• Facebook
  • instagram
  • X
  • youtube
  • tiktok
  • apple podcast
  • google podcast
  • spotify

التغيير المجتمعي بين الثورة والأدباء والسلطة | عبد الواحد براهم

للإستماع



مقدمة

باسم: أنا حاورت الكثير من المثقفين والأدباء والمختصين. الكل يجمع على هذه العقبة، أن هناك عقبة، وهناك عائق كبير يتعلق بالمدرسة التراثية القديمة، التراثية الفقهية وليس التراث بشكل عام. هي التي تعيق هذا العقل العربي عن أن يتطور، على المستوي السياسي على الأقل.

عبد الواحد: التيار المحافظ كابس جداً على التفكير، وعلى ما يُقال وما لا يُقال. العصر الحديث فتح الأبواب على عديد الثقافات. نحن نشهد في عصرنا الحديث كيف أن هذه الموجات الرجعية بدأت بالعودة: التكفير والهجرة، والأصولية، ونفعل كما فعل السلف. كيف نعود إلى قرون مضت بتفكيرنا وطرق أكلنا؟ أنا سمعت أحد محدثيكم يتحدث عن كتاب اسمه "الصواعق على من يأذن بالأكل بالملاعق". أضحكني كثيراً لكنه أحزنني. كيف توجد مثل هذه الأمة؟ حتى هنا في تونس، سمعنا أخيراً أن فتاة في صفاقس وضعت رسالة دكتوراه عن أن الأرض مسطحة وليست مكورة. كيف بحثت هذا؟ من أطرها؟ من هو أستاذها؟ كيف هي هذه الجامعة التي...

باسم: تجيز هذه الدراسة؟ 

عبد الواحد: قبلت أن يقع الحديث.. مازلنا في هذا المجال.

 

باسم: أهلاً بكم. أنا باسم الجمل، معكم في حلقة جديدة من برنامج "مجتمع". في حلقة اليوم نلتقي الدكتور عبد الواحد، كاتب وباحث وروائي تونسي، له العديد من الروايات والكتابات والمقالات، وحتى الأبحاث التاريخية. أهلاً بك دكتور.

عبد الواحد: مرحباً يا أستاذ باسم.

باسم: براهم؟ 

عبد الواحد: براهم، اسمي.

باسم: من الإبراهمة الهندية؟ 

عبد الواحد: يقال إنه ربما تحريف لاسم إبراهيم.

باسم: تحريف لإبراهيم؟ 

عبد الواحد: ربما، لأني هكذا وجدته مسجلاً في بعض دفاتر الجمارك التركية القديمة. الرئيس براهم خرج بالسفينة.

باسم: ممكن أنّ أحدهم، مثلاً نسي أن يضع الألف في "إبراهيم".

عبد الواحد: أنا عندما أزور البلدان المشرقية، دائماً لا يقبلون هذا الاسم، وينادونني "أستاذ عبد الواحد إبراهيم".

باسم: لأنه هو فعلاً غير شائع كاسم. براهام، أهلاً وسهلاً بك دكتور.

عبد الواحد: مرحباً بك أستاذ.

باسم: الملاحظ أن ثمة هدوءًا في تونس، المدينة، مثلاً، ليست كما عهدها الكثير من الناس، أن فيها حيوية، فيها نشاط، فيها أكثر...

عبد الواحد: تتحدث عن المدينة أم عن الوطن كله؟ 

باسم: ممكن، المدينة قد تمثل الوطن.

عبد الواحد: هي عدة عوامل طبعاً. ليس هذا دأبها دائماً. مرت بفترات ازدهرت فيها السياحة، فترات أخرى ركدت فيها السياحة. جاء مرض الكوفيد أيضاً، ضربها ضربة على الرأس. ربما حالة الانتظار لمعرفة التخطيط المقبل: هل سنمر إلى طريقة اشتراكية في التعامل، أو سنفتح الباب لرأس المال. كل هذا موجود على قائمة الانتظار، ولهذا تجد الناس غير مندفعين. لا تجد ذلك الاندفاع الذي تراه في بلد..

باسم: الكل ينتظر في المآلات المتوقعة.

عبد الواحد: لعلك ستشاهد بعد نزول الأمطار هذه الأيام حركية غير التي كنت تتحدث عنها. فمرت بنا سنوات كثيرة من الجفاف، حتى وصلنا إلى تقسيط ماء الشراب. وصلنا إلى هذه الحال، وتعب المزارعون، ونقصت المياه في السدود، إلى آخره. كل هذا لم يكن دافعاً إلى حركة، وحتى المزارع رفع يديه ينتظر الغيث، والتاجر ينتظر دخْل المزارع ليسترزق منه، وهكذا. حالات الانتظار هذه تدفع إلى جو من الركود غير معتادين عليه، لكنه ليس دائماً، سيتغير.

باسم: ألم تحاول أن تكتب؟ عادة الروائي والأديب يتحسس هذه اللحظات التاريخية في المجتمعات.

عبد الواحد: الذي يتحسس أكثر هو الدارس الاجتماعي. وأنا أسمع كثيراً من المفسرين في الإذاعة والتليفزيون يتحدثون، بعضهم يصيب، بعضهم يخطئ. ولكن الذي يعيش الحياة اليومية يحسه دون أن يجد التفسير المقنع. يقول: إنّها حالات تطرأ. والبعض يقول: حالات عادية. والبعض يقول: غير عادية. أما اليقين، فلا يقين.

باسم: لاحظت أن نشاطك الأدبي فعلاً كان مكثفاً، وفيه تناول أكثر من جانب، سواء في المجتمع التونسي أو حتى على المستوى التاريخي.

عبد الواحد: حاولت أن أُدلي بدلوي، أتحرك. أنا عضو في المجتمع، لي هواية معينة هي الأدب والكتابة، وكل حياتي كنت في هذا الإطار أتحرك. سواء عند إدارة مجلة الفكر، أو عند عملي في وزارة الثقافة، أو عند إنشائي لشركة تصدير الكتاب، أو إلى آخره. في كثير من المجالات وجدت نفسي في نفس المساق الذي يدعوني إلى التفكير فيما يدور حولي، إلى التفاعل معه، إلى الإحساس به، إلى مبادلته المشاعر والأحاسيس. ثمَّ يسرت لي دراستي ومعرفتي باللغة أن أجد طرقاً للتعبير، وهذه الطرق مختلفة. أجدها عندما أكون، مثلاً، في رحلة وتستثيرني بعض المشاهد أو بعض الأحياء أو بعض المجتمعات، فأعود وأكتبها. ومن هنا أخرجت كتاب "حقيبة سفر"، أو "في بلاد كسرى" عن إيران لما زرتها أيام الشاه. ولما أثارني مخطوط أندلسي عن الهجرة أيضاً، عدت إلى تلك الحقبة وبحثت حوالي العشرين مرجعاً لأتثبت مما حصل، ومن ذلك أصدرت كتابي "تغريبة أحمد الحجري"، ومن بعده "قبة آخر الزمان". وكل فترة من الفترات جعلتني أتفاعل معها وأعبر عنها بأسلوبي. ثم اتجهت إلى المقالات عندما كانت الأمور يجب أن تتحدث عنها مباشرة، كما في كتابي "هل صحيح أننا قمنا بثورة؟" أو كتاب "مرايا متناظرة".

