• Facebook
  • instagram
  • X
  • youtube
  • tiktok
  • apple podcast
  • google podcast
  • spotify

القضاء والقدر | د. عامر الحافي

للإستماع




تحدَّثَ الدكتور عامر الحافي، أستاذ العقائد، ورئيس قسم أصول الدين بكلية الدراسات الفقهية بجامعة آل البيت الأردنية، نائب مدير المعهد الملكي للدراسات الدينية، عبر حلقة جديدة من برنامج "قضايا"،  عن موضوع شائك جداً؛ وهو القضاء والقدر، قائلاً "قديماً قالوا القضاء والقدر سر الله في خلقه، وكأنه لا يمكن لأحد أن يفك شفرة هذا الموضوع ويصل إلى حقيقته ومعناه؛ ولكن في الحقيقة أن مشكلة القضاء والقدر لم تكن مشكلة جديدة عندما خاض بها المفكرون وعلماء الكلام وعلماء العقيدة في الإسلام..".


القضاء والقدر.. مشكلة الإرادة الإنسانية

وأضاف الدكتور عامر الحافي، أستاذ العقائد، ورئيس قسم أصول الدين بكلية الدراسات الفقهية بجامعة آل البيت الأردنية، نائب مدير المعهد الملكي للدراسات الدينية: "فقد سبق لعلماء المسيحية واليهودية وحتى غيرهما من الأديان، أن اشتبكوا مع هذه المشكلة لأنها في الحقيقة هي مشكلة الإرادة الإنسانية، الإنسان عندما تصطدم إرادته في صخرة الواقع، عندما يشعر الفقير على سبيل المثال أنه غير قادر إلا أن يكون فقيراً وأن يعيش فقيراً؛ عندما يولد الإنسان الذي لديه إعاقة ولا يعرف لماذا ولد معاقاً، عندما ينهزم وتنهزم الجيوش في المعارك ولا تدرك الأسباب التي هي وراء هذه الهزيمة، عندما نعجز عن التفسير؛ تفسير تلك الكوارث أو الأمراض التي نمر بها، كما حدث في (كورونا) قبل بضع سنوات، كثير من الناس قالوا هذا عذاب، هذا يعني نتيجة سوء أعمالنا، التفسيرات الدينية تبدأ تتصاعد للأحداث التي ليس لها تأثير..".


الحظ والنصيب والقضاء والقدر

وتابع د.عامر الحافي: "إذن هل ما يحدث للإنسان في حياته هو نتيجة ما يقوم به من أعمال بإرادة حرة؟ أم أن تلك الأعمال قد كتبت سلفاً وكتبها عليه الخالق رغماً عنه ودون إرادة منه.. هي مشكلة كبيرة الحقيقة، حتى في الأدب الهندي جاء أن الحظ اسم لشيء لا وجود له إلا في أوهام العجزة، وبالتالي حتى الثقافة الهندية كانوا يستخدمون تسمية الحظ؛ أي أن الإنسان حظه تعيس ليس له نصيب في هذا الموضوع، نستخدم حتى في اللهجة العامية بعض الكلمات التي تنوب عن كلمة القضاء والقدر؛ مثل الحظ، النصيب، واللي ما عنده نصيب نحن نقول في لهجتنا العامية (لا يتعب ولا يشقى)؛ فكأن الأمور قد وجدت سلفاً، والسعادة والشقاء قد كُتبا سلفاً".


إشكالية محاولة التعرف على المصير

وقال أستاذ العقائد، ورئيس قسم أصول الدين بكلية الدراسات الفقهية بجامعة آل البيت الأردنية: "بعض الآيات القرآنية الإشكالية التي أيضاً هي ليست إشكالية إلا بمعناها؛ لأنها قد فهمت بأكثر من طريقة، مثلاً (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا) يعني لو توقفت عند هذه الآية، يعني حتى غير المؤمن كان يعتقد أنه يمكن له أن يكون له الولد أو أن تكون له الزوجة، وهو من باب المستقبل وما يتوقع في المستقبل؛ لكن القرآن الكريم يقول أَطَّلَعَ الغيب، قد يفهم أن نصيب الإنسان ما له من أولاد، ما له من مال، موجود في الغيب، وإذا اطَّلَع على الغيب فيمكن أن يعرف المستقبل، حتى نعرف أن ما يُسمى بعلم العرافة والفتاحات باللهجة العامية، يسمونها الفتاحة، ومش عارف ليه؟ هي دائماً ست، ليه بيسموه فتاح؟ والله ما أنا عارف؛ لكن الفكرة أنه معرفة المستقبل، معرفة ما يمكن أن يأتي من أحداث، هي أيضاً جزء من قضية معرفة إلى أين يسير الإنسان في القضاء والقدر؟ هو في ذات الوقت محاولة للتعرف على المصير".


