ترسم الهويّة كينونة الأفراد والجماعات، وتنحت تمثّلاتهم عن ذواتهم، والصّورة التي يرسمها الآخرون عنهم. غير أنَّها هويَّاتٌ متعدِّدة بتنوُّعِ الجماعات والأفراد، وهذا واقعٌ لازمٌ لكلّ اجتماعٍ إنسانيٍّ يفرض، بالتالي، تحدّي إدارته، على النحوِ الأتمّ، حتى لا يستحيل التعدد إلى تصدُّعاتٍ اجتماعيّة. ويتضاعفُ هذا التحدِّي عند طغيان وعيٍ منحرفٍ –وهو السائد– بمسألة الهويَّة. من صُور هذا الانحراف: اختزال الهويّة في بُعدٍ واحدٍ: دينيّ أو إثنيّ أو ثقافيّ...، وإغفالُ معطى التعدّد في الهويّة؛ تُمَثَّلُ الهويَّة في ثباتٍ وجمودٍ وتحنيطِ الوعيِ بها، بدلًا من إدراكها في ديناميَّةٍ وتكَوُّنٍ مستمرَّين؛ استحالةُ الهُويّات الطّائفيَّة والعشائريّة والثقافيّة إلى إيديولوجيّاتٍ، مُنظَّمة ومُمأسَسَةٍ، تتوسَّل أدوات السياسة لتأكيد ذاتها؛ السُّموّ بالهويّة الفرديَّة والجماعيَّة، التقليديَّة أو الاجتماعيَّة أو المناطقيَّة... إلخ، فوق الهويَّة الوطنيَّة الجامعة. كلّ هذه أمراضٌ قد تُصيب المجتمع وتهدّد سلامة الدّولة ووجودها.
1- في خطر التعصُّب للهويَّة
هل يُمكن للهويَّات، المتعدّدة والبنيويّة في كلّ اجتماع إنسانيّ أنْ تكونَ هدَّامَةً؟ نعم، يُؤكد ذلك التاريخ، ومنه تاريخُنا العربيّ المعاصر. لقد أفصحَ التعدُّد –الهويَّاتيُّ تحديدًا–، في أقطارنا العربيَّة، مشرقيَّةً ومغربيَّةً، عن شدَّة الزَّلازل السّياسيّة والاجتماعيّة التي يمكن أن تبلغها تِكْتُونِيَّة تناقضاته الطَّائفيّة والعشائريّة والإثنيّة. وقد تشكَّلت تضاريسُ الدّول العربيَّة الاجتماعيَّة والثقافيَّة –وما تزال تتشكَّل– من تداعيَاتِ التصدّعات الهويَّاتيَّة، ورُسِمَت الحدودُ السياسيَّة لدُوَلنا–وما تزال تُرسم– بألوانِ التناقضات الإثنيّة والأنثروبولوجيّة والمناطقيَّة. وما برحت جُلّ الدّول العربيّة مُكابَدةَ إعادَة تسليح أركان الدَّولة، التي تهشَّمت، جرَّاء انفجار تناقضاتِ مُجتمعاتها، كما في حالاتِ اليَمن والعِراق وسوريا والسودان ولبنان وليبيا والصومال، بينما ما تزال أخرى تُرمّمُ سيادتها الوطنيَّة، وتُحصّن وحدتها الهشَّة، في باقي بلاد العُرْبِ. إن التعصّب للهويّة، من حيث هو ردّ فعلٍ انكفائيٍّ دفاعيٍّ عن الذات إنّما ضَرَرُه، ابتداءً –ويا للمفارقة– يقعُ على المتعصِّب وعلى هويّته؛ فحينما تصير الهويَّات منعزلةً نابذةً للهويَّات الأخرى، إنّما توقظ فتيلَ فتنةٍ تَحرقُ الفرد أولاً، قبل تفجير الجماعة وتشتيت أشلائِها بين الأمم. كيف لا تكون النزعة الهويّاتيَّة، إذن، هدَّامةً قاتلةً، للدولة والمُجتمع، للفردِ والجماعة، وهي بنك الأهداف المفضل لمن يسعى إلى تفخيخ السيادة الوطنيَّة للدّولة، وأقلُّ الأسلحة تلك كلفةً له؟