 

هل كانت هناك ثورة؟

باسم: هل صحيح أنه كان فيه ثورة؟ أو قمتم بثورة فعلاً؟ هذا السؤال، يمكن. 

عبد الواحد: لا أؤمن بذلك.

باسم: لا تؤمن بذلك؟ 

عبد الواحد: لا أؤمن بذلك.

باسم: لم تكن هناك ثورة؟

عبد الواحد: ليست ثورة. الثورة نتائجها أعمق مما شاهدنا. الثورة تتناول أمور الدين، تتناول أمور الأفكار، تتناول النظام الاقتصادي، تتناول أموراً في العمق، وتكون وراءها فكرة. أما هذه فكانت هوجة، ونحن في تونس متعودون على السكون المستمر، كما كنت تلاحظ، الذي يدوم فترة من الزمان. لكن أيضاً تأتي بعض شعلة كبريت أو وقدة كبريت، فتثور الأمور، ثم تهدأ بسرعة. قد نكون قد دخلنا مساراً ثورياً. أما أنها تكون ثورة ثورة، فأستبعد ذلك.

باسم: يعني: أنت تقيم الثورة من نتائجها؟ 

عبد الواحد: أقيم الثورة، بالطبيعة، بنتائجها.

باسم: أو تصف الفعل أنه ثورة أو غير ثورة من النتائج.

عبد الواحد: لو كنت شاباً، لو كنت أصغر عمراً، ربما كانت الأمور تستثيرني وتعجبني كثيراً، لكن رصانة العمر والتجارب التي رأيتها قبلُ. مثلاً، كان عندنا قبل هذه الثورة، كان عندنا في تاريخنا الحديث ما يُسمى بالخميس الأسود.

باسم: انتفاضات كثيرة؟ 

عبد الواحد: وعندنا أحداث 26 جانفي (يناير). عندنا تاريخ لا بأس به في هذا الموضوع. متعودون على هذه الأمور التي تشتعل ثم تنطفئ، لكن البعض كان يضع فرامل ويستعيد الأمور كما كانت، كما في عهد بورقيبة وكما في عهد زين العابدين بن علي. وقد تكون لا توجد فرامل، أو ثمة محاولات للفرملة، لكن لم تنجح، واستمرت الأمور في تغير وتبدل لا نعرف أين سيكون منتهاه. ولذلك أقول إنه مسار ثوري، لأن الغليان ما زال، والأفكار ما زالت متداولة، والطلبات هي هي: الكرامة، والخبز، والحرية. هذه الشعارات التي أُعلنت أيام الثورة ما زالت هي هي.

باسم: ولكن النتائج لم تتحقق بعد، مثلاً؟

عبد الواحد: في سبيل التحقق.

باسم: أو المطالب لم تتحقق؟ 

عبد الواحد: لا تتحقق في...

باسم: في يوم وليلة.

عبد الواحد: في يوم واحد. تقييم الثورات لا أستطيع أن أدعي فيه علماً، لا أنا ولا غيري. معروف أن شوان لاي، طُلب رأيه، في الثورة الفرنسية، التي تمّت في القرن الثامن عشر، قال إنه ما زال الوقت مبكراً للحكم عليها. تصوّر؟ إي نعم، بعد قرنين وأكثر، لم يستطع الرجل أن يضع حكماً على ثورة فرنسية قلبت مفاهيم العالم كله.

باسم: لأن المفاهيم تحتاج وقتاً..

عبد الواحد: أنا لا أُغامر بالحكم على هذه الثورة. أقول بتفاؤل كبير: إنه مسار ثوري. وما معنى مسار ثوري؟ هي درجة من الوعي يجتمع معها كمية لا بأس بها من الحماس، وتوقدها احتياجات معينة، احتياجات مادية وأحياناً نفسية.

باسم: احتياجات حياتية.

عبد الواحد: ثمة الحياتية، وثمة النفسية. مثلاً، في شعار الثورة التونسية، كان هناك مطالبات بالكرامة. الكرامة لا تُباع في الأسواق وليس لها أثمان. كانت المطالبة بالخبز والكرامة. طيب، إذا توفر ربما الخبز، ربما الكرامة ستنتظر قليلاً. وهكذا، ثم كيف تعيّر الكرامة؟ كيف تُجسَّد؟ أو كيف توجد؟ 

باسم: كان بودي أن أسأل هذا السؤال، ما هي المعايير التي...

عبد الواحد: ما هي المعايير معايير الكرامة؟ 

باسم: التي يجب أن تتوفر حتى نحكم أن كرامتنا عادت لنا أو لم تعد؟ 

عبد الواحد: الكرامة شيء نسبي أيضاً. قد تكون الكرامة تتوفر في قطعة خبز، مثلاً، وينتهي الأمر. كل واحد ومعاييره. فهذا كله كان لا بد أن يكون معه دراسات وتعيير، وهذا لم يحدث.

باسم: لم يحدث حتى الآن؟ 

عبد الواحد: ولهذا عندما يُقال: إننا قمنا بثورة، أنا، مثلاً، كتبت كتاباً اسمه "هل صحيح أننا قمنا بثورة؟". في النهاية، بعد بحث وتنقيب، ورجعت وكتبت مجموعة من المقالات أبحث: هل صحيح أننا قمنا بثورة؟ الثورة هي تبديل وتغيير وشعلة لا تنطفئ. وانتهيت إلى الاعتقاد بأننا ربما في مسار ثوري. يعني: جماعة لم تكن راضية بما يحدث لها. ربما كانت تأكل الخبز ولا تجد الكرامة، أو كانت عندها كرامة لكن لم تجد الخبز. فتوفير الاثنين كان يتطلب جهداً لم يتوفر. ولهذا قامت الثورة. هذا ربما الخلاصة التي وصلت إليها. لا بصفة نهائية، ولكن نتيجة جهد حياتيّ وتعيير لما حصل وعشته، وأيضاً استفادة بأشياء سبقت. لأن تونس حدثت بها هزات كثيرة.

باسم: نعم، حدث قبل ذلك، صحيح.

عبد الواحد: حدث.

 

معايير نجاح الثورات

باسم: دكتور، بحكم نشاطك الأدبي الواسع، وشمل الكثير من مناحي الحياة في المجتمع التونسي، سواء على المستوى السياسي أو على المستوى المجتمعي، ومن بدايات التشكيل السياسي الحديث في تونس، لو طُلب منك أن تضع بعض المعايير التي يجب أن تتحقق حتى نقول إن الثورة حققت بعض إنجازاتها، أو وصلت إلى المآلات التي ترضي المجتمع؟ 

عبد الواحد: بالنسبة للثورات، عندما تقوم الثورات، لم تكن لها أهداف محدودة ومعقولة ومدروسة. تثور الشعوب أحياناً بدون أن تكون قد خططت لذلك، لكن، تلتئم عندها نوع من الدوافع ومجموعة من الأفكار والاحتياجات، فتثور لطلبها أو طلب تحقيقها. كان المطلب: شغل، حرية، كرامة وطنية. هذا هو الشعار الذي نُودي به. هذه قد تحقق بعضها، أكيد لن تتحقق كلياً، وسعي الإنسان منذ خلق إلى الآن يبحث فيجد شيئاً ولا يجد شيئاً آخر. المطلوب منه أن يحدث نوع من التوازن، وإيجاد نوع من المشهيات للإقبال على الحياة والاستمرار فيها ليستمر الوجود. أما أن ينال كل شيء، كل شهواته وكل رغباته، فهذا من رابع المستحيلات.