إلا أن يشاء الله.. وموقف الجبرية أو الجبريين

وأضاف د.عامر الحافي: "الآية القرآنية الأخرى التي أيضاً تقول (إلا أن يشاء الله)؛ لكن هذه الآية تشعرنا بأن المشيئة الإلهية هي التي تحتها وتحت مظلتها تكون مشيئة الإنسان، وبالتالي هناك ما يُسمى بالجبرية والجبريين؛ هم هؤلاء الذين يقول إن الإنسان لا إرادة له؛ لأن الإنسان ليس هو الذي يخترع أو يختار عمله، وإنما العمل يحدده الخالق.

الآية الأخرى أيضاً تقول (أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون)، هذا إبراهيم، عليه السلام، عندما انتقد قومه وعبادة الأصنام، (والله خلقكم وما تعملون)، فهل العمل الإنساني مخلوق؟ طيب، إذا أنا عملي لا أستطيع أن أخلقه؛ إذن الله خلق هذا العمل وقرره سلفاً قبل أن أوجد وقبل أن أولد؛ هي مشكلة حقيقية".


هل الإنسان ضحية ومخطط سابق لم يختره؟

وتابع أستاذ العقائد، ورئيس قسم أصول الدين بكلية الدراسات الفقهية بجامعة آل البيت الأردنية: "آية أخرى أيضاً (نحن قدرنا بينكم الموت)؛ إذن حتى موت الإنسان والفترة التي يعيشها، هي ضمن ذلك القدر، ضمن ذلك العلم الإلهي الذي قدره الله، عز وجل.. آيات أخرى وأخرى كثيرة، لكن هي تتوزع بين مَن يقول بوجود إرادة حرة للإنسان، وبين مَن يقول إن هذه الإرادة ليست بيد الإنسان وإنما هي بيد الخالق.

آية أخرى؛ مثلاً (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً)، وآية أخرى (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)؛ بمشيئة الله، إذن كل ما يحدث في هذا العالم يتوقف على أن الله يريد هذا الفعل أم لا.. إذا مَن الذي يريد؟ مَن الذي يختار هذا الفعل؟ هل الإنسان هو الذي يقرر ما يقوم به؟ هل الإنسان ضحية، بعبارة بسيطة، مخطط سابق لم يختَره؟ هل الإنسان كما يقول الشاعر (ألقاه في اليم "يعني النهر أو البحر" مكتوفاً وقال إياك إياك أن تبتل بالماء)، كيف لا تبتل بالماء وأنت قد كنت مكتوفاً وهناك مَن ألقاك إلى ذلك البحر أو إلى ذلك اليم؟ إذن أنت لا تملك إرادة ألا تصاب بالبلل، فكيف يطلب منك ألا تصاب بالبلل وأنت تلقى رغماً عنك ومكتوف اليدَين إلى ذلك المكان الذي هو مليء بالمياه؟! إذن هل نحن ألقينا إلى هذه الحياة، إلى هذا العالم دون أن نختار؟ وهل نفعل ما نفعل دون أن نختار؟".


الإشكالية كبيرة.. كيف نبقى نؤمن بالقضاء والقدر دون أن نعترض على أن الله يعلم ما كان وما سيكون؟

