والذين في
قلوبهم مرض، ويوبخهم في الآيات. ويهددهم، "لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ.." إلى
آخر الآية. وهؤلاء المنافقون والمرجفون والذين في قلوبهم مرض هم الذين كانوا
يشيعون الكذب والبهتان، أي: الفاحشة، في مجتمع المدينة. لكن لم يكن هناك حد. لم
تضع الرسالة حدًا لهم حتى يمتنعوا، ولكن سورة النور جاءت بالحد حين قالت "الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ". وضعت لهم
الحدود، وحتى إنها طلبت أن يحضر عذابهم طائفة من المؤمنين.
باسم: يعني
معلن؟
كمال: حتى
يُعرفوا، حتى يعرف الزناة. وبعد ذلك وضعت لهم حصارًا اجتماعيًا، يعني حيدتهم.
" الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً
وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَحُرِّمَ ذَلِكَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ". في سورة البقرة، نهي عن نكاح المشركين. لكن هنا تحريم،
ووضعت الزناة مع المشركين.
باسم: يعني،
الآن، الزاني لا ينكح إلا مشركة، المقصود أنه الذي اتُّهِم بممارسة الكذب والغش،
وإلخ، في المجتمع..
كمال: يجب
تحييده.
باسم: يجب
تحييده حتى لا تتزوج معه؟
كمال: نعم،
هذا هو المعنى. تمامًا كما حرَّمت الآية نكاح المشركين والمشركات.
باسم: حسنًا،
لماذا وصفه بالمشرك؟ لماذا وصف الزاني هنا بالمشرك؟
كمال: لا،
هو لم يصف الزاني بالمشرك، بل وضع الزاني والمشرك في نفس المرتبة. لأنه حرَّم نكاح
المشرك، وفي هذه الآية من سورة النور حرَّم نكاح الزاني والمشرك. يعني كأنه وضع
المشركين والزناة في نفس المرتبة.
باسم: لا،
هنا قال: "الزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ".
كمال: "الزَّانِيَةُ
لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ".
باسم: "إلا
زانٍ أو مشرك"، نعم.
كمال: هذا
حصار اجتماعي للزناة والمشركين. يعني هو وضع الزناة في خانة المشركين، لحصارهم.
باسم: ألهذه
الدرجة أهمية المرجفين في المجتمعات والمفسدين؟
كمال: نعم،
نعم. وأنت تعلم وترى كيف يؤثر الإعلام في عقول الناس وفي تصرفاتهم وفي أفكارهم.
هناك دول وبلدان ضاعت بسبب...
باسم: بسبب
كذب الإعلام.
كمال: نعم،
بسبب كذب الإعلام.
باسم: بسبب
زنى الإعلام.
كمال: نعم،
بسبب زنى الإعلام، وترويج الكذب والخرافة.
باسم: الغريب
جدًا أن هذا المفهوم العميق في إدارة المجتمعات وضبط سلوكياتها موجود بين أيدي
الناس وفُهِم بشكل مختلف كليًا، وتم ربطه بممارسة الجنس فقط، ولم يفكر أحد أن هذه
الآية ليس فيها طلب أربعة شهود. وكيف تثبت أن هناك زانيًا وزانية إذا كان الهدف هو..
كيف تثبت أن فلانًا زانٍ وتجلده دون أن يكون لديك...
كمال: نعم،
نعم. حتى تطبيق الآية مستحيل، لأن المعاشرة الجنسية في الغالب تكون سرًا. فكيف
تعرف أن هذا الإنسان زانٍ أم لا؟ لذلك، فالزنى هو ترويج للكذب..
باسم: أو
الإفك.
كمال: أو
الإفك، نعم. "إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ..".
لاحظ الشبه بين كلمة "إفك" و"Fake".
باسم: "Fake News"؟
كمال: "Fake News".
باسم: وفي
الإنجليزية هي نفس المفهوم.
كمال: نعم،
نعم.
باسم: "Fake News" تعني
أنك تؤلف مجموعة من الأخبار والقضايا التي ليس لها أي أصل في الواقع.