 

اثر الأندلسيين في تونس

باسم: أكان هناك دور للتأريخ أو التاريخ في رواياتك، دكتور؟ لأني لاحظت أنك قد كتبتَ ثلاثية عن الأندلس أو ثلاثية الأندلس. هل كان الهدف منها إلقاء الضوء على مرحلة تاريخية ما، مثلاً، أو نقل الأحداث فيها؟ 

عبد الواحد: التاريخ يهمني جداً، أعتبره هو خميرة الحاضر، وفيه كثير من العظات. والتاريخ الأندلسي فيه ما يُدرس، وفيه ما يُؤخذ. عبر كثيرة، سواء أسباب حدوثه، ثم مجريات حدوثه، ثم نتائج حدوثه. وبلدنا تأثر كثيراً بهذا الحدث، سواء في فتح الأندلس أو في خروج الأندلسيين، وفي ما كتبته رجع صدى لكل هذا. لا أدري مدى الاستفادة منه في الوقت الحاضر، ربما يكون درساً في تاريخ الحضارة ككل، وفي تاريخ بعض البلدان التي تأثرت بالهجرات الأندلسية وبما حدث، أو بالنكبة الأندلسية.

باسم: يعني، هل اختيار الكتابة عن فترة الأندلس أو عن حقبة الأندلس أو الفترة العربية في الأندلس كان لهدف إحداث مقارنة ما بين ما وقع في الأندلس وما يقع في المجتمعات العربية الحالية؟ هل كان في ذهنك ككاتب أن تربط هذه المقارنة ؟ 

عبد الواحد: نحن في تونس متأثرون جداً بهجرة الأندلسيين. طبعاً هم هاجروا نحو بلادنا وبلدان أخرى، لكننا متأثرون به. واستثارني مخطوط للحجري، فرجعت إليه، لأنه كتب كثيراً عن نكبة التهجير وعن رحلته الغريبة وعن سفاراته في أوروبا، ثم استقراره في تونس. كل هذا وجدته في مخطوط، فأخذت المخطوط وراجعته وتبنّيته ونشرته في كتاب، فيه كثير من الحقائق، وفيه كثير من الدروس التي يجب استنتاجها. أردته تعريفاً بتلك الفترة وإثارة للمشاعر لمن يريدون المحافظة على أوطانهم، كيف يجب أن يكونوا، وكيف يجب أن يتعاملوا مع كل الأجسام الغريبة التي تريد الاستيلاء على الأرض أو على البلد. وكان في تاريخ الأندلس عظات كثيرة ودروس يجب استنتاجها. حاولت أن أستغل مخطوط أحمد الحجري لتبيين هذه الأمور كلها.

باسم: طبعاً، أنت ذكرت أن الشخوص الذين كتبت عنهم الرواية أو الثلاثية أنها شخوص واقعية؟ 

عبد الواحد: نعم، طبعاً، أحمد الحجري موجود، وعائلته موجودة.

باسم: موجودون؟ 

عبد الواحد: "مسارو" موجود، وترك حتى عائلة لا زالت توجد في تونس. تجد اسم الحجري في كثير من العائلات، وكان المهم بالنسبة لي هو تطور الحدث التاريخي، والمجال الذي دارت فيه الأحداث، أسبابها ونتائجها. لماذا طُرد الأندلسيون؟ لماذا أُبقي عليهم في فترة من الفترات؟ ثم لماذا وقع الاستغناء عن البقية الباقية؟ ثم ما كان تأثيرهم بعد تلك الإجراءات في البلدان التي هاجروا إليها؟ وأثرهم في تونس موجود، وما زلنا نحس بها إلى اليوم من عادات وتقاليد..

باسم: ما هو الأثر؟ أنت كررت كثيرًا أنّ تونس تأثرت بالحدث الأندلسي تاريخياً. هذا الأثر كيف تبدّى؟ مثلاً، أنه على مستوى العائلات، ما زالت عائلات موجودة؟ 

عبد الواحد: ثَمَّ كثير من العائلات، ثَمَّ بعض العائلات ما زالت تُسمى بأسماء إسبانية إلى اليوم. أتذكر، مثلاً، عائلة بلانكو.

باسم: بلانكو؟ 

عبد الواحد: بلانكو. هذا اسم غير عربي. من أين أتى؟ أتى من أساس..

باسم: المورسكيين؟ 

عبد الواحد: المورسكيين. وأمثلة عديدة أستحضرها الآن، لكن هذا الاسم موجود، وهناك أسماء أخرى. وهناك بعض العادات والتقاليد تجدها حتى في الأعياد، في الألبسة، في أنواع الحلويات، في الطبخ.

باسم: هذه مختلفة عن العادات الموجودة في المجتمع التونسي؟ 

عبد الواحد: لا، المجتمع التونسي مكون من هذه العادات. فيه أشياء تركية، فيه أشياء أندلسية، فيه أشياء عربية بدوية من الهجرة الهلالية. فتجدها خليطًا. هذه المدن، وترى تمركز الأندلسيين كان في أماكن معروفة، مثلاً، في مدينة بنزرت، عندنا حي اسمه حي الأندلس إلى اليوم يوجد في أحد أطراف المدينة. وفي تونس العاصمة أيضاً جهة نهج الباشا، هناك نهج الأندلس أيضاً، والهجرات كانت أربع هجرات، كل واحدة جاءت بفوج. الفوج الأول كان من الأثرياء والإداريين والعلماء، ثم تلاه بعض الحرفيين، ثم بعد ذلك في الهجرة الأخيرة جاء الفلاحون والرعاة وكل من هب ودب.

 

فتح أم غزو العرب للأندلس؟

باسم: في بداية حديثك عن الثلاثية، ذكرت عندما فتح العرب الأندلس. للبعض يبدو هذا التعبير أنه غير محايد، متبنٍ لرواية سائدة عند المؤرخين العرب، بينما آخرون يرون أن التعبير مجحف بالتاريخية أو بالواقع أو بوصف الواقعة التاريخية. وهناك من يراه "احتلال عربي"، وآخر يسميه "غزو عربي"، وآخر يسميه -ليس فتحاً وليس غزواً وليس احتلالاً-، إنما "استمرار للوجود العربي في الأندلس ما قبل حادثة الفتح". يعني، هناك مجموعة من الآراء؛ آراء مختلفة في كيفية تقييم حدث وجود العرب أو فتح العرب للأندلس.