واستكمل د.عامر الحافي: "الآية القرآنية الأخرى تقول (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين)؛ هذا المكتوب هل هو كُتب رغماً عن الإنسان ورغماً عن إرادته؟ أم أن الإنسان يُكتب عليه؛ لأن الله يعلم؟ وهنا بدأنا ندخل في الحل.. الأزمة، المشكلة، الإشكالية كبيرة؛ لكن سنبدأ شيئاً فشيئاً ندخل في الطريقة التي يمكن من خلالها أن نفهم كيف نتعامل مع مفهوم القدر، دون أن ننقص القدرة الإلهية، ودون أن نخل بحرية الإنسان. كيف نبقى نؤمن بالقضاء والقدر دون أن نعترض على أن الله يعلم ما كان وما سيكون، ودون أن نحطم تلك الإرادة الإنسانية التي ربما لا يملك الإنسان شيئاً غيرها؟ إرادتك هي ميزتك كإنسان، ما الذي يمتاز به أصلاً الإنسان عن سائر الحيوانات؟ إنها حرية الإرادة، فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر.. عندما تفقد إرادتك وهذه الحرية في الإرادة؛ يتحول الإنسان إلى شيء غير الإنسان، لن يعود هو ذلك الإنسان الذي أراده الله؛ لأنه إذا كان يفعل ما يفعل بقرار مسبق ليس بإرادته، فكيف تعاقب الإنسان على فعل لم يختَره، إذن حتى مفهوم العذاب أو الثواب والعقاب، سيصبح في حالة إشكالية إذا كنا نحن نتحدث عن جبرية إلهية؛ قد قضاها الله دون أن تكون لإنسان إرادة في ذلك".


أن تؤمن بالقدر خيره وشره

وقال أستاذ العقائد، ورئيس قسم أصول الدين بكلية الدراسات الفقهية بجامعة آل البيت الأردنية: "جاء في حديث جبريل، الذي رواه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه (بينما نحن جلوس عند رسول الله ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر...) هذا الحديث المعروف، وفي هذا الحديث هناك سؤال عن عدة قضايا؛ عن معنى الإسلام، معنى الإيمان، معنى الإحسان، معنى الإيمان.. من أركان الإيمان التي ذكرت في هذا الحديث، وهو أن تؤمن بالقدر خيره وشره؛ إذن الإيمان بالقدر جزء من العقيدة الإسلامية التي أكدها الحديث النبوي والعلماء؛ علماء العقيدة الحقيقة مثل الماتريدية والأشاعرة وغيرهما، عندما حاولوا تفسير القضاء والقدر، فمن التفسيرات أو التعريفات التي وضعوها كما جاء في  الماتريدية أو كلام الماتريدية، قال إن القضاء إيجاد الله الأشياء مع زيادة في الإحكام والإتقان.. إذن هي تتعلق بفعل الإيجاد، وهذا الفعل الإلهي هو فعل حادث؛ يعني ليس قديماً، بينما القدر يتحدث عن تحديد كل مخلوق بما هو عليه من الحسن والقبح أو النفع والضر أو الضرر، فإذن القدر يتعلق بعلم الله، وهذا العلم قديم. فالله يعلم ما سيكون، فيكتب ما سوف يكون من فعل أو من عمل أو من عمل حسن أو قبيح بعلمه، هذا العلم الإلهي علم قديم. بينما القدرة هي التي تتعلق بالقضاء؛ فالقضاء هو إيجاد، والإيجاد يحدث في زمن محدد، بينما العلم الإلهي بما سوف يفعل الإنسان، هو علم قديم، وبدأ قبل أن يخلق الله الإنسان، فعلم الله لا يقترن بوقوع الفعل، وإنما علم الله يبدأ قبل أن يقع الفعل؛ ولكن الإيجاد المرتبط بالقدرة الإلهية يرتبط بالإيجاد، بلحظة الإيجاد؛ فالله يوجد عندما يوجد هذا الإنسان. فيكون هذا الموجود هو محدث، بينما عندما علم الله في علمه القديم بأن هذا الإنسان سوف يفعل كذا أو كذا، في هذه الحالة القدر هو يتصل بالعلم، والقضاء يتصل بقدرة الله..".