2- في استحالة الهويّة إلى نزعة إيديولوجيّة
لا بدَّ من التمييز بين الهويّة والإيديولوجيّا. تُجيب الأولى عن سُؤال من "أنا"، ومن "نحن"؟ إنّها تُمثّل صورةَ الفردِ عن ذاته وصورةَ الآخرين عنه، والملامح التي تُعَرِّفُه وترسم انتماءه. أمَّا الثانية، فسؤالها، ما الذي أعتقدُه "أنا" ونعتقده "نحنُ"؟ هي جملةُ الأفكار التي تكون تصورنا، ليس عن ذواتنا، بل عن العالم من حولنا، والقيم التي نؤمن أنّها ستجعلُه أفضل. لذلك، يمكن أن تصير الإيديولوجيّا مادّة للنقاش والتفاوض والأخذ والرَّد، بل وتخضع لمنطق المُفاضلة والاختيار والتنازل... إلخ. أمّا الهويَّة، فهي عند أصحاب الوعي الصنميّ بها، فوقَ كلّ هذا كلِّه. لا تقبل الهويّة الحلول الوسطى، والصّراعَ بشأنها –في الغالب– حادٌّ، قد يرقى إلى درجة الاقتتال الوُجوديّ. هكذا يظهر أنّ آليات تدبير التعدّد الهويّاتيّ مختلفةٌ –أو ينبغي أن تكون كذلك– عن آليات إدارة الاختلافات الإيديولوجيّة.
لكن واقعَ الحال يُفصح عن توسّلٍ متبادلٍ بين النزْعات الهوياتيّة والنزْعات الإيديولوجيّة. تتطلَّع الأولى إلى اكتساب الشرعيَّة، من طريق التمأسُس في بنياتٍ مدنيَّةٍ أو سياسيَّةٍ أو حقوقيَّةٍ، في حين تستقوي الثانية بالخطاب الهويَّاتيّ طلبًا للمشروعيّة ولغاياتٍ تجييشيّةٍ.
وبلادُنا العربيَّة مثَّلت، وما تزال، مختبرًا مأساويًا لتجريب هذا الاعتماد المتبادل بين النزعتين، وهي نموذجٌ –من بين الأسوأ للأسف– في أدلجة الهويَّات أو إسباغ النعْرات الهويَّاتيَّة على الاصطفاف السياسيّ، وإقحامها في الصّراع على السّلطة. دوافعُ مَأسَسَةِ الهويّات، إذن، وتحويلها، بالتالي، إلى نزعة إيديولوجيّة، لا تكاد تخرج عن دافعين. يتمثَّل الأوَّل في رغبةِ جماعة، متعصّبة لهويّتها، في انتزاع الاعتراف بها بتوسُّل أدوات الضّغط السياسيّ ووسائل السُّلطة. أمّا الثاني –وهو المُحفز الرئيس لأدْلجة الهويَّات– فمُعاكسٌ للأول، وإنْ تَطابقت نتائجهما، ويتمثَّل في ركوب صَهوةِ الهُويَّة لتحصيل السُّلطةِ وإضفاءِ المشروعيّة على استبداده بها.