عبد الواحد: يجب التفريق بين أمرين. أولاً، ثَم الوقائع. وقائع أن هناك حملة خرجت من تونس إلى الأندلس وفتحت. تفسير هذا وتحليله والبحث عن الأهداف من كل ذلك وعن النتائج، هذه متروكة للمحللين وللمؤرخين. كل الاحتمالات واردة، ولكن يجب التفريق. البعض فيه حيف كبير على التاريخ، والبعض ذكر حقائق. الفتوحات العربية الإسلامية كانت في فترة من الفترات يعني شيئاً معتاداً يومياً وسنوياً. يعني، الغزو بدأ إلى إفريقيا من مصر، ثم إلى ليبيا، ثم إلى تونس.

باسم: أنت استخدمت لفظتين، "فتوحات" و"غزو".

عبد الواحد: يعني، موجة

باسم: لا، لا، أنا أقصد التعبير، وصف الحدث. هناك من يصفه "فتح"، وهناك من يصفه "غزو"، وهناك من يصفه "تعدٍ استعماري"، وآخر من يصفه "حاجة اقتصادية".

عبد الواحد: هذه تقييمات مختلفة، أنت والرأي الصادر عنها أو المفكر الذي يقول هذا التحليل أو هذا التفسير.

باسم: وبالتأكيد يعكس وجهة نظر القائل 

عبد الواحد: بالطبع.

باسم: لكن الوقائع التاريخية... ماذا تقول؟ 

عبد الواحد: الوقائع التاريخية تتقبل عدداً من التحليلات التاريخ لا يجزم، وإنما يقدم حلولاً ويقدم تفسيرات لا أكثر، يقدم تفسيرات. إذا كنت تريد أن تناقش الحملة على إسبانيا، على الأندلس، كيف تفسر الحملة على تونس، على الجزائر، على طرابلس، على مصر؟ هل كانت فتحاً، أو كانت استعماراً، أو كانت احتلالاً، أو كانت ماذا؟

باسم: هناك من يسميها تحريراً للبلاد العربية.

عبد الواحد: سَمِّها ما شئت.

باسم: لا، أنا أقول لك: هناك مجموعة من الآراء تصف الحدث، كما قلت أنت، كلٌ يعبر عن رؤياه في تحليله للحدث نفسه. هناك من يسوي جزءًا مما يسمى بالفتوحات العربية بأنه عبارة عن عملية تحرير للمجتمعات العربية من ربقة الاحتلال الفارسي، الروماني، البيزنطي. وقت (فتح الأندلس)، بين قوسين، هناك من يسمي ذلك بأنه ليس فتحاً، وليس احتلالاً، وليس تحريراً، إنما هي استمرار للوجود العربي الذي ما قبل، يعود إلى العهد الفينيقي العربي الذي احتل بعض شواطئ المتوسط. وهناك وجود فينيقي قديم في جنوب إسبانيا الحالية، والعرب راحوا بالطبيعة عند أنفسهم. هذا رأي. أنا أسأل مجردًا لأنك أنت بحثت.

عبد الواحد: لا، لا، المسألة قابلة للكثير من التفسيرات. التوجه الذي يريد أن يوجه إليه... إسبانيا كان فتحها هنبعل، كانت تابعة لتونس في وقت من الأوقات.

باسم: هذا رأي.

عبد الواحد: أقول أنا أسترد أرضي مثلاً. ممكن العرب أن يطالبوا الآن بباليرمو، وسيسيليا، يعني صقلية، لأنها كان استوطنها العرب في وقت من الأوقات.

باسم: وهناك من يقول ليس استوطنها، عمرها العرب أول من استوطنها الفينيقيون

عبد الواحد: عمرها العرب. هذه الأمور كلها مطروحة للنقاش. لا شيء فيها مجزوم به ومنتهٍ. كلها تفسيرات، وكلها تحليلات، وموجات من التاريخ. أنت تقول إن هنبعل فتح صقلية أو فتح الأندلس، طلباً لماذا؟ ليست نفس الرغبة التي فتح بها طارق بن زياد الأندلس، ليست نفس الرغبة. ما جاء بالفرنسيين إلى الجزائر، ليست نفس الرغبة.

باسم: نحن وصفنا وجود الفرنسيين في الجزائر احتلالاً، واحتلالاً بالقوة. هل يمكن إسقاط نفس الوصف مثلاً على العرب في الأندلس أو هنبعل مثلاً؟

عبد الواحد: من منظوري أنا نفس الشيء.

باسم: نفس الشيء.

عبد الواحد: نفس الشيء. حتى ذهاب هنبعل إلى هناك كان هو نفس الشيء. هي موجات، موجات تأخذ أسماء عديدة. أنا لست مؤرخاً لأضع هذه التفسيرات، وإنما أنقلها. هناك تفسيرات عديدة. زحف أمم على أمم أخرى، إما دوافعها حضارية، أو دوافعها اقتصادية، أو دوافعها استعمارية، أو دوافعها ديموغرافية، إلى آخره، فتختلف، الدوافع تختلف.

 

اختلاف تسميات

باسم: ألا تعتقد أنه في مرحلة ما من التاريخ أن بعض الأجزاء الجغرافية من الأرض لم تكن مسكونة، فالذي يسكنها انطلق من جغرافيا إلى جغرافيا؟ هل نسمي هذا الفعل احتلالاً، غزواً، فتحاً، استعماراً، استيطاناً، كون أن هذه الجغرافية فارغة، لم تكن تابعة لملكية أحد، مثلاً,

عبد الواحد: إذا كانت ليست تابعة، الاستعمار هو استيلاء شعب على شعب آخر.

باسم: نعم، صحيح.

عبد الواحد: واستيلاء بالسلطة وبالقهر. هناك شعوب قبلت الاستعمار برضاها، وهناك شعوب قاومت هذا الاستعمار، وهناك شعوب انقسمت إلى قسمين: بعضها رضي وبعضها لم يرضَ، إلى آخره. أنا أعرف أن جزءاً من الفتوحات العربية تمّت بخيانة من الدولة المغزوة. حدث هذا، وكذلك حدث العكس؛ أنّ بعض الروم دخلوا أراضي عربية بغدر وبخيانة عربية. موجود هذا. فهذا المدّ والجزر كانت بواعثه كثيرة. بعضها بحثاً عن الذهب، كما وقع أيام قرطاج، و بعضها عن مراكز تجارية، وبعضها كان لنشر الدين الإسلامي، وبعضها كان للبحث عن أراضٍ فارغة، إلى آخره. الدواعي كثيرة، والدوافع كثيرة، وتتطلب بحوثاً مختلفة، أنثروبولوجية، تاريخية.

باسم: صحيح، أنا أتفق معك أن الدواعي كثيرة، وبالتالي، التسميات صارت كثيرة. التسميات تبعت الدواعي، أو الدواعي فرضت تسميات.

عبد الواحد: ليست واضحة. أنا في رأيي كلها منحازة. أنا أدافع  مثلاً عن فكرة انتشار الإسلام، فكل ما فعله العرب لنشر الإسلام هو جائز ومباح ومطلوب، البعض يراه: لا، يراه ربما استعمار قوم لقوم آخرين. حرب الاسترداد التي قام بها الأسبان في الأندلس، البعض يقول: إنه ظلم واستبداد وطرد وجبروت وإلى آخره، لكن، هم يقولون: استرداد، هذه أرضنا نريد أن نستردها من العرب الفاتحين الدخلاء. التسميات تختلف وتتطلب بحوثاً من أصناف عديدة تكون غير منحازة طبعاً، وتكون محايدة لتفهم. وإنما هذا بالاسم الكبير والعام، نسميه حراكًا بشريًا. أنا جعت في أرضي.