مرجع القضاء والقدر.. قصة مريم درس في الأسباب

وأضاف د.عامر الحافي: "إذن مرجع القضاء والقدر هو العلم والإرادة والقدرة الإلهية، والتمييز بين القدر والرضا أن الإيمان بالقضاء والقدر يرتبط بالصفات الإلهية هنا؛ يعني لو توقفنا عند هذه الفكرة، أن التركيز على الجانب الإلهي في القضاء والقدر هو الذي جعل هذا الموضوع يأخذ أبعاداً أكثر صعوبةً، والآن لو نظرنا كيف يتعامل القرآن الكريم بالحث على الفعل والأخذ بالأسباب، كيف أن القرآن الكريم لو كان كل إنسان الله يكتب له ما يريد دون اعتبار للفعل البشري، كان الله لا يحثنا لا على العمل ولا يحثنا على مقاتلة الأعداء المعتدين، ولا يحثنا على أن نفعل شيئاً؛ يعني انظروا الآية القرآنية التي تقول (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)؛ يعني هذه الآية تقول لكم وتقول لنا إن الإعداد والعمل والاجتهاد والفعل، هذا كله جزء من العمل، جزء من تحقيق النتائج؛ أي أن الأسباب هي التي تترتب عليها النتائج، حتى مريم، عليها السلام، وهي في حالة الضعف عندما وضعت المسيح، قال لها (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)، حتى هذه المرأة الشريفة، عليها السلام، الله كان يقدر أن ينزل عليها الثمر دون أن تهز؛ ولكن هو يعلمنا درساً في الأسباب، أنه حتى الصديقة مريم، التي اصطفاها الله وأنجبت كلمة الله وروحه المسيح، عليه السلام، مطالبة بأن تبذل ما تستطيع من جهد؛ حتى لا تنتظر أن تأتيها النعم أو تأتيها الثمرات دون أن تبذل جهداً، وإلا ما الذي تفعله تلك اللمسة الضعيفة التي لامرأة خرجت من الوضع ووضعت جنينها قبل لحظات؛ أي قوة تملك لتحرك جذع النخلة؟! لكن الدرس هو أن يعمل الإنسان (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)؛ ورسوله والمؤمنون.. إذن العمل هو مطلوب وواجب، والله عز وجل يؤاخذنا بما قدمت أيدينا (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد)؛ وكأن هذه الآية تقول إن الله إذا عاقبنا بغير ما قدمت أيدينا فهو كأنه يظلمنا..".


التوكل والتواكل

وتابع أستاذ العقائد، ورئيس قسم أصول الدين بكلية الدراسات الفقهية بجامعة آل البيت الأردنية: "هنا أدخل أيضاً إلى فكرة أو موضوع في غاية الأهم وهو التوكل، لأن التوكل والتواكل كذلك الحال اشتبكوا واختلطوا؛ فهناك مَن يجلس في بيته ويقول (توكلت على الله)، ونحن نعرف كيف أن القرآن الكريم عندما يتحدث عن هذه القضية قال (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)؛ هذه الآية الحقيقة (فامشوا في مناكبها)، تحرك، تريد أن يأتيك الرزق وأنت لا تتحرك؟! وهذا يذكرنا بالحديث النبوي، نفس المعنى (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)؛ يعني هي في الصباح تأتي وهي جائعة خماصاً، ولما ترجع فهي تكون قد شبعت وقد أكلت. إذن التوكل ليس عجزاً وليس كسلاً وليس إيماناً؛ لا يمكن أن يكون الإيمان سبباً في تخلف أو في عجز أو في ضعف المجتمعات، نحن نعلم أن هناك مَن يقول إن سبب تخلف المجتمعات الإسلامية هو إيمانها بعقيدة القضاء والقدر، أنها تنظر إلى المصائب وإلى الهزائم وإلى التخلف على أنه قضاء وقدر.. إذا ضاعت فلسطين، إذا حصل زلزال، قضاء وقدر، إذا حدث حادث سير وقتل فيه أطفال؛ قضاء وقدر. طيب لماذا لا تبحث في أسباب الهزيمة؟ لماذا لا تبحث في وجود شوارع مناسبة للسير بالنسبة إلى السيارات؟ أو بالنسبة إلى المواطنين لماذا لا نبحث عن المخطئ الذي تسبب في هذه الوفاة؟".