من الخطر، إذن، على الهويَّة أنْ تتَّخذَ منظماتٍ مدنيَّةً أو مؤسَّساتٍ حقوقيّةً أو سياسيَّةً بمثابة كنائس لها. فالهويّة مشاعٌ بين أفراد جماعة الانتماء، لا تفترض بطاقة انخراطٍ أو شروطًا للعضويَّة، وحينَ تتمأسس فإنّما تحكمُ على ذاتِها بالتقزُّمِ والوهن، وترفعُ إمكانيَّة التترّس بها في معتركات السياسة. حينها لا تُسعف الآليات المدنيّة في إدارة الاختلاف، وتُضفي الدّيمقراطيَّة المشروعيَّة على توظيف السّلطة ووسائلها لقتل التعدّد وفرض هويَّة المتغلِّب وإيديولوجيّته على المغلوب. هذا فضلًا عن أنّ هذه التنظيمات إنَّما تقوم على الاختيار والإرادة الطوعيَّة، و–من المفترض أنَّها– تنضبطُ لنواظم صريحة وتدبير عقلانيّ. أمّا الهويَّة فهي –في عمومها– تلقائيَّة لا تصنعها إراداتُ الأفراد، ولا تقبل الاختزال في مؤسّسة أو تنظيم، وهي ذاتيّة، حُكمًا، حظُّ الاختيار العقلانيّ فيها ضعيفٌ إلى أبعد الحدود. وقد حذَّرَنا التاريخُ أنَّ أدْلَجَةَ الهويّة إنّما هي أفضل مقبِّلات الحروب الأهليَّة.
3- في تنوّع الهويَّات وتعدّد أبعادها
من محفّزات انزلاق الهويّة باتجاه نزعة إيديولوجيّة الوعيُ الصَّنميُّ الواحديُّ بها، واختزالها في مكون واحدٍ من مكوناتها. إذا كانت أبعادُ الهويَّة متعدّدة بين الإثنيّ والدينيّ واللغويّ... إلخ، فإنّ السائد في وعي الناس بها تغليبُ بعدٍ واحدٍ منها وتنزيلُه منزلةَ الجوهر من الهويَّة، وحُسبان نُصرتِه فرضُ عينٍ. وما شَدّ الوعيَ العربيَّ عن هذا الإدراك الاختزاليّ الشوفينيّ للهويَّة. غير أن ما ميَّز الحال العربيَّة امتزاجُ الهويَّات التقليديَّة بالنزعات الإيديولوجيّة. هكذا انشطر هذا الوعي العربيُّ بين مُبشّرٍ بالهويَّة القوميَّة في وجه الوطنيّين، ومدافعٍ عن الدّولة القطريَّة ضدّ دعوات القوميَّة، ومقاتلٍ من أجلِ هويَّةٍ دينيَّةٍ ضدَّ العلمانيّين، ومرافعٍ عن هويّةٍ مدنيّةٍ ضدَّ الرجعيّين... إلخ. بذلك صار لكلّ فريقٍ هويَّته يُنافحُ عنها، ويحسبها سبيلَ الخلاص الفرديِّ والجماعيِّ، وباتتِ الهويّات أوثانًا مُبرَّأةً من كلّ عيبٍ، وأصنامًا ساكنةً لا حراكَ فيها أو تطوُّر.
من عناصر تعريف الهويّة، إذن، التعدُّد، وقد يُفصح هذا عن ذاته على صُعدٍ ثلاثةٍ هي: المجتمع والجماعة والفرد. المجتمع المتجانس طوبى وأسطورة؛ ما من مُجتمعٍ إلا وتكوينه من جماعات متباينة إثنيًّا ودينيًّا وثقافيًّا ومناطقيًّا... إلخ. كذلك الجماعة الإثنيَّة، مثلًا، قد تتعدَّد لغويًّا وثقافيًّا ودينيًّا، تمامًا كما قد تتعدَّد الجماعة اللغويَّة إثنيًّا وثقافيًّا ودينيًّا، وقس على هذا. وما الفردُ نفسُه غير كائنٍ تتواشجُ في تكوينه هويَّات مُتعدّدةٌ: نوعه ولغاته ومعتقداته وانتماءاته الاجتماعيّة والثقافيّة والإيديولوجيّة، إلى جانب أدواره وروابطه وتفاعلاته السيكوسوسيولوجية. ليست تُختَزَلُ هويَّة فردٍ أو جماعةٍ أو أمَّة، إذن، في بعدٍ واحدٍ يشطبُ الأبعادَ الأخرى ويصهرها، بل إنَّها الصُّورةُ الفسيفسائيَّة وقد امتزجت فيها ألوان أبعاد الهويَّة كافَّة. من هذا شأن الوعي المُتعدّد الأبعاد بالهويّة أن يخفّف من غُلْوَاء النزعة الانكفائيّة الاختزالية للهوية، ويَجْسُرَ أواصل التعايش، في سياق هوياتيّ تعدّديّ بالضّرورة.