باسم: أبحث عن مكان آخر.

عبد الواحد: أرتمي على جاري. أنا أريد التوسع،  كما فعلت قرطاج. قرطاج لماذا ذهبت تغزو صقلية مثلاً؟ لماذا ذهبت إلى إسبانيا وهي بعيدة؟ 

باسم: وذهبت إلى روما أيضًا.

عبد الواحد: وذهبت حتى إلى روما. لا، مقاومة روما هذه مقاومة سلطة لسلطة؛ لأن التنافس على البحر الأبيض المتوسط؛ من يكون الأقوى والأجدر. وإنما الرغبة الأساسية للتوسع القرطاجي كانت بحثاً عن التجارة؛ توسيع التجارة، البحث عن الكسب. وطبيعة القرطاجيين كانت من هذا النوع. لم يكونوا محاربين بالأساس، كانوا باحثين عن الذهب وعن المراكز التجارية أكثر.

 

إسقاط حديث على التاريخ القديم

باسم: نحن حالياً نقوم بإسقاط مفاهيم القانون الدولي الحديثة على حياة الناس في تاريخ قديم. هل يجوز لنا أن نسقط تعابيرنا و مصطلحاتنا أو أوصافنا للأحداث التاريخية التي تحدث الآن وفق القانون الدولي المتبع حالياً في الأمم المتحدة على ما قبل التاريخ في تلك الفترة؟ هل يمكن أن نصف مثلا وجود القرطاجيين أو هجوم القرطاجيين؛ احتلال القرطاجيين لأسبانيا، هل نصفه احتلالاً، كما نصف حالياً الاحتلال الفرنسي للجزائر وفق القانون الدولي؟ هذه القوانين ما كانت واضحة في ذهن المجتمعات السابقة.

عبد الواحد: أولاً لم تكن واضحة، ثم أن الدواعي في ذلك الزمان لم تكن نفس الدواعي التي توجد اليوم، ثم كل حالة تختلف عن الحالة الأخرى. فأن تأتي إلى بلد له شعب قائم الذات وله أرض محددة وله حكامه، وتستولي عليه بالقوة بدعوى أن الوالي ضربني أو ضرب سفيرنا أو كذا، هذا عدوان، وراءه رغبة في الاستعمار. أما أن يذهب، كما ذهب المكتشفون، مثلاً، إلى أمريكا، أرض بور وأرض فارغة وأرض غير معمرة، ونبحث عن تعميرها، وهناك دعوات أخرى، نذهب إلى العالم المتوحش لنمدنه كما قالت فرنسا عن إفريقيا، الرغبات تختلف ولكنها ليست دائماً صحيحة. فالرغبات الظاهرة تكون وراءها دائماً رغبات خفية.

 

دور المثقف التأثير في حياة المجتمع

باسم: نعود إلى دور المثقف. واضح في كتاباتك أنك كنت تحاول قدر الإمكان أن تكون لها علاقة باهتمامات المجتمع. وهذا يقودني إلى سؤال دور المثقف بشكل عام في التأثير في حياة المجتمع. هل هناك دور؟ هل يمارس المثقف هذا الدور؟ الأديب، القصاص أو الروائي، عندما يكتب رواية، هل يأخذ في الاعتبار مصلحة المجتمع أم يكتبها فقط للترف الثقافي؟ يعني: أنا أجيد اللغة العربية، عندي خيال، عندي قدرة على الكتابة، فأعبر كما أشاء. أم أن وقت كتابتك كنت تعتبر أن: هموم المجتمع هي همومي، وأنا أقدر في التعبير عن هذه الهموم من الآخرين؟ فأنا أكتبها لأجل أن يستفيد الآخرون، أو أساهم في توجيه المجتمع إلى جهة ما.

عبد الواحد: دور المثقف، المثقف هو مختلف الصنوف. يعني هو الشاعر والكاتب والروائي والباحث وكاتب المقالة والدارس إلى آخره. هؤلاء عليهم أن يقوموا بدورهم، وقد قاموا بدورهم في جميع المجتمعات. لكن الدوافع دائماً مختلفة والتأثير دائماً مختلف. ليس بنفس الشكل. ويختار كل واحد سبيله. فأبو القاسم الشابي قام بدور كبير في وقت من الأوقات بقصائده المحمسة. منور صمادح أيضاً في تعديل كفة البورقيبية الصاعدة في وقتها. والبشير خرَيّف عندما كتب "برق الليل" وعندما كتب "الدقلة في عراجينها". ومحمد رشاد الحمزاوي لما كتب "بودودة مات". وأنا كتبت "ظلال على الأرض"، أو "مربعات بلاستيك" كانت محاولة للتأثير في المجتمع. لا يُكتب شيء في هذا الباب بصورة عبثية، لكن القصد قد يكون واضحاً، وقد يكون جيداً، وقد يكون مباشراً، وقد يؤثر وقد لا يؤثر. فأثبتت الأيام أن كثيراً من القصائد الشعرية بقي رنينها.

باسم: أكثر وقعاً.

عبد الواحد: واضحاً وفعالا في كثير من الأوقات، بعض الروايات أيضاً. لا أقول إنها ذهبت إلى القصد مباشرة، ولكن الأدب دائماً يواري ويغالط ويقدم الأشياء بصورة مكسوة بأدب وبلاغة لتتقبلها النفس. لكن التأثير لا يكون بصورة مباشرة دائماً كما تفعل السياسة أو كما تفعل الفتن والحروب.

 

القصة أم الشعر أم المقالة: من أكثر وقعًا في التأثير؟

باسم: في رأيك، من أكثر وقعاً في التأثير في المجتمعات في مراحل مختلفة طبعاً، على المستوى الأدبي، الرواية والقصة القصيرة، المقالة أم قصيدة الشعر؟

عبد الواحد: أنا أرى الشعر أولاً.

باسم: الشعر أكثر تأثيراً؟

عبد الواحد: الشعر أكثر تأثيراً. وترون ما فعلته قصائد أبو القاسم الشابي، ما فعلته قصائد نزار قباني، وغيرهما. أذكر هذين المثلين فقط.

باسم: نعم، محمود درويش مثلاً؟

عبد الواحد: محمود درويش في وقت من الأوقات.

باسم: المتنبي لحد الآن.

عبد الواحد: وسميح القاسم وغيرهم. كثير. كل واحد وقضيته.

باسم: ولونه.

عبد الواحد: القضايا مختلفة. واحد يقاوم الاستعمار الفرنسي، وآخر يقاوم الاستعمار الإسرائيلي وهكذا. لكن الهدف واحد أو متقارب. الرواية نارها هادئة، وتتطلب مساحة أكثر من التفكير ومن التأمل، ولا تفعل الهزات كما في بيت الشابي: "إذا الشعب يوماً أراد الحياة"، إلى غير ذلك. والمقالة تقريباً في نفس الدرجة، أنت وقيمتها الأدبية وقلم صاحبها. وهناك مقالات فعلاً كانت...