القدر هو المتهم الأكبر

وأضاف د.عامر الحافي: "إذن لاحظوا كيف أنه كثير من المشكلة يتعلق بغياب الدور الإنساني، بضعف الدور البشري؛ فالإنسان عندما لا يجد مَن يتهمه يبحث عن اتهام القدر؛ القدر هو المتهم الأكبر، عندما نعجز عن تفسير أسباب الإخفاقات وعن تلك التصرفات الخاطئة التي نجترحها والتي نقوم بها، لو توجهنا باتجاه القوانين والأشياء المسيرة التي تسيِّرنا رغماً عنَّا.. نحن نعلم أن الجسد الإنساني نفسه له قوانينه، وبالتالي أنت لا تختار دقات القلب، لا تختار الدورة الدموية، لا تختار ضغط الدم، لا تختار طريقة عمل الجهاز الحيوي والأجهزة الحيوية التي لديك؛ بينما أنت تختار إرادتك، هل تريد أن تأكل ما هو حلال، ما هو حرام؟ هل تريد أن تطعم الفقراء أم تريد أن تسرق من هؤلاء الفقراء؟ لو رجعنا إلى الحديث عن أفكار وتفسيرات معاصرة تتعلق بالقضاء والقدر، وهنا أنا قبل أن أبدأ حديثي عن نظرة محمد شحرور للقضاء والقدر، دعني أقول إن الاجتهاد حتى في القضايا العقدية هو أمر مأجور، فكرة أن الاجتهاد فقط في أمور الفقه، وكيف تتوضأ؟ وكيف تغتسل؟ وكم ركعة تصلي سُنة أو وتراً؟ أيضاً الاجتهاد في القضايا الإيمانية هو مأجور، وهو جزء مما آجره الله أو ما أراد الله عز وجل من المؤمنين أن يفعلوه..".


القضاء والقدر وتحديد الأرزاق حسب محمد شحرور

وقال د.عامر الحافي: "إذن نعود في القضاء والقدر في نظرة محمد شحرور.. يقول محمد شحرور إن القضاء يتعلق بما جاء من أحكام كتاب الرسالة، وهذا يتعلق بالسلوك الإنساني الواعي؛ بالتالي القضاء يتعلق بالسلوك الإنساني الواعي. والإنسان له دور في القضاء، بينما القدر هو قوانين ثابتة خارج نطاق الوعي والإرادة الإنسانية؛ فالقوانين التي تقدر.. لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ. بينما في ما يتعلق بالقضاء (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً)، القضاء (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً)، والقدر بعيد عن القضاء؛ لأنه يتعلق بجوانب وظواهر وجودية موجودة رغم إرادتنا وقبل إرادتنا، ولا نستطيع أن نغير فيها شيئاً، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)؛ لكن الحقيقة النقطة الأكثر قوة في تفسير شحرور للقضاء والقدر، أن القضاء والقدر يتعلق بالسلوك والفعل الإنساني، إذن هو نقل المشكلة من قضية الصفات الإلهية إلى الفعل الإنساني وإلى الوعي الإنساني وإلى السلوك الإنساني.

نقطة أخرى مهمة في طرح محمد شحرور؛ تتعلق بمفهوم الرزق، محمد شحرور يتحدث بأن الأرزاق ليست موجودة سلفاً، وبالتالي هو نفس المنهج؛ يريد أن يقول إن الإرادة والسعي البشري هما اللذان يحددان الأرزاق؛ يعني إذا فهمنا أن محمد شحرور لا يقصد يعني قضية الإخلال بالقدرة الإلهية على الرزق، الله قادر أن يرزق، هذا لا شك فيه؛ ولكن لأن العبرة في الرزق هي دفع الإنسان إلى الفعل، ويقول إن هناك مصدرَين اثنَين فقط؛ المصدر الأول هو الخيرات الطبيعية، والمصدر الثاني هو عمل الإنسان. إذن وجود هذه الخيرات والنعم مع عمل الإنسان، هو الذي يؤدي إلى الرزق (ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم)؛ هذه الآية تحل المشكلة كلها، ثمار أوجدها الله، وهناك أرزاق أوجدها الله، وهناك عمل إنساني، وإذا عملت ستنال من هذا الرزق، وإذا لم تفعل ولم تسعَ فأنت لن يصل إليك ذلك الرزق.. إذن السعي والعمل هما المعيار للوجود أو لتحصيل الرزق، أما الجلوس وانتظار الرزق فهذا جهل بمعنى الرزق، وجهل أيضاً بمعنى العمل بذلك الوقت بنفس الوقت، النقطة الثانية التي هي تبرير القضاء والقدر كمبرر عدم القيام بمسؤولياتنا أو عدم إعطاء المساكين، (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم مَن لو يشاء الله أطعمه). وقل له يعني الآية هذه فعلاً آية عميقة جداً؛ أقول له يعني ساعد هذا المسكين، أطعم هذا الفقير؛ أقول له ما هو لو ربنا عاوز يطعمه كان أطعمه، ربنا عاوز يرزقه كان رزقه.. نوع من فن التلاعب من خلال مفهوم الرزق والقضاء والقدر؛ أنه ربنا ليس له إرادة أن يطعمه، أنت تريد مني أن أطعمه والله لا يريد أن يطعمه، الحقيقة فعلاً موضوع شائك..".