كمال: والأهم
من كل هذا السياق، سياق سورة النور، أو العشرين أو الخمسة والعشرين آية من سورة
النور، هو سياق عن هذه الظاهرة الاجتماعية التي هي الكذب. فرمي المحصنات هذا كذب فردي،
رمي الأزواج هذا كذب على المستوى الفردي. ولكن حين نتحدث عن "إِنَّ الَّذِينَ
جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ"، فهنا يتحدث عن الكذب على المستوى
المجتمعي، يعني ينشرون الشائعات وينشرون الأكاذيب، ليقوّضوا الدولة، أي ليطعنوا في
النبي وأصحابه وجماعته وجماعة المؤمنين. وكما قلتُ: عاتبهم في سورة الأحزاب
وهدّدتهم الآية إن لم ينتهوا، يُهدّدهم. ولكن في سورة النور وضع لهم الحدّ، وضع
لهم الحدود التي هي الجلد والوسم.
باسم: رغم
أنه في القوانين، هناك قوانين ضد التشهير موجودة، التشهير هو جزء من الزنا، هو
الزنا بشكل أو بآخر؟
كمال: نعم،
ولذلك تجد أنه وضع مع الشرك ومع قتل النفس، لأنه آفة اجتماعية. الزنا ترويج الكذب.
باسم: يعني
ليس بالأمر السهل، فهو آفة، وأحد أدوات قتل المجتمعات.
كمال: نعم،
نعم.
باسم: الغريب
جدًا أن هذا الفهم تم تناوله باتجاه مختلف كليًا، وأُسيء فهم الآية كليّا.
كمال: هنا
أيضًا نرجع إلى نقطة البداية، وهي أنه علينا أن نتدبّر المفردات القرآنية بمنهجية تعتمد
على أن المفردات القرآنية هي مفردات مفاهيمية، وأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وأن
نعيد المفردات إلى جذورها، وإلى أصولها، وإلى معانيها المفهومية الواسعة.
باسم: أصبح
من الضروري أن يفهم الناس ما معنى اللسان العربي المبين؛ لأن الناس لا يفهمون ما
المقصود بالعربي المبين.
كمال: نعم.
أنا أرى أن اللسان العربي المبين هو اللسان الذي يستعمل كلمات عربية، تحاكي
الطبيعة، أصيلة.
باسم: تحاكي
الواقع.
كمال: نعم،
تحاكي الواقع والطبيعة، دون تدخل للبيئة أو المجتمع أو الثقافة.
باسم: مثل
أن أقول: حصان عربي أصيل؟
كمال: لا،
هذه "أصيل" تصبح حشوًا.
باسم: تصبح
حشوًا؟ أقول: حصان عربي، ما المقصود؟
كمال: الفرنسيون،
مثلًا، يقولون: "personne arabe".
باسم: هذا
يُستخدم بالفرنسية؟
كمال: "personne arabe"، يقصدون أن دمه خالص عربي.
باسم: ليس
عربيًا بالمعنى المعروف؟
كمال: لا،
(personne) تصبح حشوًا، لأن "عربي" تعني خالصًا، أصيلًا، لا تشوبه
شائبة.
باسم: يعني
ليس modified
كمال: نعم،
لم تؤثر عليه عوامل خارجية.
باسم: جيناته
أصلية كما خلق.
كمال: نعم.
باسم: هذا
المقصود إذن.
كمال: نعم،
هذا هو الاستعمال الأصلي للمفردة. إذا طبّقتها على المفردات القرآنية، فهذا هو
الاستعمال الأصلي للمفردات القرآنية، والاستعمال الأصلي هو استعمال مفهومي، وليس
مصداقيًّا.
باسم: ما
المقصود بلفظة "لسان"؟ هل هو اللسان الذي نتحدث به، أم مجموعة الطرق
والمحددات التي تجعل هذا الاستخدام يكون أصيلًا؟
كمال: لا،
اللسان هو عضو النطق.
باسم: المقصود
بـه "اللسان" نفسه؟
كمال: حين
يقول "اللسان العربي"، يقصد محاكاة هذا العضو للطبيعة.
باسم: يعني
المنهاجية
كمال: المنهاجية
باسم: هذا
هو المقصود به، المحدد أو المنهاجية.
كمال: نعم،
هذه المنهاجية التي يعتمدها هذا العضو لإخراج أصوات تحاكي الطبيعة. هذا معنى
"لسان عربي".
باسم: ومبين؟
تبينه بماذا؟
كمال: هو
مبين لأنه عربي.