باسم: محفزة.

عبد الواحد: كان لها تأثير كبير، وخاصة، والتاريخ يحدّثنا عن مقالاتٍ أيام الثورة الفرنسية كانت دافعاً كبيراً لإشعال الفتيل. لكن، للأدب تأثير كبير، وقد ذكرت الشعر أولاً. ربما لحساسية العرب أو الأمة العربية، واستقبالها للشعر بصورة تختلف عن شعوب أخرى. قد لا يكون الشعر مؤثراً في السنغال، مثلاً، كما هو في تونس، كما هو في المغرب، كما هو في الجزائر، كما هو في المشرق. لكن، هناك أعمال أدبية كان لها تأثير كبير أيضاً، كروايات فيكتور هوجو، وروايات ستاندال وغيرهما، وأيضاً في البلدان العربية كما في كتابات عبد الرحمن منيف مثلاً وغيرهما.

 

الفارق بين تأثير الأدب والفلسفة بين العرب والغرب

باسم: أنت طرقت نقطة هنا، في المقارنة بين تأثير الشعر في الذهنية أو في العقل العربي الجمعي وما بين تأثير الرواية. لو أردنا أن نقارن تأثير الشعر مثلاً في أحد المجتمعات الأوروبية وتأثير الفيلسوف في المجتمعات العربية أو الروائي، نجد العكس؛ أن العقل الأوروبي تأثر بالفيلسوف أو بالرواية أكثر من تأثره بالشعر، بينما العرب العكس؛ إنهم يتأثرون بالشعر أكثر من تأثرهم بالفيلسوف إن وجد في مجتمعاتنا، أو بالأديب.

عبد الواحد: هذه المسألة لا تُبحث من الناحية الأدبية. هذه تُبحث من الناحية الأنثروبولوجية. هناك شعوب ثقافتها قديمة، عهود سابقة ثقافتها معتمدة على الشعر أكثر، ولهذا عندها حساسية معينة نحو الشعر. ذائقة شعرية متطورة. اللغة العربية، انظر إلى اليوم، قصائد المتنبي كيف...

باسم: وكأنها قيلت أمس.

عبد الواحد: كيف تؤثر إلى اليوم. قصائد محمود درويش ما زالت تؤثر كثيراً. قصائد الشابي منتشرة ومسموعة في شرق الأرض وغربها. بينما الرواية هي تناسب العقل الأوروبي الذي بلغ درجة أعلى من البلدان العربية نضجاً وتطوراً، فصار أقبلَ. فهو بلد الفلاسفة، بلد مونتسكيو وبلد فولتير وكثير من الفلاسفة الذين بثوا مبادئ ونظريات وحكماً وأحكاماً قبلتها الثقافة الأوروبية، سواء في فرنسا أو في إنجلترا أو في غيرها، وصارت تتعامل معها وتتأثر بها أكثر من الشعر. الشعر يأتي في المرتبة الثانية. فلكل بلد، حسب تطوره وحسب تاريخه، يتم قبوله وتأثره بالنمط الأدبي المقبول.

 

علامات نضوج العقل

باسم: أنت استدللت أن العقل الأوروبي نضج أكثر من العقل العربي بحكم تفاعله مع الفلاسفة أو مع ثقافة الفلسفة أو مع الأدباء. ما هي علامات نضوج العقل؟ تبديات نضوج العقل الأوروبي، كيف تبدت مثلاً بنظام حكم مستنير، بنظام اجتماعي منضبط، بديمقراطية واضحة؟ هل هذا أحد تبديات النضوج العقلي؟ أن الفهم الفلسفي في المجتمعات الأوروبية قاد إلى أن تتطور حياتهم وإدارات المجتمع إلى المستوى الذي نراه الآن؟ هل الشعر لا يدفع باتجاه تطوير العقل أو نضوجه؟

عبد الواحد: لا أريد أن أنساق إلى الأحكام الشعوبية. أنا أبعد عن ذلك. أرى أن العملية هي عملية تطور تاريخي وتطور فكري وفرص متاحة لهؤلاء لا تتاح لأولئك. والأمر يختلف في شعب عن شعب آخر، لذا تجد قبولا لآراء الفلسفة في الحضارة الأوروبية والآداب الأوروبية ولا تجدها في الحضارات الإسلامية، نظراً للكوابح الكثيرة التي وضعها الغزالي وغيره. وسلفيون: أن من تفلسف كفر، ومن تفلسف خان وخرج عن الملة، وهذا الرأي لا يُقبل، وهذا الرأي مختلف عليه، وهذا تابع لـمذهب.. وبدأنا نسمّي هؤلاء مذهب فلان، وهؤلاء مذهب فلان، إلى آخره. ثم الانطلاقة الحرة في التفكير جعلت التفاعل في الدول الأوروبية أكثر حرية، وأكثر تفاعلاً، وقبولاً للرأي الآخر ومناقشته. وخرج عن ذلك فلاسفة كبار معروفون. حتى الفلاسفة الذين ظهروا في تونس كانوا يتعاملون بحذر في نشر آرائهم خوف التكفير، خوف الخروج عن.. فيتقدمون خطوة ويتأخرون خطوات. والتاريخ مليء بهذا. وبالطبع، تتأثر به الكتابات. دائماً يحرص الكاتب أن يتبع ما يُقال ويتجنب ما لا يُقال.

 

كيف أعاق التراث التطور؟

هذا الحذر لم يكن، لم تكن تفرضه لا المسيحية ولا اليهودية. كان الدين لله والوطن والفكر للجميع. هذا ما ترك المذاهب والمقولات والكتب والمنشورات وغيرها. تصور أنه في وقت من الأوقات غير بعيد، في القرن السابع عشر، كان المسلمون يخشون من المطبعة، بينما كانت بريل وقتها في هولندا تطبع، والفلاسفة يكتبون وينشرون. وتحدثت أنا في "تغريبة أحمد الحجري". أحمد الحجري زار هولندا وتقابل مع المستشرقين ورآهم مطلعين على ما نكتبه في بلاد شمال إفريقيا وينشرون آرائهم بحرية. فتعجب من ذلك وقال كيف ما زلنا في المخطوطات؟ ويقولون لنا لا تطبعوا. ما زالت المخطوطات، مهما نكن المخطوطات فمدى انتشارها قصير.

باسم: هل في اعتقادك أن مدرسة التراث الفقهي، بالشكل هذا أعاقت؟ أو التقسيم الطائفي والمذهبي الذي كان موجودا في المجتمعات العربية وما زال موجودا، أن هذا أعاق تطور...

عبد الواحد: ساهم بقسط كبير.

باسم: نضوج العقل العربي السياسي؟

عبد الواحد: ساهم بقسط كبير. المشي على الصراط المستقيم كان دائماً هاجساً كبيراً. لا يريد الفلاسفة... نحن الآن، الفلاسفة المتحررون كابن رشد قلائل. وكانوا يخافون آراءهم. ولا توجد لهم أمثال. والمدارس الفلسفية وحتى المعتزلة كانوا منبوذين. ووصل البعض إلى تكفيرهم. فهذا الخوف الذي كان يحبذه الحكام ويشجعونه.