القضاء والقدر وحرب 1967

وتابع أستاذ العقائد، ورئيس قسم أصول الدين بكلية الدراسات الفقهية بجامعة آل البيت الأردنية: "ولكن أريد أن أتوقف مع فكرة ذات صلة وطيدة بالقضاء والقدر في حرب 1967؛ عندما هُزمت الدول العربية، قام بعض الدعاة ليقول (نحمد الله أننا هُزمنا في هذه المعركة؛ لأن ذلك القائد الذي هُزم، لو أنه لم يهزم لعُبد من دون الله)؛ انظروا هذا النوع من التفسير العجيب، بدل أن نذهب إلى أسباب الهزيمة الحقيقية المتعلقة بوجود عدو قوي لديه من التقنيات والأسلحة ووسائل التجسس أو إلى غير ذلك من الأحلاف العسكرية، التي استطاع أن يكونها مع دول قوية، وغير ذلك من الأسباب الاقتصادية؛ نختزل أسباب الهزيمة بشخص لا نحبه أو نحبه، هل يمكن ننتصر من خلال طريقة تفكير.. طيب صلاح الدين الأيوبي انتصر ولم نعبده من دون الله، وهو رجل صالح، وهو رجل مؤمن، ولا نشك في دينه. نحن نفتخر به؛ ولكن لا نعبده من دون الله؛ فإذن كيف نتحدث أن قائداً معيناً لو أنه انتصر، حتى إذا كان عنده أخطاء، وأننا هزمنا بسبب شخص أو بسبب أو حتى تلك القصة العجيبة التي تقول إن إحدى المرات جيش من الجيوش الإسلامية هزم فلم يعرفوا سبب الهزيمة، ثم قالوا لم نستخدم السواك؛ هل يُعقل أن عدم استخدام السواك كان سبباً في الهزيمة؟! ما زلنا لم نكتشف الأسباب الحقيقية للتقدم والتخلف والنصر والهزيمة، نسينا نبحث في منطقة بعيدة كل البعد، تلك المنطقة التي يجب أن نبحث فيها يعني مثلنا نحن كمثل يعني فريق كرة القدم الذي يسدد خارج الملعب، هو يلعب بعيداً عن المستطيل الأخضر، هو لا يلعب داخل الملعب، وبالتالي حتى تلك الأهداف التي نصل إليها لن تحتسب أبداً؛ لأنها خارج الملعب..".


ما زلنا خارج الدورة الحضارية

واختتم د.عامر الحافي: "نحن لم ندخل الملعب بعد، كما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي، كان يقول إننا ما زلنا خارج الدورة الحضارية، ما زلنا نفكر بعيداً عما يجب أن نفكر فيه. وأعطيكم مثالاً آخر، حدثت وتحدث الزلازل، عندما يحدث زلزال على سبيل المثال في بلد معين، عوضاً أن نبحث عن  الأسباب، عوضاً أن نطور وسائل قياس الزلازل ورصد الزلازل، يعني مثلاً عندما يحدث زلزال في طوكيو بقوة سبع درجات؛ عدد الضحايا واحد، اثنان، عندما يحدث نفس الزلزال في كراتشي ولَّا في مدينة بسيطة من باكستان أو بنجلاديش، عدد الضحايا عشرون ألفاً، ثلاثون ألفاً، هل القضية أن الله يريد أن يبيد هؤلاء المساكين؟ أم أنه قد وضع قوانين عامة، وهذه القوانين العامة تنطبق على الجميع؟ وهي تتحدى المعرفة البشرية؛ لينتج الإنسان معرفةً تتعلق بهذه القوانين.. لماذا الياباني استطاع أن يبني عمارات أمام الزلازل وتستطيع أن تتحرك بطريقة هيدروليكية؛ بحيث أن العمارة لا تتحطم ولا تنهار فوق رؤوس أبنائها؟ أنا أعتقد أن الياباني قد فهم قوانين الطبيعة، وقد فهم القرآن وما ينطوي عليه من عمق أكثر مما فهمه كثير من الناس الذين لم يستوعبوا حقيقة القضاء والقدر".