4- في ديناميَّة الهويَّة وبنائيَّتها
تُسعفنا الدراسات الثقافيّة والأنثروبولوجيا والإثنولوجيا والسيكوسوسيولوجيا وسوسيولوجيا الثقافة وعلم النفس... إلخ، في تصحيح الوعي بفكرة الهويَّة. إنَّها مرنةٌ وفي تبلورٍ وإعادة تشكُّلٍ مستمرَّين. تتأثَّر هويَّة الفرد ابتداءً بالبيئة الاجتماعيَّة والثقافيَّة، وأي تعديل أو تغيير هنا أو هناك ينجم منه تَكَيُّفٌ للهويَّة معها وتغيُّر في ملامحها. وقد اتسع السياق الاجتماعيّ والثقافيّ، في عصر معولمٍ، ليتجاوز المحليّ إلى تفاعلٍ عابرٍ للحدود، أضحى يَسِمُ هويَّة الأفراد والجماعات. وإلى جانب السياق السوسيوثقافيّ، تتأثّر الهويّة بتجربةِ الحياة الفرديّة، وتتطوَّر عبر الزَّمن؛ معتقداتُ الفردِ وقيمه وتصوراته لذاته وللآخرين وللعالم في حركة؛ تبعًا لمراحل نُضجه وتجاربه المَعيشَة والأحداث الكبرى التي طبعت مخياله والأزمات التي مر بها. وفضلًا عن السياق التاريخيّ والتجربة الشخصيّة، تتأثّر الهويّة بالرّوابط البينيَّة السيكوسوسيولوجيَّة مع الأقران والأصدقاء والأسرة وزملاء الدراسة والعمل... إلخ. كل تلك الرَّوابط تتفاعل في بلورة هويَّة مُتجدِّدة للفرد، ديناميَّةٍ متنوِّعةِ المشاربِ والأبعاد. أخيرًا، تتفاعل الهويَّة مع اختيارات الفردِ العقائديّة والقيَميَّة وقراراته وتأمُّلاتّه الخاصَّة في ذاته والعالم من حوله. نخلص، بالتالي، إلى أنّ الهويَّة ليست معطًى جاهزًا جامدًا، بل هي في سيولة دائمة وانبناء لا يتوقف. إذا كانت الهويّات متعدّدة وديناميّة وفي تبلورٍ مستمرٍّ، فهل يجوز التعصّب الشوفينيّ لها؟ هل يستقيم الاحتراب الأعمى من أجلها؟
نخلصُ ممّا سبق إلى أنّ مناجمَ التعصّب الهدَّام للهويّة كامنة في فقدان الوعي السليم بها، باختزالها في بعدٍ واحدٍ وإهدار قيمة التعدّد فيها؛ وتمثّلها في ثباتٍ بدلَ إدراك سيرورتها البنائيَّة والديناميَّة؛ وإغفال السياقات التاريخيَّة والثقافيَّة المتحرّكة الفاعلة في بنائها. هكذا يبدو أنّ إصلاح الضّرر الذي لحق بالوعي العربيّ بمسألة الهويّات مدخلٌ ابتدائيٌّ باتجاه ترميم الشّروخ الاجتماعيّة النّاجمة من التّطاحن الأهليّ العصبويّ، ومقدِّمة لتشييد اجتماعٍ مدنيٍّ مواطنٍ مُتماسكٍ، الهويَّةُ المدنيَّة المواطِنة فيه هويَّة الهويَّات.