باسم: ومازال حتى الآن.

عبد الواحد: ومازال إلى اليوم. إياك أن تخرج عن...

باسم: عن النص؟

عبد الواحد: عن الصراط المستقيم، عن النظم المذكورة. لا تخرج عنها. ولذلك، فترى أصحاب الأفكار النيرة يخافون. وبعضهم وصل إلى أن قتل، كما وقع في السودان وفي غيرها. وبعضهم اضطهد. وأنتم تعرفون ما حصل في مصر لفودة أو لنصر حامد أبو زيد وغيرهم. هذا ما جعل فكراً يتطور وفكراً يتوقف. أو يتوقف ويتحرك قليلاً. هذا الذي جعل الأفكار لا تجد لها مجالاً واسعاً. وحتى إذا كانت وجدت، لا تجد مجالاً للنشر والوصول إلى الناس لتوعيتهم ولبث تلك الأفكار. ولهذا تبقى محدودة في حدود.. حتى الشرائع كان أصحاب الشريعة لا المشرعون يقولون: "هناك فقه العامة وفقه الخاصة."

باسم: ومازال بعضهم يقول بهذا.

عبد الواحد: نعم. هناك فقه العامة وهناك فقه الخاصة. ويقال لهؤلاء ما لا يُقال لأولئك.

باسم: مازال قائماً، هناك ناس كثيرون ينادون ويقولون هناك شيء لا يجب على العامة أن يعرفوا ما يعرفه الخاصة. والدين دين، والرأي رأي. لماذا تقسيم المعارف إلى معارف للعامة ومعارف للخاصة؟ أنت في اعتقادك أن هذا سبب أساسي...؟

عبد الواحد: إذا حاولنا، إذا حاولنا باجتهاد كبير تبرير هذه النظرة، فنقول إنها كانت ممكنة الحدوث أو ممكنة القبول في قرون مضت. لكن مع توسع العلم، مع التعليم.. اتركوا الناس يفكرون.

باسم: أنا في رأيي يجب ألا تكون مقبولة في أي مرحلة تاريخية. الإنسان حر في التفكير، حر في التفكير.

عبد الواحد: لا تنس أستاذ أنه في وقت من الأوقات لم يكن هناك مطبعة، ولا كتب، ولا جرائد، ولا إذاعات، ولا كذا. فالشعب الكريم أو الشعب العظيم العربي المسلم لم يكن متاحاً له لا الاطلاع على العلوم، ولا مجالسة الفقهاء، غير دروس الجمعة وما يقوله إمام الخطبة وقراءة المصحف فقط. هذا كل محدوديته. فمن أين له أن يطلع على أفكار الغير أو أن يناقشها. أين مجالس العلماء؟ كانت محدودة، وفي مجالس ربما في بيت الحكمة أو عند الأمير أو عند سراة الناس وفقهائهم. أما الشعب الكريم، وأقول الشعب الكريم بالمعنى الحديث، يعني العامة بالمعنى القديم، لم يكن متاحاً لهم الاطلاع على أي شيء من العلوم. لا مدارس...، غير الكتاتيب.

باسم: وهناك مجتمعات لحد الآن، في قطاعات كبيرة...

عبد الواحد: حتى في المجتمعات الحديثة محدودة، ما زالت محدودة عندنا.

 

التأثير السلبي للتيار المحافظ

باسم: أنا حاورت الكثير من المثقفين والأدباء والمختصين في كثير من المجالات. الكل يجمع على هذه العقبة. أن هناك عقبة وهناك عائق كبير يتعلق بالمدرسة التراثية القديمة، وبالذات أقصد التراثية الفقهية، وليس التراث بشكل عام. إن هذه التراثية في تبدياتها السياسية الحالية هي التي تعيق هذا العقل العربي المتحفز دائماً عن أنه يتطور على المستوى السياسي على الأقل.

عبد الواحد: التيار المحافظ كابس جداً على التفكير وعلى ما يُقال وما لا يُقال. بالطبع ساعدت عليه طبيعة المسلم المحافظ، لكن أيضاً العصر الحديث فتح الأبواب على عديد الثقافات. فكان من الواجب أن ينهل الناس منه، وأن يتعظوا بالكوابح التي كانت تعرقل العقل العربي. وهذه أكبر المصائب التي بُلي بها الناس. وأكبر المصائب ليست في هذا فقط، وإنما في كونها تذهب وتعود. نحن نشهد في عصرنا الحديث كيف أن هذه الموجات الرجعية بدأت بالعودة. بدأ تكميم الأفواه، والتكفير والهجرة، والأصولية. ونفعل كما فعل السلف. كيف نعود إلى قرون مضت بتفكيرنا وطرق أكلنا؟ أنا سمعت أحد محدثيكم يتحدث عن كتاب اسمه "الصواعق على من يأذن بالأكل بالملاعق". ما هذا؟ أضحكني كثيراً، لكنه أحزنني. كيف توجد مثل هذه الأمة؟ ونسمع أيضاً في بعض الإذاعات والتلفازات عن... حتى هنا في تونس، سمعنا أخيراً أن فتاة في صفاقس وضعت رسالة دكتوراه أن الأرض مسطحة وليست مكورة. كيف بحثت هذا؟ من أطرها؟ من هو أستاذها؟ وكيف هي هذه الجامعة التي...

باسم: تجيز لها هذه الدراسة؟

عبد الواحد: قبلت أن يقع الحديث. ما زلنا في هذا المجال كما سمعت عن أطروحة في السعودية عن الضراط وأنواعه وأشكاله. ما هذا؟ كيف هذا؟

باسم: هذا انحطاط بالعقل.

عبد الواحد: حتى إذا حدث وسمعنا بوجود مثل هذه الترهات، ففي طبقات أدنى من الجامعة، في طبقات أميّة، طبقات في منتهى الفقر.

باسم: تكون في طبقات هامشية على جانب المجتمع.

عبد الواحد: لا. فيه طبقات متنورة وجامعية.

 

المجتمعات الحالية بين الخوف واحتكار الفهم

باسم: قبل أن ننهي، سؤالي دائماً، طالما أن هذا الحديث قادنا إلى نفس السؤال، نفس الملاحظة. إن الملاحظ كالتالي: إن هذه المدرسة الفقهية الطويلة القديمة، التي بكل مكوناتها السلفية وإلى آخره، احتكرت فهمها الخاص للنص ومنعت أي آخر أن يقدم فهماً أو قراءة خاصة أو متحررة للنص. اعتماداً على النص نفسه. يعني، المقصود القرآن، كان هو هذا المركز الذي تنطلق منه هذه المفاهيم. هذه الطائفة الفكرية، أنا أسميها طائفة فكرية، هذه الطائفة الفكرية التي تتبنى المدرسة التراثية القديمة أو التدين المدرسي، هي احتكرت فهماً خاصاً للقرآن وقالت: إن هذا هو الفهم الصحيح. لكن عند قراءة متحررة للقرآن من داخله وليس من خارجه، اكتشفنا أن هناك خلافا ضخما أو عميقا بين هذا الفهم والفهم الحديث للقرآن اعتماداً على أن القرآن يفسر بعضه بعضاً.