باسم: واضح؟
كمال: نعم،
لسان عربي لأنه يحاكي الطبيعة، ولم تؤثر عليه شوائب خارجية. لذلك هو واضح.
باسم: يعني
يبين موضوعه بذاته؟
كمال: نعم.
باسم: هناك
الكثير من المقالات التي كنت أقرأها لك، والتي تلفت الانتباه، لكن يبدو أن الوقت
يسرقنا. كنت أرغب في السؤال عن إحدى المقالات التي ذكرت فيها أنه يوجد فرق بين
أزواج النبي وزوجات النبي. مثلًا، الآية التي تقول: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ"، استخدم لفظة
"أزواج" للنبي بينما للمسلمين "نساء".
كمال: الحقيقة
أنه لم ترد أبدًا مفردة "زوجات النبي" في القرآن.
باسم: لا
يوجد؟
كمال: لا،
ليس موجودًا. هناك "أزواج النبي". والزوج..
باسم: هو
الشبيه؟
كمال: هو
الشبيه والمثل. هذا هو المعنى الأصلي للزوج، وليس بالضرورة امرأة يربطك بها عقد
نكاح. فالزوج هو الشبيه والمثل. أنت تلاحظ أنه في سورة الأحزاب يقول: " النَّبِيُّ أَوْلَى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ". أزواجه،
وليس زوجاته. أزواجه أمهات المؤمنين. والآية التي تفضلت وذكرتها: "قُلْ
لِأَزْوَاجِكَ". فإذا كان هذا هو المعنى، أي الزوج هو الشبيه والمثل، فيجب أن
نسأل أنفسنا: كيف "أزواج النبي"؟ هل هن زوجاته؟ ثم إذا تتبعنا الآيات
المتعلقة بأزواج النبي في سورة الأحزاب، أولًا: قال: إنهن أمهات المؤمنين. ثانيًا،
نجد أنهن مكلفات بالإطعام، حتى إن هناك آية تنهى المؤمنين أن يدخلوا إلى بيوت
النبي ويقعدوا ويستأنسوا وينتظروا الطعام.
باسم: بيوت،
وليس بيتًا؟
كمال: لا،
بيوتات طبعًا. آية أخرى تقول: إنه إذا جاء أحد من المؤمنين ليطلب متاعًا من أزواج
النبي، فيجب أن يكون ذلك من وراء حجاب. يعني بيوتات النبي كانت بيوتًا لإطعام
الفقراء والمحتاجين، ولإعطاء شتى أنواع المتاع. هناك علاقة، برأيي، بين ما تقوم به
أزواج النبي في المدينة وما يُعرف في الكنيسة المسيحية. لاحظ تسمية "أمهات
المؤمنين"، هذه تسمية نجدها في المسيحية.
باسم: الأم
تريزا مثلًا؟
كمال: نعم.
النساء اللواتي يخدمن الكنيسة يسمَّين بالأخوات أو الأمهات. وفي النهاية، ما هو
عملهن؟ تقديم المساعدة، سواء تطبيب، أو إطعام الفقراء.
باسم: إذن،
الآية التي تقول "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ"..
ماذا؟
كمال: لا،
تلك الآية تتعلق بالبيعة.
باسم: "وَلَا
يَزْنِينَ"؟
كمال: نعم.
"ولا يزنين" أي لا ينشرن الكذب والبهتان، لا علاقة له بالفاحشة...
باسم: لأنه
منطقيًا، ليس من المعقول أن تأتي امرأة إلى الرسول الكريم، ويقول لها: انتبهي، لا
تزني.
كمال: نعم.
لذلك قلت: إن الزنا وُضع في سياق الشرك بالله، وفي سياق قتل النفس. فهو موضوع
خطير.
باسم: ضرره
على المجتمع.
كمال: نعم،
يهدد الأمن المجتمعي.
باسم: أستاذ
كمال، شكرًا كثيرًا. أنا استمتعت بالحديث معك، لكن، للأسف الوقت انتهى. إن شاء
الله نلتقي في فرصة أخرى في برنامج "مجتمع".
كمال: إن
شاء الله، على الرحب والسعة.
باسم: شكرًا
لك، وشكرًا لكم. وإلى اللقاء في حلقة جديدة من برنامج "مجتمع".