عبد الواحد: سيادتك تصيب عصب الحرية. هنا المركز الأساسي لكل الخلافات. المجتمع الحر يقبل الرأي المخالف، يناقشه، يجادله، يأتي بمثله، يأتي بغيره، يطوره، يستمع إلى جيرانه، يستمع إلى الغير. والفكر المنغلق الذي لا يقول إلا بما يراه هو ويسكت غيره. وفي بعض الأحيان يصل إلى أن يقتل غيره ويمحقه محقا. هنا المشكل الكبير الذي تعاني منه المجتمعات الحالية. ومن لا يصيبه ضرر من هذه الأمور، ومن ردود الأفعال هذه، يصيبه خوف نفسي ورقابة ذاتية تمنعه من أن يدلي برأي جديد، أن ينشر كتاباً مستحدثاً. وقد رأينا كيف أصيب هؤلاء ببلاوي، شرّدتهم، أبعدتهم عن أوطانهم، قُتلوا أحياناً، ماتوا بعلل كبتية ونفسية. فالعاقل يقول: ما أدعاني وما ألجأني إلى مثل هذا؟ ويلتزم الصمت. هناك من يصمتون، وهناك من يتجرؤون بحذر. وقد عشت أحوالاً مثل هذه. كيف يقال هذا وكيف لا يُقال؟ على مستوى فردي، وعلى مستوى مجتمعي، وعلى مستوى حكومي.

 

التكفير جزاء التنوير

باسم: ألم يحن الآن الوقت بحكم اتساع وسائط التواصل الاجتماعي في متناول الجميع، والمعارف يتم تبادلها ونشرها بشكل سريع، الآن أعتقد، ألم يحن الوقت لأن يقف العرب والمسلمون بشكل خاص، لماذا نظل مأسورين لما قاله فلان من الناس قبل ألف عام؟ أليس لنا عقل أيضاً أن نتمكن من قراءة النص، القرآن مثلا، بعيون المستوى المعرفي الذي نحن عليه الآن؟ لماذا نظل مأسورين لمستوى معرفي ما قاله شخص ما قبل ألف عام، وأن يظل حاكماً علينا حتى الآن ونحن أكثر معرفية منه؟

عبد الواحد: السؤال طُرح ألف مرة، مئات الآلاف من المرات، من مفكرين وفلاسفة وكتّاب. لكن التأثير ما زال بطيئاً، ولا ينفذ إلى العقول والنفوس إلا بنهوض المجتمع وارتفاع درجة ثقافته، لأن الأمر إذا لم ينتشر انتشارا واسعا، يبقى محدوداً. خاصة إذا كان الحكام أيضاً لا يساهمون في نشر هذا التنوير ولا يساهمون في نشر المعرفة. ورأيتم أن بعض الحكام الذين تجرؤوا، كما فعل بورقيبة في وقت من الأوقات، كفرهم قومهم وكفرهم الجيران وكفرهم الشعب العربي والإسلامي بصورة عامة. فصار السكوت أولى، أو المساهمة بجزء بسيط، أو انتظار أوقات أفضل.

 

التغيير بقرار سياسي

باسم: على ذكر الحكام، هل ترى أن التغيير بهذا الاتجاه، وبهذه الجزئية، لا يتأتى إلا بقرار سياسي؟ ألا يستطيع مجموع المثقفين أن يكون تأثيرهم أقوى من تأثير القرار السياسي؟

عبد الواحد: حتى أصحاب القرار السياسي يخافون، يخافون حتى من جيرانهم، يخافون من شعوبهم أحياناً، من دائرتهم أيضاً. فقهاء البلد أو المجتمع تراهم يلازمون الحذر.

باسم: لكن عندنا أمثال، يعني، دون ذكر أسماء ودون ذكر دول، عندنا مثل حي في دولة عربية اتخذت قراراً بالتغيير بقرار سياسي وتم إحداث تغيير شامل، وانتقلت البلد من حالة إلى حالة بقرار سياسي. يعني، يمكن، أنا في رأيي، يمكن أن يتم اتخاذ قرار سياسي بالتغيير ويتم فرضه بالتغيير، ويصبح التغيير في متناول الجميع.

عبد الواحد: القرار السياسي جيد ومطلوب، لكن يجب أن يصحبه مجهود شعبي.

باسم: نعم صحيح.

عبد الواحد: كان في وقت من الأوقات، نظرياً أنا لا في مستوى الذم ولا المديح، أتصور، وهذا ربما تصور خيالي، أنه لولا وجود الحزب الحر الدستوري التونسي حول بورقيبة ما كان لبورقيبة أن يُحدث التأثير الذي أحدثه، لأنه كان يقول الكلمة من هنا، فتنتشر كالزيت، كرقعة الزيت. كانت الشُعب والخلايا في كل مكان، وتعيد وتكرر، فانتبهت المرأة، وانتبه الطفل، وانتبه المدرس، وانتبه الفلاح، وانتبه التاجر. هكذا كان. طيب، أنت تكون سلطانا فتأمر. بأن يقع كذا كذا، إذا لم تجد عوناً من وزرائك.

باسم: ومن مثقفيك

عبد الواحد: لذا أقول: الدائرة الحكومية دائماً محدودة.

باسم: لا، وأيضًا طبقة المثقفين أيضاً لهم دور أساسي في التنظير للفكر والتأسيس للفكر.

عبد الواحد: طبعاً، كل الدوائر الثقافية والدوائر الشعبية. الدوائر الشعبية خطيرة جداً. هناك دوائر، هناك دوائر شعبية تنقلب على الحاكم وتهدده، وهذا يخاف منه الحاكم. طبعاً يقول: إذا لم تقبل فكرتي بسهولة ويسر. وقد حدث في تونس، أنا أذكر هذا من واقع ملموس. يعني السماح بالإفطار في رمضان أحدث زلزالاً في البلاد، أحدث زلزالاً فعلياً. وانقسمت العائلات إلى قسمين: بعضهم مفطر وبعضهم غير مفطر، وهذا يقول.. وصار الناس كلهم يفتون، ويأخذون الأحاديث الجيدة والمنقحة والمكذوبة. يعني: القرارات السياسية جيدة..

باسم: ولكن تحتاج إلى تهيؤ وتأسيس.

عبد الواحد: ولكن تحتاج إلى مُعين، تحتاج إلى مثقفين ودعاة ودوائر شعبية متنورة.

باسم: دكتور عبد الواحد براهم، أشكرك. أنا استمتعت بالحديث معك في تجربة ما شاء الله عميقة وغنية، والوقت دائماً يداهم الناس.

عبد الواحد: شكراً جزيلاً دكتور باسم.

باسم: وإن شاء الله يكون لنا لقاءات أخرى، ويعطيك الصحة وطول العمر إن شاء الله، ونلتقي في حلقات جديدة.

عبد الواحد: بارك الله فيك.

باسم: شكراً لكم، وإلى اللقاء في حلقة جديدة من برنامج مجتمع.